كيف نفهم الناقد اللاذع ؟ وكيف يُمكن معالجته ؟
الأب أنيس شعبو الدومنيكي
نحن نعرف بأن النقد مهم وخاصة عندما يأتي من شخص متزن يعرف كيف يقيم الاشياء الايجابية وكيف ينقد الاشياء السلبية الأخرى وكيف يقدم نقده ليكون نقداً بناءاً وفي خدمة المجمتع.
لكن ربما التقيتم شخصاً لا يتفوه الا بالإنتقادات اللاذعة أو تعرفتم على كاتب لا يكتب الا لينتقد البشر ويتهكم عليهم وعلى المجتمعات ويتهجم على كل ما هب ودب ! انا ألتقيت أحدهم ! ومن كثرة إنتقاداته المُرَّة للغاية تيقظت لهذا الموضوع المهم ! ودعتني الحاجة الى البحث والاستقصاء من اجل الموضوع الشيق والمفيد للغاية. وها انا الآن اقدم هنا تحليلاً لماهية هذا الشخص الذي اسميه هنا بالناقد اللاذع ! وما أكتبه قد ينطبق بصورة إجمالية على كل شخص همه الوحيد هو النقد والانتقاد اللاذع والسخرية من الناس ومن أعمالهم ومن تصرفاتهم ومن دياناتهم.
هذا الانسان الناقد اللاذع يتراءى لنفسه بأنه هو الوحيد على حق ، وافكاره فقط هي الأسمى والانجع وأما الباقون من البشر فلا حق لهم ولا حق لأفكارهم، كل البشر عنده على أخطاء لا تعد ولا تحصى. هكذا يزدري الناقد اللاذع بكل البشر. وإذ يقوم الناقد اللاذع بنقدهم وبإنتقادهم يجعلهم في أسفل السافلين ومن المغفلين السذج ومن التقليديين والبالين ويرميهم في سلة الماضي العتيق. وشخصية الناقد اللاذع على الدوام هي شخصية وحدانية، أي لا أصدقاء له ولا معارف. وخسارته لأصدقائه تأتي من سببين : الاول عدم الثقة بالآخرين والثاني هو النقد الدائم لاصدقاءه. فحسب السبب الأول يترك الناقد اللاذع اصدقاءه لانهم دائماً على خطأ حسب حكمه القاسي وليس له بعد ثقة بهم. وحسب السبب الثاني فأن أصدقاءه هم الذين يتركوه لأنه منغلق على ذاته في انتقادته لهم. ومن كثرة ما يسمعوه منه فلا يقدرون الاستمرار في علاقتهم الصدائقية معه.
والناقد اللاذع ليس همه تقديم خدمة معينة للذين ينتقدهم بل يعبر عن عدم رضاه للآخرين مهما قاموا به وهدفه هو التقليل من قيمتهم وتعييرهم وتحطيمهم وتبيان نفسه بأن الأعلى والأذكى والأفضل والاحسن من جميعهم ! والناقد اللاذع هو الديان على الكل ولا احد يحلو بعينيه. فالآخرون مخطئون في نظره. والحكم والنقد والدينونة في حياته أصبحوا طريقته في الحياة وسبب وجوده فيها.
في التحليل النفسي لهذه العقدة هناك شرح دقيق لهذا الشخص وللاسباب انتقاداته. سنعرض هنا البعض من هذه الاسباب :
أولاً : خوفا من أن يُحكم عليه
عن طريق اعطاء لذاته السلطة العليا، يحاول الناقد اللاذع أن يُشعِرَ الذين ينتقدهم، بأنه إله ينطق بالأحكام.
لكن إنما ينتقد الناس خوفاً من الناس لئلا ينتقدوه في ذات الموضوع. لأنه يعرف نفسه. يعرف بأنه مذنب وناقص وخاطئ. ولكن بإنتقاداته للآخرين فهو يتستتر على عيوبه واخطاءه وزلاته.
