|
أجوبة البابا على سؤالين طرحهما الشباب في الحج الى لوريتوالفاتيكان، 6 سبتمبر 2007 ترجمة وكالة زينيت العالمية (ZENIT.org) طلال نعمت خلال عشية الصلاة التي جمعته بالشبيبة الإيطالية في مونتورزو مساء السبت 1 سبتمبر، أجاب البابا على سؤالين طرحهما إثنان من الشبيبة. * * * بعد أن قدم بييرو تيستي وجوفانّا دي موتشي شهادتهما، طرحا على البابا هذا السؤال: "الكثير من الشباب بيننا يعيشون في الضواحي ويفتقرون إلى مركز ومحور، إلى مكان أو إلى أشخاص قادرين أن يمنحوا هوية. غالبًا ما نعيش دون تاريخ، دون تطلعات، وبالتالي دون مستقبل. يبدو وكأن ما ننتظره حقًا لا يمكنه أن يتحقق. ومن هنا تأتي خبرة العزلة، وأحيانًا مختلف أنواع الإدمان. هل هنالك شخص أو أمر نستطيع أن نصبح بفضله مهمين؟ كيف يمكننا أن نرجو عندما يحرمنا الواقع من أي حلم بالسعادة، من أي مشروع حياة؟
يمكنني أن أعرض هكذا بشكل مقتضب خلاصة جوابي: "نعم، هنالك رجاء، اليوم أيضًا، كل واحد منكم هو مهم، لأن الله يعرف كل واحد، ولله مشروع لكل واحد منكم. علينا أن نكتشفه وأن نتجاوب معه، حتى يكون ممكنًا تحقيق مشروع الله هذا بشأننا، بالرغم من تقلقل وهامشية هذه الحالات". ولكن، لنذهب الآن إلى التفاصيل، لقد قدمت حالة المجتمع المعاصر بشكل واقعي: يبدو من الصعب السير إلى الأمام في الضواحي، وتغيير العالم نحو الأفضل. يبدو وكأن كل شيء قد حُصر في الأوساط الكبرى الإقتصادية والسياسية، وفي سيطرة الدواوينية (bureaucracy)؛ مع هذه الحالة، يشعر من يعيش في الضواحي بأنه معزول عن هذه الحياة. أحد مظاهر حالة التهميش هذه التي يعيشها كثيرون تكمن في أن خلايا الحياة الكبرى في المجتمع، التي تستطيع أن تبني مراكز حتى في الضواحي، هي مشرذمة: العائلة، التي يجب أن تكون موضع لقاء بين الأجيال – من الجد إلى الحفيد – والتي يجب أن تكون، لا موضع لقاء الأجيال فحسب، بل مكانًا يتعلم المرء فيه فن العيش، هذه العائلة نجدها الآن مشرذمة، وفي خطر. علينا أن نقوم بالكثير لكي تكون العائلة حيوية، لكي تكون اليوم أيضًا خلية حية، أن تكون محورًا في الضاحية. وهكذا أيضًا الرعية، خلية الكنيسة الحية، عليها أن تكون بجدٍ مكان وحي، وحياة، وتعاضد، فتساعد في بناء المراكز في الضواحي. وهنا، ينبغي أن أقول هذا: يجري الكلام كثيرًا عن كنيسة الضاحية وكنيسة المحور، ويعنى بذلك روما، ولكن بالحقيقة، في الكنيسة لا توجد ضاحية، بل حيث يكون المسيح، هنالك المحور والوسط بكامله. حيث هناك الافخارستيا، وحيث هناك بيت القربان، هناك المسيح وبالتالي هناك المحور، وعلينا أن نبذل قصارى جهدنا لكي تكون هذه المحاور الحيوية فعالة، حاضرة ولكي تكون قوة تعاكس هذا التهميش. على الكنيسة الحية، كنيسة الجماعات الصغيرة، الكنيسة الرعوية، وعلى الحركات أن تكون محاور في الضواحي فتساعد هكذا في تخطي المصاعب التي من الواضح لا تستطيع السياسة الكبرى أن تخطاها. وعلينا في الوقت عينه أن نفكر أنه بالرغم من تمركز السلطة الكبير، بل بسبب ذلك، يحتاج مجتمعنا إلى التعاضد، إلى حس القانون، إلى مبادرة الجميع وإلى حسهم الخلاّق. أعرف أن قول هذه الأمور هو أسهل من تطبيقها، ولكني أرى هنا أشخاصًا يلتزمون لكي تنمو المحاور والمراكز في الضواحي ، ولكي ينمو الرجاء، وبالتالي، يبدو وكأنه يجب أن نأخذ المبادرات في الضواحي، يجب على الكنيسة أن تكون حاضرة، وأن يكون