من فعاليات اليوم الثالث
للمؤتمر
من فعاليات اليوم الثاني للمؤتمر
في فترة ما بعد الظهر من اليوم الثاني، توزع المؤتمرون على حلقات
حوار، بعدها، تم التجمع في القاعة الكبيرة لجني ثمار حوار
المجاميع،
كان موضوع الحوار "حياة الكاهن الثقافية". بعدها توجه
الجميع إلى الكنيسة حيث ترأس
غبطة أبينا
البطريك مار اغناطيوس يوسف الثالث يونان صلاة الرمش، بعدها
تقاسم الجميع
عشاء المحبة على مائدة بين عنيا.
اليوم الثاني للمؤتمر الكهنوتي الكاثوليكي السرياني
الثلاثاء 13 نيسان 2010
أفتحت فعاليات اليوم الثاني للمؤتمر بصلاة في كنيسة بيت عنيا، بعد
ذلك توجه الجميع إلى قاعة المحاضرات حيث أصغى الجميع لمحاضرة الأب
أيوب شهوان الراهب اللبناني، الأستاذ في مادة الكتاب المقدس، في
جامعة الروح القدس الكسليك، بعنوان: "كاهن على مثال يسوع"، وهذا نص
المحاضرة:
مقدّمة
بالفرح والسرور، وبروح التقوى والخشوع، نلتقي في هذا الصرح
المبارك، تحت نظر ربّنا يسوع المسيح، الكاهن الأوحد والفادي
الحبيب، وفي حمى أمّنا العذراء مريم أمِّ الكاهن، ضمن المؤتمر
الكهنوتيّ السريانيّ الكاثوليكيّ الثالث، الذي يجمع عددًا كبيرًا
من كهنة الكنيسة السريانيّة الكاثوليكيّة النبيلة، لنفكّر ونتأمّل
ونصلّي بقلب واحد، وروح واحدة، آملين أن نخرج من هنا خروجَ الرسل
القدّيسين من العلّيّة المقدّسة في أورشليم.
عنوان مداخلتنا هو التالي: كاهن على مثال يسوع.
جاء في لو 4: 20: "وكان في المجمع قبلةَ أنظار الحاضرين".
هذا ما يقوله الإنجيليّ
لوقا عن يسوع في مجمع الناصرة، وعمّن كانوا هناك يومَ ذاك السبت،
وسمعوا يسوع يقرأ من سفر أشعيا النبيّ ما يلي: "روح الربّ عليّ،
مسحني لأبشّر المساكين، وأرسلني أنادي بإطلاق الأسرى، وعودة البصر
إلى العميان، وأحرّر المقهورين، وأنادي بسنة مقبولة لدى الربّ" (لو
4: 18-19؛ رج أش 61: 1-2)؛ وعلّق يسوع قائلاً: "اليوم تمّت كتابةٌ
سمعتموها"، معلنًا ذاته مملوءًا من الروح القدس، ومكرَّسًا
بالمسحة، ليبشّر الفقراء. إنّه حقًّا المسيح، الذي سيجعل سامعيه
وناظريه يكتشفون أنّه الكاهن، والنبيّ، والملك[1].
هذه الحقيقة المُفرحة والعظيمة هي بشرى سارّة، تحتاج إلى مَن
ينقلها حتّى أقاصي الأرض، إلى أناسٌ ينهجون نهج القداسة، يسيرون في
إثر يسوع، ويقتفون خطاه، لأنّ أعمال الله لا يضطلع بها إلاّ رجال
الله[2].
1
- "أعطيكم رعاة على وفق قلبي" (إر 3: 15)[3]
بهذه الكلمات من نبوءة إرميا، يَعِدُ الله شعبه ألاّ يدعه أبدًا
بلا راع يجمع شمله ويهديه: "وأقيم على (غنمي) رعاةً يرعونها، فلا
تخاف من بعد ولا تفزع" (إر 32: 4). الكنيسة شعب الله، تختبر دومًا
حقيقةَ هذه البشرى النبويّة، ولا تني تؤدّي الشكر للربّ مبتهجة،
وعالمة علم اليقين أنّ يسوع المسيح نفسَه هو الذي يحقّق وعد الله
وينجزه بطريقة حيّة فائقة وحاسمة، من خلال تأكيده أنّه "الراعي
الصالح" (يو 10: 11)، "راعي النعاج العظيم" (عب 13: 20)، الذي
وَكَلَ إلى الرسل وخلفائهم أن يرعوا خراف الله (يو 21: 15-17؛ 1 بط
5: 2)[4].
لقد كشف إلهُ الخلق عن نفسه، أنّه إله الفداء، الوفيُّ لوعده: "إنّ
الذي دعاكم أمين، وهو الذي سيعمل" (1
تس 5: 24؛
رج
1 كو 1: 9؛ 10: 13)؛ "إنّ الله صادق ويفي بالوعد" (رو 15: 8)، أي
أنّ الله وفيّ لمحبّته التي أظهرها للناس وللعالم يوم الخلق[5].
ويتجلّى هذا الوفاء بيسوع المسيح، المبدأِ الثابت، والمحورِ الدائم
الذي ترتكز عليه الرسالة التي وَكَلَها اللهُ إلى الكاهن[6]،
الذي تنبع هوّيّته من مشاركته في كهنوت المسيح، فيضحي صورةً
حقيقيّةً وشفّافةً للمسيح الكاهن، والرأس، والراعي.
بذات الفعل يدخل الكاهن في شركة خاصّة ومميّزة مع الآب والابن
والروح القدس، لأنّ هوّيّته تتجذّر في محبّة الآب، ويتّحد
كهنوتُه بالابن الذي يرسله، وبفعل الروح القدس وعمله فيه. إنّ
حياةَ الكاهن وخدمتَه هما استمرار لحياة المسيح وعمله. وتنبع
هوّيّته أيضًا من خدمة الكلمة والأسرار التي لها علاقة
جوهريّة بسرّ محبّة الآب (يو 17: 6-9 و24؛ 1 كو 1: 1؛ 2 كو 1:1)،
وبطبيعة المسيح الكهنوتيّة، وبموهبة الروح القدس (يو 20: 21) الذي
يرفد الكاهن بما يحتاجه من قوّة ليهب الحياة لجمهور من أبناء الله
المدعوّين، فيؤلّفوا شعبًا واحدًا في المسير إلى ملكوت الآب.
وبما أنّ الكاهن هو على مثال يسوع، فهو يتذكّر على الدوام أنّ
الربّ والمعلّم "لم يأت ليُخدَم بل ليَخدُم" (يو 10: 54)، وأنّه
انحنى وغسل أقدام تلاميذه (يو 13: 5)، قبل أن يموت على الصليب،
ويرسلهم إلى العالم كلّه (يو 20: 21). تبيّن لنا الرسالة إلى أهل
فيلبّي العلاقة بين التجرّد وروح الخدمة الذي ينعش المهمّة
الراعويّة؛ فيسوع "لم يعدّ مساواته لله غنيمة، بل أخلى ذاته
متّخذًا صورة العبد" (فل 2: 6-7). في الحقيقة، سيكون من الصعب على
الكاهن أن يقوم بخدمة إخوته إذا أفرط في الاهتمام برغده وبعيشه.
إنّ لِفقرِ يسوع غايةً خلاصيّة: كان غنيًّا، "فافتقر لنغتني بفقره"
(2 كو 8: 9). مثالُ يسوعَ هذا يدفعُ الكاهنَ إلى التشبّه به في
تعاطيه مع خيرات العالم وثرواته، لينجح في تولّيه رعاية الخراف.
من الطبيعيّ إذًا أن يكون الكاهنُ مدعوًّا إلى القداسة، أي إلى
كمال المحبّة، في تصرّفه كلّه: "كما أنّ الذي دعاكم هو قدّوس، فكذلك كونوا أنتم قدّيسين في
سيرتكم كلّها"
(1 بط 1: 15)؛ فالقدّيس آخر الأمر هو الشاهد الأروع للكرامة
المعطاة لتلميذ المسيح. إنّ الحياة بحسب الروح هي التي تفضي إلى
القداسة (رو 6: 22؛ غل 5: 22)، وتوقظ الرغبة بل الالتزام في اتّباع
المسيح، والاقتداء به، عن طريق الالتزام بتطويبات العظة على الجبل،
وسماع كلمة الله والتأمّل فيها، والانفتاح على الجوع والعطش إلى
البرّ، وممارسة وصيّة المحبّة، وخدمة الإخوة، ولا سيّما الوضعاء
منهم والفقراء والمتألّمين.
إنّ الكاهن الذي يختاره الله ليكون علامة وأداة لاتّحاد القلب
بالله، ولوحدة الجنس البشريّ بأجمعه، هو بذات الفعل كاهنٌ على مثال
المسيح، إنجيلٌ حيٌّ، وبشرى حاملةُ الفرح، يعلنها كلَّ يومٍ باسم
الكنيسة، شاهدًا لها أمام البشر أجمعين. هو هكذا لأنّه، في يسوع
المسيح، الذي مات ثم قام، يصبح الكاهن، كما المعمّد، خليقة جديدة
(غل 6: 15؛ 2 كو 5: 17)، مبرّرة من الخطيئة ومنتعشة بالنعمة. هكذا
يولد الكاهن، كما يقول القدّيس بطرس الرسول، "لا من زرع فاسد، بل
من غير فاسد، بكلمة الله الحيّ الباقي" (1 بط 1: 23). يدرك الكاهن
بالتالي أنّه أصبح مشاركًا للابن الحبيب حين "صار ابنًا بالتبنّي"
(غل 4: 4-7)، وأخًا للمسيح؛ وهكذا يتحقّق في حياته تدبيرُ الله
الأزلّي.
2 - الكاهن المثال، إليه يحدّق المؤمنون
على مثال المسيح، يُظهر الكاهن للعالم نموذجَ حياةٍ تَفُوقُ
الطبيعة. قال ربُّنا: "كنت لكم مثالاً، فاصنعوا أنتم ما إليكم
صنعت" (يو 13: 15)[7].
الأسقف
الذي يقبلُ المرشَّحَ للكهنوت، ويضع يده عليه، ويكرّسه، ويرسمه،
وويكل إليه مهمّة رعاية قطيع الربّ، في مكان وزمان محدَّدين، هذا
الأسقف تبقى عينه على كاهنه، يسهر عليه، يحمل همّه، يشاركه
في تحمّل صليبه، يشجّعه، يحنو عليه، كي يبقى كاهنُ الربِّ مثالاً
في كلّ شيء. كم هو رائع أن يتمكّن الأسقف من أن يبثّ في أذن كاهنه:
"أنت فرحي! أنت عزائي! أنت موضع ثقتي! أنت شريكي في بذل ذاتك حبًّا
بيسوع!" وكم سيصعب الأمر على الأسقف، بالمقابل، عندما يكون الوضع
على عكس ذلك، لا سمح الله، ويُفقَدُ عندها المثال!
كذلك المؤمنون عينهُم على كاهنهم وله، لأنّهم يعلمون
أنّه مثالٌ لهم في خدمة المسيح وفي محبّته، لذا هم يسهرون عليه،
ويُعنَون به، ويحيطونه بمحبّتهم. هذا كان وضعُ أهل غلاطية تجاه
بولس، فكتب إليهم ما يلي: "إنّي لأشهد لكم أنّكم لو أمكنكم لقلعتم
عيونكم وأعطيتموني إيّاها" (غل 4: 15). إنّ المؤمن
الصالح هو رجل الثوابت! لذا، لا يجوز أن تتبدّل مواقفه إذا ما أخلّ
كاهنُه بالأمانة، بل يهبّ للدفاع عنه، والوقوف إلى جانبه، ولفت
انتباهه، والعمل على إصلاح الوضع، لأنّه، وبكلّ بساطة، مؤمنٌ محبّ!
لماذا يحدّق المؤمنون والمحبّون إلى وجه الكاهن؟
إنّ المؤمن الفقير إلى الله، يحدّق إلى وجه الكاهن ليستمدّ منه روح
القداسة والتقوى والسلام، لأنّه يرى فيه مثالاً في ذلك؛ هذا يعني
أنّه يضع في الكاهن أملاً كبيرًا، وهو متأكّد بأنّه "إنْ سأله
سمكة" سيحصل بالفعل على سمكة، لا على حيّة (متّ 7: 10؛ لو 11: 11)!
والمؤمن يفعل هذا بثقة لأنّه مدرك أنّ الكاهن هو بمثابة الأب له،
"وأيّ أبٍ لا يحبّ ابنه؟"، يدعوه باسمه، كـ"الراعي الصالح الذي
يسمّي خرافَه بأسمائها" (يو 10: 2).