تقول يولاند گاناك ماينوب محللة النفس السريري : " نحن نتعامل مع بعضنا البعض بواسطة مرآة ! فالملاحظة السلبية التي نقوم بإطلاقها على أحد من الناس إنما هي فكرة تختلج في عقولنا لما نقوم به ونعيشه." هذا التعامل اللاوعي يُسمى بالإسقاط وهو آليتنا للدفاع عن ذواتنا. وهكذا نحن نرفض رؤية انفسنا على علاتها ونرفض المواجهة مع علاتنا فنرى علات الآخرين ونخرجها على الملأ ! وعندما نفضهحم بإنتقاداتنا إنما نخرج أنفسنا كملائكة. فإنتقاداتنا تأتي من خوفنا على انفسنا لئلا يحكم الناس علينا !!
ثانياً : سبب الرغبة بالكمالية
"هناك نوعان من أشكال الكمالية، كما يوضح الطبيب جان كوتروكس النفسي المعرفي : اولاً الكمالية الإيجابية، والتي هي لتشجيع الناس لبعضهم البعض من اجل التحسين؛ وثانياً الكمالية السلبية، والتي تُعرف بالنقد الدائم للآخرين ولتصرفاتهم." في هذه الحالة الثانية، فإن الناقد اللاذع لا يرى أي شيء جيد في البشر الذين يتكلم عنهم . وهو يبحث في سعيه هذا لتحقيق الكمالية التي يراها لهم ! وبطريقته يحاول خلق فيهم الشعور بالذنب لأنهم وحسب حكمه على أخطاء كثيرة. أما هو فلا يشعر بالإرتياح النفسي لذلك يطلب المعذرة بشكل دائم لانه يعرف بأنه يسبب تجريحاً للذين ينتقدهم.
ثالثاً : سبب رد الفعل على أحكام الأبوين
مهما يحاول التستر على ذاته، فأن الناقد اللاذع للآخرين هو انسان لا يرضى على الآخرين بقدر ما لا يرضى على نفسه. فإنْ هو غير متساهل مع الآخرين فلأنه غير متساهلٍ مع ذاته. وليس له ثقة بنفسه ولا باختياراته ! ومن خلال نقده للآخرين فهو ينتقد ذاته. وهذا الشعور بالنقص في الذات إنما تأتي جذوره من زمن الطفولة. هذا الناقد اللاذع كان بدون شك محط نقد وانتقاد من ابويه ومن أخوته واخواته الذين كانوا اكبر منه سناً ! كأن قد قيل له وهو طفل : انك لن تقدر ابداً أن تصنع شيئاً مقبولاً في حياتك !! وبما أن النقد كان دائما موجهاً لهذا الطفل فقد اصبح النقد سبب الوجود لذات الشخص. ففي حياته الطفولية ، ترعرع في انتقاد العائلة له ، ولهذا فهو الآن يرى في إنتقاده للآخرين المحرك والسبب لوجوده.
كما يوضحه الطبيب النفسي آريان أنستاسوبولوس، فإن انتقادات هذا الشخص الدائمة هي رد فعل دفاعي ضد تلك التربية التي استلمها من ابويه "الحكام القهريين" الذين كانوا بدروهم انتقاديين للناس وله ايضاً. فبالتالي إبنهم أي الناقد اللاذع دائماً يقوم بإنتقاد البشر وبإنتقاد ابويه أيضاً واضعاً نفسه فوقهم.
رابعاً : سبب قلة المحبة لنفسه
عندما يطلب الاباء من ابنهم الكثير من النجاحات ويبنون عليه الآمال العالية فهو لا يصل بلا شك الى تحقيق كل رغبات والديه، وعندما يجرحونه بالملامات المتعددة وبالعتاب الغيرالمتناه ! فالطفل لا يتذكر من ابويه الا هذه الأحكام السلبية القاسية مثل : "انه مذنب" و "وهو لا يقوم الا بالعمل السيء" و "لا يمكن ان يأتي بعمل جيد". وخاصة : "لا يستحق المحبة" يقول الطبيب آريان أنستاسوبولوس :"إن قلة المحبة التي أظهروها له والداه، يحولها هو الى قلة محبته للآخرين." وهو يقود ذاته بهذه الطريقة في المجتمع، طريقة التشاؤم من الآخرين. وبدوره يعاقب الناقد اللاذع الآخرين كما عاقبوه والداه في طفولته.