المسيح، محور الكون ومركزه حاضرًا. لقد رأينا ونرى في إنجيل اليوم أنه بالنسبة لله ليس هنالك ضواحٍ. الأراضي المقدسة، في إطار الإمبراطورية الرومانية الشاسعة كانت ضاحية؛ والناصرة كانت ضاحية، ومدينة مجهولة. ومع ذلك، فإن ذلك الواقع بالذات كان عمليًا المحور الذي غيّر العالم! وهكذا، نحن أيضًا، علينا أن نشكل محاور إيمان، ورجاء، ومحبة وتعاضد، مراكز تعيش بحس العدالة والقانون والتعاون. بهذا الشكل فقط يستطيع المجتمع الحديث أن يبقى ويستمر.إنه بحاجة لهذه الشجاعة، أن يخلق مراكز ومحاور، حتى ولو بدا وكأنه ما من أمل بذلك. علينا أن نقاوم هذا اليأس، علينا أن نتعاون بروح تضامن كبير وأن نقوم بكل ما بوسعنا لكي يزدهر الرجاء، ولكي يتعاون البشر ويتمكنوا من العيش. كما نرى، العالم يحتاج إلى تغيير، وهي بالضبط رسالة الشبيبة أن تغيّر العالم! لا يمكننا أن نغيره بقوانا الذاتية فحسب، بل عبر شركة الإيمان والمسيرة. عبر شركة مريم وجميع القديسين، عبر الشركة مع المسيح نستطيع أن نقوم بعمل جوهري؛ لذا أشجعكم وأدعوكم إلى الثقة بالمسيح، وإلى الثقة بالله. العيش برفقة القديسين والمسير إلى الأمام معهم يستطيع أن يغير العالم، من خلال خلق مراكز في الضواحي فتتمكن هذه من الظهور، ويصبح هكذا رجاء الجميع واقعيًا، ويستطيع كل واحد أن يقول: "أنا مهم في إطار التاريخ العام. الرب سيساعدنا". شكرًا. السؤال الثاني سالته الصبية سارا سيمونيتّا، التي بعد أن عرضت شهادتها قالت: "أنا أعتقد بأن الله قد لمس قلبي، ولكني أحمل الكثير من الشكوك والتساؤلات والمخاوف في داخلي. إنه لأمر صعب أن أتحدث مع أصدقائي عن الله؛ الكثير منهم يرون الكنيسة كواقع يحكم على الشبيبة، ويناهض توقهم إلى الفرح والحب. أمام هذا الرفض، أشعر بكل ثقل عزلتي ككائن بشري، وأود أن أشعر بقرب الله. صاحب القداسة، في هذا الصمت، أين هو الله؟
ومؤخرًا، تم نشر كتاب يتضمن خبرات الأم تريزا الروحية، وما كنا نعرفه من قبل أصبح الآن جليًا أكثر: مع كل محبتها وقوة إيمانها، كانت الأم تريزا تعاني من صمت الله. من ناحية، علينا أن نتحمل هذا الصمت لكي نفهم إخوتنا الذي لا يعرفون الله. من ناحية أخرى، يمكننا مع المزمور أن نصرخ مجددًا إلى الله: "تكلم، أظهر نفسك!". ومن دون شك، في حياتنا، إذا كان قلبنا منفتحًا، يمكننا أن نجد الأوقات التي يصبح فيها حضور الله حسيًا بالنسبة لنا نحن أيضًا. أذكر في هذا الوقت قصة قصيرة سردها يوحنا بولس الثاني خلال الرياضة الروحية التي ألقاها في الفاتيكان قبل أن يصبح بابا. أخبر أنه بعد الحرب، زاره ضابط روسي كان عالمًا، وقال له: "كعالم، أنا أكيد أن الله غير موجود. ولكن عندما أجدني في الجبال، أمام جلالة جمالها، وأمام عظمتها، أنا أكيد بالقدر نفسه من أن الخالق موجود، من أن الله موجود". جمال الخلق هو أحد المراجع التي تمكننا من لمس جمال الله، يمكننا أن نرى أن الخالق موجود وأنه صالح، وأن ما يقوله الكتاب المقدس صحيح عندما يخبرنا بأن الله قد فكر بهذا الكون وخلقه من كل قلبه، ومن كل إرادته، ومن كل عقله، وأنه رآه أمرًا جيدًا. نحن أيضًا علينا أن نكون صالحين، لكي يكون قلبنا منفتحًا على الإحساس بحضور الله الحق. ومن ثم، عبر الإصغاء لكلمة الله في الاحتفالات الليتورجية الكبيرة، في أعياد الإيمان، في موسيقى الإيمان العظيمة، نشعر بهذا الوجود. أذكر في هذا الوقت قصة قصيرة