غبطة أبينا البطريرك مار اغناطيوس يوسف الثالث يونان بطريرك السريان الأنطاكي يحتفل بعيد مار أفرام السرياني ملفان الكنيسة الجامعة في كاتدارئية سيدة البشارة .. بيروت
ترأس غبطة أبينا البطريرك مار اغناطيوس يوسف الثالث يونان القداس الاحتفالي بمناسبة عيد مار أفرام السرياني في كاتدرائية سيدة البشارة بيروت ـ لبنان يوم 21 شباط 2010، يعاونه سيادة المطران مار رابولا انطوان بيلوني وسيادة المطران مار فلابيانوس يوسف ملكي، وبحضور السفير البابوي في لبنان المونسينيور غبريل كاشيا، ورؤساء الأساقفة ممثلي البطاركة ورؤساء الرهبانيات، وأيضا المسؤوليين الحكوميين: معالي الوزيرة منى عفيش، ممثلة فخامة رئيس الجمهورية العماد ميشال سليمان، وسعادة النائب هاني القبيسي، ممثل دولة رئيس مجلس النواب نبيه بري، ومعالي الوزير ميشال فرعون، ممثل دولة رئيس الوزراء سعد الدين الحريري، وعدد من الوزراء والنواب والقيادات المدنية والعسكرية، وبحضور السفيرة الألمانية Madame Botschafter Birgitte Siesker، والسفير الإيطالي Signor Gabriele Checchia ambasciatore، والسفير الهولندي.. Heer Hero De Boer ، ولفيفٌ من الكهنة والرهبان والراهبات. وألقى غبطة أبينا البطريرك العظة مستهلاً بالترحيب والشكر لجميع الحاضرين والمشاركين بالذبيحة الإلهية، بعدها ألقى لمحة عن حياة مار افرام السرياني كنارة الروح القدس ومن ثم لمحة عن تاريخ السريان وتواجدهم في الشرق منذُ القرون المسيحية الأولى إلى يومنا الحاضر، قال غبطته: "مار افرام شفيع كنيستنا السريانية هو ابن نصيبين، شماس الرها، كنارة الروح القدس، ملفان (أي معلم) الكنيسة الجامعة. كما سمّاه وأعلنه للكنيسة في العالم أجمع، في براءة بابوية قبل 90 سنة، البابا بندكتس الخامس عشر، وذلك على طلب من سلفنا البطريرك مار اغناطيوس افرام الثاني رحماني. أفرام اللاهوتي، الشاعر والمنشد والمولّه بحب ربّه يسوع وأمه مريم، الذي ظلّ لتواضعه وبساطته، شماساً طوال حياته كلها. عُرف بغزارة علمه وتعمّقه في شرح الكتاب المقدس وتأملاته الرائعة ببساطتها. ومنها ما أضحى مراجع في عقائد الإيمان، سيّما فيما يخص سرّ التجسد والفداء، وفي عصمة مريم العذراء والدة الله من كل خطيئة، وفي أولوية بطرس، رئيس الرسل الإثني عشر. وكم كانت كلمات البابا بندكتس السادس عشر معبّرة، عندما أعلن في إحدى مواعظه الاسبوعية، أنه عكس ما يظن الكثيرون أن الإيمان المسيحي هو إنتاج غربي، تبرهن مؤلفات مار أفرام أننا تلقينا مبادئ الإيمان المسيحي من بيئة شرقية سامية، عبّرت عن إيمانها بعفوية وخيال وشاعرية لم يعرفها ألا الآباء السريان. وُجد السريان في الشرق الأوسط منذ القِدَم، وأغنوه بحضارتهم العريقة وبلغتهم التي تكلمها الرب يسوع والعذراء والرسل الأولون. في لبناننا مثلا يكفينا فخراً أن أسماء الأماكن الجغرافية، ساحلاً وجبلاً وسهلاً، واللهجات المحلية من شمال لبنان إلى جنوبه ومن شرقه إلى غربه، تذكرنا باللغة السريانية