إنّ النصوص الرائعة التي تركها لنا نرساي في القرن الخامس،
حول "سرّ الكهنوت المقدس"، وسويريوس الأنطاكيّ حول "الخدمة
الكهنوتيَّة"، ويعقوب السروجيّ، في الميمر الثالث، حول
"تعزية الكهنة"، ويوحنّا الذهبيّ الفم، في مقالاته حول
"الكهنوت"، وغيرهم الكثيرون، تُفهمنا سموَّ هذه الخدمة وعظمتَها،
وبالتالي واجبَ اعتناء الكاهن بقداسة الذات للقيام بخدمته
الكهنوتيّة كما يليق، ولإعطاء المثل الصالح والقدوة الحسنة.
في نظر المؤمن، الكاهن يقوم مقام المسيح، وهو بذلك مثالٌ
له؛ لذا يعمل رَجُلِ الله على "اكتساب كمال ذلك الذي يمثّل،
ومداواةِ ضعفِ الجسدِ البشريّ"، بواسطة وبقوّة "قداسةِ مَن صار
الحبرَ القدّوس، البريء، الزكيّ، والمنزّه عن الخطأ" (عب 7: 26).
عند ذاك يصبح الكاهن كالقدّيس إسطفانس أوّل الشهداء، الذي يقول عنه
كتاب أعمال الرسل إنّه "كان ممتلئًا إيمانًا وروحًا قدسًا" (أع 6:
5)، و"نعمة وقوّة" (أع 6: 8)؛ ويضيف في مكان آخر: "وحدّق كلُّ مَن
في المجلس إلى إسطفانس، فرأى في وجهه وجه ملاك" (أع 6: 15). فإذا
كان محاكموه وباغضوه والصارخون مطالبين برجمه، قد رأوا في وجهه
"وجهَ ملاك"، فماذا يقول عنه وفيه إخوتُه وشركاؤه في الإيمان
ومحبّوه؟! تقول إحدى صلواتنا السريانيّة المارونيّة: "طيف
الكاهن، يا طيف الربّ"؛ فهَل نحن في رعايانا "طيفُ الربّ"؟ هل
وجهُنا "وجهُ ملاك" على مثال القدّيس إسطفانس؟ هل يشعُّ وجهنا كوجه
موسى الذي كان يشعّ بفضل لقائه بالربّ على جبل حوريب/سيناء (رج خر
34: 29-35؛ 2 كو 3: 7-18)؟ لا بل هل وجهُنا هو أيقونة انطبع عليها
وجهُ يسوع في تجلّيه وفي مجده، عندما "تألّق وجهه كالشمس، وابيضّت
ثيابه كالنور" (مت 17: 2؛ رج لو 9: 29)؟ هذا الإشعاع في الوجه
يُنعم به الله على كاهنه وعلى مختاريه، فيسطعون كالملائكة (متّ 28:
3؛ رؤ 3: 4؛ 4: 4)؛ عندها يرى إخوتُنا الذين في العالم في وجهنا
نحن الكهنة وجهَ ملاك، فيمجّدون الله.
3 - أنت مثال في
نموّك بالحكمة والتقوى والقداسة
الخلوات والرياضات الروحيّة وسيلة فعّالة وملائمة لتنشئة الكهنة
تنشئة دائمة ومناسبة؛ إنّها أوقات صلاة لا أوقات بحث في
التجدّد اللاهوتيّ.
يقول القدّيس بولس في رسالته إلى طيموتاوس: "لذلك أنبّهك على أن
تحيي نعمة الله التي فيك" (2 تم 1: 6). إنّها ضرورة مرتبطة بالهبة
الإلهيّة ذاتها، التي يجب على الكاهن ألاّ يكلّ عن إحيائها ليتمكّن
من أن يُلبّي دعوته تلبية أمينة. من هنا التنشئة الدائمة هي وسيلة
لا بدّ منها لكاهن اليوم، ليحقّق هدف دعوته، أي خدمة الله وشعبِه،
قوامها مساعدة الكاهن على أن يلبّيَ بسخاء المهمّة التي تتطلّبها
الكرامة والمسؤوليّة اللتان وكلهما الله إليه في سرّ الكهنوت،
ويصونَ ويُحصّنَ ويُنميَ هوّيّته ودعوته المميّزة، ويقدّس ذاته
والآخرين في ممارسة خدمته. التنشئة الدائمة حقّ للكاهن وواجب عليه،
وإسداؤها حقّ للكنيسة وواجب عليها، لكنّها تصطدم غالبًا بعراقيل
تسبّبها الواجبات الكثيرة المطلوبة من الكاهن.
لا بدّ للكهنة من أن يبلغوا نضجًا متناغمًا ليواجهوا بقوّة ما
يعترض طريق إيمانهم من أشواك. ويجب على الكهنة الجدد أن يستفيدوا
من العلاقة الشخصيّة بأسقفهم وبأب روحيّ حكيم يرشدهم، ومن أوقات
الراحة والتأمّل والخلوة الشهريّة. ولا بدّ أن تُنظّم لقاءات
سنويّة للتنشئة تُحدَّد فيها وتُعمَّق موضوعات لاهوتيّة وقانونيّة،
وروحيّة وثقافيّة، خلال دورات مخصّصة لمسائل أخلاقيّة وراعويّة
وليتورجيّة.
4 – أنت مثالٌ في
المعرفة والحكمة
إنّ ما يهمّنا هنا هو "معرفة اسم الآب" (يو 17: 26) وما ينتج عنها.
قال يسوع في صلاته لأجل الوحدة: "أيّها الآب القدوس، قد عرّفتهم
اسمك، وسأعرّف ليكون فيهم حبّك لي، وأكون أنا فيهم" (يو 17: 26).
المقصود هنا هو أنّ يسوع، كما جاء في يو 17: 6-8، قد سبق و"أظهر
اسم الآب للناس، وهم قبلوه، وأيقنوا أنّ يسوع خرج من لدن الآب".
ليس المطلوب من الكاهن إذًا المعرفة العالميّة، ولا حكمة هذا
العالم، بل معرفة اسم الآب، وهذا ما ينتظره المؤمن منه. هذا
لا يعني أنّه لا يجوز ولا يحقّ للكاهن أن يكون دارسًا وعالمًا
ومثقّفًا، "لأنّه في العالم"، ولكن في ذات الوقت "ليس من العالم".
لقد فاقت معرفة وحكمته خوري آرس معرفة عظماء عصره وحكمتَهم، خارج
الكنيسة وداخلها، لأنه قدّيس، كما أصبحت تريزيا الصغيرة ملفانة
الكنيسة وعالمةً فيها بقداستها أيضًا.
لكي ينجح الكاهن في نقل المعرفة والعلم والحكمة إلى المؤمنين، لا
بدّ له من التثقّف والتعلّم باستمرار. هذا ما تدعو إليه
التعاليم العديدة والمتنوّعة التي ورثناها ممَن سبقونا في الكنيسة؛
نورد منها على سبيل المثال:
- كتاب خولاجي سيرابيون
أسقف تاميس (+350): في رتبة وضع الأيدي لرسامة
الكهنة نقرأ الصلاة التالية: "إمنحه الذكاء والمعرفة،
وقلبًا نقيًّا، وليكن الروح القدس معه، حتّى يستطيع أن يرعى شعبك،
ويفسّر كلامك الإلهيّ، ويصالح الشعب معك، أيّها الإله غير
المولود...؛ فامنح هذا الرجل أيضًا الروح القدس، روحَ وحيدك،
ليغمره بِنِعَمِ الحكمة والمعرفة والإيمان المستقيم"[8].
- كتاب عهد الربّ:
في معرض الكلام على القسم التعليميّ في القدّاس، نقرأ عن دور
الكاهن ما يلي: "فليعظ ويُعلّم بهذا سرًّا أولئك الذين يحكم
أنّ لهم آذانًا تسمع (مت 16:13). وعندما يعلّم في البيعة،
فليتكلّم هكذا بحرص، كرجل يعي أنّه يعلّم خِدمةَ أَبِ الجميع، تلك
التي كُتبت بدقّة للشهادة. وليعلّم كلّ هذه الأمور،
وليتذكّر أوّلاً كلّ هذه الأمور التي يعرفها بدقّة؛ فإن كان
يعرف ما يقول، وجب عليه أن يفكّر أنّ السامعين قد عرفوا ذلك؛
فليصنع كلّ شيء بنظام ومعرفة".
ويضيف كتاب عهد الربّ: "فليكن حاذقًا في القراءة،
إذا أُوحي كلامٌ (من الربّ) للكاهن أو للأسقف، فليتكلّم،
وإلاّ، فلا يهملنّ أو يحتقرنّ عمله. إذا أوحي للكاهن أن
يزور رعيّته ويُحدّثها بالكلمة، فليَذهب، وإلاّ فليبتهل
بالتضرّع إلى الله. وإن أوحي إليه أن يُكلّمهم، فليتكلّم وهو حامل
كلّ حين ثِقْلَ وحِمْلَ ذاك الذي صُلب لأجله، مصلّيًا لأجل الشعب
كلّه.
ليكن تعليم الكاهن ملائمًا، هادئًا، ومعتدلاً، ممزوجًا بالمخافة
والرعدة.
ليكن تعليم الأسقف نظير تعليم الكاهن، فلا يقولاَ في تعليمهما
أمورًا باطلة، بل جميع الأمور التي، إذا سمعها السامعون، يحفظونها.
ليتذكّر الكاهن كلّ ما يُعلّمه، لأنّه عليه أن يؤدّي شهادة
للشعب عمّا تكلّم به في يوم الربّ، ليخزى أولئك الذين لم يسمعوا،
لأنّه مزمع أن يقوم أمام مجد الله، فيُحدّث أيضًا بما علّم؛
فليعلّم إذن هكذا لئلاّ يهلك. ليصلّ لأجل السامعين كي يعطيهم
الربُّ فهمَ الروح والمعرفة والحقّ...[9].
على الكاهن إذًا، بصفته معلِّمًا[10]،
ومثقِّفًا للإيمان[11]،
أن يُعنى بأن يحتلّ التعليم المسيحيّ مكانًا مميّزًا في التربية
المسيحيّة[12]،
متذكِّرًا أنّ كلماته هي كلمات الربّ: "فكلماتك كلمات حياة أبديّة"
(يو 6: 68)؛ "ليس تعليمي من عندي، بل من عند الذي أرسلني" (يو 7:
16). لذا عليه أن "يكون كاملاً بالكلمة" (يع 1: 22)، متنبّهًا إلى
أنّ الحقيقة التي يعلّمها ليست من الناس، بل من الله.
5 - أنت مثال في
إيلاء الحياة الروحيّة الأولويّة
يحافظ الكاهنُ على خدمته نابضةً في حياة روحيّة يوليها الأولويّة
المطلقة، ويتجنّب التهاون بها بسبب انهماكه في العمل. وتتجسّد
الحياة الروحيّة في سيرة كلّ كاهن بالليتورجيّا والصلاة الفرديّة،
وبنمط الحياة الذي يعتمده، وبممارسة الفضائل المسيحيّة التي تسهم
في إخصاب خدمته الكهنوتيّة. لذا ينظّم الكاهن برنامج صلاته بحيث
يتضمّن الاحتفالَ يوميًّا بالإفخارستيّا، مع ما ينبغي من الاستعداد
لها، والشكر، والاعتراف المتواتر، مع الاسترشاد الروحيّ؛ الاحتفال
بليتورجيّا الساعات احتفالاً كاملاً وحارًّا، محاسبة الضمير،
والتأمل الذهنيّ في صيغته الأصليّة، والقراءة المقدّسة، وتأمين
فترات من الصمت والمناجاة الإلهيّة، ولا سيّما في الرياضات
الروحيّة والخلوات الدوريّة، وإكرام العذراء مريم، وتلاوة سبحة
الورديّة، وسائر الممارسات التقويّة، وقراءة سير القدّيسين.
6 - أنت مثال في
التشبّه بالمسيح المصلّي
بسبب الأعباء الكثيرة الناجمة خصوصًا عن ممارسة النشاط الراعويّ،
تتعرّض حياة الكاهن لسلسة من الجواذب قد تجرّه إلى نوع من الانهماك
الخارجيّ المتفاقم، وتُخضعه أحيانًا لنمط من الحياة المهموكة
الصاخبة. في مواجهة هذا المنزلق، يجب ألاّ يغيب عن البال أنّ أوّل
ما توخّاه يسوع هو أن يجمع حوله رسلاً يصحبونه (مر 3: 14)، أورثهم
قبل كلِّ شيء شهادةَ صلاته؛ فالأناجيل تورد لنا، مرّات عدّة، مشهدَ
المسيح مصلّيًا: عندما كشف له الآب رسالته (لو 3: 31-33)، وقَبْلَ
دعوة الرسل (لو 6: 12)، وعندما أدّى الشكر لله قبل تكثير الخبزات
(مت 14: 19؛ 15: 36؛ مر 6: 41؛ 8: 7؛ لو 9: 16؛ يو 6: 11)، وأثناء
التجلّي على الجبل (لو 9: 28-29)، وعندما شفى الأصمّ الأبكم (7:
34)، وأقام لعازر (يو 11: 41)، وقَبْلَ اعتراف بطرس (لو 9: 18)،
وعندما علّم التلاميذ كيف يصلّون (لو 11: 1)، وعندما رجع هؤلاء بعد
أن أتمّوا رسالتهم (مت 11: 25؛ لو 10: 21)، وعندما بارك الأولاد
(مت 19: 13)، وصلّى لأجل بطرس (لو 22: 32)، الخ.