بعد هذه الاسباب الأربعة والتي تظهر لنا أن شخصية الناقد اللاذع في علاقة سلبية مع الماضي الأليم الذي عاشه ومع الحاضر الصعب الذي يجتازه. فإن استمر على هذا المنوال فأنه يسخر حياته بالإنغلاق التام على ذاته. لكن مع حسن الحظ فإن هناك طرق المعالجة !! فما العمل للمعالجة ؟
كل حالة مرضية أو أزمة نفسية أو عقدة شخصية في السلوك كهذه التي بين أيدينا يُمكن محاولة علاجها إذا كان الشخص المعني هو الذي يطمح ويريد أن يشفى او يتطور ويتقدم الى هدف التوازن النفسي. وحالة الشخص الناقد اللاذع لكل مَنْ حوله وبمبالغة ومن دون صحة هي حالة مرضية بحق ويجب معالجتها لأن إهمالها سوف يفسد الحياة للشخص ولمن من حوله ويتكابد من المشاكل ما لا يطيقها.
وهنا نقدم الخطوات المهمة من أجل العلاج :
اولاً : تشخيص الجراحات القديمة
يُعزى الميل عند بعض الناقدين اللاذعين في نقد الآخرين الى سبب يرجع الى زمن طفولتهم أو زمن مراهقتهم. فقد كانوا في الماضي محط نقد كبير كما شرحناه سابقاً. انهم جُرحوا كثيراً بسبب انتقادات غيرهم. فلأخراج الناقد اللاذع من عقدته يُطلب منه أن يُشخص تلك الحالات التي مر بها ! وتشخيص الجراحات القديمة الناتجة عن النقد الابوي أو العائلي او حتى المدرسي يكمن في التفتيش الدقيق في الذاكرة لاسترجاع تلك الحالات النقدية وإعادة قراءتها بغية وضعها تحت المجهر من أجل معرفة كيف ومتى ولماذا حصلت ومن قبل مَنْ من الأشخاص ولماذا بالتحديد من هذا أو ذاك !!! وهذا التشخيص يؤدي الى اكتشاف اسباب الانتقادات التي وجهت الى هذا الشخص وبالتالي يؤدي الى إكتشاف سبب انتقادات الناقد اللاذع التي يقترفها جزافاً تجاه الآخرين.
ثانياً : الشروع بتعلم الإنفتاح نحو الآخرين
انتقاد الآخرين هو بالحقيقة عقوبة تمنع كل اكتشاف. فبعد اصدارها، يغلق المرء على ذاته كل افكار جديدة ! ولكن كحقيقة لابد منها، يعتمد النمو النفسي والاجتماعي عند الانسان على قدرته على الانفتاح نحو العالم الخارجي. ومن أجل هذا النمو يجب على الانسان الدخول مع الآخرين في علاقة "أمباتية Empathique" بمعنى علاقة (الحل محل الآخر) ، وهي علاقة رأفة وعاطفة تجاه الآخرين ! وهذه العلاقة تتضمن تخيل الانسان بأنه في محل إنسان آخر من أجل الوصول اليه ومن أجل أن يفهمه ويستشعر بما يشعره الآخر ! فنحن في بعض المرات عندما نريد اعطاء نصيحة لأحد من الناس نقول بسرعة له : "لو كنت في مكانك لعملتُ كذا وكذا ..." هذه هي العلاقة الأمباتية، وضع الذات في محل الآخر. بالطبع من الناحية البركماتية تستحيل عملية الحل بمحل الآخر. ورغم استحالتها فهي عملية يُراد بها فهم الآخر بالإنفتاح عليه. هذه العلاقة الامباتية هي التي عاشها ابن الله في سر التجسد الذي من خلاله أضحى الرب إنساناً كي يَفْهَمَ الانسان ويستشعر ظرف الانسان ويقاسي ما يقاسيه الانسان ليقدم له الطريق الامثل الى السعادة. فبواسطة علاقة الامباتي ( الحل محل الآخر) يمكن للانسان ان يصغي للآخر ويستمع له ويفهمه قبل الحكم عليه بانتقادات التي لا نهاية لها. وهذه العلاقة تتطلب جهداً ووقتا ليسا بالقليل وهذان بلاشك مهمان جداً كي يتعلم الناقد اللاذع كيف ينفتح على الآخرين وكيف يجب عليه قبول الآخرين مثلما يكونون وحسب ما هم عليه وليس حسب ما هو يريد. وبشكل عام ، أصبح قبول الآخر في زمننا فضيلة كبرى من أجل العيش معاً في مجتمع واحد يتقاسمه الناس على اختلافاتهم المتباينة والعديدة.
