الرابطة الكتابية في قره قوش "فلتواصل كلمة الله جريها وتُكرم" (1تس 3/1)
القدِّيس بولس الرسول /حياته. دعوته. رحلاته. رسائله (ملخّص)
مقدِّمة قال عنه الكتَّاب: "إنَّه الأَوَّل بعد الأَوحد". "جاهلُ الفكر البولسي امرؤ ناقصُ العلم والمعرفة والإيمان. والمُطَّلع على الفكر البولسي كم يشعر بالحاجة إلى التعمُّق والغوص في أسراره أكثر!"[1]. تأتي هذه المحاضرة، وما يليها من محاضرات ونشاطات أُخرى، في إطار الاحتفالات في العالم المسيحيّ بأسره، وذلك بمناسبةِ مرور ألفي عام على ولادة القدِّيس بولس، رسول الأُمم، التي يُقدِّر المؤرخون تاريخها بين السنة 7 و 10 للمسيح، وتتهيّأ الكنائس شرقًا وغربًا لافتتاح السنة اليوبيليَّة الخاصَّة بالقدِّيس بولس، التي كان قد أعلن عنها البابا بندكتوس السادس عشر. تبدأ هذه السنة من 28/ 6/ 2008 وتستمر حتَّى 29/ 6/ 2009.
أوَّلاً- بولس اليهوديّ الهلِّينيّ الفرِّيسيّ مضطهد الكنيسة
مولده ونشأته في طرسوس وفي أورشليم
وُلِدَ بولس في طرسوس ما بين سنة 5 و10 للمسيح، من عائلة يهوديَّة هلِّينيَّة فرِّيسيَّة محافظة على شريعة الربِّ، ودُعيَ باسم عبريّ "شاوُل" (معناهُ: المسؤول)، تيمُّناًً بأَوَّل ملك لإسرائيل، وخُتِنَ الصبيّ في اليوم الثامن ... حصل شاوُل على الرعوية الرومانية منذ مولِدِهِ بإسم رومانيّ "بولس" (معناهُ: الصغير) ... تثقَّف بولس في طرسوس، وتعلَّمَ اللغتين العبريَّة واليونانيَّة وتربَّى على حفظِ التوراة. وتابع دروسهُ حتَّى درجة عليا في مدرسة طرسوس اليونانيَّة. انتقل بولس إلى أورشليم حاملاً معهُ ثقافة يهوديَّة دينيَّة عالية، خصوصًا في تفسير الكتبِ المقدَّسة، دخل مدرسة هلاَّّل المنفتحة والمُتحرِّرة في تأويل التوراة، وتتلمذَ على يدِِ المعلِّم "جمليئيل" (معناهُ: جمال الله)، مُمَثِّل المدرسة الفرِّيسيَّة، وتابع بولس دروسَهُ إِلى أَن وصلَ إلى درجةٍ عُليا فتخرَّج على يد جمليئيل "رابَّيًاً" أي معلِّم في أصول الدين، فانتمى مثل أبيه ومعلِّمه إلى حزب الفرِّيسيِّين، وكان متعصِّباً للهِ وشريعته. ومن غيرِتِه الفرِّيسيِّة، راحَ يضطهد كنيسة الله ويقتلُُ تلاميذ الربّ ويسوقهم إِلى السجن. بعد تخرُّجهِ في أورشليم سنة 24 أُرسل إلى طرسوس يمارس مهنتهُ كرابِّي لأبناء محيطِه، وحسب التقليد اليهوديّ، تعلَّم بولس مهنة هي صناعة الخيام ... سنة 33 عاد بولس من الحجّ كعادة كلّ سنة ورأى أنَّّ أورشليم تَغلي "بشيعة النصارى" أي المسيحيّة، هذا السبب دفعَهُ إلى أن يزيدَ اضطهاده للمسيحيّين؛ وسمع أيضاً أنَّ في دمشق كَثُرَتْ شيعة النصارى، فذهبَ إلى رئيس الأحبار وطلب منه تفسيح بأن يذهب إلى دمشق ويسوق المسيحيِّين إلى السجن، فأذِنََ له رئيس الأحبار وأرسل معهُ جيش لمرافقتِه. مات بولس الرَّسول شهيدًا بقطع الرأس في روما، على طريق أوستيا - Ostia، في السنة 67، في السَّنة نفسها لوفاة القدِّيس بطرس.
