الكنيسة السريانية في الهند:
في مبادرة تضامنية مع الكنيسة الملنكارية للسريان لكاثوليك في
الهند، شارك وفد كبير من إبرشيات مختلفة للكنيسة
االسريانيةالأنطاكية الكاثوليكية من لبنان وسوريا والعراق، للفترة
من 22- 29 كانون ثاني 2012. ترأس الوفد، غبطة البطريرك مار يوسف
الثالث يونان، يرافقه عدد من السادة الأساقفة الأجلاء: مار
باسيليوس جرجس القس موسى، المعاون البطريركي،
وجهاد بطاح النائب البطريريكي لأبرشية
بيروت، ومار يوحنا بطرس موشي رئيس أساقفة الموصل وتوابعها للسريان
الكاثوليك، ومار أفرام يوسف عبا، رئيس أساقفة بغداد للسريان
الكاثوليك، ومار يعقوب بهنان هندو،
رئيس أساقفة الجزيرة ونصيبين، ومار رابولا أنطوان بيلوني، النائب
البطريكي السابق، مع عدد من الكهنة والرهبان والراهبات
والعلمانيين. تضمن برنامج الزيارة، زيارة عدد من الكنائس السريانية
الكاثوليكية للملنكار السريان في ولاية كيرالا الهندية ومعاهدها
الإكليريكية ومؤسساتها التربوية والكنسية والصحية والاجتماعية،
إضافة إلى زيارة عدد من الكنائس السريانية الأرثوذكسية
الشقيقة والسريان الملبار الكلدان الكاثوليك.
أولى المحطات كانت في مدينة "تريفاندروم"، عاصمة ولاية كيرالا، حيث
حطينا الرحال في مطارها يوم 23 كانون الثاني . كانت زيارتنا الأولى
لمقر الكاثوليكوس ما باسيليوس إقليميس في مركز الرعية الكبير الذي
تديره الرهبنتان: بنات مريم
وبيت عنيا. وبعد جولة في أروقة وقاعات المركز، أقام غبطة البطريرك
يوسف يونان بمعية الأساقفة والكهنة، قداسًا احتفاليًا بالمناسبة،
أشار فيه إلى أهمية االعلاقات التاريخية بين الكنيستين
السريانيتين: الأنطاكية والملنكارية. وقد اتحدت الكنيسة الملنكارية
بالكرسي الرسولي الروماني عام 1930، بجهود الكاثوليكوس مار
إيفانيوس الشهير (1953) الذي
أكمل مسيرته من بعده، كلٌ من الكاثوليكوس مار غريغوريوس (+
سنة 1994) ومار
ثيوفيلوس (2007). وأشار في معرض عظته بالقول: "أنتم الذين اعتمدتم
بالمسيح، المسيح قبلتم". بعدها كان اللقاء الحار مع الكاثوليكوس
باسيليوس إقليميس الذي أشاد بالزيارة التاريخية لوفد الكنيسة
السريانية الأنطاكية وتضامنها مع توأمها الكنيسة السريانية
الملنكارية في الهند. كما أشار إلى غنى الكنيستين بتراثهما
السرياني، الذي هو في ذات الوقت غنى للكنيسة الجامعة، إلى جانب
التراث الروماني والهندي. وعبر عن فخر كنيسته بالانتماء إلى
التقليد السرياني الذي اعتبره إحدى رئات الكنيسة الجامعة.
