والكنيسة الشرق أوسطية في إنتظار الإرشاد
الرسولي
السينودس... من أجلنِا كلنِا
في البدء...
ما نراه اليوم بأمّهات عيوننا مؤلم، مبكي، محزن، ومقلق أكثر مما هو
مفرح ومبهج. فالخريطة الفكرية والتصميم البشري يقوداننا إلى دوامة
الضياع والصراع، صراع طائفي، محلي، فئوي، وضياع لا يضاهيه ضياع
بفقدان الهوية... مشاجرات من الدرجة الممتازة وخصومات...
إنقسامات في الفكر والرأي والهدف... عداوات... وكأننا قد عدنا إلى
زمن قد ولّت أيامه... عمليات الإرهاب في أماكن شتى وبلدان عديدة،
ومنها بلدي الجريح... نزاعات قبلية وعشائرية، وكأن القانون قد
شُيّع جثمانه مع بدء قرن العلم والإنفتاح، قرن الحادي والعشرين،
ولا مجال له في النفوس، ولا خطوة له في السلوك.
أمام هذه المشاهد المؤلمة وأخرى، كبناء الجدران الفاصلة بين أبناء
وطن واحد، بل بين أبناء حارة واحدة... سياجات تمنع مرور السابلة...
يافطات تحت عناوين... ممنوع النظر والكلام... أمام هدم الجسور
وإسكات الحوار المسامح.
مسيرة الحياة...
أمام كل هذه تأصل الإعتقاد عندي _ ربما وعند كثيرين _ أن لا سلام
في النفوس كما في الأرض (لو14:2)، وأن قائين لا يزال يفتك بأخيه بل
بإخوته (تك1)، كما لا زلنا خائفين ومنذهلين ومتحيرين أمام ما يحدث،
وأمام هذه المنعطفات لم نعد نرى أن هناك بصيصاً يرشدنا إلى نهاية
الطريق، وحتى الغرب
لم يعد يُنصت إلى تأوهاتنا، ولم يعد يرى الدماء التي سكبها
المسيحيون من أجل وفائهم لإيمانهم وكنيستهم ووطنهم، كونه منقسماً
من أجل مصالحه، فيُصدر بيانات وإستنكارات _ وإنْ كانت متضامنة
إعلامياً _ فهي ليست بالمرجو الأكيد. يضاف إلى عالمنا الملئ
بالتناقضات الصارخة، كيف أن كرامة الإنسان تُداس في أنحاء عديدة
ليضحى الإنسان وحشاً ضارياً لأخيه الإنسان، وأصبح الشر يعكس وجه
الأنانية والكراهية، ناسين أن المحبة وحدها قادرة على قهر الشر
وبيان الحقيقة... فالحياة خُلقت لنحياها بسلام الميلاد (لو 14:2)
وليس بسلام قيصر أو بسلام يفرضه القوي على الضعيف... هكذا سلام
يُبعد الإنسان عن حقيقته ليتربّع في قصر فخم، ويصبح الفقراء
والأبرياء ضحايا سلاح الأنانية والكبرياء والجوع، فتموت الإنسانية
وكرامتها.
الصمت... رسالة ورجاء
ما يظهر أمام عيوننا اليوم هو أن الطريق مسدودة أمام عالم يفتش عن
السلام والعدالة والعيش الكريم في براءة الحياة وحرية المسيرة
وحقيقة الإيمان... وما يُظَنّ أمام الكثيرين أن البشرية محكوم
عليها بأوضاع حرب قاسية، تنبئ بتدمير البلدان وتهجير شعوبها
وتقسيمها إلى دويلات وأقاليم من أجل سهر الليالي للبلدان القوية
والمخطِّطة لمناداة في حقوق الإنسان وتبرئتهم لقتل الآخرين دون وجه
حق، أو إتهامهم دون ردع ضمير، عبر الحقد والكراهية، عبر الغيرة
والبغضاء، عبر الغش والرياء، عبر كبرياء العبادة وصور مزيفة لمسيرة
أقدامهم في عدم مقاسمة الآخر حياته وعيشه من أجل مصالح قبل كل شيء
حتى لو كانت الوسيلة تدمير ما خلقه الله وعصيان ما أوصى به الحجر
والكتاب (لو 20:18)، لنبقى خاضعين دون ريب على إستمرار كابوس يفجّر
عدواناً، ويشعل حروباً ما بين ليلة وضحاها، أمام أنظار كبار الدنيا
وسلاطين الكراسي، وفي ذلك يكون الصمت رسالة ورجاء، واختصرنا
مسيرتنا بأنْ قرأنا السلام على مستقبل البشرية، لأننا أهنّا
واحتقرنا عمل الله في الكون.
