من الألم إلى القيامة

وأسلم الروح  

على الصليب تظهر المحبة التي تربط يسوع بأبيه في الروح، وهذا ما يخلص العالم: يسلم يسوع حياته، مصيره ومستقبله بين يدي الأب، والأب يسلم نفسه في شخص الابن، فكلمته هي هذا الجسد الممزق المصلوب. الابن يسلم الروح للأب، والأب يهب الروح للابن ويقيمه من بين الأموات ليحيا للأبد. يسوع يسلم الروح على الصليب (متى 27/ 50، مر 15/ 37، لو 23/ 46، يو 19/ 30)، هذا الروح هو روح البنوة الحقيقية التي تخلق الكنيسة، جسد المسيح القائم من بين الأموات، والممثلة في شخصي مريم والتلميذ الحبيب الواقفين عند قدم الصليب.

هو الروح من يهب لكل إنسان القدرة- أي الإيمان والرجاء والمحبة- على اتخاذ الطريق الذي اختاره يسوع: طريق الإيمان الجذري والرجاء الكامل والمحبة الملتهبة للآب وللبشر. وهذا هو ما يخلص العالم. فليست الآلام التي تخلص، بل المحبة والإيمان والرجاء التي عاش بها يسوع هذه الخبرة المؤلمة. ينزع الألم الإيمان والرجاء والمحبة من قلب الإنسان، وظلّ يسوع، بالرغم من الألم مؤمناً وراجياً ومحباً بفضل الروح. الألم لا يخلص، بل المحبة، الألم لا يعطي الحياة، بل الروح. وعندما نقول إن يسوع خلصنا بالآمه، فنحن نريد أن نقول إن يسوع خلصنا بالمحبة التي أظهرها في وسط آلامه المشوهة والمدمرة. وبالرغم منها، نريد أن نقول إنه غلب قوى الموت والألم بإيمانه وبمحبته لأبيه وللبشر، نريد أن نقول إن العبث واللامعنى لم يغلبا يسوع، نريد أن نقول إن الحياة ظهرت في وسط الفناء الذي يحمله الألم، نريد أن نقول إن روح الله، روح الحياة، أقوى وأكبر من الموت والألم اللذين تجلبهما خطيئة الإنسان وعنفه وكذبه، فأين يا موت نصرك؟ وأين يا موت شوكتك؟... فالشكر لله الذي أتانا النصر على يد ربنا يسوع المسيح (1 قور 15/ 55، 57) ونحن، عندما نقول: يا يسوع، أقدم لك آلامي، نريد أن نقول: يا يسوع، إني أحبك وأثق بك، وأحب إخوتي، بالرغم من آلامي التي تريد أن تغلق قلبي وتخلع عني كل أمل وكل رجاء وكل محبة.

يحمل يسوع في جسده أوجاع العالم وخطايا البشر على الصليب، في صمته وتقدمة ذاته، يتحول إلى كلمة حب مدويّة، إلى نور يشع على ظلمة الأرض والإنسان، إلى نداء إلى الصدق والحرية والحياة.

على الصليب يخلص يسوع البشر ويهب الحياة الحقيقية لمن علقه على خشبة الموت. على الصليب يحول يسوع اللعنة إلى بركة، والعار إلى مجد، والموت إلى حياة، ولأن الله أباه محبة، فإنه يحول كل الأشياء لخير الذين يحبونه، حتى خطيئتهم وضعفهم وتخاذلهم. على الصليب يتجلى للعالم الإله الحقيقي، الأب الذي يحب أبناءه حتى النهاية، والابن الذي يبذل نفسه إلى المنتهى من أجلهم، وروح المحبة والشركة الذي يدخلهم في بوتقة الحياة والفرح والسلام. 

عاش يسوع بنوته لله من خلال حياته الإنسانية اليومية، وعبر عنها من خلال كلماته ومواقفه، ومن فيض قلبه الطيب تحدث لسانه بالمحبة، فتعلق الكثيرون به وتبعوه. ولكن أمام الصليب تراجع الأصدقاء وارتعبوا، وتفرق التلاميذ وهربوا، وتساءل المستهزئون: إن كان الله معه فكيف يترك ابنه يرى هذا المصير؟ أما يسوع فاستمر يحب ويؤمن ويرجوا بالرغم من الآلام التي تّخلّع عن أي إنسان كل نور أو أمل. وعلى الصليب عندما صار بلا بهاء ولا جمال، كالدودة وليس كإنسان.