الجميلة! إن التراث السرياني الذي يمثله مار افرام بغناه وجماله، تشاركنا فيه جميع الكنائس الشقيقة ذات التراث الأنطاكي السرياني: وهي السريانية المارونية والكلدانية والسريانية الارثوذكسية وكنيسة المشرق الآشورية، والكنائس السريانية المالانكارية والملابارية في الهند التي تعدّ عشرة ملايين، وقاسمها المشترك هو التراث السرياني. يكفي هذه الكنائس الأخيرة أنها ما زالت تستعمل اللغة السريانية في صلواتها، وأن أكبر وأهم معهد عالٍ للدراسات السريانية موجود اليوم في كيريلا، الهند، تحت اسم: معهد مار افرام للبحوث المسكونية" (سيري). أفرام من أغزر الشعراء قاطبةً وأوّل من أدخل فنّ الغناء للنصوص الكنسية، من ميامر أي القصائد، والمداريش أي الأناشيد، كان لها التأثير الكبير على الأناشيد البيزنطية وحتى اللاتينية. كما ذاع صيته في الكنائس المشرقية الأخرى من قبطية وارمنية. ولأنه ألّف العديد من القصائد وأنشد ما لا يحصى من الأشعار، شكّلت إرثاً طقسياً وروحياً لا يُثمّن، تفتخر به الكنائس ذات التراث السرياني، لقّبه المعجبون بـ "كنارة الروح القدس"... وقد شبّهه القديس غرغوريوس أسقف النيصي، في كابادوكيا، بنهر الفرات، لأنه: ".. سقى بغزارة أناشيده الكنيسة الجامعة، فأثمرت مئة ضعف من خيور الثمار" . لنستمع الى مار افرام يصف أعجوبة الميلاد من حشا العذراء مريم والدة الإله: "إن أحشاء مريم غيرت الأدوار. ذاك الذي خلق كل شيء تملّكه الفقر. المتعالي أتى إليك، ولكنه جاء متواضعاً، النور أتى إليكِ، لكنه ملفوف بأقمطة متواضعة، الذي خلق البرايا، كلها عرف الجوع، الذي يسقي كل شيء، عرف العطش، عرياناً ظهر منك ذاك الذي يكسو الخليقة جمالاً " (عن الميلاد 11: 6ـ 8) بعد ذلك أعطى غبطته زوادة روحية من إنجيل يوم الأحد الثاني من الصوم الكبير الذي نعيش فيه مسيرة الرب الفادي مسيرة التوبة والآلام والقيامة مع الرب يسوع قال غبطته: "لقد استمعنا منذ قليل في إنجيل لوقا، إلى نص أعجوبة شفاء الأبرص المؤثرة. الرجل المبتلى بذاك المرض المخيف، يجرؤ بإيمان وثقة فيتقدم من يسوع ويسقط على وجهه طالباً منه أن يشفيه: "إن شئتَ فأنتَ قادرٌ أن تطهرني" . يمدّ المخلص يده ويلمسه قائلاً له: " قد شئتُ فاطهر". يا لروعة ذاك المشهد! إن الكنيسة تقدّم لنا خلال الصوم الكبير المعجزات التي تممها المخلص، كآيات تؤكّد قوة الرب في مساعدتنا على نيل الشفاء الروحي، فنتغلب بقوته ونعمته على ضعفنا البشري ونتطهر من خطايانا ونكمّل مسيرة خلاصنا. ويذكّرنا بولس في رسالته إلى الجماعة المسيحية في روما، بأننا أعضاءٌ في جسد واحد، علينا أن نتنافس في المحبة ونبني الوحدة فيما بيننا، حسب الدعوة التي دعانا إليها الرب. أ) فالكنيسة، وتعني "جماعة المؤمنين بالمسيح"، هي جسد المسيح السري حسبما يعلمنا رسول الأمم: " . فكذلك نحن في كثرتنا، جسدٌ واحد في المسيح لأننا أعضاءُ بعضِنا لبعض"(5).. في كنيستنا السريانية، اكليروساً وشعباً مؤمنا، نحن مدعوون، كأعضاء