ثالثاً : القبول بالخطأ الشخصي
كل حكم يصدر من الناقد اللاذع ليس الا تعبيراً على حب القوة وحب السيطرة التي تُبين رغبته الكلية في امتلاك الحقيقة ! وكلنا يعرف أن ليس هناك انسان على هذه الأرض ليكون كاملاً ! وإذ نقول بأن الكمال ليس للبشر نعني بأن البشر جميعهم يخطئون ! وهذه حقيقة بشرية. الناقد اللاذع لا يعترف بأخطائه وبهفواته. وهذا حاجز أمامه وسور يمنعه من التقدم في انسانيته. وهنا يكم الخروج من هذا المأزق بالقبول بضعفه وبأخطائه وبهفواته الشخصية والتي يقترفها ! وقبول الأخطاء الشخصية هو طريق لمعالجة الذات الناقدة للآخرين. وهذا القبول الذاتي للأخطاء الذاتية يعطي للناقد اللاذع العقلانية التي لابد منها من أجل النظرة المتوازنة على افعال الآخرين. وهذه العقلانية هي التي تسمح للإنسان بتقييم صحيح للآخرين وليس بنقدهم ولا بإنتقادهم ولا بتحطيمهم. وهنا يُطلب من الناقد اللاذع أن لا يمحو حكمه الخاطئ بل أن يحوله الى ما هو احسن وانبل وارفع. أي أن يُحوِّلَ أحكامه اللاذعة الى تقييم واقعي مبني على رؤية انسانية متزنة ومتحضرة وعلى معرفة نزيهة. وإذا وصل الناقد اللاذع الى هذا العمل فإنه يبرهن على بلوغه الفكري ولحاقه بالمعرفة والتمييز.
رابعاً : مشورات الى المحيطين بالناقد اللاذع
نعلم بأن لا أحد يسلم من انتقادات الناقد اللاذع ! حتى اقرباؤه وأصدقاؤه. فإنْ سكت هؤلاء أمام انتقادات الناقد اللاذع فإنهم يخسرون كل تقدير واحترام بينهم ويخسرون الحوار معه وبلاشك يساهمون في تعقيد مرض الناقد اللاذع وتكوين عنده ما يسمى الوحدانية الخالية من المحبة. سينعتوه بالسيء لأن انتقادته سيئة. ومن كثر ما يسمع الناقد اللاذع من المحيطين به بأنه سيء فإنه سيصبح سيئاً أكثر وأكثر بلاشك !! وهذا ليس الطريق الصحيح للخروج من العقدة ! بل بالأحرى يجب على المحيطين بهذا بالناقد اللاذع عندما يسمعون انتقاداته واحكامه ان يساعدوه على الوعي على احكامه الغير الصحيحة من خلال الطلب منه تقديم البراهين الثابتة والعملية والصحيحة لتفنيد احكامه وانتقاداته. وهذا الطلب يحث الناقد اللاذع في الدخول بحوار عقلاني مع المحيطين به حيث يكون مجبرا على برهنة أحكامه من خلال العقل والموضوعية.
ويمكن للمحيطين به أن يُعلموه ويخبروه بأن انتقاداته للآخرين هي أيضاً في ذات الوقت موجهة لشخصه لانه جزء من هذا المجتمع وهو جزء من هذه البشرية. وهنا يجب أن نأتي بمثل صريح وبسيط ومفهوم : يقوم الغشاش في الصف باتهام الآخرين بالغش. وهو في هذا يهدف الى صرف الانظار عن غشه الشخصي ! لكن بالحقيقة لا يعرف هذا الغشاش بأنه يفضح نفسه بنفسه وخاصة عند الناس الذين يفهمون هذا النوع من الاتهام !