ما هو هنا بل قام

تعني القيامة أن المصلوب غلب الموت لأنه وثق بمحبة أبيه التي تفوق الموت فلا يمكن من أمن بالأب أن يرى فساداً ولا يمكن من إتكل على الله أن يفصله الموت عن محبة الأب الله حياة، ومن آمن به إنتقل من الموت إلى الحياة. دخل يسوع الحياة الأبدية، الحياة التي لا تعرف نهاية، لأنها إتحاداً بالأب.

تحير التلاميذ وملأ قلوبهم الخوف، وهن على حق، لأنه من سمع قبلاً أن إنساناً إنتصر على الموت، أو أن حجراً قد دحرج من على باب قبر ليفسح المجال أمام من قام من بين الأموات. حدثٌ فريد يغير كل تاريخ البشر ويملأه بالرجاء ليست الكلمة الأخيرة للموت في حياة البشر بل لمحبة الله الفياضة التي تقيمهم من الموت إلى الحياة التي لا تنتهي.

نزل يسوع مع الإنسان إلى ظلمة القبر، وتضامن مع الإنسان الخاطئ حتى الموت على الصليب، ليظهر عظمة محبة الله له. أدار الإنسان ظهره لمصدر الحياة مفضلاً الظلمة على النور، ولكن الله لم ييأس من الإنسان ولم يكف عن محبته. جاء يسوع يعلن للناس أن الله أبوهم، يغفر لهم خطاياهم، يجدد معهم العهد ويفيض فيهم الحياة.

رفض يسوع وأسلم للموت، ولكنه راهن على محبة أبيه، وضع حياته بين يدي الأب ترك ذاته بين أيدي الناس الخطأة ذهب إلى الموت وحمل الصليب، صارخاً إلى الله بأنات لا توصف أن يخلصه من الموت. فإستجاب له الله وعرف يسوع حياة أعظم من الموت، قام من بين الأموات.

القيامة نور يشع في القلوب، كلمة تنتقل من إنسان إلى الإنسان لتُعلن أن الله أقوى من الخطيئة والعنف والموت، وأنها أكبر من الكذب والأنانية والكراهية. من جئن إلى القبر حاملات الطيب أصبحن مرسلات للقيامة شاهدات على الحياة التي إنبثقت من القبر. فالنخرج نحن أيضاً من قبورنا بنعمة من قام من بين الأموات لنحيا معه بالإيمان حياة النور والمصالحة مع الله ومع الناس.  

مات يسوع على الصليب وقام من بين الأموات ليشفي قلب الإنسان الممزق ويصالحه مع الله ومع ذاته ومع الآخرين. ولكن من يعلن القيامة اليوم؟ من يقول للعالم إن يسوع المسيح حيّ قائم من الأموات؟ هو كل من يخرج من قبر حياته إلى نور القائم من بين الأموات، هو كل من يتغلب على الأسر في الخطيئة والأنانية والكذب والعنف، هو من يحقق في حياته المصالحة مع أعدائه هو من يحرر الناس من خوفهم وانغلاق قلبهم فقط من خرج من القبر بنعمة القائم من بين الأموات بوسعه أن يكون تلميذاً وشاهداً له.

حيال الموت يقف الإنسان حائراً بائساً يسأل نفسه: ما نفع حياةٍ نهايتها الموت والفناء؟ قيامة المسيح أنقذت الإنسان من الحيرة واليأس أمام الموت. لقد خلصنا المسيح بموته من الخطيئة وبقيامته من الموت لو لم يقم المسيح لبقيت الخطيئة مسيطرة والموت سيداً.             

وأخيراً طريق القيامة هو في العودة إلى القلب واستشفاف ما يقوده بحرارة وحلاوة إلى السلام والنور. القلب المحترق بنور كلمة الله هو الدليل الأكيد على قيامة يسوع من بين الأموات، وهو من يدفع تلميذين عماوس إلى القيام وسط الليل والعودة في الحال إلى أورشليم للقاء بالأحد عشر. لم تعد أورشليم مدينة الموت، بل مكان انتصار يسوع على الموت. أصبحت أورشليم مركز إشعاع كل من احترق قلبه بكلمة الله فهبّ مسرعاً يعلن الخبر السار (يسوع المصلوب قام من بين الأموات).

الأخ يوسف يونو الراهب

الرهبنة الأنطونينة الهرمزدية الكلدانية