وفي جولة في المركز الذي يضمّ 15 لجنة راعوية لإدارة مختلف الأنشطة
الكنسية، اطلع الوفد الزائر على أنشطة هذه الكنيسةالعريقة الملتزمة
بتراثها السرياني بإيمان متين. وبحسب ما أفاد به الكاثوليكوس
باسيليوس الذي استضافنا على مأدبة غداء في مقر رئاسة الأسقفية، أن
الكنيسة الملنكارية ترحب بالزيارة الميمونة لغبطة البطريرك والوفد
المرافق له، القادم من الشرق السرياني، مذكرًا بلقاءات البطاركة
رحماني والكاردينال تبوني مع رئاسة الكنيسة الملنكارية، وجهود
البطريرك الكاردينال موسى داود حينما كان رئيسًا للمجمع الشرقي في
الكنيسة الرومانية في رفع الكنيسة الملنكارية للسريان الكاثوليك
إلى مرتبة كنيسة سينودسية عام 2005. وتثمينًا لهذا الدور تسمّت
إحدى قاعات المركز الرعوي باسم نيافته. كما تطرق الكاثوليكوس إلى
وجود معهدين أساسيين للتراث السرياني، أحدهما في أوكسفورد (لندن)
والآخر في مدينة كوتايام الهندية. وثمّن الزيارات الثلاث المتعاقبة
التي قام بها البطريرك يوسف الثالث يونان منذ تسنمه السدة
البطريركية، ويدلّ ذلك على العلاقة الوثيقة القائمة بين الكنيستين
الشقيقتين. علما بأن 12 اسقفا يلتفون حول
الكاثوليكوس الحالي مار
باسيليوس إقليميس، ويديرون 132 رعية تعدّ حوالي نصف مليون مؤمن،
ويخدمهم 127 كاهنًا، الى جانب الرهبان
و700 راهبة. كما تدير هذه الكنيسة عددًا من الكليات والمعاهد (طب،
صيدلة، طب أسنان وتمريض)، ويتخرج سنويًا
من جامعتها 100 طبيب وطبيبة في اختصاصات مختلفة و50 طبيب
أسنان و50 صيدليا وتمنح هذه المؤسسات 30 شهادة طبية عالية سنويًا.
هذا إلى جانب إدارة المركز الرعوي لأكبر مدرسة متكاملة في العالم
تضمّ 13 ألف طالب وطالبة من الأديان المختلفة
، بدءًا من الحضانة وحتى
التعليم الجامعي وهي مجانية يقبل بها الطلاب بموجب ضوابط محددة،
وتتولى الحكومة الهندية دفع معاشات المعلمين والأساتذة فقط.
بعدها، قام الوفد بزيارة المعهد الآكليريكي (السمنير) في مدينة
"كوشين"، واطلع على طبيعة دراسة التلاميذ فيه وعددهم 150 طالبا
يستعدون للكهنوت.
وتوجه الوفد يوم 24 كانون ثاني 2012، إلى مدينة "تيروفالا" التي
كانت حتى 1932 تابعة لأبرشية تريفاندروم. فزار الوفد الكاتدرائية
التي هي تحت اسم مار
يوحنا المعمدان والقديسة تيريزا الطفل يسوع ، التي لها قصة
عجائبية، حيث عندما امتنعت السلطات الهندية في وقتها عن السماح
للكاثوليكيوس ثيئوفيلوس ببناء هذه الكنيسة على أنقاض ثلاث كنائس
قبلها بسبب تقادمها، ذهب للحج إلى مدينة ليزيو وطلب شفاعة هذه
القديسة. وحالما عاد، كانت الأمور قد سهلت واستحصل رخصة بنائها،
وهي اليوم تقف شامخة بجمالها وروعة بنائها على الطراز الهنوسي. كما
زار الوفد،
الكابيلاّ القائمة تحت الكاتدرائية، وتحوي مدافن رؤساء الأساقفة
الثلاثة السالفين، وقد أضحت مزارات يتبرك بها المؤمنون. وعمر هذه
الأبرشية، 80 سنة. وقد لاحظنا وجود تقليد هندي لإشعال الشموع في
مدخل الكنائس التي يرتادها الجميع حفاة، من إكليروس ومؤمنين على
السواء.كما توجد كثافة مسيحية في هذه المدينة، من البروتستانت
والأرثوذكس والكاثوليك على التوالي حسب تسلسل كثافتهم. ثم زار
الوفد المدينة الطبية والمستشفى
التابعين لهذه الأبرشية، ويضم المستشفى 1200 سريرًا، بعد بداية
بسيطة كانت لا تتجاوز 5 أسرّة فقط
قبل 50 عامًا. والمستشفى يعمل بأسلوب التمويل الذاتي ويقدم
خدماته بأجور رمزية لجميع المواطنين الهنود دون استثناء، ويشرف
عليه 240 طبيبًا باختصاصات مختلفة وتخدمه 700 ممرضة، وفيه كنيسة
يقام فيها قداس يومي.
