بمناسبة الذكرى الثالثة لكارثة سيدة النجاة ملفُ وجودِنا .. وقِمَم العرب
في البدء الإنسانية حوار وحياة... إنها كلمة مسؤولة، هذه الكلمة المسؤولة قادتني إلى أن أطالع ميثاق جامعة الدول العربية وبنوده وأبوابه وفقراته وملحقاته المتعددة، وإنْ كان حباً في الإطلاع فهو إيمان بأن الجامعة العربية بيتنا الكبير نحن أبناء اليعربية، وما يجمعنا ما هو إلا لغة الضاد وعروبة المسيرة. فالجامعة _ كما أعلم _ تعمل مـــــــــافي وسعها لتكون خادمة للجماهير وللشعوب بمختلف أديانهم وبعديد معتقداتهم وانتماءاتهم عبر طوائفهم وأقلياتهم في المساواة وعيش المحبة والاحترام المتبادل. فالمسيح يسوع، عيسى الحي، يقول:"مَن كان فيكم كبيراً فليكن خادماً" (متى26:20)، وأيضاً "أحبّوا بعضكم بعضاً" (يو34:13)، "فالإنسان إمّا أخٌ لك في الدين وإمّا نظير لك في الخلق" (الإمام علي عليه السلام)، من المؤكد، وما الإنسان إلا الهدف والغاية للجامعة، فما يؤلمنا تداويه وما يفرّقنا تجمعه، وما يُبعدنا تطرده وما يضطهدنا تلاحقه. كلمة مشجعة في هذه الحالة المسؤولة، ومن إيماني بإنسانيتي وعروبتي ومسيحيتي بابن مريم، ولأننا نؤمن بكتب أوحى بها الله إلى رسله الأطهار وأخرى أنزلها على أصفيائه المختارين، أردتُ في هذه الكلمة أنْ أداوي جرحي بوصفة الجامعة الطبية وميثاقها، وأن أدغدغه ومهامها طارقاً عدداً من أبوابه ومعلِّقاً على العديد من فقراته انطلاقاً من الرسالة السامية التي تُعرف بها الجامعة وتحملها عبر مسارات الحياة وطرق العرب في بلدانهم المختلفة، وعبر زواياها الاجتماعية والإنسانية والحوارية والعيش المشترك، كي أكون حقيقة لصوت مجتمعنا العربي المسيحي ليس عبر الأثير ولكن من أجل قضية الوطن، والمواطن العربي والمسيحي، المواطن المخلص لبلده وإنسانيته وانتمائه والذي ينشد العيش المشترك والحوار الصادق منتظراً عبر كلمة الجامعة المشجعة وميثاقها واجتماعاتها الدورية أن يكون له ملء الحقوق في العبادة والإيمان، في الضمير والحياة، دون نقص أو تنقيص، بل في المساواة وإنْ اختلفت دياناتهم وعقائدهم وانتماءاتهم ليس إلا. ميثاق ومسيرة وقبل كل مقام لابدّ من مقال، وهذا ما دعاني إلى أنْ أقرأ وأسجل على مسمع ومرأى من قرّاء الكلمة الأحبة فقرات من نصوص لميثاق الجامعة العربية. وتتضمن كلماتها أبلغ المعاني بل ولا أبلغ. · ففي الملحق (28) من مشروع تعديل ميثاق جامعة الدول العربية ما نصه: إدراكاً منهم (أعضاء الجامعة العربية) لواقع الوطن العربي وتعزيزاً لمكانته الحضارية وإمكاناته البشرية والمادية ولأهمية دوره في الإسهام في تقدم الحضارة الإنسانية وفي الحفاظ على السلم. · المادة (1) (فقرة 2): السهر على أن تضمن الدول العربية سلامة الإنسان في الوطن العربي وحقوقه بأشكالها كافة وتمكينه من ممارسة حرياته الأساسية لتحقيق مجتمع عربي يقوم على الديمقراطية والمساواة والعدالة الاجتماعية. الفقرة (5): دعم السلم والأمن الدوليين والعمل على إقامة نظام دولي جديد يُبنى على الحرية