لقد كان نشاط يسوع اليوميّ نابعًا من الصلاة، لذا كان يعتزل في
القفر أو على الجبل ليصلّي (مر 1: 35؛ 6: 46؛ لو 5: 16؛ مت 4: 1؛
14: 23)، وينهض من النوم باكرًا (مر 1: 35)، ويقضي الليل كلّه في
الصلاة إلى الله (مت 14: 23 و25؛ مر 6: 46 و48؛ لو 6: 12)، مظهرًا
وحتّى آخر حياته، في العشاء الأخير (يو 17: 1-26)، ووقت النزاع (مت
26: 36-44)، وعلى الصليب (لو 23: 34 و46؛ مت 27: 46؛ مر 15: 34)،
أنّ الصلاة هي نَبْضُ رسالته. وها هو، بعد قيامته من بين الأموات
حيًّا باقٍ يشفع لنا (عب 7: 25). فإذا شاء الكاهن أن يحذو حذو
المسيح، حافظَ على أوقات الصمت والصلاة، ورعى وعمّق صلته الوجوديّة
بالربّ يسوع إلهه الحيّ.
7 – أنت مثال في رفع عينيك أبدًا إلى أبي الأنوار
ما أعذب أن يرتّل الكاهن للربّ الإله ما جاء في مز 84: 132ي: "ما
أحبّ مساكنك، يا ربّ الجنود، تشتاق وتذوب نفسي إلى ديار الربّ،
ويرنّم قلبي وجسمي للإله الحيّ... طوبى لسكّان بيتك، فإنّهم لا
يبرحون يسبّحونك". إنّه تعبير حيّ ووجوديّ عن التوق إلى لقيا الله،
هذا التوق الذي يصبح عفويًّا عند الصادق في الإيمان، لأنّه لا يرى
وجودَه إلاّ مندمجًا بمَن أعطاه هذا الوجود.
الكاهن، رجل الله، يحدّق أبدًا إلى العلاء، إلى نبع الحياة، ربِّ
المراحم، وأبي الأنوار، مشتهيًا أن يبقى مع الله الآب أبدًا،
تمامًا كما فعل الرسل الثلاثة عند تجلّي يسوع على طور طابور، إذ
هتف بطرس باسمه وباسم يعقوب ويوحنا بفرحٍ عظيم قائلاً: "طيّبٌ
مقامنا هنا، يا معلّم، فلنَنْصُب ثلاث مظالّ" (لو 9: 33)، لك
واحدة، ولموسى واحدة، ولإيليّا واحدة". هذا هو في الحقيقة مشتهى
مَن يرى مجد الله، وهذا هو في الحقيقة واقع الكاهن الروحيّ، لا بل
قُل الإلهيّ.
انطلاقًا من هذه الثابتة، نتبيّن انشداد الكاهن إلى العلاء، لأنّه
يدرك أنّ كيانه مؤلَّه: "قلت إنّكم آلهة" (مز 82: 6)؛ إنّه الرباط
المميّز الذي يجمع بين الآب والابن والروح القدس وبين الكاهن.
إنّنا نتأمّل في اتّحاد الكاهن بالآب السماويّ، فنرى الله الآب
قريبًا كلّ القرب من الكاهن. لقد كشف المسيحُ عن الله الذي هو
"آب"، والذي هو "محبّة"، فأظهر اللهَ غنيًّا بالرحمة، "إلهًا
رحيمًا ورؤوفًا، طويل الأناة، وكثير المراحم والوفاء" (خر 34: 6)؛
هذا ما يؤكّده في أش 54: 10 بقوله: "إنّ الجبال تزول...، أمّا
رأفتي فلا تزول عنك..."، "لأنّ محبّته إلى الأبد" (مز 136: 1-26)،
كما يقول على لسان إرميا النبيّ: "إنّي أحببتك حبًّا أبديًّا،
فلذلك اجتذبتك برحمة" (إر 31: 3).
تخلق محبّة الله الوجودَ والخيور؛ هي محبّة يظلّ "الله أبو سيّدنا
يسوع المسيح" (2 كو 1: 3) أمينًا لها حتّى النهاية. هذا الاختبار
المميّز لرحمة الله ومحبّته اللامتناهية والثابتة هو شبيه باختبار
بطرس ويعقوب ويوحنّا من حيث مشاهدةُ مجدِ الله، الذي يتجلّى رحمة
وحنانًا. هذه المشاهدة يجب أن تعني الهبوط من الجبل حيث يتمّ
اللقاء بالله، والوجهُ وضّاء. عندها فقط يمكن للكاهن أن يكون
كارزًا ومبشِّرًا، ورسولاً خادمًا للكلمة، وموزِّعًا لمراحم الله
كالقهرمان الحكيم. وعندها فقط يستطيع أن يؤكّد بقوّة وثبات وشجاعة
أن الله وحده هو الخير الأسمى، وأنّ الثروة الحقيقيّة هي أن نفوز
بالحياة معه. وعندها أخيرًا لا آخرًا، يمكنه أن يعلن دون تردّد
أنّه يؤمن بإله واحد، هو الآب، الذي منه كلّ خير، وأنّنا نحن إليه
وله، وبهذا كلّه يكون الكاهن مثالاً حيًّا أمام أعين ناظريه.
8 – أنت مثال في استلهام الروح المحيي والمُلهِم، ومعطي المواهب
يعلن يسوع أنّ روح الربّ عليه، مسحه وأرسله ليبشّر المساكين (رج لو
4: 18-19). بهذا الكلام يعلن في آنٍ معًا، أنّه مملوء من الروح
القدس، و"مكرَّس بالمسحة"، ليبشّر الفقراء والمساكين والمظلومين.
هكذا يحلّ الروح القدس على الكاهن، ليجعله يعمل بقوّته في الكنيسة
لأجل خلاص العالم، ويدفعه إلى الإعلان عن أعمال الله العظيمة؛
فبعمل الروح القدس تَدْخُلُ بشارةُ الفرح في ضمائر البشر وقلوبهم،
وفي التاريخ.
إنّ إرسال يسوع لتلاميذه هو إرسال بالروح، ولوقا يربط الشهادة التي
كان لا بدّ للرسل أن يؤدّوها للمسيح ربطًا محكمًا بعمل الروح الذي
يجعلهم قادرين على تأدية الرسالة. وهذا ما يتحقّق بالفعل، إذ
"خرجوا يكرزون في كلّ مكان، وكان الربّ يعمل معهم" (مر 16: 20)،
لأنّ مجيء الروح القدس جعل منهم شهودًا وأنبياء (أع 1: 8؛ 2:
17-18).
يطّلع الروح أكثر بدور "القائد" في اختيار الأشخاص وطرق الرسالة،
وخاصّة في الدفع المعطى للرسالة لتجاوز المسافات والعقبات.
يتطلّب العملُ الرسوليُّ روحانيّةً مميّزة، تتجلّى بعيش الكاهنِ في
انقياد تامّ للروح، انقيادًا يجعله يدع الروح يتولّى تنشئته في
الداخل، كي يصبح دائمًا أكثر تشبّهًا بالمسيح، إذ لا يمكنه أن يشهد
له دون نعمة الروح وقوّته. إنّ انقياد الكاهن للروح يدفعه إلى
تلقّي موهبتَي الشجاعة والتمييز، وهما علامتان جوهريّتان في
روحانيّة الرسالة، فتكون هكذا للكاهن الجرأة لإعلان الإنجيل،
وإمكانيّةُ تَبَيُّنِ طرقِ الروح الخفيّة، هذا الروح الذي "يقود
إلى الحقّ كلّه" (يو 16: 13؛ رج 1 كو 12-14). وعندما يبلغ الكاهن
إلى الحقّ بقوّة الروح وهدايته، ويحيا بحسب الروح، يسير في دروب
القداسة، ويجني "ثمار الروح التي هي محبّة، وفرح، وسلام، وأناة،
وطيبة، وصلاح، وأمانة، ورفق، وعفّة..." (غل 5: 22-23).
هذا الروح، روح الحقّ (يو 16: 7-13)، "فيه جميع كنوز الحكمة
والمعرفة" (كول 2: 3)، فترتبط المعرفة هكذا ارتباطًا وثيقًا بيسوع
المسيح. هذا يتطلّب أن تكون معرفة يسوع صحيحة ونامية، وفق شهادة
الرسل المدفوعين بالروح القدس، لا في ضلال المعلّمين الكاذبين. إنّ
التركيز على أهمّيّة المعرفة يعادل التشديد على الإيمان، لأنّ
المعرفة في ما يتعلّق بالربّ يسوع تفضي إلى الإيمان. من هنا نتبيّن
أكثر دور الروح القدس الذي يهب المعرفة التي هي الإيمان بالمسيح،
الأمر الذي يمكّن الكاهن من فهم سليم للحقيقة التي تجلّت كاملة في
ابن الله المتأنّس: "هذه هي الحياة الأبديّة : أن يعرفوك أنت الإله
الحقّ الأحد، ويعرفوا مَن أرسلتَه، يسوع المسيح" (يو 17: 3). إنّ
"كلّ روح يعترف بيسوع المسيح إنّه جاء في جسد، يكون من الله؛ وكلّ
روح لا يعترف بيسوع لا يكون من الله" (1 يو 4: 1-3أ).
9 – أنت مثال في اللجوء إلى مريم أمّ الله وأمّنا
هناك علاقة حوهريّة بين مريم أمّ يسوع، وبين كهنوت خَدَمَة الابن.
تنبثق هذه العلاقة من الصلة القائمة بين كهنوت المسيح وأمومة مريم
الإلهيّة. من هذه العلاقة تنبع روحيّة الكاهن المريميّة التي ترتبط
ارتباطًا وثيقًا بوصيّة المسيح المصلوب الذي وَكَل أمَّه إلى
الرسول يوحنّا الحبيب، ومن خلاله إلى جميع الكهنة، المدعوّين إلى
مواصلة عمله الخلاصيّ. فكما وَكَلَ يسوعُ أمَّه إلى يوحنا عند
أقدام الصليب (يو 19: 26-27)، كذلك وَكَلَها أمًّا لكلّ كاهن
بطريقة مميّزة. بقوله ليوحنّا: "ها هي أمّك"، أقامها أمًّا
للكنيسة، وأمًّا لكلِّ مؤمن، وخاصةً أمًّ للكاهن.
ويضيف الإنجيليّ قائلاً : "ومِن تلك الساعة قَبلها التلميذ في
خاصّته" (19: 27). لم يقبل يوحنّا أمَّ يسوع ليأويَها فقط، ويؤمّنَ
لها المسكن والمأكل، بل خاصّةً وأيضًا كثروةٍ روحيّة.
على مثال التلميذ الحبيب، يقبل الكاهن مريمَ أمَّه، الثروةَ
الروحيّةَ العظمى، كونه في عداد أحبّاء يسوع، المصلوبِ والقائمِ من
بين الأموات، فيرحّب بها أمًّا له في حياته، ويتّخذها موضوع عنايته
وصلاته المتواصلة، فتصبح الأمَّ التي تقود الكاهنَ إلى المسيح،
وتحبّبه بالكنيسة، وتشفع فيه، وتهديه إلى الملكوت. كلّ كاهن يعلم
أنّ العذراء مريم، كونها أمًّا، هي أسمى مربّية للكاهن، لأنّها
بوسعها أن تهذّب قلبه، وتَقيه الأخطار والأهوال، وهجمات اليأس،
وتسهر بحبّها الوالديّ على أن "ينمو في الحكمة والسنّ والنعمة،
أمام الله والناس" (لو 2: 40).
عندما يسعى الكاهن التقيّ والوَرِع إلى التشبّه بفضائل أمّه مريم
يعطي أبناء رعيّته المثال، فيضحي كما هي خادمًا متواضعًا، مطيعًا،
عطوفًا، عفيفًا، ويؤدّي شهادة المحبّة في تقدمة ذاته كاملة للربّ
وللكنيسة. إنّ التأمّل في العذراء مريم القدّيسة يضع أمام الكاهن
المثال الذي يجب أن يسعى إليه في خدمة رعيّته، فتصبح هذه الرعيّة
هي أيضًا "الكنيسة المجيدة" (أف 5: 27)، بفضل نعمة الله وتقدمة
حياته على مذبح الكهنوت.
إن تأمّل الكاهنُ في قداسة العذراء الخفيّة، وتشبّه بمحبّتها
بتتميمها إرادة الآب بكلّ أمانة، يستطيع عندها أن يقتدي بها،
ويقتفي أثرها، في إيمان تامّ، ورجاء ثابت، ومحبّة خالصة. إنّ
العذراء مريم تقول للكاهن اليوم، هو خادم العريس السماوي، كما في
عرس قانا: "إصنعوا كلّ ما يأمركم به" (يو 2: 5).