وبعدما قدمنا الطرق الأربعة لأخراج الناقد اللاذع من عقدته، يلفت نظرنا الى أن العمل على معالج هذا الشخص تأتي أولاً من ذاته وثانيا من المحيطين به. ومسؤلية هؤلاء الأشخاص هي مهمة جداً. فكما نقول بأن الدكتاتوري هو من صنع الشعب الساذج والغير المسؤول يمكننا أيضاً ان نقول بأن الناقد اللاذع هو من صنع الناس الذين تمادوا معه وتركوه لحاله في عقدته. فينبغي علينا بالأحرى ، إن أردنا مساعدة وإنقاذ الناقد اللاذع من الخروج من عقدته ووحدانيته وصحراءه الخالية من المحبة، ينبغي علينا أن نقوم بحق بمسؤوليتنا الانسانية بكل معنى الكلمة
من الموت الى الحياة: طريق الايمان بقيامة المسيح !
الاب أنيس شعبو الدومنيكي
1. طوبى لأنقياءِ القُلوبِ، لأنّهُم يُعاينونَ اللهَ. (متى 8:5 )
من نقطة البداية يجب أن ننطلق ! من كلام الرب يسوع المسيح ، له كل المجد ، يوم وعظ أول وعظة على جبل التطويبات وبدأ رسالته وشرع بشارته بكلمة 'الطوبى' أي الفرح والغبطة والسرور والبهجة.
طوبى لأنقياء القلوب ! ومن أنقياء القلوب ؟ وهل يوجد على الأرض أنقياء القلوب ؟ عن مَنْ يتحدث الرب يسوع ؟ أنقياء القلوب لهم الفرح الكامل لأنهم يعاينون الرب ويروه ويشاهدوه منذ الآن وليس فقط بالمستقبل البعيد كما يفهم قسم منا معنى هذه التطويبات. أنقياء القلوب هم أناس ضمائرهم وقلوبهم وارواحهم مُطَهَّرة ٌومنَّقاة ولم يبق فيها أي شر وأي إثم وأية خطيئة ! ولأنه بمقدورهم معاينة الرب فيجب أن يكونوا أطهار القلب ونظفي الضمير وفي حالة النعمة المقدسة. تعالوا معي لنر مَنْ هم هؤلاء البشر الذي يرون الله ! وكيف يروه !
2. يسوع أخلى ذاته حباً للبشر
بَشَّرَ الربُ يسوع المسيح بملكوت الله وأظهر حب الله الفياض للبشر وشهد للمحبة الفائقة الادراك في كلامه وأفعاله ، وأعطى حياته حباً بالانسان على خشبة العار وصليب الدمار وجعل من هذا الصليب منارة للخلاص الذي حققه لبني البشر. وبموته الكفاري برر المؤمنين به تبريراً أبدياً من خطاياهم وآثامهم وكل شرورهم وأنقذهم من الموت الثاني الذي ندعوه الموت الابدي.
هذه هي رحمة إلهنا وهذه هي محبته العظمى :
[ هكذا أحبّ اللهُ العالَمَ حتى وهَبَ اَبنَهُ الأوحَدَ، فَلا يَهلِكَ كُلّ مَنْ يُؤمِنُ بِه، بل تكونُ لَهُ الحياةُ الأبدِيّةُ.] (يوحنا 16:3).
يسوع هو التجسيد الكامل لمحبة الله للبشرية. فبعدما أخلى ذاته وبعدما جاء بالجسد وبعدما علم البشر الرجوع الى الله ابيهم بالتوبة والخير والرحمة والمحبة ، أعطى الرب يسوع للبشر محبته على الصليب كاملة حيث هناك مات من أجل خلاص البشر !