والعدل والمساواة وفق مبادئ الأمم المتحدة. · المادة (2): تحقيقاً للأهداف المبينة في المادة الأولى: فقرة (1): تعتبر الجامعة وأعضاؤها الإنسان غاية كل عمل سياسي واقتصادي واجتماعي، وإنه العنصر الأساسي في تحقيق كل تقدم حضاري. (فقرة 6): تلتزم الدول الأعضاء بتسوية النزاعات بينها بالطرق السلمية وبالعمل على حلها في نطاق الجامعة. مَن.. ومَن.. ومَن! هذا، وحسب علمي المتواضع وإدراكي الفقير والمحدود، كان يجب أن يكون إستهلالاً كي أقول: مَن منا لا يذكر ما حلّ بمسيحيي العراق كما بمسلميه وشعبه منذ الاحتلال عام 2003 وحتى الساعة، لا يزال الإنسان يعاني ويقاسي مأساة الحياة والوجود والبقاء، ولا زال الموت الإرهابي يحصد أرواح الأبرياء (الإنسان) في الجوامع والمساجد والكنائس والمعابد، في التجمعات الشبابية، في الفواتح الاحترامية، في صفوف الطلبة وساحات المدارس، والمقاهي، والحدائق، ولم ينجو أحد من هذا الإرهاب المميت. والسؤال يبقى غامضاً: مَن وراء ذلك، مَن يخطط له، مَن يسنده، مَن ومَن ومَن...؟، هذا كله جعل شعبنا المسيحي ومؤمني كنائسنا، أصلاء الوطن وأصيلي الجذور، يغادرون ويرحلون جماعاتٍ ووحدانا، عوائل وأفراداً. كارثة ومآسي ولما حلّت كارثة كنيسة سيدة النجاة، والهجوم على المصلّين الأبرياء مساء الأحد، الحادي والثلاثين من شهر تشرين الأول (أكتوبر) عام 2010، ووصفتُها حينها في مقال بأنها كارثة أودت بحياة الأبرياء وقصمت ظهر وجودنا، فقد فتحت أبواب الهجرة والرحيل على مصراعيها، وبدأ الرحيل والترحيل إضافة إلى الهجرة والتهجير الطوعي والقسري، ليس في قلب الوطن ولكن حتى جهاته الأربعة وأصبحت تنشد الغاية ومن كل حدب وصوب، من الشمال كما في وسط البلاد وجنوبه، من مدنه وقراه، من شرائح مختلفة ومتعددة، ومَلَكَ الخوف قلوبهم فباعوا ممتلكاتهم بثمن لغاية التجّار وربما هكذا أرادوا لها، وفُتحت آفاقُ الرحيل عبر المحيطات البعيدة والبحار القريبة، كما ملئوا بلدان الأعراب منتظرين أمام أبواب الأمم الإنسانية أياماً وربما أشهراً وأحياناً سنيناً كي تمحى هوياتهم وتقطع انتماءاتهم من ترابهم الأصيل الذي لم يعد يحبهم، ومن جيرانهم الذين أصبحوا لهم أعداء المسيرة. نعم بعد كارثة كنيسة سيدة النجاة، حلّت مآسي الهجوم على بيوت المسيحيين في كل حيّ وشارع ومحلّة، من العاصمة الأبيّة بغداد السلام. وانتقل بعدها مخاض الألم من الرافدين إلى النيل إلى الهجوم على كنيسة القديسَيْن في مصر الفراعنة، والشعار واحد والصوت واحد والنيّة واحدة أنْ ارحلوا، أنتم كفّار المسيرة والإيمان، وما إلى ذلك من نداءات مقيتة ومميتة. وما هذا إلا محو الإنسانية من القلوب وشطب الآخر من الوجود بدعوة وبتفويض من رب الوجود، ويا للأسف، ليس لِمَا حصل وما يحصل وما سيكون ولكن للعقول والقلوب التي نست دماءها وعملية نبضها لتكون الحياة، وما الحياة إلا نعمة الخالق وليس فتوى العابد كي نكون له مطيعين. زيارة وتصريح أمام هذا كله، كانت زيارة الرئيس عمرو موسى الأمين العام للجامعة