10 - أنت مثال في الاعتراف بالخطايا
الكاهن بحاجة هو، ككلّ مؤمن صالح، إلى أن يعترف بخطاياه وشوائبه.
فهو أوّل مَن يعلم أنّ ممارسة هذا السرّ ترسّخه في الإيمان لله
والقريب. ولا بدّ لخادم هذا السرّ من أن يؤدّي شهادة شخصيّة، في
استباق المؤمنين الآخرين إلى اختبار نعمة الغفران. ومن المفيد أن
يعلم المؤمنون أنّ كهنتهم يعترفون، وأن ويروا ذلك أيضًا. حياة
الكاهن كلّها تتقهقر تقهقرًا محتّمًا إذا أخلّ بممارسة التوبة، عن
تهاون أو لأيّ سبب آخر، ولم يُقبِل إقبالاً مفعمًا بالإيمان
والتقوى الراهنة. الكاهن الذي يهمل الاعتراف أو يسيء الإقرار
بخطاياه، سرعان ما ينعطب جوهره الكهنوتيّ وعمله الراعويّ"[13].
نحن كهنة الربّ، المدعوّين لأن نكون قدّيسين ومحبوبيّ الله، نحن
الذين "عيون الجميع شاخصة إلينا" (رج لو 4: 20)، كما إلى يسوع في
مجمع الناصرة، قد أقامنا الربّ "معلِّمين، وخدّامًا، موزِّعين
للأسرار، ورعاة للآخرين"، وقد نلنا لأجل ذلك هبة مميّزة، كي نستطيع
مساعدة شعب الله على أن يؤدّي بالأمانة والكمال "العبادةَ لله
بالروح والحقّ". نحن إذًا مزوّدون بسلطان مقدّس يقوم على القدرة
وعلى مسؤوليّة العمل باسم المسيح الرأس والراعي، الذي يجعل منّا
خَدَمَةً له ولكنيسته بواسطة إعلان كلمة الله بسلطان، والاحتفال
بالأسرار، والقيادة الراعويّة للمؤمنين. إنّنا في كلّ هذا "عبيد
المسيح" (رو 1: 1)، على مثاله هو، الذي اتّخذ طوعًا من أجلنا "صورة
عبد" (فل 2: 7)، وبالتالي نحن طوعًا "عبيد للجميع".
انطلاقًا من هذه المعطاة الأساسيّة، نحن نعلم علم اليقين أنّ
أجسادنا تتحوّل لتصبح أعضاء للمسيح: "أمَا تعلمون أنّ أجسادكم
أعضاء للمسيح؟" (1 كو 6: 15)؛ بالتالي "جسدنا هو هيكل الروح القدس"
(1 كو 6: 19)، "لأنّنا بثمنٍ" عظيم "قد اشترينا" (1 كو 6: 20)؛
فنحن مدعوّون إذًا لأن "نمجّد الله في جسدنا" (1 كو 6: 20).
ممّا تقدّم، أسائل نفسي إن كنت أنا الكاهن على ما يشتهي "مَن دعاني
من الحشا وقدّسني"، وأقامني راعيًا لشعبه. هل أنا على مستوى الدعوة
التي أنعم بها الربّ عليّ؟ نحن الذين "اتّحدنا بالربّ، وصرنا
وإيّاه روحًا واحدًا" (1 كو 6: 17)، هل ما زلنا وإيّاه واحدًا،
"كما هو والآب واحد"؟ أم أنّنا التَفتنا إلى الوراء كامرأة لوط،
ونَشَدْنا بَصَلَ مصر من جديد، ورفعنا يدنا عن المحراث وتطلّعنا
إلى الوراء؟ إذا كنّا قد فعلنا، لا سمح الله، لا بُدَّ وأن نسمع
الكلام ذاته الذي وَبَّخَ به الربّ يسوعُ نيقوديمسَ قائلاً: "أنا
معك كلُّ هذا الزمن، ولم تعرفني، يا نيقوديمس" (يو 14: 8، 9)؟
الغربة القتّالة التي قد يعيشها الكاهن عن سيّده، أسبابها كثيرة،
وهي في معظمها في داخله! إنّ شقاءَه إنّما هو خطيئة.
لذلك، عندما يخطىء الكاهن، يبحث الله عنه، ويحبّه أكثر، ويحبّه في
سرّ الابن الذي صُلبَ لأجله ولأجل خلاص كلِّ إنسان، وقام منتصرًا
وحيًّا، برهانًا أبديًّا على أن لا أحد يستطيع أن يقتل الحبّ.
- إنّ أولى خطايا
الكاهن هي عندما يأخذ مكان المسيح، وصبح هو
المخدومَ، ويسوعُ المُستَخدَم لأغراضه، وكأنّه بذلك يقوم مع
الطامعين بالاستيلاء على كرم سيّدهم: "هوذا الوارث، تعالوا نقتله،
ونستولي على ميراثه" (مت 20: 38؛ رج مر 12: 70؛ لو 20: 14). الكاهن
مدعوّ إلى اغتصاب ملكوت السماوات، لا إلى اغتصاب ما ليس له! إن كان
قد ارتَضَى أن يكون "خادمًا للربّ" (2 تم 2: 24)، فَلْيَلْزَم حدود
الخادم الأمين الواقف أبدًا ينتظر إشارة سيّده ليؤدّيه ما يريد.
أُعطي الكاهن أن "يعرف الذي هو منذ البدء" (1 يو 2: 14)؛ فكونه
عرفَه، يعني أنّه آمنَ به، وقبلَه، وأحبَّه، فكيف "يحبّ العالمَ
وما في العالم" (1 يو 2: 15) أكثر منه؟ "إن كان يحبّ العالم، وما
في العالم، فلا تكون فيه محبّة الآب، لأنّ كلّ ما في العالم من
شهوة الجسد، وشهوة العين، وفخر الحياة، ليس من الآب" (1 يو 2:
15-16). فإن كان قد صار "والآب واحدًا"، فكيف يعمل ما لا يُرضي
الآب؟ كم ينبغي للكاهن أن يدرك "أنّ العالم وشهوتَه زائلان" (1 يو
2: 17)؟
الخطيئة الثانية
هي نكران الكاهن خطيئته! يعلّمنا القدّيس يوحنّا الحبيب
بأنّ مَن كان في الخطيئة، وقال "أنْ لا خطيئةَ له، فإنّه يضلّل
نفسه، ولا يكون الحقّ فيه" (1 يو 1: 8).
والأسوأ
أيضًا وأيضًا هو، ليس أن يقترف الكاهنُ خطيئة عابرة، مهما كبرت، بل
أن يكون مستمرًّ على الخطيئة، ولا يشعر، لا بل لا يكترث
للأمر، وكأنّ أموره الروحيّة على خير ما يرام! يحذّره بولس الرسول
من الوقوع في هذا الخطأ الكبير فيقول: "مَن يأكل خبز الربّ ويشرب
كأسه، وهو غير أهل، يُذنب إلى جسد الرب ودمه...؛ فمَن يأكل ويشرب،
وهو غير مميِّزٍ جسد الربّ، يأكل ويشرب دينونة لنفسه" (1 كو 11:
27، 29). ما الذي يجعلني "غير أهلٍ لأكل خبز الربّ وشرب كأسه"؟
ليمتحن كلّ إنسان نفسه، فيجد الجواب.
- الخطيئة الثالثة هي قلّة الأمانة في المال.
أيها الأحبّاء، إن كنّا "سفراء المسيح" (2 كو 5: 20)، فعلينا
أن نكون أمناء في كلّ شيء تجاه مَن نمثّل. إنّ قلّة الأمانة بادية
للعيان في أكثر من مقام ومقال، خاصّة في مجال المال الذي ننصّبه
أحيانًا كثيرة سيّدًا على بيتنا، ونتحوّل نفسًا وجسدًا عبيدًا له!
لذلك، يتوجّب على الكاهن ما يلي:
-
ألاّ يَمْدُد يدَه إلى مالٍ هو مؤتمن عليه: لا في الكنيسة، ولا في
المدرسة، ولا في أيّة مؤسّسة تخصّ الكنيسة؛
-
ألاّ يتقاضى أكثر ممّا يحقّ له في المعاملات الكنسيّة والإداريّة؛
-
ألاّ يفضّلِ المقرَّبين والأقرباء في تلزيم مشاريع الرعيّة...
باختصار، إنّ مال الظلم، وغير المكتسب بطريقة شرعيّة، ومن دون عرق
الجبين، هو "غير مبروك". لذا، فَلْيُبْعِدِ الكاهنُ عنه هذه الكأس
لئلاّ يسمع الكلام المخيف، لا سمح الله: "لتذهب فضّتك معك إلى
الهلاك"! لنأخذ القرار بالترفّع، بردّ المسلوب، بعيش روح التجرّد
والفقر؛ بهذا نستعيد سلامنا وطمأنيتنا وعلاقتنا الروحيّة الصافية
بالله وبإخوتنا المؤمنين. نحن نعلم أنّ الجاني، والكاذب، والسارق،
والزاني، والقاتل، ومَن ماثلهم، يكونون في حالة خوف، ورعب،
واضطراب، وقلق، ولا يقوون حتّى على النوم؛ يعيشون وكأنّ أحدًا ما
يلاحقهم، فإذا هم في سجن نفسيّ وروحيّ رهيب، تهون أمامه السجون
الأخرى!
- لَنَتُب إلى الربّ
إذًا، فإنّ "المحبة أكبر من الخطيئة" (رو 8: 20)، وأقوى من الموت؛
كما أنّها على استعداد دائم للإنهاض والمسامحة والذهاب إلى لقاء
الابن الضال (لو 6: 15-22).
بصراعنا الروحيّ يمكننا أن ندمّر سلطان الخطيئة (رو 6: 12)؛ فلنصرخ
إلى الربّ بكلّ قوّتنا ومن كلّ قلبنا: "إليك وحدك خطئتُ" (مز 51:
6)، فنسمع من دون أيّ شكّ صوتَ الحبيب يقول لنا: "مغفورة لك
خطاياك. قُم احمل سريرك وامش" (مر 2: 5)؛ "إمضِ ولا تعد تخطأ بعد"
(يو 8: 11).
إنّ الكاهن هو رجل التطويبات، أي أنّه يتزيّن كلّ يوم بروح الفقر،
والوداعة، وقبول الآلام، والاضطهاد، والرغبة في العدالة، والسلام،
والمحبّة، تلك هي صفات الكاهن؛ فلنتفحّص حياتنا وسيرتنا وسلوكنا،
ولنتبيّن أين نحن من هذه التطويبات. عندها نستطيع، وبعد أن نعترف
بآثامنا وخطايانا، أن نعود أطهارًا أنقياء، بالكلمة وبجسد الربّ
ودمه، خاصّة وأنّ "المسحة التي تلقّيناها منه ثابتة فينا" (1 يو 2:
27). "كلّ مَن له هذا الرجاء فيه طهّر نفسه كما أنّه هو طاهر...
وتعلمون أنّ المسيح ظهر ليرفع الخطايا... كلُّ مَن يثبت فيه لا
يخطأ، وكلّ مَن يخطأ فما رآه ولا عرفه... كلُّ مولودٍ من الله لا
يفعل الخطيئة...، لأنّه من الله وُلد..." (1 يو 3: 3-9). ويعلّمنا
يوحنّا أيضًا "أنّ كلّ مولود من الله يظفر على العالم...، ومَن
يظفر على العالم إلاّ الذي يؤمن أنّ يسوع هو ابن الله ؟" (1 يو 5:
4-5). ويوجز تعليمه بهذه الدعوة: "صُن نفسك من الأوثان" (1 يو 5:
21).
إنّ توبتنا، وعودتنا، وندامتنا، وتكفيرنا، واعترافنا، إنّما ترمي
كلُّها إلى أن نتطهّر وننمّي ذاتنا بكلام الله وبجسد الربّ ودمه،
وبالتقوى والقداسة، لأنّ الكاهن مدعوّ أساسًا وكيانيًّا لأن يكون
قدّيسًا في تصرّفه كلّه (1 بط 1: 15)، ليُضْحِيَ أهلاً لأن يكون
"ذبيحةَ حقّ، مقدّسةً، ومرضيّةً لله" (رو 12: 1).
يقول بطرس الرسول في رسالته الأولى: "كونوا أنتم أيضًا مبنيّين،
كالحجارة الحيّة، بيتًا روحيًّا، وكهنوتًا مقدّسًا، لإصعاد ذبائح
روحيّة، مقبولةً لدى الله بيسوع المسيح... أمّا أنتم فجيلٌ مختارٌ،
وكهنوتٌ ملوكيّ، وأمّة مقدّسة، وشعب مقتنى" (1 بط 2: 4-5، 9).