يوم 25كانون ثاني،انطلق الوفد لزيارة مدينة "موفاتوبوزو"، حيث
المناسبة التي قدمنا من أجلها إلى الهند، وهي تكريس كاتدرائيتها
الجديدة على اسم مار يوسف. وصاراستقبال شعبي وكنسي للوفد الزائر
على أصوات الطبول وأنغام الأبواق الهندية التقليدية. جرى احتفال
مهيب، وسط حضور لافت من إكليروس ومؤمنين، إلى جانب الوفد الزائر
المرافق لغبطة البطريرك الأنطاكي الذي ترأس الاحتفال إلى جانب
كاثوليكوس الملنكار مار باسيليوس إقليميس وأساقفة الكنيسة
المنكارية الأثني عشر12، ولفيف من كهنة الولاية والراهبات والرهبان
والتلاميذ وحشود من المؤمنين الذين تلمسنا فيهم الإيمان وطيبة
القلب والبساطة والانشراح لهذه الزيارة التضامنية من جانب إخوتهم
في الكنيسة السريانية الأنطاكية الكاثوليكية في هذا الحدث المهم.
وفي كلمة للبطريك الأنطاكي، مار يوسف الثالث يونان،
أكد غبطته على افتخار الكنيسة الأنطاكية بالشركة الكنسية التي تجمع
الكنيستين ذات التراث السرياني. كما نوّه غبطته إلى الشركة التي
تجمع الكنائس الكاثوليكية الثلاث ذات التراث السرياني مجتمعة، أي
الكنيسة المارونية والسريانية ألأنطاكية والملنكارية. وتضمن
الاحتفال مهيب في كابيلة تحت مبنى الكاتدرائية الجديدة.
بعد الظهر، تضمن برنامج الوفد زيارة اول كنيسة لاتينية كاثوليكية
في الهند، وقد حولها الإنكليز بعد احتلالهم للهند إلى كنيسة
انكليكانية، حيث تضم في ثناياها تابوت الرحالة المعروف "فاسكو دي
غاما"، الذي نقل رفاته فيما بعد إلى بلده البرتغال. ثم زار الوفد
معرضًا تاريخيًا لمهراجات الهند، ضم صورًا وأدوات كان يستخدمها
المهراجات تراتيل بالهندية والسريانية تعاقب عليها إكليروس
الكنيستين. ومما يجدر الأشارة اليه انه قد جرى ضمن هذا الاحتفال،
تكريم ذخائر القديس شربل المقدمة من قبل الكنيسة المارونية من
لبنان حملها الأب الرسام عبدو بدويي استاذ الفن المقدس في جامعة
الكسليك، وقد وضعت باحتفال في حياتهم.
في يوم 26 كانون ثاني 2012، أقيم قداس احتفالي في كاتدرائية مار
يوسف تم خلاله القسم
الثاني من حفل التكريس وقد شارك فيه لفيف من الأساقفة والكهنة
والرهبان والراهبات والمؤمنين الذين تقاطروا ليشهدوا هذا الحدث
الكبير ويعبروا. ورغم طول الكلمات والخطابات التي تلت الأحتفال
الكنسي كان المؤمنو ن في خشوع وصمت بالغين. وقد اشترك في حفل
الأستقبال المدني بعد القداس عدد من المشاركين والضيوف الكبار في
الدولة الهندية من ولاية كيرالا، وعلى رأسهم وزير الأوقاف المسيحي.