3. على صليب العار مات يسوع الناصري
هناك وعلى الجلجلة مات يسوع مسمراً على الصليب بين اثنين من لصوص الأرض ، وعلى مشهد ومرأى تلاميذه وأمام اليهود الذين اتهموه وحكموا عليه وأمام الرومان جنوداً وقادة وآمرين وعساكر وتحت أنظار أمه مريم العذراء القديسة وانظار التلميذ يوحنا الذي أحبه يسوع وتحت أنظار الكثير من الناس الاتقياء الذين عادوا الى بيوتهم وهم حزانى يندبون على صدورهم . هناك صُلِبَ يسوع وهناك مات حقاً حيث أسلم الروح بين يدي أبيه . مات يسوع هناك ، والمؤرخ اليهودي فلافيوس يوسف كاتب الحوليات اليهودية يشهد لصلب ولموت هذا الشخص المسمى يسوع الناصري على يد وحكم بيلاطس البنطي الحاكم الروماني على أورشليم وكل اليهودية آنذاك. مصلوبا فوق قمة الجلجلة مات يسوع على صليب خشبي وهذه طريقة الرومان في تنفيذ حكم الأعدام بحق كل من ليس روماني ! والصلب هو موت شنيع للغاية وقاس وعنيف وفي نفس الوقت اذلال واهانة وعار وإزدراء وتحقير و... و... ودرس للجميع.
مات يسوع الناصري بعد معانات وآلام كثيرة واسلم الروح وهو يقول :" أبتاه بين يديك اسلم روحي ". مات يسوع رغم الإدعاءات الديسوتية الهرطوقية الكاذبة التي تدعي بأنه لم يُصلَبْ وأنه لم يَمُتْ !! ورغم كل إفتراآت الهرطقات التي نكرت موت المسيح.
فالرب يسوع بتجسده أصبح عرضة للموت لأن كل جسدي هو مائت وقابل للزوال. والرب يسوع هو الاله المتأنس : الكلمة كان الله ... والكلمة صار انسانا وسكن ما بيننا . وموت يسوع المسيح هو هدف تجسده. وهذا الموت هو بمشيئته الشخصية الفذة ، فقد صعد يسوع الى أورشليم وذهب نحو الموت برباط جأشه وصلابة ارادته. ففي انجيل القديس يوحنا وفي الفصول التي تحكي عن آلام وموت المسيح نفهم بأن الرب هو الذي يسلم حياته بحريته وبسلطانه ، وهو الذي يسلم روحه الى الله أبيه. أي أن يسوع هو الذي يمضي الى موته بحريته وهو الذي يقرر أن يعطي حياته. وعلينا أن نفهم بأن يسوع هو الله الذي يفدي نفسه في سبيل عتق وتحرير وإحياء الإنسان المائت. [ ما مِنْ أحَدٍ يَنتَزِعُ حياتي مِنّي، بل أنا أُضَحّي بِها راضِيًا. فَلِـيَ القُدرَةُ أنْ أُضَحّيَ بِها، وليَ القُدرَةُ أنْ أستَرِدّها. هذِهِ الوَصيّةُ تَلقّيتُها مِنْ أبـي".] (يوحنا 18:10 ) عذه الآية كافية لأن تعلمنا أن ما يفعله يسوع حين يذهب طواعية الى الجلجلة !
4. القبر الفارغ هو علامة سلبية
ماذا رأت المريمات الثلاث في فجر يوم الأحد بعد موت يسوع عندما ذهبن لوضع المطيبات على جثة يسوع ؟
رأين قبر يسوع فارغاً !
ماذا رأت مريم المجدلية عندما جاءت الى قبر يسوع ؟
رأت القبر فارغاً !
ماذا وجدا بطرس ويوحنا عندما ركضا مسرعين ووقفا امام قبر يسوع ؟
رأيا القبر فارغاً !