فيسوع يريد من الكاهن أن يكون "ملح الأرض ونور العالم" (مت 5:
13-14). هناك عند العديد من الكهنة لامبالاة دينيّة تؤكّد أنّ
هؤلاء قد نسوا الله، لأنّ روح العالم غلبهم، بدلاً من أن يغلبوه،
لكنّهم عاجلاً أم آجلاً سيكتشفون أنّهم أساؤوا الأمانة، وأنّهم
سالكون في الضلال، وأنّهم لن يستعيدوا سلامًا فقدوه ويرتاحوا إلاّ
بتوبتهم وبعودتهم إلى الربّ، متذكّرين كلام القدّيس أغوسطينوس:
"لقد خلقتنا لك يا ربّ، ولن يجد قلبنا الراحة ما لم يسترح فيك"[14].
لذلك
يصارع الكاهن صراعًا روحيًّ كي يدمّر سلطان الخطيئة فيه، كما
يعلّمنا القدّيس بولس: "فلا
تسودنَّ الخطيئةُ على جسدكم الفاني فتذعنوا لشهواته"
(رو 6: 12)؛ بهذا يتمكّن الكاهن، ومن خلال تكريس ذاته، من أن يخدم
في المحبّة والعدالة يسوعَ نفسَه الحاضرَ في إخوته، لا سيّما في
أصغرهم (مت 25: 40).
11 – أنت مثال في عيون المتألّمين
عندما نستعيد ما قرأه يسوع في مجمع الناصرة من أش 61: 1-2، و85: 6،
نتبيّن في العمق كم أنّ رسالة الكاهن متطلّبة وشاقّة، وكم أنّها،
بالمقابل، خلاصيّة، وإنقاذيّة، وتحريريّة. لنقرأ كلام أشعيا النبيّ
الذي تلاه يسوع في مجمع الناصرة: "روح الربّ عليّ، فقد مسحني
لأبشّر المساكين، أرسلني أنادي بإطلاق الأسرى، وعودة البصر إلى
العميان، وأحرّر المقهورين، وأنادي بسنةٍ مقبولةٍ لدى الربّ" (لو
4: 18-19).
مَن هم هؤلاء الناس؟ إنّهم الفقراء الذين كانوا يحتاجون إلى أسباب
العيش، وأولئك المسلوبو الحرّيّة، والعميان، والذين يُعانون
نفسيًّا، أو يُسامون الظلم الاجتماعيّ، وأخيرًا الخطأة. بالنسبة
إلى كلّ هؤلاء، صار المسيح علامةَ الله، اللهِ المحبّة، وهذا ما
حقّقه لأجل كلّ المتألّمين. نقرأ في لو 7: 18-23 أنّ يسوع أجاب
موفَدِيّ يوحنا، الذين سألوه إنْ كان هو المسيح أم ينبغي انتظار
آخر، قائلاً: "إذهبَا وأخبرَا يوحنّا بما رأيتما وسمعتما: إنّ
عميانًا يبصرون، وعرجًا يمشون، وبرصًا يطهرون، وصمًّا يسمعون،
وموتى يقومون، ومساكينَ يُبَشّرون، وطوبى لمن لا يزلّ بسبي" (لو 7:
22-23). إنّه التحقيق لِما جاء على لسان أشعيا؛ فلقد أظهر يسوع
بحياته وأعماله المحبّةَ حاضرة في هذا العالم، وبتعبير آخر، جسّد
الرحمة بكلّ أبعادها: لقد أظهر الله غنيًّا بالرحمة. يقول الله في
إرميا: "إنّني أحببتك حبًّا أبديًّا، فلذلك اجتذبتك برحمة" (إر 31:
3). وفي أشعيا: "الجبال تزول، وأمّا رأفتي فلا تزول عنك، وعهد
سلامي لا يتزعزع" (أش 54: 10).
هذا هو الموقف الذي ينبغي أن يتّخذه الكاهن تجاه إخوته وأبنائه
المتألّمين في رعيّته، فيحمل في جسده كلّ حين آلامَ موتِ يسوع
وآلامَ هؤلاء أيضًا. عندما يدرك الكاهن أنّه شاهد لآلام المسيح
ولقيامته، يمكنه أن يدخل في كنه آلام المتألّمين الذين يحملون إليه
همّهم ووجعهم. عليه أن يدرك أنّ الاشتراك في صليب المسيح يتمّ عبر
اختبار القائم من بين الأموات، أي عبر اشتراكٍ خاصٍّ بالقيامة.
فإذا أدرك هذه الحقيقة، استطاع أن يخفّف عن المتألّمين، معلِّمًا
إيّاهم بأنّه "علينا أن نمرّ بضيق كبير لندخل ملكوت الله" (أع 14:
22). إنّ الاشتراك في آلام المسيح هو في الوقت عينه آلام من أجل
الملكوت؛ والذين يشتركون في آلام المسيح هم أيضًا مدعوّون، بما
يتحمّلون من آلام، إلى الاشتراك في المجد. يقول القدّيس بولس: "إنْ
تألّمنا حقًّا معه، نُمَجَّد أيضًا معه. إنّي أرى أنّ آلام الوقت
الحاضر لا تُقاس بالمجد الذي سوف يُعلَن فينا" (رو 8: 17-18).
ويعلن بطرس قائلاً: "بقدر ما تشتركون في آلام المسيح، إفرحوا، حتّى
متى ظهر مجده تفرحون وتبتهجون" (1 بط 4: 13). هكذا يصبح الألم
مرادفًا لتحسّس عمل قوّة الله الخلاصيّة والانفتاح عليها: "فالضيق
ينشىء الصبر، والصبر الامتحان، والامتحان الرجاء، والرجاء لا
يخيّب، لأنّ محبّة الله أُفيضَت في قلوبنا بالروح القدس الذي وُهِب
لنا" (رو 5: 3-5)
هل يستطيع كاهنُ اليوم أن يقول للمتألّمين ما قاله بولس: "أنّي
أفرح الآن بالآلام لأجلكم ؟" (كول 1: 24).
12 – أنت مثالٌ في السهر على قطيع الربّ
ترتكز الخدمة الكهنوتيّة على كهنوت يسوع بالذات، وتشكّل تواصلاً مع
خدمة الرسل، من أجل بنيان الكنيسة (رج أف 2: 20؛ رؤ 21: 14)، ونشر
ملكوت الله.
عندما يقول الله على لسان إرميا النبيّ: "أعطيكم رعاة على وفق
قلبي" (إر 3: 15)، فإنّه يعد شعبه بألاّ يدعه أبدًا بلا راعٍ يقوده
إلى المراعي الخصيبة، ويحرسه، ويجمع شمله ويهديه: "وأُقيم على غنمي
رعاة يرعونها، فلا تخاف من بعد ولا تفزع" (إر 23: 4). الكنيسة شعب
الله، تختبر دومًا حقيقة هذه البشرى النبويّة، ولا تني تؤدّي الشكر
للربّ مبتهجة، وعالمةً عِلمَ اليقين أنّ يسوع المسيح نفسه هو الذي
يحقّق وعد الله ويُنجزه بطريقة حيّة فائقة وحاسمة. إنّه "الراعي
الصالح" (يو 10: 11)، "راعي الخراف العظيم" (عب 13: 20)، الذي
وَكَل إلى الرسل وخلفائهم أن يرعوا خراف الله (يو 21: 15-17)،
ويقودوها إلى المراعي الخصبة، "إلى الحياة الأبديّة" التي هي "أن
يعرفوا أنّ الله هو الإله الحقّ الأحد، ويعرفوا مُرسله، يسوع
المسيح" (يو 17:3).
هذا ما أدركه في العمق كاتبُ رسالةِ القدّيسِ بطرسَ الأولى الذي
يوصي كهنة الكنيسة قائلاً: "إرعوا قطيع الله الذي وُكِلَ إليكم،
واحرسوه
طوعًا لا كرهًا، لوجه الله، لا رغبة في مكسب خسيس، بل لما
فيكم من حميّة. ولا تتسلّطوا على الذين هم في رعيّتكم، بل كونوا
قدوة للقطيع. ومتى ظهر راعي الرعاة
تنالون إكليلاً من المجد لا يذبل" (1
بط 5: 2-4).
هذه الحقائق العظيمة تتطلّب من الكاهن أن يرسّخها في عقله وقلبه
أوّلاً، ليتمكّن من أن يرسّخها في حياة المؤمنين ثانيًا، كي
يَحُولَ دون دخول الذئاب الخاطفة إلى حظيرة الخراف، لأنّها إنْ
دخلتْ خطفتْ وأبادتْ وبدّدت. في هذا الإطار، لِيُدرِكِ الكاهنُ أنّ
حماية قطيع المسيح ليست دون خطر فعليّ عليه هو شخصيًّا،
وَلْيَتَذَكَّرْ أنّ "المسيح أحبّ كنيسته وجاد بنفسه من أجلها" (أف
5: 25)، وهذا هو المطلوب أيضًا من كاهن الربّ؛ فإذا كان هو الراعي
والحارس والمستعدّ لأنْ يبذل نفسه عن الخراف، فهذا يعني أن السهام
تُوَجَّه إليه هو أوّلاً، وبالتالي، عليه أن يسهر لئلاّ يأتي
العدوّ الخاطف في ساعة لا يخالُها، فيهلكه مع خرافه على حين غفلة.
المهمّة التالية
المكمِّلة للحراسة هي تغذية قطيع المسيح؛ فعلى مثال يسوع،
يَعْلَمُ الكاهنُ أنّ أبناء رعيّته بحاجة إلى طول أناته، وصبره،
والوقت غير القليل واللامحدود الذي يكرّسه لهم، لينموا ويكبروا
وينضجوا، مغذّيًا إيّاهم أوّلاً بكلام الله، كما يعلّمنا
القدّيس بولس الرسول قائلاً: "وأنا، أيّها الإخوة، ما استطعت أن
أكلّمكم روحانيّين، بل لحميّين، أطفالاً في المسيح. بلبنٍ غَذوتكم
لا بطعام، لأنّكم ما كنتم بعد قادرين، ولا حتّى الآن أنتم قادرون"
(1 كو 3: 1-2). يقصد بولس بهذا الكلام أنّ مسيحيّي كورنتس كانوا ما
زالوا أطفالاً قاصرين عن إدراك حكمة الله في يسوع المصلوب، ولم
يكبروا في إيمانهم من يومَ سمعوا البشرى الأولى من بولس سنة 51
وحتّى سنة 57، تاريخ كتابة الرسالة، ولم يتحرّروا بعد من عاداتهم
الوثنيّة الماضية وجهلهم لسرّ الله. هذا الأمر لا تخلو منه رعيّةٌ
من رعايانا؛ فكَم من الإخوة والأخوات في الإيمان ما زالوا أطفالاً
في فهمهم لحقيقة إيمانهم، وقاصرين عن إدراك سرّ الخلاص، لا بل قُل
حتّى الأسرار التي يقبلونها هي في الغالب دون مضمون بالنسبة إليهم،
إذ لا يفهمون منها سوى المظاهر.
بالمعنى ذاته يوصي القدّيس بطرس بما يلي:
"وارغبوا كالأطفال الرضّع في اللبن الحليب
الصافي، لبن كلمة الله، لتنموا بها من
أجل الخلاص، إذا كنتم قد ذقتم كيف أنّ الربّ طيّب" (ا بط 2: 2-3).
لذا نرى الكاهن يتعب ويجهد النفس، تحت حرّ الشمس، في الليل كما في
النهار، كي يملأ فراغ أبناء رعيّته! إنّه المعلّم باسم المعلّم،
والمرشد باسم مَن هو النور، والدليل باسم مَن هو الطريق، والينبوع
المُروي باسم مَن هو الحياة. لذلك هو يجعل من نفسه "عاملاً لا
يستحي، يفصّل باستقامة كلمة الحقّ" (2 تيم 2: 15). "وإن يَعرِض ذلك
للإخوة يكن خادمًا صالحًا للمسيح يسوع، متغذّيًا بكلمات الإيمان
والتعليم الحسن" (1 تيم 4: 6). الكاهن إذًا، كما يسمّيه القدّيس
بولس، هو "الخادم" الذي يقوم بالتعليم والتدبير، "منصرفًا
إلى القراءة والوعظ والتعليم"
(1 تيم 4: 13)، بالمَثَل والكلمة، كونه "قدوةً
للمؤمنين بالكلام والسيرة والمحبّة
والإيمان والعفاف"
(4: 12)، من أجل خلاص الجماعة كلّها، "منتبهًا لنفسه ولتعليمه، ومواظبًا على ذلك،
فإنّه إذا فعل خلّصَ نفسه والذين يستمعون إليه"
(4: 16).