فاعلين، الى عيش الشراكة الصادقة في الخدمة وفي إكرام واحدنا للآخر بروح المحبة والتسامح. يقول لنا سفر أعمال الرسل الذي كتبه لوقا عينه :"وكان جماعة المؤمنين ، قلباً واحداً ونفساً واحدة". علينا أن نتذكّر أنّ إيماننا ليس مؤسساً على مبادئ وشرائع، بل على شخص هو يسوع المعلّم والمخلّص والصديق، الذي قال في إنجيله الطاهر بوضوح لا يقبل أيّ تأويل: " ما جئتُ لأُخدَم بل لأخدُم". ب) فعلى الرئيس الكنسي، وعلى كل مَن أوكل مسؤولية في الكنيسة كما في المجتمع المدني، أن يُضحي رائداً في الخدمة المتجردة والنزيهة، صادقاً مع نفسه ومع الله ومع القريب، يفكّر بخير الآخرين واحتياجاتهم قبل أن يفتش عن منصب او مصلحة او امتياز. ولنضع بين أولوياتنا التفكير الجدي بهموم شبيبتنا والمقدمين حديثاً على الزواج، لا سيّما حاجتهم الى العمل والسكن. لذلك نسعى مع الخيرين، بعونه تعالى، إلى اكتشاف الحلول المناسبة لتأمين المساكن لعائلاتنا الشابة التي تتردد قبل الإقدام على الزواج، فنشجّع أجيالنا الصاعدة على البقاء في أرض الوطن، وننادي تلك المهاجرة كي تعود، فالوطن بحاجة إليهم. ت) والكنائس المسيحية في لبنان كما في كل من الأوطان العربية، التي يجمعها الإيمان الواحد، مدعوة أن ترى في التقاليد العريقة الخاصة بها لا امتيازاً وتميزاً، بل إرثاً روحياً وإنسانياً للمسيحية الشرقية جمعاء. وعلى ضوء "وثيقة الخطوط العريضة" لسينودس مسيحيي الشرق الأوسط الذي نادي إلى عقده قداسة الحبر الأعظم البابا بندكتس السادس عشر، يُطلب منا نحن المسيحيين، وقد أرادتنا العناية الإلهية أن نكون جزءاً أساسياً من نسيج هذا الوطن وهذا الشرق، أن نعيش دعوتنا المسيحية دون خوف او شعور بالنقص، مهما تراكمت التحديات وتفاقمت الصعوبات، فنقدّم شهادة حيّة لثقافة المحبة الخلّاقة التي تزيل الحواجز وتبني الجسور. كما أنّ من صُلبِ دعوتنا أن لا نوفّر جهداً في الدفاع عن الحقوق المدنية لكل إنسان، إلى أي دينٍ أو طائفة انتمى، وفي مقدمة هذه الحقوق حرية المعتقد وحرية الضمير، فنضحي حسب روح إنجيل العدل والسلام، بين السباقين لتطوير ديمقراطية المواطنة الحقة والمنصفة، حيث أكثرية تخدم دون أن تستأثر، وحيث أقلية تشعر بطمأنينة المشاركة في المسؤولية. ث) إن مستقبل وطننا لبنان، ملتقى التفاعل الحضاري بين الديانات، هو بيد جميع المخلصين الأوفياء، مسيحيين و مسلمين. وكما سمعنا من رسول الأمم: فلتكن محبتُنا بلا رياء، نكره الشر دوماً ونلزم الخير، نفرح مع الفرحين ونبكي مع الباكين.. وعلى الحق الذي يحرّرنا من أنانيتنا متفقين . وفي هذا المناخ الطيب من التقدم بالحوار الإسلامي المسيحي، نرحب بموافقة مجلس الوزراء منذ ثلاثة ايام، على مشروع مرسوم يرمي إلى اعتبار عيد بشارة سيدتنا مريم العذراء عيداً وطنياً في لبنان. وفي ختام العظة أرسل غبطته رسالة صلاة وسلام وصرخة حق من أجل مسيحي العراق الذين يعانون في هذه الأيام متوجهًا بها إلى الرأي العام العالمي