والخوف...
وجاءت الديمقراطية وأكيداً مزيفة... تحمل عنواناً كبيراً في يافطة
العالم وأمام عيون الفقراء والمهمشين، كون الأغنياء والكبار قد
ملئوا _ وإنْ زيفاً _ جعبهم وما هم بحاجة إليه، وما ذلك إلا وهمٌ
كونهم في الحقيقة قد إبتعدوا عن محبة الحياة وحقيقتها، بل
الديمقراطية يجدها الفقراء _ بل يصوّروها لهم _ بأنها لأجلهم وُجدت
وخُلقت، وما عليهم إلا أن يكونوا خرافاً أمام مذابح التقادم
المضلِّلة (لو15:16)... في ذلك يُسكتون الأصوات الحُرة، ويقولون
أنهم يدافعون عن الحقيقة والبراءة، أو يقولون أن البسطاء لا
يدافعون عن أنفسهم بل يسكتون أمام ثرثرة المايكروفون، وإن سلاحهم
صمتٌ... والصمت أبلغ الكلام... في مثل هكذا مواقف _ وإنْ كانت
الصلاة مزعجة لهم _ فهي طريق الحقيقة، كون الملائكة يدافعون عن
الفضيلة، فمن المؤسف أن لا تجد هناك آذاناً صاغية ولم تعد تهزّ هذه
الإيمانوغرافية المسيحية المتراجعة بشكل ملموس حتى الوجدان المسيحي
الأوروبي إلا القلّة الشاهدة لمسيح الحقيقة ولبراءة طفل المغارة
(لو12:1)، عكس الذين يرون أن الخوف هو الحل، فيفضّلون الهرب وعدم
مقاسمة العيش المشترك كي لا تتلوث أفكارهم ومسيرة حياتهم بحقيقة
الحياة، وهم في الحقيقة لَفي ضلال أكيد، فيتجسد الخوف بسبب تأجج
هذه الظواهر الدينية المتطرفة.
السينودس... نقطة إنطلاق
أمام كل هذه المشاهد المؤلمة هناك صوت الحق... بل صوت الإنجيل...
بل صوت ألوف من الشهداء... بل صوت الرجاء... صوت الكنيسة عبر
رجالها العِظام والقديسين... صوت قداسة البابا، حامل الإيمان في
أوانٍ خزفية (2كو 7:4) في بطولة من أجل إعلان حقيقة المسيح والتي
إليها إنضمّ كثيرون... معلناً أن الكنيسة تسير معاً من أجل هدف
واحد... فكانت دعوته من أجل إنعقاد سينودس كنائس الشرق الأوسط
للفترة من 10-24/10/2010 تحت عنوان "وكانوا كلهم قلباً واحداً
ونفساً واحدة" (أع 32:4)... وكان السينودس... لقد كان محطة
إيمانية... فرصة مقدسة... بل زمن نعمة، كما قال قداسة البابا
بندكتس السادس عشر في عِظَة إفتتاح أعمال السينودس... "زمن نعمة
يمكن أن تتجدد فيه طريق الكنيسة ونعمة العَنصرة"... لكي تلملم ما
تبقى لنا وفينا، لنجد أين أصبحنا وإلى أين نحن سائرون، فهو يوصينا
(توصية رقم 5)، بل ينبغي علينا، أن نلفت إنتباه العالم بأسره إلى
الوضع المأسوي الذي تعاني منه بعض الجماعات المسيحية في الشرق
الأوسط والتي تتحمل أنواع الصعوبات التي تصل أحياناً إلى حدّ
الإستشهاد، وإن كنا نؤمن بأن الإضطهاد لابدّ أن يوقظ ضمائر
المسيحيين في العالم، في سبيل المزيد من التضامن، وأن يدفع إلى
إلتزام المطالبة بتطبيق القانون الدولي ودعمه واحترام جميع الأشخاص
والشعوب، فالمسيحيون جزء لا يتجزأ من وطنهم ومجتمعاتهم، وهمومهم هي
هموم كل المسيحيين.