وكم على الكاهن أيضًا أن يُجهد نفسه كي يبقى أمينًا للكلمة،
و"مثالاً للمؤمنين" (1 تيم 4: 12)، وبعيدًا عن "الخرافات
المُدنّسة، خرافات العجائز، فيرفضها، ويروّض نفسه بالتقوى" (1 تيم
4: 7). فكما أنّ "الله ما رآه أحدٌ قطّ؛ الابن الواحد، الكائن في
حضن الآب، هو أخبر عنه" (يو 1: 18؛ مت 11: 27)، كذلك الكاهن، بما
أنّه يتّحد بالآب والابن والروح، ويصبح بالتالي في حضن الآب، يمكنه
أن يخبر المؤمنين عنه، ويعرّفهم اسمه القدوس، فيزدادوا إيمانًا على
إيمان. بهذا يغتذي أبناء الرعية، وينمو كلٌّ منهم بمقدار ما قسمه
له المسيح، خاصّة بتناول جسد الربّ ودمه الذي به كانت لنا الحياة،
وبالتالي الخلود.
أمرٌ ثالث
لا بُدَّ وأن يستحوذ على اهتمام الكاهن في رعيّته، ألا وهو فضُّ
الخلافات بين المتخاصمين، وكم يكثر عددهم ويزداد بين مؤمنينا!
فكما يسأل القدّيسُ يعقوبُ قارئيهِ سؤالَ العارف، لِيَعْلَمِ
الكاهنُ أيضًا، وَلْيَسْتَجْوِبِ المتخاصمين في رعيّته: "من أين
الحروب، ومن أين المماحكات فيكم؟ أليس من لذّاتكم الضاربة في
أعضائكم؟ تشتهون ولا تحصّلون، فتقتلون، وتحسدون، ومن الفوز لا
تتمكّنون، فتماحكون وتحاربون...؟" (يع 4: 1-2). كم سيكون صعبًا على
الكاهن أن يُرِيَ المتخاصمين خطأَهم وضلالَهم وعدمَ ترفُّعِهم، كي
يخجلوا، ويندموا، ويتوبوا، ويصفحوا، ويتصالحوا؟ المهمّة بالطبع
شاقّة، خاصّة أنّ مُعْظَمَ المجهودِ هو على عاتقِ الكاهنِ المسكين،
وأنّ اتّخاذ المواقف يلزمه اطّلاعٌ واستنتاجٌ وجرأة، ولكن أيضًا
طولُ أناة.
أمرٌ رابع
يستحوذ على اهتمام الكاهن في رعيّته، أَلاَ وهو الاعتناء
بالضعيف، والمسكين، واليتيم، والأرملة، والشريد، والغريب،
والمهجَّر، والمظلوم. نستشهد في هذه النقطة بأيّوب الذي يقول:
"كنت أنجّي المسكينَ المستغيث، واليتيمَ الذي لا مُعينَ له، فتحلّ
عليّ بركةُ التائب، وأجعل قلبَ الأرملة يتهلّل" (أي 39: 13). أليس
هذا أيضًا دورَ الكاهن؟ ففي المحبّة والعدالة، يخدم الكاهنُ يسوعَ
نفسَه الحاضرَ في جميع إخوته، لا سيّما الأصغر بينهم، حسبما جاء في
مت 25: 40: "كلّما صنعتم هذا إلى أحد إخوتي الأصغرِين هؤلاء، فإليّ
صنعتموه". بذات المعنى، يعلّمنا سفرُ الأمثال أنّ "مَن يرحَمَ
الفقير يُقرض الربّ، فهو يجازيه على صنيعه" (أم 19: 17). وهذا ما
شدّد عليه ربُّنا بقوله: "مَن سقى، ولو كأسَ ماءٍ بارد، أحد هؤلاء
الصغار، على أنّه تلميذ، فإنّه لن يخسر أجره" (مت 10: 42).
نقطة خامسة:
لدينا في سفر أيوب كلامٌ معبِّرٌ جدًّا، يساعدنا نحن الكهنة
على فهم دورنا تجاه الشرّير كما تجاه المسكين، يقول: "إنّ
من الناس مَن ينقلون الحدود، ويسلبون القطعان ويرعونها... يحصدون
حقلاً ليس لهم... يخطفون اليتيم عن الثدي، ويرتهنون على المسكين...
في المدينة أناسٌ ينتحبون، وأنفاس المجروحين تستغيث... عند
طلوع النور يقوم القاتل ويقتل المعوز والمسكين، وفي الليل يكون
لصًّا. وعين الزاني تترقّب العتمة، يقول في نفسه: لا تبصرني عين،
فيجعل برقعًا على وجهه. ينقبون البيوت في الظلام، ويغلقون على
أنفسهم في النهار فلا يعرفون النور"
(أي 24: 2، 6-9،12، 14-16). فإذا كنّا نحن نصرخ إلى الربّ مستغيثين
به قائلين: "إرحمني يا الله، لأني ضعيف" (مز 6: 2)، أو "إرحم ضعفي،
يا ربّ"، وإذا كان "المسيح قد مات في الوقت المحدّد عن كافرين،
لمّا كنّا بعدُ ضعفاء" (رو 5: 6)، فكم هو حريّ بنا، نحن الكهنة، أن
نكون، على مثال الخالق الرحوم، سندًا معنويًّا وروحيًّا ومادّيًّا
لِمَن هم في أوضاع كتلك التي يتكلّم عليها أيّوب الصدّيق الثائر
على الظلم!
نقطة سادسة:
يوصينا القدّيس بولس الرسول بـ"أن نقبل ضعيف الإيمان
بلا جدال في الآراء" (رو 14: 1)، "وأن نحمل، نحن الأقوياء، ضعف
الضعفاء" (رو 15: 1)، ذاكرين دومًا أنّ الله قد اختار مستضعَف
العالم ليخزي القوي" (1 كو 1: 27)، وأنّ هذا "المستضعف" هو أنا
أيضًا الكاهن الذي، برحمة من الله، "صرت ما أنا عليه". لقد نظر
يسوع إلى ضعف رسله في بستان الزيتون نظرة الإشفاق والمسامحة عندما
قال: "إنّ الجسد ضعيف، أمّا الروح فقويّ" (مت 26: 41؛ مر 14: 38).
وهناك مسألة أخرى، ألا وهي استضعاف الناس (رج أيوب أعلاه)،
نورد مثالاً عليها استشهادًا من عاموس النبيّ الذي يذمّ مستغلّي
الضعفاء فيقول: "إسمعوا هذا، يا دائسيّ الفقير...، مُشتَريّ
الضعفاء بالفضّة والفقير بنعلين... أقسَم الربُّ قائلاً: لا أنسى
عملاً من أعمالهم إلى الأبد" (عا 8: 4 و6-7). أنت قادرٌ، أيّها
الكاهن الشجاع، أن تُقيم الفقيرَ المُداس، وأن تفتدي الضعيف
والفقير المباعَين بنعلين، لأنّك أنت ذاتُك، من حيث هوّيّتُك،
فادِيه، كما افتداك الربّ يسوع، وأقامك على مثاله فاديًا للآخَرين.
أنت تدرك أكثر من أيٍّ آخَر معنَى كرامةِ الإنسان التي هي من الله،
جسبما جاء في مز 8: 5-6: "ما الإنسانُ حتّى تذكرَه، وابنُ آدمَ
حتّى تفتقدَه؟ دونَ الإلهِ حَطَطْتَه قليلاً، بالمحد والكرامة
كلّلتَه...". عندما تدرك عظمةَ الإنسان التي مصدرها الله، لا يمكنك
أن تترك إنسانًا يُستَضعَف أو يُذَلّ أو يُهان أو يُرذَل.
الموقف ذاته ينسحب على اليتيم والأرملة والشريد والغريب
والمهجّر؛ فالكتاب المقدّس لا يني يشدّد على الاهتمام بهم،
وحمايتِهم، وردِّ الاعتبار إليهم؛ فاليتيم هو الذي فقد الحماية،
والعناية، والعون، وبات بالتالي سريع العطب، محتاجًا، معرَّضًا
لأخطار عدّة، فمَن هو ملجأه أكثر وأفضل من الكاهن؟ لقد كانت
الكنيسة أبدًا الأسرع إلى القيام بهذا الواجب، والأكثر سخاءً
وبذلاً، منذ البداية وحتّى اليوم.
كذلك هو الأمر بالنسبة إلى الأرملة التي تفقد مَن كان
شريكَها في الحياة، وفي إعطاء الحياة، ورعاية البنين، فإذا بها
تُحرَم من ذلك بوفاة زوجها، فتشعر وكأنّها خسرت نصفَها الآخَر،
وكأنَ أكثرَ من نصف البنيان قد انهار، فتضعف وتضعف كثيرًا، وعندها
كم وكم من المرّات نشهد استغلالاً لها بكلّ ما للكلمة من معنى،
وأكلاً لحقوقها، حتّى من أقرب المقرّبين من زوجها! مَن لا يهبّ
لحمايتها، وإرشادها، وإبقائها ضمن السلوك اللائق بها سواك أنت،
أيّها الكاهن؟ كان اليتيم والأرملة يُعتَبَران من أصحاب
الدخل الضعيف الذين يحميهم القانون (رج خر 22: 21-22؛ تث 10: 18؛
14: 29؛ 27: 19؛ الخ)، والذين يتشفّع لهم الأنبياء (إر 7: 6؛ 22:
30). ويثور أش على مغتصبيّ حقوق هؤلاء ويندّد بهم قائلاً: "رؤساؤك
عصاةٌ وشركاء للسرّاقين، كلٌّ يحبّ الرشوة، ويسعى وراء الهدايا. لا
يُنصفون اليتيم، ودعوى الأرملة لا تبلغ إليهم" (أش 1: 23؛ رج أش 9:
16؛ إر 49: 10-11؛ حز 22: 7).
يبقى أن نقول كلمة في الغريب والشريد والمهجّر، لنبرز دور
الكاهن في هذا المجال: معظمُنا، أيّها الآباء الأفاضل، قد
ذاق طعمَ التشرّدِ والتهجيرِ والاقتلاعِ من البيت والموطنِ الأوّل،
والاختبارُ الذي اكتنزناه من هذه المحنةِ الأليمةِ ما زال ماثلاً
أمام عيوننا، وتضجُّ به ذاكرتنا، ويستفيقُ فينا الحزنُ أو حتّى
الغضبُ كلّما ذكرناه؛ فهلاّ حَوّلنا قلوبَنا، نحن الكهنة، إلى
بيوتٍ دافئة نضمّ بين حناياها كلَّ لائذٍ إلينا ونحميه بدفئها،
حتّى ولو نَدَرَتِ أحيانًا كثيرة الإمكاناتُ والوسائل، وضاقتْ بنا
السبُل! طوبى لمَن يُعنَى بهؤلاء، لأنّه إنّما يفعل هذا ليسوع
بالذات الذي جاء لأجلهم وأحبّهم حتّى الغاية، هو القائل لنا: "كلّما
صنعتم شيئًا من ذلك لواحد من إخوتي هؤلاء الصغار، فلي قد صنعتموه"
(مت 25: 40).
13 - أنت مثال في أعمال المحبّة
قال يسوع: "إنّي أشفق على هذا الجمع" (مت 15: 22). يتميّز الكاهن
بأنّه على مثال سيّده يشفق على مَن وَكَلَهم يسوعُ إليه، وخاصّة
على المعوزين والبؤساء والمساكين. إنّ أعمال الرحمة إلزاميّة وليست
اختياريّة. إذا لم يتحوّل قلب الكاهن إلى قلبِ ملؤه الحنان،
فباطلاً يسعى! لا يحقّ له أن يقول لمؤمن أو لأيّ إنسان يأتي إليه
مستغيثًا من لسعة البَرْد: "إذهب واستدفء"، أو من الجوع: "إذهب
وكُلْ"؛ لنتذكّر هنا كلام القدّيس يعقوب الرسول:
"ماذا ينفع، يا
إخوتي، أن يقول أحد إنّه يؤمن، إن لم
يعمل؟ أَبِوِسْعِ الإيمانِ أن يخلّصَه؟
فإن كان فيكم أخ عريان أو أخت عريانة ينقصهما
قوتُ يومِهما،
وقال لهما أحدُكم: إذهبَا بسلام فاستدفئَا واشبعَا، ولم تعطوهما ما
يحتاج إليه الجسد، ماذا ينفع
قولكم؟ " (يع 2: 14-16).
في هذا السياق يعلّمنا القدّيس يوحنّا الإنجيليّ ما يلي: "مَن
كانت له خيرات الدنيا، ورأى
في أخيه فاقة،
فأغلق أحشاءه دون
أخيه، فكيف تقيم محبّة الله فيه؟" (1 يو 3: 17). لن يستطيع كاهنُ
الربّ أبدًا أن يحبس أحشاءه عمّن هو عضوٌ ليس فقط في جسد المسيح بل
أيضًا في الإنسانيّة التي يتقاسمانها.