ولقد أعطى نكهة الاحتفال توزيع صكوك تمليك
لمساكن مجانية على 15
عائلة فقيرة، وسط تصفيق حار لهذه المبادرة الكنسية الرائعة. ثم جرى
تبادل الهدايا بين رؤساء الكنيستين. كما علّق البطريرك يونان
بالسريانية بقوله: "ما أطيب أن يسكن الأخوة معًا"... وكانت مناسبة
جميلة أن يزور وفدنا، مقر كاثوليكوس السريان اليعاقبة التابعين
للكرسي الأنطاكي السرياني الأرثوذكسي، برئاسة قداسة البطريرك مار
اغناطيوس زكا عيواص، ويتبع هذه الكنيسة مليونان ونصف مليون مؤمن.
وكان في استقبال الوفد الضيف الكاثوليكوس مار اغناطيوس بولص، الذي
تحدث عن الشركة الكنسية مع الكنيسة الشقيقة السريانية الكاثوليكية،
حينما قال: "أنتم قدمتم من أرض الإيمان"... ويذكر أن هناك كنيسة
سريانية أرثوذكسة مستقلة بادارتها عن الكنيسة الأنطاكية
الأرثوذكسية، وتضم هذه الكنيسة أكثر من مليوني مؤمن هي الأخرى.
وفي اليوم التالي 27 من كانون ثاني، زار غبطة البطربرك يوسف يونان
ومعه الأساقفة والكهنة والراهبات، رئيس أساقفة السريان الملبار
الكلدان، الذي رقي الى الكرامة الكردينالية وسيتشح بالقبعة
الكاردينالية بعد أيام في روما. وهذه الكنيسة مستقلة في ادارتها عن
الكنيسة الكلدانية الكاثوليكية، وترتبط بكرسي روما مباشرة. وتضم 40
أسقفًا و7000 كاهنًا و
35000 راهبة. وزهاء خمسة ملايين مؤمنا.
يوم 28 كانون ثاني، كان مخصصًا لنزهة ترفيهية
على متن باخرة وسط بحيرة
مدينة "كوماراكام"، حيث مرسى الزوارق وتناولنا الغداء على متنهه.
بدت لنا البحيرة متشحة بنباتات خضراء ساطعة تعلوها أزهار، كأنها
طبقة من أرض مزروعة. والبحيرة هذه تصب في البحر.
وهكذا توالت الأيام سريعة وانتهت رحلتنا الجميلة في بلاد الهند
الشاسعة التي تركت ذكريات جميلة، قد لا تتكرّر للجميع. ولعلّ من
جملة ما لاحظناه في هذه البلاد، أن لها شعبًا طيب الأخلاق، هادئ
المعشر، فقير الحال، يعيش على قدر طاقته وكفاف يومه، رغم وجود
عائلات غنية تعيش مستويات عالية من حياة مترفة. لكنّنا، لم نتحسس
وجود فواصل بين المدن على امتداد الطرق التي سلكناها، وكأن هذه
البلاد قطعة واحدة متصلة من مساكن وشوارع ومحلات... ليس فيها
أرصفة، بل إنّ شوارع مدنها مفتوحة إلاّ ما ندر داخل المدن الكبيرة
فقط. كما يستخدمون تاكسيات محوّرة
من دراجات بخارية ذات ثلاث عجلات ، ويستخدمونها كثيرا في التنقلات.
كما تستخدم الدراجات النارية الأعتيادية للتنقل. ويتفنون في نماذج
الساري الجميل في اللون والتطريز واللباس. وليس غريبًا أن تشاهد
عائلة كاملة من 3-5 أشخاص يستخدمون دراجة بخارية (ماطور) في
تنقلاتهم اليومية، ولكن الجميع ملتزمون بإشارات المرور التي تخلو
مواقعها من شرطةٍ لإدارة السير. وأشهد أني لم ألحظ إلاّ حادثة
طفيفة عارضة طيلة الأسبوع الذي أمضيناه في هذه البلاد المترامية
الأطراف التي سحرتنا، رغم رائحة الكاري والأكلات الحارة التي ملأت
بطوننا، حيث تجنبنا تناول الأطعمة نهائيًا من خارج الفنادق
والمراكز الدينية التي زرناها. وهكذا، كانت العودة إلى الديار، كل
إلى أرضه في لبنان وسوريا والعراق...وفي جعبة كل واحد ذكريات لا
تمحى .
في 2 شباط 2012
|