ثانيًا- بولس المسيحيّ
ثالثًا- دعوة بولس أَم ارتداده؟
نتحدَّث عن دعوة بولس، لا عن ارتداده، فالارتداد ترك للأوثان وعبادة الإله الحي (1 تس 1: 9). فاليهودي لا يرتدّ لأنَّه يعبد الله الحي الحق، بل يذهب إلى النهاية في إيمانه فيقرُّ أنَّ الله يدعوه في شخص يسوع المسيح. هذه الدعوة، نقرأ عنها ثلاث مرَّات في سفر أعمال الرسل (9: 1-19؛ 22: 3-21؛ 26: 9-18) وهذا يدلّ على أهميّتها في تاريخ الكنيسة الأولى. تتفق الروايات الثلاث في العناصر الأساسيَّة التالية: على طريق دمشق - نور من السماء - سقوط على الأرض - سماع صوت يقول: شاوُل، شاوُل، لِمَ تضطهدني؟ - من أنت، يا رب؟ - أنا يسوع، ذاك الذي تضطهده أنت! - قم - رسالة إلى الأُمم. تختلف الروايات في الأُمور التالية: دور حننيَّا طويل في الرواية الأولى، مختصر في الثانية، غير مذكور في الثالثة - قبل بولس الرسالة إلى الأمم من حننيَّا، في دمشق، في الرواية الأولى، ومن المسيح، في هيكل أورشليم، في الثانية، ومن المسيح، على طريق دمشق في الثالثة - يسقط بولس، دون رفاقه، على الأرض، في الرواية الأولى والثانية، ويسقطون معًا في الثالثة - يسمع رفاق بولس الصوت، ولا يَرون المتكلِّم، في الرواية الأولى، ويَرون النور، دون أن يسمعوا الصوت، في الثانية - يضع لوقا مثلاً يونانيًّا، لا آراميًّا، على لسان يسوع في الرواية الثالثة. * ويشير بولس إلى دعوته -التي كانت على الأرجح سنة 36- في بعض رسائله (غل 1: 11-24؛ 1 قور 9: 1؛ 15: 8-9؛ فل 3: 4-12؛ 1 طيم 1: 13)، غير أنَّه لا يصف الحدث، بل يُشدِّد على أنَّه رأى المسيح كما رآه بطرس والرسل بعد قيامته. فهو مثلهم رسول المسيح. غاية لوقا، كما تظهر في الرويات الثلاث، فهي، أَوَّلاً- إنَّ المسيح الحيّ الحاضر في الكنيسة هو الذي قَلب حياة بولس رأَسًا على عَقِب. ثانيًا- إنَّ رسالة بولس إلى الأُمم تمَّت بتدخُّل الرب يسوع. ثالثًا- إنَّ رسالة بولس إلى الأُمم، وإيمان الأُمم بيسوع، تحقيق لتصميم الله الخلاصي، الذي وعد به الله في العهد القديم.
رابعًا- رحلاته الرسوليَّة
نلاحظ نقطة أساسيَّة وهي أنَّ كلّ الأسفار أو الرحلات تنطلق من أنطاكية، ما عدا رحلة الأسر ... وهنا نقدِّم اختصارًا لكلٍّ منها: 1. الرحلة الرَّسوليَّة الأولى (سنة 45-49، رسل 13 - 14): بشَّر بولس في آسية وأنشأ كنائس كثيرة في المدن الكبرى.
2. الرحلة الرَّسوليَّة الثانية (سنة 49-53، رسل 15: 36 – 18: 22): بشَّر بولس في اليونان، مارًا بكنائس آسية، فأسَّس كنيسة تسالونيقي وفيلبي وبيرية. ومرَّ بأثينة واستقر مدة سنة ونصف في قورنتس حيث كتب رسالتيه إلى كنيسة تسالونيقي. ثم عاد إلى الشرق.