14 – أنت مثالٌ في السهر على من يدعوهمُ الربُّ لخدمته
تقتضي إذاعةُ الإنجيل والمناداةُ به وجودُ مبشِّرين، والحصادُ
يعوزه فعلةٌ كثيرون. أبرشيّاتُنا ينبغي أن تكون مُستَنفَرةً أكثر
فأكثر لتتمكّن من إعداد كهنةٍ علماءَ وحكماءَ وقدّيسين، قادرين على
القيام بالعمل الرسوليّ المُلِحّ، في بلداننا كما في المَهاجر. نحن
جميعًا نعلم أنّ هناك شبّانًا عديدين يحرّك كيانَهم الروحيَّ عصفُ
الروح القدس، وقد يحتاجون إلى بعض التوعية والإرشاد الروحيّ كي
يلبّوا الدعوة إلى الكهنوت. أنا لا أؤمن بالاقتناص، أو بالترغيب،
وبإعطاء الوعود المغرية، وما إلى ذلك، لكن أؤمن أنّ الربّ هو الذي
يعطي علامة للعديد من شبّابنا ليسيروا وفق الدعوة التي يوجّهها
إليهم الرب يسوع. لذلك يترتّب علينا ككهنة أن نوليَ مسألة الدعوات
الكهنوتيّة أوّلاً، والرهبانيّة ثانيًا، عنايةً دائمًا استثنائيّة،
بِمَثَلِنا الصالح كما بتوجيهاتنا الروحيّة والإنسانيّة السليمة،
سائلين الربَّ كلَّ يوم "أن يرسل فعلةً لحصاده".
15 – أنت مثال في حَمْل بشرى الخلاص
إنّ الذين لم يعرفوا المسيح يسوع لا زالت أعدادُهم كبيرة جدًّا،
والذين ينتظرون أن يعرّفهم إليه أحدٌ ما أيضًا. لكنْ كيف لهم أن
يعرفوه إن لم يسمعوا البشارة، و"كيف يسمعون بلا منادٍ" (رو 10:
14)؟ يقول القدّيس بولس: "لنا أُعطِيَتْ هذه النعمة، وهي أن نبشّر
الوثنيّين والأمم بما في المسيح مِن غنىً" (أف 3: 8). علينا أن
نغذّي فينا الشوق الرسوليّ لننقل إلى الآخَرين نورَ الإيمانِ
وفرحَه. هذه المهمّة الرسوليّة المقدّسة، أو هذا العمل الرسوليّ
يتطلّب روحانيّة مميّزة، تعني بشكل خاصّ أولئك الذين دعاهم الله
لتأدية الرسالة، فيعيشون منقادين انقيادًا تامًّا للروح. لا يمكننا
أن نشهد للمسيح دون أن تنعكس صورتُه التي تُحييها فينا نعمةُ
الروحِ وقوّتُه. يدفعُنا هذا الانقيادُ للروح إلى تَقَبُّلِ
موهبتَي الشجاعة والتمييز، وهما العلامتان الجوهريّتان في روحانيّة
الرسالة.
إنطلاقًا من هذا الكلام، لا بدّ لنا من إبراز أهمّيّة الاتحاد
الحميم بالمسيح، العنصر الجوهريّ في روحانيّة الرسالة، بالإضافة
إلى الكفر بالنفس وبكلّ ما قد يشدّ المرسَل إلى التعلّق
بالمادّيّات، كي يكون بالفعل كلاًّ للكلّ؛ فالفقر يحرّره، والتجرّد
عن الأهل والأصدقاء وعن الخيرات يمكّنه من أن يكون أخًا لِمَن
أُرسل إليهم ليحمل إليهم البشرى: "لقد صرت للضعفاء ضعيفًا لأربح
الضعفاء، وصرتُ كُلّي للكلّ لأخلّص البعض منهم مهما يكن الثمن،
وأفعل هذا كلَّه في سبيل البشارة..." (1 كو 9: 22-23). إنّ صوت
الربّ يسوع يدوّي في حياة المرسَل قائلاً له: "لا تخف، بل تكلّم،
ولا تَسكتْ أبدًا، فأنا معك" (أع 18: 9-10). هذا الإقدام من قِبَلِ
المرسَل، لا بدّ وأن يجلب عليه الضيقَ الكثير، كما سبق وعلّمنا
ربُّنا يسوعُ عندما قال: "يُلقون عليكم الأيدي، ويضطهدونكم،
ويسلّمونكم إلى المجامع والسجون، ويُحضِرونكم أمام الملوك والولاة
من أجل اسمي، فيكون لكم ذلك للشهادة...، وتكونون مُبغَضين من
الجميع من أجل اسمي، وشعرةٌ من رؤوسكم لا تهلك، وبصبركم تقتنون
نفوسَكم" (لو 21: 12-19). "إن أَبْغَضَكُمُ العالم، فإنّه قد سبق
وأبغضني " (يو 15: 18)، ولكنّ "يسوع قد غلب العالم" (يو 16: 33).
نحن محاطون بالعالَمَين اليهوديّ والإسلاميّ، لا بل نحن في مجتمعات
متنوّعة حضاريًّا ودينيًّا. إنّنا نختبر كلّ يوم صعوبة العلاقة مع
مواطنينا المنتمين إلى ديانات أخرى؛ فقط لكوننا مسيحيّين نشعر
أنّنا غيرُ مقبولين، إذ تتعالى من بعضهم أحيانًا دعواتٌ لأسلمة كلّ
لبنان، أو العراق، أو حتّى الشرقِ الأوسطِ بكامله، أو لرمي
المسيحيين في البحر، أو أيضًا لإخضاعهم عنوةً لسلطة المسلمين.
بالطبع، لا يعبّر كلام هؤلاء عن مواقف المسلمين كلِّهِم؛ لكن، حتّى
ولو سمعنا كلامًا من هذا القبيل، وقد يكون بالفعل خطيرًا علينا
وعلى وجودنا، لا يجوز لنا، كوننا رجالَ الله المكرَّسين لخدمته
وخدمة كلِّ إنسان، اتخاذُ موقفٍ معادٍ، أو مُبغِض، أو حاقد، أو
مُقاطع، الخ؛ فموقفنا نستمدّه من كلام يسوع على الصليب وتعليمه.
أيّها الأحبّاء، لا موقف آخر لنا في هذا المجال! نحن كنّا ونبقى
تلاميذَ المعلِّم الذي غفر من أعلى الصليب. العديدُ من رعايا
أبرشيّاتنا، وكهنتِنا ورهبانِنا وراهباتِنا ومؤمنينا وحتّى
أساقفتِنا، تعرّضوا لآلام كثيرة، لا بل للإستشهاد، فقُضِيَ على
آلاف الأبرياء، وحُرِقَت البيوت والكنائس والأديار، وُشرِّد الناس؛
فلا ندع دماءَهم، وآلامَهم وآلامَنا، ولا تضحياتِهم وتضحياتِنا
تذهب سدًى. لنقدِّمْ كلَّ هذا ذبيحةَ فداءٍ لأجل البعيدين عن
المسيح، كي يعودوا إليه، ولأجل الذين لم تَصِلْهُمُ البشرى
السارّةُ بعد، كي يعرفوا اسم المسيح، ولكي نتمكّن نحن من أن نسامح
الذين قتلوا وهجّروا ودمّروا وأحرقوا، وأن نصفح عنهم كما فعل
ربُّنا ومعلّمُنا، لا بل أن نحبَّهم ونحترمَهم، لتكونَ محبّتُنا
وأعمالُنا الصالحةُ معهم ولأجلهم بابَ خلاصٍ لهم ولنا من خلال
إبراز وجه المسيح الرحوم وجذبِهم إليه. بهذا نجعلهم، هم الذين في
الخارج، يرون أنّنا نقابل بغضَهم بالمحبّة، وعدائيَّتَهم
بالمسامحة، فيمجِّدون الله بسببنا. أيّها الأحبّاء، نحن نؤمن أنّ
"روحَ الربِّ ينجد ضعفنا"، فلا نخف!
خاتمة
نختم حديثنا بأسئلة ثلاثة، تبقى دومًا بحاجة إلى جواب
متجدّد يوميًّا، وهي التالية:
1 – هلاّ استطعتُ أنا الكاهن، أن أقول كالمعلّم: "مَن رآني رأى
وجهَ الآب" (يو 14: 9) ؟
2 – أَيَرَى فيَّ العالمُ المحدّقُ إليَّ "أيقونةَ" المسيحِ
الحيّةَ ؟
3 – "أيمجّد المؤمنون الآبَ الذي في السماوات" (مت 5: 16) عندما
ينظرون إليَّ ؟
فَلْتَرْعَنا عيناك، يا أبانا السماويّ، فنكون رعاةً صالحين لقطيع
ابنك الحبيب يسوع المسيح. آمين.
حريصا، في 13/4/2010
تلا المحاضرة استراحة قصيرة بعدها انضم الجميع إلى المحاضر مرة
أخرى في جلسة المناقشة، وفي تمام الساعة الثانية عشراحتفل الجميع
بالذبيحة الإلهية التي احتفل بها كل من الأباء : "أياد غانم
"أبرشية حمص" ، وسيم القس بطرس "أبرشية بغداد"، بول قس داود
"أبرشية حلب"، رحال ضرغام "أبرشية بيروت البطريركية"، جول بطرس
"أبرشية بيروت البطريركية"، حسام شعبو "أبرشية الموصل". بحضور غبطة
البطريرك مار اغناطيوس يوسف الثالث يونان بطريرك السريان الأنطاكي
والسادة الأساقفة مار ثيوفيلوس جورج كساب رئيس أساقفة حمص وحماه
والنبك وتوابعها، ومار غريغوريوس الياس طبي رئيس أساقفة دمشق
وتوابعها، ومار ديونوسيوس انطوان شهدا رئيس اساقفة حلب وتوابعها،
بعد القداس توجه الجميع إلى المائدة للمشاركة في الغداء.
[1]
يوحنا
بولس الثاني، أعطيكم رعاة، إرشاد رسولي، ملحق بمجمع
الأساقفة، فصل 2، رقم 11، ص 32-33.
[2]
مجمع
الإكليروس، دليل في خدمة الكهنة وحياتهم، حاضرة الفاتيكان
1994، رقم 98، "الخاتمة"، ص 134.
[3]
المرجع
السابق،
رقم 98، "الخاتمة"، ص 133.
[4]
يوحنا
بولس الثاني، أعطيكم رعاة، "مقدّمة"، رقم 1، ص 5.
[5]
المرجع
السابق،
رقم 9، ص 27.
[6]
المرجع
السابق،
رقم 11، ص 32.
[7]
يوحنا
بولس الثاني، دليل في خدمة الكهنة وحياتهم، رقم 75،
"الخلوات والرياضات الروحيّة"، ص 117-118؛ رقم 98، "الخاتمة"، ص
134.
[8]
- خولاجي سيرابيون، تعريب جورج نصّور ويوحنّا تابت، سلسلة
النصوص الليتورجيّة، أقدم النصوص الليتورجيّة، الكسليك 1975، ص
99-100.
[9]
- عهد الربّ، تعريب يوحنّا تابت، سلسلة النصوص الليتورجيّة،
أقدم النصوص الليتورجيّة، الكسليك 1975، ص 99-100.
[10]
قرار
مجمعيّ في حياة الكهنة، 9.
[11]
المرجع
السابق،
6.
[12]
مجمع
الإكليروس، دليل في خدمة الكهنة وحياتهم، رقم 47، ص 64-65.
[13]
مجمع
الإكليروس، دليل في خدمة الكهنة وحياتهم، رقم 53، ص 74-75؛
القانون الكنسيّ، مادة 966، بند 1.
[14]
St Augustin,
Confessions 1,1: CCL 27,1.
فتتاح المؤتمر الكهنوتي السرياني الكاثوليكي
الثالث
أفتتح اليوم الاثنين 12/ 4/ 2010، في دير سيدة
النجاة ـ الشرفة "المؤتمر الكهنوتي السرياني الكاثوليكي الثالث"
لطائفة السريان الكاثوليك برعاية وبركة صاحب الغبطة مار أغناطيوس
يوسف الثالث يونان بطريرك السريان الأنطاكي. أفتتح المؤتمر بصلاة
تضمنت: تراتيل وقراءات مستوحاة من الليتورجيّة السريانيّة، وقراءات
من رسائل القديس بولس ونص من إنجيل القديس يوحنا، بعد ذلك ألقى
الخورأسقف ميشيل نعمان كلمة افتتاح المؤتمر باسم اللجنة التحضيرية
للمؤتمر جاء فيها:
كلمة اللجنة التحضيرية
في افتتاح المؤتمر الكهنوتي الثالث
بنعمة ومحبة وسلام الآب والأبن والروح القدس
وبشفاعة أمنا مريم سيدة النجاة، شفيعة دير الشرفة؛
وببركة بطريركنا المحبوب مار اغناطيوس يوسف الثالث
يونان، وأبائنا الأساقفة الموقرين وأخوتنا الكهنة
وببركة الحضور الكريم
وبمناسبة السنة الكهنوتية؛ نفتتح مؤتمرنا الكهنوتي
الثالث لكهنة السريان الكاثوليك في العالم بعنوان "دعوتكم أحبائي"
يو 15: 15، متابعين، بذلك مسيرة الإلتزام الكهنوتي والكنسي
والأجتماعي والوطني لكنيستنا السريانيّة الأنطاكيّة، مسيرة
العنصرة، دليلا قاطعاً، وعلامة تفاؤل قوية في حياة كنيستنا..