العربية في التاسع من كانون الثاني (يناير) عام 2011 إلى العراق الحبيب والعاصمة بغداد، والتقى حينها بكبار البلاد الرسميين، كما قام بزيارة خاطفة وسريعة إلى كنيسة سيدة النجاة وجولة في صحن الكنيسة المقدس وشاهدَ ما شاهدَ... دماءً، دماراً، آثارَ حريق، آثارَ تفجير، بل تفجيراتٍ. كلُّ شيء وكلُّ غرض، وكلُّ خطوة تنادي "هنا كان الإجرام، ومن هنا مرّ الإرهاب، وهنا قُتل الشهداء، وهنا سقط الأبرياء"، و.. و.. ، وببادرة إنسانية دبلوماسية، ربما سياسية، عقد سيادتُه _ وبعد لقائه قادة كنائسنا الموقرين _ مؤتمراً صحفياً قال فيه: إن زيارته إلى كنيسة سيدة النجاة هو لتقديم العزاء لأُسَر الضحايا الذين سقطوا في الهجوم الإرهابي الذي استهدف قبل أكثر من شهرين، مؤكداً أن المسلمين والمسيحيين أخوة عاشوا وسيعيشون مع بعضهم البعض... كما أكد أن المسيحيين جزء لا يتجزأ من النسيج العربي المشترك، مشيراً إلى ما حصل من استهداف للكنائس، كان مصدرَ قلق لنا جميعاً، داعياً الدول العربية إلى تحمّل مسؤولياتٍ مواطنيها كي تقطع الطريق على تدخل الغير في شؤونها الداخلية. كما أضاف الرئيس موسى: إن الأيام المقبلة ستكون أفضل للجميع، "نحن أخوة عشنا سوياً وسنبقى سوياً، وهذه الجريمة استثناء، والقادم هو بالتأكيد سيكون الأفضل...". كما أعرب عن أسفه لِمَا يتعرض له المسيحيون من هجمات إرهابية تستهدفهم في المنطقة العربية، وتعهد الأمين العام للجامعة العربية بدعم المسيحيين والوقوف بقوة ضد ما يتعرضون له من شرور بحسب قوله، كما أكد الرئيس موسى لقادة الطوائف المسيحية في العراق، إنه سيعرض قضية المسيحيين وتهديد أمنهم على القمة العربية المقبلة في الأسبوع المقبل في شرم الشيخ (حينها 2011) لحلّ هذا الأمر، مشدداً على أن موقف كبار الكنيسة يجب أن يدعم بقاء المسيحيين في أوطانهم العربية وعدم الانصياع وراء دعوات التهجير التي فتحتها بعض دول أوروبا. هذا وكان من بين الحاضرين نيافة الكاردينال عمانوئيل الثالث دلي بطريرك بابل على الكلدان والسفير البابوي المونسنيور جورجيو لنغوا والسادة أساقفة الكنائس وعدد من الآباء الكهنة والرسميين وبحضور بعض أهالي الشهداء والجرحى الذين لم يكونوا بعدُ قد رحلوا وهاجروا... أمام هؤلاء كلهم ناشدتُ بصوتي الضعيف وبمساعدة الحاضرين، وانطلاقاً من حبنا لوطننا ولقضيتنا، مطالبين الأمين العام للجامعة العربية الرئيس عمرو موسى بتضمين جدول أعمال القمة العربية المزمع عقدها في الأيام الآتية (حينها) قضية استهداف المسيحيين ووضع الحلول المناسبة، عملاً بما جاء في (الفقرة 2، مادة 1)، وأن يكون هناك خطوات واضحة من قبل الدول العربية لمساندة المسيحيين في الشرق الأوسط. وقد تفاءلتُ وآخرين خيراً لأن القضية أتت على لسان سيادته في تصريحه قبل أن تكون مطلباً ملحّاً من جميع الحاضرين ولكن... ثلاث سنوات وهاهي كنيسة العراق تحتفل في الحادي والثلاثين من هذا الشهر تشرين الاول (أكتوبر) 2013 بالذكرى الثالثة للكارثة والتي كنا فيها شهوداً