فإن كان السينودس نقطة إنطلاق، فالإنطلاق مسؤولية كل رجال
الكنيسة... وإن كان السينودس مسؤولية، فلا يجوز أن نبقى واقفين في
أماكننا نراوح دون هدف، خائفين من الذي يحدث ومن الآتي (متى3:24)،
بل بالعكس يجب أن نؤمن في تفعيل القوة الذاتية في ما وهبه الله
كطاقة روحية لأجل الحياة المشتركة "فالله أفاض روحه في قلوبنا" (رو
5:5).
نعم، إن بلداننا تعيش مرحلة شديدة الخطورة والتوتر، ولابدّ في ذلك
من تضامن من أجل مواجهتها، وهذا عنصر جوهري من حضورنا ورسالتنا،
وعبرهما نحمل المودّة والوحدة كوسيلة تمكّننا من إستعادة حريتنا
والثبات في كنائسنا... فالحياة رسالة بين الخوف والرجاء... نحمل
الغفران ونحمل الرجاء... والغفران والرجاء يتطلبان الكثير من
الشجاعة ونسيان الذات كي لا تضيع فرصة السماء التي وُهبت في أن
نكون فَعَلَة في كرم الإيمان (متى12:20)، لأجل حصاد وفير (متى38:9).
نعم، إن إيماننا إرتوى بدماء الشهداء، فأصبح نوراً ورجاءً لكل
العالم عبر القيامة والعَنصرة... إنه إيمان سماوي يقوم على المغفرة
والصفح "لا تعطوا مكاناً للتعصب، لأنه مكتوب لي النقمة، وأنا
أجازي، يقول الرب"... "إنْ جاع عدوّكَ فأطعمه، وإنْ عطش فاسقه"
(روم17:12-21).
السينودس... من أجلنا كلنا
إنْ كان السينودس قيامة وعَنصرة جديدة، بل عَنصرة الألف الثالث _
كما قلتُها في مقالات سابقة _ مليئاً بأنوار قدسية... فهو يدعونا
اليوم إلى إعادة تبشير الذات وعيش الإيمان في الشهادة... وما سنة
الإيمان التي أعلنها قداسة البابا هذا العام... علامة الوحدة
"وكانوا كلهم بقلب واحد ونفس واحدة" (أع 32:4)... لا يجوز أن نكون
غير مبالين لِمَا يجري حولنا ومن أجلنا، بل وحتى ضدنا. فقداسته
يدعونا لنشاركه الكلمة والحياة، لنتعلم أن نكون أمناء لجرن عماذنا
ووسم كهنوتنا، وأوفياء لكلمة عقيدتنا... فالسينودس هو من أجلنا
كلنا: أساقفة وكهنة ومكرَّسين ومؤمنين... يدعونا ويشجّعنا كي نظلّ
متجذّرين في أرض أجدادنا كي نتابع باختيارنا حياة الشهادة
والإستشهاد (البابا الطوباوي يوحنا بولس الثاني)... ما أجمله من
كلام، بل ما أغناه، بما يحمله من معانٍ... بل طوبى لِمَن يدرك
معناه... فالرسالة سامية كون السينودس ما هو إلا مخطط الله، وهو
يدعونا ويدعو كل المؤمنين في كل مكان إلى حمل رسالة المسيح أينما
كانوا، في ضيقاتهم واضطهاداتهم، مشجعة إياهم على عدم ترك أوطانهم
الأصلية، من أجل الشهادة للإيمان... الشهادة لدماء آبائنا الذين
ضحّوا من أجل أوطاننا... لتبقى دماء الأبرياء شهادة لمسيرة الحياة
والرجاء... وإذا ما مات الرجاء فينا _ لا سمح الله _ أو خاب كما
يقول مار بولس، فذلك يعني أن سينودس أساقفتنا ما كان إلا كتاباً
عديد الصفحات يذكره التاريخ حدثاً عابراً، فنضيع حينذاك في
المتاهات والأزقات الضيقة والزواريب الصعبة والزنكات المظلمة...
