"سيروا سيرةً جديرةً بإنجيل المسيح" (فيلبّي 1/27)

 وصل بولس وسيلا إلى فيلبّي حوالي سنة 50 بعد المسيح. إنّها المرّة الأولى التي يقيم فيها الرسول في مدينة أوروبيّة ليعلن بشرى الإنجيل السارّة. لكنّ الارتدادات الأولى تسببت ببعض الفوضى لدى الشعوب الوثنيّة، مما جعل الحكام آنذاك يقررون طرد بولس وسيلا من المدينة، خفيةً. فاضطرّ هذان إلى تذكيرهم بجنسيتهما الرومانيّة حتى يتمكّنا من استرجاع حقوقهما. وعلى الرغم من الرفض الذي واجهه بولس هناك، إن من قبل السلطات الرومانيّة أو من قبل  الشعب، فهو لم يتوانَ يوماً عن دعوة هذه الجماعة المسيحيّة الصغيرة إلى عيش التزاماتها المدنيّة بروح الأمانة للأنجيل. لأنّه وإن كان موطن المسيحيّ في السماء، فهذا لا يعني أنّه معفيٌ من مسؤولياته في المجالين الاجتماعيّ والسياسيّ. بل على العكس، فنحن، مواطنو ملكوت المسيح، ملزمون بخدمة البشر أجمعين في سبيل بناء الوطن الزمنيّ على هذه الأرض بروح العدالة والمحبّة.

 "سيروا سيرةً جديرةً بإنجيل المسيح" (فيلبّي 1/27)

بهذه الكلمات طلب بولس الرسول من أهل فيلبي أن يسيروا سيرة مسيحيّة حقيقيّة. فقد يظن البعض أنّ الإنجيل لا يقدّم حلولاً لمشكلاتنا البشريّة وأنّ الملكوت الذي يدعو إليه محصورفقط في الإطار الدينيّ. إنه من الخطأ الفادح أن نفكّر بهذه الطريقة.

فيسوع الحاضر في حياة كلّ مسيحيّ يتجاوب مع النعمة، هو مَن يبني جسراً ويشقّ دربا... إنّ باستطاعة الإنسان المعمّد أن يُقدِّم مساهمته المميّزة، بصفته "مسيحاً آخر"، في مجالات النشّاط البشريّ كلّها، إن في مجال العلم أوالفنّ أوالسياسة إلخ...

"سيروا سيرةً جديرةً بإنجيل المسيح" (فيلبّي 1/27)

ولكن كيف لنا أن نصير "مسيحًا آخر" كي نعمل في مجتمعنا بطريقة فعّالة؟

نصير كذلك عندما نتّبع طريقة العيش التي يقترحها الإنجيل علينا. عندما نستقبل حقاً كلمة يسوع في حياتنا، تضيء كل نشاط من نشاطاتنا وتصحّح كل وجه من أوجه حياتنا وتقوّمها, فيكون لنا ما ليسوع من أفكار وعواطف وتعليم.

نعم, إن عيش الكلمة يجعل منّا "مسيحاً آخر" فتصير حياتنا كحياته، محبة وخدمة للآخرين، ونساهم ببناء الأخوّة بين الجميع. إن كلمات الإنجيل تُختصر بعيش المحبّة تجاه الله وتجاه القريب, وعيش الكلمة يقودنا دائماً إلى عيش المحبّة.

هل يجدر بنا أن نتوقف مرّةً أخرى على هذا الوجه من وجوه التعليم الإنجيليّ؟ وهل الكلام عن المحبة ضرورياً ويستحقّ العناء؟

طبعاً يستحق. "فالإنسان القديم" الذي فينا لا يطلب سوى الانغلاق على ذاته وتغذيّة مصالحه الشخصيّة ونسيان مَن يحيط به وعدم المبالاة بالخير العام.

لنُحي إذاً شعلة الحب التي في قلبنا فتعطيَنا عيوناً جديدة، ننظر من خلالها إلى ما يحيط بنا، وندرك كيف نستطيع أن نطوّر مجتمعنا. وسيلهمنا الحبّ القرارات التي يجب أن نتّخذها ويهبنا الشجاعة حتّى نصمدَ إلى النهاية.

"سيروا سيرةً جديرةً بإنجيل المسيح" (فيلبّي 1/27)

 هكذا عاش "أوليسي كليوني" الذّي أمضى حياته في الجزائر بين أصدقاء مسيحيين ومسلمين يشهد للإنجيل بكل بساطة. لم يعش لنفسه قط بل لأجل الإخوة والأخوات الذين احتلوا في حياته المركز الأول, فأحب كل شخص دون حدود وشارك الجميع أفراحهم ونجاحهم وآمالهم, كما صعوبات وآلام المرحلة التي تلت الاستقلال. وحين اجتاحت البلاد، في التسعينات، موجة من الرعب لم توّفِّر أحداً من سكّان البلاد ذات الأغلبية المسلمة ولا من الأقليّة المسيحيّة منهم، قرر "أوليسي" مع أصدقاء مسيحيين له البقاء في الجزائر وعدم العودة إلى بلده الأم إيطاليا.

صرّح يوماً لإحدى الصُحف قائلاً: " بقيتُ في الجزائر سنوات، وكان كلّ شيء يسير على أحسن حال. واليوم، وقد ساءت الأحوال، لن أغادرها، فهذه شهادة معاكسة لرسالة الإنجيل."

وبعد أن أُصيب "أوليسي" بمرضٍ عُضال أودى بحياته, قدّم أصدقاؤه المسلمون الشهادة التاليّة عنه: "لقد جمع بيننا وبينه حبّ كبير جعلنا نتشارك بالعمق كلَّ حدث من أحداث حياتنا. لقد كان "أوليس" جسراً ورباطاً متيناً يجمع بين المسيحيّة والإسلام. وفي بلد اجتاحه التعصّب وعدم الرحمة علّمنا كيف نُصغي ونفكّر من دون أحكام مسبقة. علّمنا أن نعمل كل شيء بروح محبّة، علّمنا أن نكون محبّة. “

مع الشكر للاخ أركان هابيل