حقيقيين لِمَا حلّ ولِمَا حصل، فرحمة العلياء للذين استشهدوا والشكر لرب السماء مانح جرحاها الشفاء. وما يؤلمني _ ونحن في هذه الذكرى _ أن لا أجد أحداً من آل الشهداء والجرحى وأقربائهم إلا النزر اليسير اليسير في أرض الشهادة كي يحكوا القصة وواقعها ومداها لأجيالنا الصاعدة. فاليوم تجّار كثيرون يتاجرون بآلام البشر، مؤمنون ودنيويون، والتاريخ لم ولن يكتب لهم موقفاً في الحدث، أو حقيقة في مسيرة الألم، وإن رفعوا أصواتهم كبرياءً وصخباً، فقد أخذوا أجرهم قبل حلولها، وما ذلك إلا مصالح أنانية ضيقة الإطار ليسوّقوا طِباعهم ومصالحهم، وقساوة قلوبهم، ويعلنوا سلطتهم وشراكتهم وتضامنهم، ويحسّنوا صورهم بأن الله أرسلهم. فالحقيقة ليست في ذلك لأنها مسيرة مزيَّفة، بل الحقيقة لِمَن كان بشخصه شاخصاً، وبعينيه ناظراً، وبعقله متأملاً، وبقلبه متالماً، وبأذنيه سامعاً ومصغياً إلى صوت الأنين والتكبير كما إلى صوت الإنفجارات والدمار والانتحار وما إلى ذلك. شهداء العراق أمام هذه الكارثة وأمام قبور شهداء العراق، مسلمين ومسيحيين وصابئة وايزيديين وشبك وديانات، مؤمنين وغير مؤمنين، أقف إجلالاً وأحني قامتي امتثالاً وأصلّي رحمةً وإيماناً في أن الحياة ليست في الدنيا، فهي زائلة، وإنما بما يقوله التاريخ، وما تسجله صفحاته، وسأبقى أشعل شموعاً، إيفاءً وحباً وأيقونةً لأولئك الذين باسمهم سُجّل العراق... ولولا دماء الشهداء ما كان للحياة نسمة خضراء، ولا للمسيرة أمل ورجاء، ولكن ويا للأسف، فلا دماء ، بل رحلة في عبور البحار والفيحاء، بحقائب لا تنفع حتى للنزلاء، والعذراء تسأل: أين الدماء؟، فكان الجواب من تحت السماء: لا منظر إلا ذكرى ، فلا عيون ولا ناظرون ، فلا المارّة يمرّون ولا عابري السبيل يسألون، فلا تاريخ ولا دعاء. ولم يبقى إلا أناس يتذكرون ، فنحن لم نخلق للذكرى بل خُلقنا كي نحمل الدماء رسالة لنا نحو السماء ، لنحيا إيماننا ونرشد أجيالنا كي لا نكون فقط لهم أوصياء بل نحن محبين وأولياء وفي ذلك نكون أوفياء . مرّت سنوات ثلاث، ومرّت سنوها وأيامها وساعاتها، مرّت بمخاوفها ومآسيها، وغادَرَنا العديد، وفارَقَنا المزيد، ولكن أعود فأقول إلى سيادة الرئيس عمرو موسى السامي الاحترام والأمين العام (حينها): ما أجمل ما وُعدنا به، وما أغناه ما نُثر على الحاضرين حينها برداً وسلاماً بقوله إنه سيعرض قضية المسيحيين ووجودهم وتهديد أمنهم على أصحاب المعالي والسيادة في قمّة عربية. في ثلاث سنوات عُقدت ثلاث قِمَم: فالأولى عُقدت في شرم الشيخ 2011، وها قد رحلت. والثانية في بغداد السلام والمحبة 2012، خُتمت ودخلت التاريخ. والثالثة في الدوحة 2013 ، ولا زالت تعزّ علينا أيامُها. فماذا لو أُدرج ملف وضع المسيحيين خصوصاً والأقليات عموماً في أعمال هذه القمم الثلاث!