أخرى أخبرني إياها مؤخرًا أسقف خلال زيارة إلى الأعتاب الرسولية: كان هنالك امرأة غير مسيحية ذكية جدًا بدأت بالإصغاء إلى موسيقى باخ وهينديل، وموتزارت. اعتراها الذهل، وقالت يومًا: "عليّ أن أجد المصدر الذي يمكن أن ينبع منه هذا الجمال"، وقد ارتدت المرأة إلى المسيحية، إلى الإيمان الكاثوليكي، لأنها رأت أن هذا الجمال له مصدر، والمصدر هو حضور المسيح في القلوب، هو إعتلان المسيح في هذا العالم. وبالتالي، أعياد الإيمان الكبرى، الاحتفالات الليتورجية، ولكن أيضًا الحوار الشخصي مع المسيح: هو لا يجيب دومًا، ولكن هناك أوقات يجيب فيها حقًا. ومن ثم الصداقة، رفقة الإيمان. الآن، من خلال اجتماعنا في لوريتو، نرى كيف أن الإيمان يوحد، الصداقة تخلق رفقة أشخاص يتقاسمون المسيرة. ونشعر أن كل هذا لا يأتي من العدم، بل له مصدر فعلاً، وأن الإله الصامت هو أيضًا إله يتكلم، يكشف عن نفسه، وبوجه خاص، نحن نستطيع أن نكون شهود حضوره، ومن إيماننا يمكن أن ينال الآخرون نورًا. لذا أقول، من ناحية، علينا أن نقبل أن يكون الله صامتًا في هذا العالم، ولكن لا نكوننّ صمًا أمام كلامه، أمام اعتلانه في حالات كثيرة فلنرَه في الخلق، وفي الليتورجية الجميلة، في الصداقة في حضن الكنيسة، وفي حضور الرب. وإذا ما امتلأنا من حضوره، يمكننا نحن بدورنا أن نعطي النور إلى الآخرين. وهكذا أصل إلى النقطة الثانية، أو إلى القسم الأول من سؤالك: من الصعب الكلام عن الله إلى الأصدقاء اليوم، وربما الكلام عن الكنيسة هو أكثر صعوبة، لأنهم يرون في الله فقط حدًّا لإرادتنا، إله وصايا وممنوعات، ويرون في الكنيسة مؤسسة تحد من حريتنا وتفرض علينا سلسلة من المحرمات. ولكن يجب علينا أن نسعى لكي نجعل الكنيسة الحية ظاهرة لهم، لا فكرة الكنيسة كمركز سلطة مع هذه الأحكام المسبقة، بل الكنيسة كجماعة رفقة يتولد فيها، بالرغم من كل مصاعب الحياة التي يواجهها الجميع، فرح العيش. تتوارد إلى ذهني هنا ذكرى ثالثة. كنت في البرازيل، في "مصانع الرجاء"، وهي مركز كبير للعناية بالمدمنين على المخدرات حيث تتم العناية بهم ويعاد فيعطى لهم الرجاء، فيجدون فرح العيش. وقد شهدوا بأن اكتشاف أن الله موجود قد عنى لهم الشفاء من اليأس. وهكذا فهموا بأن حياتهم لها معنى وأعادوا اكتشاف فرح الوجود في هذا العالم، فرح مواجهة مشاكل الحياة البشرية. لذا في كل قلب بشري، بالرغم من المشاكل، هناك العطش إلى الله وحيث يختفي الله، تختفي الشمس التي يعطي النور والفرح. هذا العطش إلى المطلق الموجود في قلوبنا يظهر من خلال واقع المخدرات أيضًا: فالإنسان يريد أن يوسّع نطاق حياته، أن ينال من الحياة أكثر فأكثر، أن ينال المطلق. ولكن المخدرات هي رياء، هي خداع، لأنها لا توسّع أفق الحياة، بل تدمر الحياة. حقيقي هو العطش الكبير الذي يحدثنا عن الله، ويسيّر خطواتنا في السبيل نحو الله، ولكن علينا أن نقدم يد العون بعضنا لبعض. لقد أتى المسيح اكي يخلق شبكة من الشركة في العالم، حيث نستطيع كلنا أن نحمل بعضنا البعض وبالتالي نتعاون لكي نجد سوية طريق الحياة ونفهم أن وصايا الله ليست حدًا لحريتنا، بل هي السبل التي تقود إلى "الآخر"، إلى ملء الحياة. فلنصلّ إلى الرب لكي يساعدنا فنفهم حضوره، ونكون مليئين بوحيه وفرحه، ونتعاون في رفقة الإيمان لكي نسير قدمًا، ونجد أكثر فأكثر في المسيح الوجه الحقيقي لله، وبالتالي الحياة الحقة.
|