بينما قداسة البابا يدعونا لكي نتفاعل مع التوصيات من أجل تثبيت
وتقوية هويتنا المسيحية، فنرى الرؤية الواضحة عن معنى حضورنا
ووجودنا وتقاسمنا للحياة مع الأخوة، كون بعض منا "قادة لقطيع الله،
وواجبكم أن تكونوا رعاة أمناء يبذلون حياتهم من أجل الخراف"
(يو11:10). وبذل الحياة يعني سر البطولة الذي يحمله شهداء الحياة
وشهداء الدم "وتكونون لي شهوداً" (أع8:1)... فلا أحد يقول عن نفسه
"أنه غير مسؤول، ولا يمكن أن نعيش كما نريد فقط ، أو كيف ما كان
(البطريرك بشارة الراعي)، بل كل واحد منا مشروع إستبسال ورجاء
وإيمان من أجل الناس ومعهم. فالمستقبل بيد المؤمنين وليس
السياسيين"... والرسالة المسيحية الصادقة تُحمَل إلينا عبر كلمات
رسالة سماوية من عمق الأرض المرويّة بدماء الشهداء الذين سبقونا
إلى أعالي السماء، وتركوا لنا تاريخاً علينا أن نحياه.... و"طوبى
للمضطهدين من أجل البِرّ، لأنهم يرثون الأرض" (متى10:5).
الختام... شهادة المحبة... شهادة الحق
نعم، مشاركتنا في حمل صليب المسيح، تعني مشاركتنا في خلاص البشرية
بالمسيح يسوع. ورغم الألم يعلّمنا المسيح أن المسؤولية موهبة،
والموهبة تعني متابعة خطوات السينودس كون كل واحد منا مدعو لأن
يكون علامة إيقاظ الرجاء، وهي العلامة الأكيدة التي توحدنا جميعاً
من أجل مسيرة إيمانية، بل دعوة لنا كلنا لنساهم في رسم خارطة
الطريق التي تسير بنا نحو الخلاص في إعلان البشارة، كون الحياة
تقاس بالرسالة والهدف السامي وليس بالمردود المادي. فالبطريرك
بشارة الراعي يقول:"لا أريد أن نرى أنفسنا نُذبح كل يوم أمام مصالح
وسياسات دولية".
ختاماً نهيئ أنفسنا لاستقبال قداسة البابا بندكتس السادس عشر _
وإنْ روحياً _ ولنهيئ ضمائرنا، ولنفتح دفاتر مسيرة حياتنا، لنكتب
ما سيرسمه الإرشاد الرسولي لسينودس كنائس الشرق الأوسط، فنحمل شركة
الإيمان من أجل شهادة المحبة، بل شهادة الحق في مشرقنا العزيز،
فنكون بذلك رسل العهد الجديد بالسيرة والسلوك... بالشهادة
والإيمان... بالرجاء الأكيد في سينودس كنائس الشرق الأوسط.
اكبس هنا للأنتقال الى الصفحة الرئيسية للمونسنيور بيوس قاشا
|
|