، وماذا لو أُدرجت على أعمال قمة بغداد لدراسة وضع المسيحيين في العراق ووضع المسيحيين والأقليات حيث الأقوياء يأخذون حقوقهم والأصلاء يُبعَدون عن أرضهم ودون حق، ومنذ عام 2003 وحتى قمة الدوحة 2013، عُقدت اجتماعات عديدة للجان الجامعة العربية ومجالسها المختلفة. والرئيس عمرو موسى، وتدعو له بالموفقية، انتقل من قيادة الجامعة ليدخل عالم السياسة من باب الوطن الأصيل مصر القبط والفراعنة، فالشهرة والسمعة والعمل الدبلوماسي كلها عوامل وأعمدة للمسيرة الجديدة، ولا زال المسيحيون في العراق ينتظرون تحقيق العهود والوعود والوفاء بها وانعقاد القمة، وينتظرون قائلين: متى يوضع ملفّنا على مناضد الاجتماع؟، ومتى يكون للجامعة وقتاً مستَقطَعاً من أجل مسيحيي الشرق عامة والعراق ومصر وسوريا خاصة؟، فالله سبحانه قد أكمل خليقة الكون وما فيه في ستة أيام وفي "اليوم السابع استراح الله من جميع ما عمله" (تك 2:2)، ففي ذلك تم ملء الزمان (عب 4:4)، وكان حب الله متجسداً في الإنسان الذي خُلق على صورته ومثاله (تك26:1). نعم، ولا زلنا ننتظر ملء الزمان ليكون الأمثل، وهل سيكتمل الآتي، وهل هناك غير الأيام السبعة في أجندة الجامعة ربما، أم ننتظر رحيل البقية الباقية وتهجيرهم، وهو الذي قال (سيادته): إن الأيام القادمة ستكون أفضل؟ والعكس كان صحيحاً. فحتى الساعة نئنّ ونتألم ونقف على أبواب الغرباء فهم لنا دواء وإنْ كانوا أعداء، وهذا لم يره أحد ولا شاء ولكن للدنيا أحكام وأقدار وجلاء. نعم، بعد سيدة النجاة كانت عاصفة الهجوم على بيوت المسيحيين، ثم انتقلت عدوى الإرهاب إلى مصر القبط والفراعنة، الأصلاء وآل البيت، ثم رحلت نحو سوريا، واستمر مسلسل اغتيال المسيحيين وتهديدهم وتخويفهم وتدمير حضارتهم وشطب حتى ذكراهم، ولا زال المؤمنون يسألون: مَن قتل المطران فرج رحو؟، مَن قتل الآباء رغيد وبولس ويوسف؟، مَن خطف مطرانَي حلب إبراهيم واليازجي؟، وآباء آخرين... وأيضاً مَن أحرق الكنائس والكتب المقدسة و... و...، وستبقى "مَن" هي الأميرة السائدة، والقائد الأوحد، وسؤالاً لا جواب له في قاموس المحيط أو الجامع كما في منجد العرب الشهير، كما ولا زالت الجامعة تفتح أبواباً بِقِمَمِها من حينها، حتى اليوم، كما لا زال المسيحيون ينتظرون ملفّاتهم، فلعلّ الرقم قد غُيّر والتاريخ قد بُدّل، فلا الصادر ولا الوارد يعطي الجواب، وسيبقى الملف موضوعاً لا يؤخذ وارده ولا يصدر منه قراراً، فالأفضل الآتي ما هو إلا ملف بلا ترقيم وبلا تاريخ. وهنا لابدّ من إبداء الشكر للرؤساء ذوي الإرادة الصالحة في أنهم وضعوا أنفسهم لدراسة وضع المسيحيين أو افتتاح كنائس في بلدانهم تقديراً واحتراماً لمؤمني مسيحيي الشرق ولرسالتهم السماوية . البابا في أوطان العرب تألّم البابا بندكتس السادس عشر لما رأى ما يحلّ بمؤمني كنائس الشرق الأوسط، فحمل مآسيهم وغيرهم في ضميره، وفكّر في قلبه، وأحبّ حتى النهاية، ولما أدرك قداسته تخوّفه من أن تفقد الكنيسة ثبات وجودها وعمق هويتها وأصالة إيمانها ونزوح أولادها وفقر مؤمنيها، فكان أن أعلن عن دعوته لإنعقاد سينودس خاص بكنائس الشرق الأوسط من أكتوبر (تشرين الأول 10-24/2010). وفي هذا أصاب قداسته المعضلة في عمقها وقوة مركزها، وأدرك _ وأكيداً بقوة الروح القدس _ أنه لابدّ من سينودس يدعو الكنيسة إلى تعميق مفهوم الشركة ورسالتها في الشهادة مع الكنيسة الكاثوليكية الأمّ، وكذلك مع الكنائس الأخرى على قول بولس الرسول:"إذا تألم عضو..." (1كو 26:12). نعم، إن قداسة البابا أدرك جيداً _ ومعه الكنيسة ورجالاتها _ بأن المسيحيين يتعرضون إلى مستقبل وجودهم في هذه أوطان العرب، مما حدا به أن يجعل من الإرشاد الرسولي عاملاً على تثبيتهم في عيشهم، وتشجيعهم على الاندماج في مجتمعاتهم، ليكونوا في عيش مشترك جامع في لبنان والعراق ومصر وسوريا وفي كل أنحاء الشرق الأوسط بكامله... فهذه المواقف وغيرها لا تزال الصوت، والضمير المسيحي الحقيقي الصادق والنقي، الذي لا يحمل إلا صفات الحبّة التي ماتت حباً كي تكون شاهدة لحقيقة الحياة وليس للأطماع الفاسدة في المنطقة ونهب خيراتها وتحقيق مصالحها الأنانية والذاتية. حكّامنا وطاعتنا نعم، نحن المسيحيون نكنّ الاحترام الكبير والواجب لكبار جامعتنا، وهذا الاحترام الكبير يوصينا به إيماننا والبابا فرنسيس ، بأنْ نصلّي من أجل حكّامنا والمسلَّطين علينا لأن سلطتهم هي من الله "لتخضع كل نفس للسلاطين الفائقة لانه ليس سلطان الا من الله " (رو 1:13). نعم، نحني قاماتنا لله عبادةً، ولهم احتراماً وخضوعاً وطاعةً ومحبةً. وربما هذا من جانب، ومن جانب آخر في هذه الفترة التي مرّت أكثر من ثلاث سنوات، التقى رؤساء كنائسنا سوية عبر مؤتمرات ولجان عمل ولا زالت الكنيسة تحمل نيرها لوحدها من أجل تقوية ذراع الحوار المشترك، من أجل زرع بذرة حوار الحياة، من أجل إقامة جسور توافق والعبور بكل أمانة إلى الحياة الفضلى، من أجل هدم الفواصل والعوازل. فالأرض أعطاها (منحها، سلّمها) الله في خلقه لجميع الناس على حدٍّ سواء "أنموا واكثروا وأملاوا الارض وأخضعوها" (تك 28:1)، وكل ذلك لتُعرف العالم، كي تتحمل المنظمة الأممية والجامعة العربية مسؤولياتهما تجاه هذه الشريحة الأصيلة التي ابتليت بالفتاوى والتهم وبأقوال التصغير، وما هذا إلا اضطهاد واضحً وإنْ كان خفيّاً أحياناً... وهنا لابدّ من ذكر بعض الرؤساء الساميي الاحترام في عقد بعض لقاءات ومؤتمرات في هذا الصدد. نعم، عملت الكنيسة عبر رؤسائها ما يجب أن يكون، ولكن هل اليد الواحدة تصفّق لما يجب؟... نعم، إنها تصفّق رائعاً إذا كانت يد الله هي اليد الأخرى، لذا فالكنيسة تنتظر من الجامعة وأعضائها يد العون والمساعدة، يد الصوت والكلمة، مدّ يد الشجاعة وإقرار الحقيقة. فالمسيحيون الأصلاء يستحقون كل ثناء لِمَا قاموا به في جعل بلدانهم مواطن الحضارة والثقافة والبناء بكل إخلاص وتفانٍ، وما كلمات وتصريحاتُ وبياناتُ رؤساءنا الأجلاء أمثال الكاردينال بشارة الراعي والبطريرك يونان السرياني الأنطاكي والبطريرك ساكو الكلداني البابلي وغريغوريوس لحّام وآخرين ما هي إلا أصوات المحبة والحوار والتعايش. وأظن من حقيقة الحياة وعملاً بميثاق الجامعة الموقرة أن تدعى هذه الاصوات إلى مقر الجامعة مجتمعة، وللاجتماع