3. الرحلة الرَّسوليَّة الثالثة (سنة 54- 58، رسل 18: 23 – 21: 14): من أنطاكية انطلق بولس فطاف في بلاد آسية متفقِّدًا الكنائس التي أنشأها، ومكث في أفسس حيث أسَّس كنيسة مزدهرة، وكتب فيها الرسالة إلى كنيسة غلاطية والأولى إلى كنيسة قورنتس، ثم رحل إلى مقدونية حيث كتب الرسالة الثانية، فإلى قورنتس حيث كتب إلى كنيسة رومة. ثم عاد إلى الشرق.
4. الرحلة الرَّسوليَّة الرابعة "رحلة السجن" (سنة 58-62، رسل 21: 17 – 28: 31): بعد أسره في أورشليم وفي قيصرية مدة سنتين، أبحر إلى رومة حيث مكث فيها سنتين وكتب فيها رسالته إلى كنيسة قولسي وأفسس وفيلبي وإلى تلميذه فليمون. ثم بدأ رحلته الرابعة في شرق البحر الأبيض المتوسط (بحسب 1 طيم 1: 3؛ طي 1: 5)، أو أقصى الغرب (بحسب التقليد المسيحي القديم). وكتب آنذاك رسالته الأولى إلى تلميذه طيموثاوس وإلى تلميذه طيطس. ثم أُسِر في رومة حيث كتب الرسالة الثانية إلى طيموثاوس. واستشهد في رومة أيَّام اضطهاد نيرون للمسيحيِّين؟!
خامسًا- رسائله
يعتبر الشرَّاح المحافظون أَنَّ (13) رسالة هي لبولس. ولكن قسمًا كبيرًا منها يُنسب إلى تلميذ من تلاميذ بولس. ولكن النقد العقلاني يحتفظ بالرسائل التالية: روم، 1 قور، 2 قور، غل، 1 تس، فل، قول، فلم. ويشك النقَّاد في اف، 2 تس، 1 طيم، 2 طيم، طي، ويقولون إنَّ فيها فقط عناصر بولسيَّة أو هي دوِّنت في المدرسة البولسيَّة. استخدم بولس فنًّا خاصًّا معروفًا بفنِّ "الرسالة". ونجده، على السواء، في العهد القديم وفي الآداب المصرية والبابلية أو الهلِّينية ... ومن المعروف أنّ الرسالة تتبع التقسيم الآتي: عنوان، موضوع الرسالة، التحية في الآخر، أو أمنية المرسِل للمرسَل إليه ... فبولس كذلك استخدمه والتقسيم المألوف، ولكِّنه صبغه بصبغة مسيحيّة: في القسم الأوَّل، سلام وتحيّة وتوجيه صلاته إلى الله، شاكرًا وحامدًا ... وفي القسم الثاني، يقسمه إلى قسم عقائدي وآخر إرشادي ... وأمَّا في القسم الثالث، فيختم الرسالة ببركة مسيحية ليتورجية (1 و 2 تس وغل و2 قور)، كانت تُستخدم في اجتماعات المسيحيِّين، في كسر الخبز مثلاً.
خاتمة يحتلُ بولس كلاهوتيّ المكانة الأولى، لا في الجماعات المسيحيَّة الأولى فحسب، بل في الكنيسة في كلِّ الأزمان. إنَّه ينبوع ما زال ينهل منه اللاَّهوتيّون والمفكِّرون المسيحيّون. لقد لعب بولس دورًا هامًّا في تنمية التعليم المسيحيّ ونموّ الكنيسة... واهتمّ دومًا بوحدة الكنيسة جسد المسيح، وبمساواة كلّ المؤمنين دون تمييز لعرق أو جنس أو طبقة اجتماعيَّة. ورسائله التي كتبها إلى الكنائس التي أَسَّسها، وإلى تلاميذه، أغنت كتب العهد الجديد على الإطلاق، وأغنت العقيدة الإيمانيَّة في الكنيسة، ووضعت أُسسًا لحياة الجماعة، كما جمعت بين النَّظري والعملي لِما يخدم بناء المؤمنين.
الإكليريكي واثق أوفي لقاء الرابطة الكتابية في قره قوش كنيسة مار يعقوب المُقطَّع 27 حزيران 2008
[1] (الأب جوزف قزِّي، أُستاذ مادَّة الاسلاميَّات في كليَّة اللاَّهوت الحَبريَّة – جامعة الرُّوح القُدُس – الكسليك)
|