وجميع مؤسسات حقوق الإنسان قال غبطته: إذ أشاهد العديد من الأخوات والإخوة من الجالية العراقية، يشاركوننا في الصلاة اليوم، وقد لجأوا إلى لبنان ينشدون فيه الأمان والكرامة الإنسانية، أرى من واجبي أن أتحدث إليكم عن المعاناة المريرة التي لا زال المسيحيون في العراق يعيشونها والتي لتكرارها المقيت، سئمت وسائل الإعلام وكادت تكفّ عن ذكرها . منذ بداية الاحتلال، والأقلية المسيحية المستضعفة في العراق تُستهدَف، لكونها الحلقة الأضعف والأكثر سلما ومسالمة. إنها تّسلب وتُستباح وتُقتل بسبب إيمانها وعقيدتها، ليس إلّا. فأين الضمير العالمي وأين ما يسمّى بشرعة حقوق الإنسان؟ وأين مبادئ الحرية والمساواة التي تنادي بها الديمقراطيات العالمية؟. إن ازدياد الأعمال الإرهابية تجاه المسيحيين في العراق لا سيما في الموصل، وقد عُرفوا دوما حسبما جاء البارحة في بيان لرعاتهم الكنسيين :" بالعنصر المسالم والبناء والمتعاون"، لا مبرّر له سوى تفريغ هذه المدينة منهم. الكل يعلم أن ليس للمسيحيين في العراق تأثير سياسي أو حزبي يُذكر، وهم لا يملكون أباراً بترولية ولا هم صارعوا من أجل حكم، وما سُمع يوماً أنهم انتظموا في ميليشيات وعصابات لينتقموا. من واجبنا أن نطلق من أجلهم صرخة حق. علينا أن نستنهض ضمير كل مسؤول ديني ومدني في الشرق الأوسط كما في المجتمع الدولي، كي لا يكتفوا بالتأسّف والتنديد، بل عليهم، أن يحاولوا بكل الوسائل دون هذه الجرائم، ويلاحقوا بعدل ونزاهة كل من يخطف ويقتل ويفجر باسم دينٍ أو طائفة. فإن لم يُردع المجرمون، ألا يحق لنا التساؤل بأسى شديد: هل المسيحيون في بلاد الرافدين مذنبون لأنهم صمدوا الى اليوم على أرض أجدادهم متحملين أبشع أنواع الإهانات والتنكيل؟ هل هذا جزاؤهم لأنهم ظلّوا مؤمنين بحضارة المحبة والتسامح التي استقوها من معلمهم ومخلصهم، أمير السلام؟ وهل يحقّ لنا بعدُ أن نصدّق مَن يريد إقناعنا، بأنّ لا لبنان ولا العراق ولا الشرق الأوسط يبقى هو هو، إن أُفرغ من مسيحييه؟ بالرغم من هذه الصورة القاتمة، نتوجه إلى أبنائنا وبناتنا في العراق، أن يعضوا على الجراح ولا يفقدوا الرجاء، فلا بدّ لدرب الآلام أن ينتهي ويشع نور القيامة. وكما اسمعنا بولس، نقول لهم: يا أحباءنا " كونوا في الرجاء فرحين، وفي الشدة صابرين، وعلى الصلاة مواظبين..!" وختم غبطته عظة المناسبة قائلا: إذا نظرنا بأعين الإيمان إلى معجزة شفاء الأبرص في إنجيل اليوم، نفهم أن الرب قادرٌ أن يصنع لنا وفينا العجائب. كلّي القدرة هو كي يطهرنا من آثامنا، وينعش فينا الرجاء والثقة بأحكامه وتدبيره. فلنتوجه إليه كي يملأ قلوبنا بسلامه، كي يجمع عائلاتنا ورعايانا وكنائسنا ووطننا، بروح الـتآخي الحق والتعاضد الفعّال. ولنكمل معاً ورشة بناء لبنان "الرسالة"، هذا البلد الجميل بطبيعته والفريد بحضارته، حماه تعالى من كل مكروه، بشفاعة والدة الإله مريم العذراء ومار افرام، آمين.
بعد القداس مباشرة استقبل غبطته التهاني بالعيد.
|