بالرؤوساء والأعضاء ليقدموا شرحاً عن مسيرة المسيحيين في بلدانهم الشرق أوسطية والتي يعتزون بها ومن أجلها ضحّوا بحياتهم ومن أجل بناء بلدانهم، وذلك من أجل ترسيخ أسس التعايش السلمي وما أجملها من أمنية. وكما أظن من أجل ذلك كانت الجامعة، ، فكم أتمنى إصدار بيان خاص يدعو الجميع إلى تقاسم حب الوطن وكلٌّ ينال حقوقه عملاً بواجباته في المساواة. وشكراً لحكامنا الاجلاء ، ولرؤوسائنا المغبوطين ، في قممنا العربية ، للعمل من أجل ملف المسيحيين ووجودهم وما ذلك إلا راية نحملها لنعلن للناس وشعوب العالم بتكاتف الأديان السماوية عبر الكتب المقدسة والموحى بها والمنزلة، إنها رسالة ولا أجمل. لازلنا ننتظر ونحن الصغار من مكاننا نصلّي لمسيرة الكنيسة ونجاحها، ولا زلنا ننتظر جامعتنا وأفعالها وحقيقة وجودها، ننتظر أن نسمع صوتها عبر ملفّاتنا كي نبطّل قول "متى وأين"، ولسبع مرات... هل في ذلك نيات داكنة في الصورة التي تحملها الجامعة في أن لا نكون؟، هل في ذلك رسالة أو مخطط للرحيل، ؟... فالجامعة بأعضائها وربما بسبب ظروف شرقنا الأليمة يظهر أن لا مجال لها لدراسة ملف المسيحيين واضطهادهم، والفتاوى التي تصدر بحقهم من أشخاص يكفّرونهم متى شاءوا وكأنهم أقيموا حكّاماً عليهم. فأين الحرية الخاصة واين حرية العمل والإيمان والضمير؟ (فقرة 2و5 من المادة 1)... أليس الإنسان غاية؟، أليس هو العنصر الأساسي لتحقيق كل تقدم حضاري؟، أين المساواة والعدالة والديمقراطية (فقرة 2 مادة 1)؟، أين المساواة والحرية والعدل (فقرة 5)؟، فنحن لن نرضى أن نكون حُملاناً لإبراهيم في وقت منع الله إبراهيم أن يقدم ابنه ضحية، فكان الحَمَل "الخروف كبشاً" بدلاً، وإلا ماذا تعني الفتاوى أحياناً بتقديم مشروع القانون الذي يهدف إلى التضييق على بناء الكنائس أو هدمها أو أي مبانٍ دينية ، أو تدمير جميع الكنائس الموجودة في بلاد العرب، أو بعدم إلقاء التحية والتهنئة... أليس العيد ساعة الله في قلوبنا؟، أليس العيد عيد الحياة وفرح السماء. ماذا يعني صدور فتاوى من هذا النوع في زمن يتجه العالم نحو إقرار قانون الحريات وحق العبادة للجميع والضمير؟... فَهَدْم الكنائس لا يعني إلا هدم الآخر وقتله، فلم أسمع يوماً أن الكنائس كانت سبباً للدمار والهلاك والقتال، ولكن ما هي إلا بيوت الصلاة والدعاء وحمل رسالة الخلاص والمحبة وبشارة الحياة، وأبواب الكنائس مفتوحة للجميع أنْ يدخلوا ويصلّوا ويسمعوا ويشاركوا. فالكنائس تجمع المؤمنين باسم المسيح، وإنْ كانت لهم، فهي بيوت لجميع الناس للصلاة باسم عيسى الحي، يسوع المسيح. والذي علّمنا أن "اذهبوا إلى العالم كله ..." (متى 24). فلماذا التعصب ولماذا التحريض على القتل، ولماذا خلق مآسي؟، فالفتاوى المحرِّضة على القتل لا تُحمَد عقباها، وما هي إلا انحدار أخلاقي ونزول إلى الهاوية، والله أوصى بعدم القتل "ومن أجل ذلك... فمَن قتل نفساً بغير نفسٍ أو فسادٍ في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً، ومَن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً" (القرآن الكريم: سورة المائدة: 32).