ورافعين بطاقة شكر وتحية عرفان لإخوتنا الكهنة الأبكار الذين وضعو
أساس هذه المؤتمرات:
في المؤتمر الكهنوتي الأول سنة 1972، في دير يسوع
الملك في لبنان بعنوان "نحن وكنيسة اليوم"
وفي المؤتمر الثاني سنة 1973، في دير يسوع الملك
أيضًا في لبنان بعنوان "رسالتنا، خدمة في شركة كهنوتية"
في كل المؤتمرين كان عدد الكهنة المؤتمرين (19
كاهنًا) من لبنان وسورية والعراق ومصر وتركيا، برعاية المثلث
الرحمات البطريرك مار اغناطيوس أنطوان الثالث حايك ومشاركة بعض
أساقفة طائفتنا الأجلاء..
ومما جاء في المؤتمر الكهنوتي الأول نذكر:
"متمنين لو يجتمع الكهنة .. في لقاءات مماثلة ..
لكي يتعاونوا ويتحابوا ويتعاضدوا في سبيل الخير، فتأتي أعمالهم
الرسولية وفيرة الثمار، غنية الجنى.. ولا بد من هذا المؤتمر لتوعية
الكاهن لرسالته ومختلف النشاطات الممكنة في عصرنا، وتوعيته
لواجباته النابعة من مفهومه لرسالته، وتوعيته لحقوقه التي قد سهى
البعض عنها".
ومما جاء في المؤتمر الثاني، نذكر:
إلى جانب تركيز المؤتمر على الجهد لخدمة كهنوتية
أفضل بروح من التجرد، وتأمين خدمة اسرارية واعية وجدية وذكية،
وتجديد طقسي وليتورجي، صاغ المؤتمرون نظامًا داخليا للمؤتمر ومن
بنوده نذكر المادة التاسعة: "ينتخب المؤتمر ممثلين أثنين عن الكهنة
للإشتراك في السينودس الأسقفي بصفة استشارية ويدوم تمثيلها سنتين"
وهذا مؤتمرنا الكهنوتي الثالث
في حزيران 2009، قرر سينودسنا الطائفي برئاسة غبطة
أبينا البطريرك الدعوة إلى مؤتمر كهنوتي عام.
في 29 أيلول 2009، كان اللقاء الأول للجنة
التحضيرية للمؤتمر في دير سيدة النجاة في الشرفة ـ حريصا ـ لبنان.
وافتتحت اللجنة أعمالها التحضيرية بكلمة من غبطة
أبينا البطريرك جاء فيها:
"إنكم تدركون معي أن اجتماعكم هذا تاريخي وبالغ
الأهمية.. إننا مقتنعون بضرورة هذا المؤتمر، واضعين الآمال الكبرى
عليه.. وما نصبو إليه هو أن يفتح هذا المؤتمر دروب الرجاء، وأن
يوصلنا إلى منعطف نتواكب فيه لكي ننعش دعوتنا إلى الخدمة
الكهنوتية، في كنيسة نفتخر بالانتماء إليها، دعيت بدورها كي تؤدي
رسالتها الخلاصية في مشرقنا، وفي بلاد الانتشار". وكانت الاجتماعات
والأعمال التحضيرية والاتصالات مع آبائنا الكهنة في العالم أجمع،
إلى أن وصلنا إلى هذا اليوم التاريخي الرائع، ويزداد روعة وشرفا
بحضوركم الكريم.
ساداتنا وآباءنا، وأخواتنا وإخوتنا.
الكهنوت دعوة قداسة وتلمذة وخدمة، وشهادة أنه دعوة
من الكاهن الأعظم يسوع المسيح:
تعال وأتبعني:
أنا اخترتكم ولستم أنتم اخترتموني..
انه دعوة إلى تقديس الذات، وتقديس الآخرين بالإتحاد
مع المعلم ..
إنه دعوة إلى التلمذة بالجلوس تحت أقدام المعلم..
إنه دعوة إلى خدمة مائدتي الكلمة والجسد، وامتدادًا
إلى سر الأخ في خدمة غسل الأرجل انه شهادة لإيماننا، وحبنا،
ورجائنا، لمن دعانا، ولمن نخدم، ولمن من أجله تركنا كل شيء..
ومؤتمرنا الكهنوتي العام أجمل ترجمة لهذه
القناعات.. انه لوحة كهنوتية رائعة.. ونأمل أن يكون لوحة رائعة بما
سنعيشه مع بعض من صلاة، ومواضيع، وحوار، وإخوة،وفحص ضمير، ومراجعة
حياة، وتبادل خبرات..
أيام مؤتمرنا الثلاثة تتضمن:
المواضيع اللاهوتية والكهنوتية، والكنسية
والاجتماعية، مع الشكر الجزيل لمقدميها.
والمواضيع الحياتية، والوجودية، والراعوية،
والمعيشية، في ورشات عمل تحمل شؤوننا وشجوننا، ومعاناتنا وفرحنا،
وأمنياتنا ومرتجانا..
فالشكر لكل من ساهم، ويساهم، وسيساهم، في العمل
الجاد والرصين والصريح للبناء والبنيان..
والسؤال طرح ويطرح:
ربما طرحه كل واحد على نفسه..وطرحه كثيرون ..
وسيطرح،
ماذا سينجم عن هذا المؤتمر ؟؟
والجواب : الكثير .. الكثير.
وأول ثمرة: هذا المؤتمر .. لقاؤنا بحد ذاته ..
تجمّعنا، تواجدنا، تواحدنا، صلاتنا مع بعض، أكلنا، تفكيرنا،
حوارنا، سهرنا.. فما أجمل أن يجتمع الأخوة معًا !..
والثمرة الثانية: كنيستنا حاضرة بصغرها، وبساطتها
وقلتها.. ولكنها حاضرة وعاملة في حقل الرب حبًا للمسيح، وخدمة
للأخوة، ولؤلؤة صغيرة ثمينة في تاج الكنيسة !..
هل سنفشل ؟ . وهي ثمرة ثالثة ! ..
فما أجمله من فشل الصليب !.. فنحن نحتضنه، ونحبه ..
وهو القيامة.. وهو سر الحياة ! .. الفشل مع يسوع نجاح، لأن الذي
دعانا أمين !.. والذي قال لنا، ويقول: "دعوتكم أحبائي"،
أمين!.. وإن فشلنا، سنراه هو الأمين، والصديق، ورئيس معتقدنا،
وأساس كهنوتنا، حامًا إيانا على كتفه، وفي حضنه، ومعه لن نفشل، ولن
نستسلم .. بل نعمل ونجاهد ونلقي الشبكة من جديد.. ونحمل الصليب بحب
أكبر ، وبتوبة أكبر، وبصدق أكبر، لنصل إلى أحد القيامة!..
الشكر لك يا صاحب الغبطة، يا بطريركنا المحبوب مار
اغناطيوس يوسف الثالث يونان، والشكر لآبائنا الأساقفة، أعضاء
السينودس المقدس.. كنت وإياهم كبارًا، ورائعين، ومتحلين بروح
النبوءة في إطلاق فكرة هذا المؤتمر الكهنوتي..
الشكر للحضور الكريم، من رجالات دين ودنيا، فحضوركم
مصدر غنى، ودعم، وتشريف، وبركة. الشكر لوسائل الإعلام المرئية
والمسموعة والمكتوبة التي ترافق مؤتمرنا. الشكر للجنة التحضيرية
لهذا المؤتمر التي عملت بحب وجدّ وتضحية وأخوّة. الشكر لإخوتنا
الكهنة الأفاضل..
فهذا مؤتمركم .. هذا مؤتمرنا.. فلنعمل على إنجاحه
بشفاعة مريم العذراء سيدة النجاة، أمنا وأم يسوع/ وأم كل كاهن،
وبنعمة الله الآب والابن والروح القدس، آمين.
بعد ذلك ألقى سيادة السفير البابوي "غبريال كاتشيا"
كلمة مقتضبة ركز فيها على ثلاث نقاط هي:
أولاً: الوحدة على مثال الجماعة المسيحية الأولى
التي كانت مجتمعة حول المخلص، والتي اجتمعت بعد قيامته متذكرة سر
الخلاص على مائدة الخبز والخمر متذكرة ربها وفاديها.
ثانيًا: الألم الذي هو سر الخلاص وهو الدافع الذي
يجعلنا متمسكين بالقيامة.
ثالثًا: إتباع يسوع المسيح حيث أكد سيادته على أن
وجود ومشاركة الكهنة اليوم بهذا المؤتمر هو دليل قاطع على التصميم
على إتباع يسوع المسيح.
تلا ذلك كلمة لغبطة أبينا البطريرك مار اغناطيوس
يوسف الثالث يونان فبعد الترحيب والشكر من قبل غبطته بالحاضرين
جميعًا من أساقفة وكهنة ومؤمنين قال غبطته:
- إن مؤتمركم صادف في زمن القيامة، وفي هذا الموسم
المبارك بعد الأحد العظيم لإنبعاث الرب ممجداً، نترقب مع الكنيسة
جمعاء العنصرة. بل مؤتمركم هذا هو العنصرة الجديدة لكنيستنا..
- نحن أحباء الرب، شركاء في الكنيسة وشهداء كما
شهود لكرامة الإنسان في مشرقا العزيز!
- لقد اتخذتم شعاراً لمؤتمركم " دعوتكم أحبائي".
كم هذا الشعار مؤثّر، عميق المعاني وخطير بالتزاماته!
- أحبائي: اسمحوا لي أولاً أن أتوقف عند هذه
المناداة: "أحبائي" لكي أسألكم كم مرّة نستعملها كلنا في المواعظ
والإرشادات في الكنيسة، في اللقاءات مع المؤمنين، الأخويات، منظمات
العمل ألرسولي هل فكّرنا وتوقفنا عند هذه المناداة لنتعمق في
معناها وردودها؟
- ألا نردد غالباً هذه الكلمة من باب اللياقة أو
الأدب او الروتين..؟
- يسوع توجّه مرات كثيرة الى تلاميذه داعياً إياهم
" أحباءه، اصدقاءه، مختاريه، تلاميذه.." هلّا أدركنا أنه كان يعني
وما يزال ما يقوله لنا..!
- لقد اختار التلاميذ، كما نحن متيقنون أنه
اختارنا، لأنه أرادنا أن نكون من تلاميذه، أي من اٌقرب المقربين
اليه، لأنه أرادنا أن ندرك ما قاله ويقوله الآب له :" .. دعوتكم
أحبائي لأني أطلعتكم على كل ما سمعته من أبي" (يو 15:15)
- اسمعوا ما قاله فرنسوا مورياك: " آه، كم كنتُ
سأصغي الى الكهنة يحدثونني عن ابن الله، لا كعلماء مجتمع او
كلاهوتيين، بل كالذين يرون ويلمسون المسيح المنبعث من بين
الأموات!"
François Mauriac († 1970) :
“Ah, comme j’écouterais les prêtres s’ils me parlaient du Fils
de Dieu, non en sociologues, non pas en théologiens, mais comme
ceux qui voient, qui touchent le Christ ressuscité.”
نحن الكهنة، أحباء الرب، عرفنا منه حقاً معنى
الدعوة التي خصنا بها، واقتنعنا بعظمة رسالتنا الى عالم اليوم:
- تلاميذ مغرمون بحب المعلّم، ينطلقون لتقديس
إخوتهم وأخواتهم، بكلام الله الموحى في الكتاب المقدس، بالأسرار
التي تقدّس، وبمثالنا الذي لا يقبل أنصاف الحلول، ولا الشروط ولا
التخاذل.
- أحباء الكنيسة ومحبّو الكنيسة، بالرغم من نقائصها
وخطاياها .. فلا نتقاعس أو نتردد في مشاركة مَن دعوا الى
المسؤولية الاسقفية، بشجاعة وشفافية وتضحية. ونتواكب في مشروع
التقديس لكل مَن دعينا لخدمته. وكما نحن أحباء الرب وهو رأس الجسد،
لا يحق لنا ولا نستطيع إلّا أن نحب أعضاء جسده السري، سيّما
الضعيفة منها.
- أحباء الرب وأحباء كنيسته، لندرك بقناعة ما هي
خصوصية دعوتنا أن نكون في عالم اليوم "كهنة في الكنيسة السريانية
الكاثوليكية". إن كنيستنا، على غرار الكنائس الشرقية الشقيقة، هي
الكنيسة الشاهدة والشهيدة.. ليست فقط أمّ نحبها، ومعلّمة نحترمها،
ولكن لأنها شاهدة وشهيدة، نسعى بقلوب متحدة وأيادٍ متشابكة،
لنقدمها لؤلؤة باهرة الجمال تزيّن على صغرها تاج الكنيسة الجامعة.
وفي نهاية الكلمة أعطى غبطته مع السادة الأساقفة
والسفير البابوي البركة بعدها انتقل الجميع إلى صالون الدير
لمقاسمة فرحة الافتتاح.
|