الإرشاد الرسولي الإرشاد الرسولي خارطة طريق لسكان ومواطني الشرق الأوسط، ومن الفقرات المهمة التي تضمنها: فقرة 24: يتقاسم المسيحيون مع المسلمين الحياة اليومية نفسها في الشرق الأوسط حيث وجودهم ليس عرضياً أو حديثاً إنما تاريخي. فقرة 21: تنظر الكنيسة الكاثوليكية إلى المسلمين بأعين التقدير، أولئك الذين يعبدون الله خصوصاً بواسطة الصلاة والزكاة والصيام. فقرة 28: يعيش المسيحيون الشرق أوسطيون منذ قرون الحوار الإسلامي _ المسيحي. إنه بالنسبة لهم حوار عبر الحياة اليومية ومن خلالها، ويدركون غنى الحوار وحدوده. فقرة 12: الشهادة الأصيلة تتطلب الاعتراف بالآخر واحترامه والانفتاح على الحوار في الحقيقة. خاتمة ختاما ، نعم ، إن الحضور المسيحي في بلادنا اليعربية كان ولا يزال يشكّل تعبيراً واضحاً عن حقيقة الإنجيل المعاش عبر السلام والحوار، وما هذا إلا التزام الكنيسة من أجل قبول الآخر. فأهمية المسيحية ووجود المسيحيين في الشرق ودورهم، كتب عنه الكثيرون، وذاعت أنباؤه عبر قنوات وإذاعات سمعية وبصرية وحتى الكترونية لا تُحصى ولا تُعد، شهادة لإحقاق الحق وإنصاف الضعيف والبريء في مسيرة الحياة، ومعلنين أن على المسيحيين أن لا تُحبط عزيمتهم ولا تكلّ إرادتهم إذا ما صادفتهم عواتي الزمن، وقد أظهر ذلك جلياً قداسة البابا بندكتس السادس عشر حينما خاطب شريحة من الشباب في بكركي في الخامس عشر من أيلول 2012:"أعرف الصعوبات التي تعترضكم في حياتكم اليومية بسبب غياب الاستقرار والأمن... وفي عالم دائم الحركة تجدون أنفسكم أمام تحديات كثيرة وعسيرة... ورغم كل ذلك عليكم أن تكونوا كصنّاع لمستقبلكم ومستقبل بلادكم، وقوموا بدوركم في المجتمع وفي الكنيسة".وقبل أن اختم هذا المقال أنحني إجلالا ، لجميع العاملين من أجل الحياة ، في العيش المشترك، والمساواة ، وحرية الضمير، واحترام الآخر، ورافعا صلاتي لأجل ذلك ليس إلا ،والمقال هذا ، ما هو إلا شعوري الأيمانيي المسيحيي من أجل الغاية هذه، وهذا ما علّمنا إياه البابا فرنسيس الذي قال في قداسه اليومي في كابلة القديسة مرتا في السادس عشر من أيلول " سبتمبر 2013 ، "ان كاثوليكيًّا صالحًا لا يتدخل في السياسة؟ هذا خطأ. هذه ليست الطريق الأصحّ. بل ان الكاثوليكي الصالح يتدخل في السياسة ويقدّم أفضل ما عنده. حتى تتمكن الحكومة من الحكم. ولكن أفضل شيء يمكننا ان نقدمه للحكومة هو الصلاة.: "صلّوا لجميع الرجال، الملوك وجميع الحكام " (رو1:13) وقال أيضاً" مسيحيّ لايصليّ للحكام ليس بمسيحيّ صالح. لا يمكننا أن نحكم دون حبّ الشعب ودون تواضع "." نعم سنشهد لإيماننا وسندعو من إجل إيصال رسالة الحياة والمحبة بالمسيح يسوع وسنصلي من أجل حكامنا وما ذلك إلا إنجيلنا ، والرحمة من رب العلياء ، لشهدائنا الأبرار في بلداننا اليعربية ، مسلمين، ومسيحيين، وديانات ،. نعم وآمين
اكبس هنا للأنتقال الى الصفحة الرئيسية للمونسنيور بيوس قاشا
|
|