الكل رأى القبر فارغاً . وهو فارغاً الى يومنا هذا ! ما معنى هذا ؟
القبر الفارغ ليس الا علامة سلبية لأنه لا يقول أكثر مما يقدر أن يقول. وفلما عرفوا الحراس أن القبر فارغ قال بعضهم أن تلاميذه جاءوا ليلاً وسرقوا جثة يسوع كي يقولوا بعد ذلك بأنه قام من بين الأموات. المسألة عويصة وقاسية ومحرجة لؤلئك التلاميذ. وهم جاءوا بهدف مقصود ومحدد للقاء بجثة هامدة لمعلمهم يسوع. فمن الطبيعي أن الميت لا يتحرك ولا يخالف الموعد. بأمكاننا أن نذهب الى أي مقبرة للقاء مع المدفونين فأنهم لا يخالفون الموعد أما قبر يسوع أبهر جميع الذين كانوا يريدون أن يلقوا نظرة على الجثة الساكنة سكون الحجر. فهذا القبر قد نطق بشيء رهيب ومرهب : المدفون الذي كان هنافأنه ليس هنا !! هذا كل ما يقدر أن يقوله لنا القبر الفارغ. ألذي تبحثون عنه ، ليس بعد هنا.
5. إذاً ، أين هو ؟ الموقف المحرج للتلاميذ !
إذاً أين هو هذا المدفون يسوع الناصري الذي يدعى المسيح ؟؟ القبر لا يعرف الجواب ! لا يعرف التكلم عن الناصري الذي لم يعد هنا ! القبر شاهد على شيء واحد وهو بأن بابه مفتوح والميت لم يعد في القبر !
القبر الفارغ يدفع التلاميذ الى العجب والتساؤل والتعمق والبحث والاستفسار والتمحيص ! يدفعهم الى التذكير بما قاله يسوع قبل الآلام وقبل الفصح ! ماذا كان قد قال عن آلامه ، عن صلبه ، عن موته ، عن قيامته ؟ يجب أن يتذكر التلاميذ !
القبر الفارغ يدفع الى التساؤل ! قصة يسوع المدفون هنا لم تنته في القبر ! كل قصص البشر تنتهي بالقبر أما قصة هذا الرجل الناصري الجليلي فلم تنته بعد لأنه لم يبق بالقبر ! وإذا لم يبق بالقبر فأين قد يكون ؟ ومن يقدر أن يوضح الأمر المرهب ؟ كل ما يقدر أن يقوله التلاميذ ( ومن الذاكرة ) هو أن يسوع كان قد قال بأنه سيقوم من بين الأموات في اليوم الثالث !
وإذا الناصري لا يأتي بذاته ويظهر نفسه فلا أحد سيعرف أين هو !!! وإذا لا يفصح يسوع عن الحقيقة ويشرحها فلا أحد سيعرف الحقيقة !! إذا لا يوضح يسوع ما حصل بعد الدفن فلا أحد يقدر أن يقول شيئاً !!
هكذا إذن كان التلاميذ بحاجة ماسة جداً جداً الى يسوع المسيح كي يأتي بنفسه ويظهر لهم نفسه ويوضح لهم كيف لم يبق في القبر وما حصل له وحدث له !!! إنهم محتاجون الى يسوع ليفهمهم سر مهم جداً جداً. [ تذكروا ما قال لهم : بدوني لا تقدروا شيئاً ]
6. الحاجة الى الرؤية
كان التلاميذ بأمس الحاجة الى اللقاء بشخص يقدر أن يشرح لهم لماذا لم يبق يسوع في القبر ولماذا القبر الفارغ !! وبالحقيقة ليس لأي إنسان أن يشرح حدث القيامة لأن القيامة ليست حدثاً إنسانياً ولا أرضياً ولا طبيعياً ولا يقع في عالم وعلم الإنسان. الانسان يقدر أن يشرح ما هو إنساني وعالمي وبشري وطبيعي لكن تقف حدود فهمه وشرحه أمام حدث الهي مثل حدث القيامة. فالقيامة ليست من صنع البشر وليست من عالم البشر وليست في علم البشر ولا في عالمهم. القيامة هي من الله وهو حدث الهي وميتافيزيقي أي فوق الطبيعة. يجب أن يأتي القائم من القبر ويتدخل بنفسه ليظهر نفسه ويحكي ما حصل بالضبط لؤلئك الذين أحبهم اي التلاميذ الذين كانوامشتاقين أشد الشوق لفهم هذا ما حدث ليسوع، معلمهم. كانوا عطشى للقاء بيسوع الذي لم يحتويه الموت بل قام. بل كانوا يتلهفون الى رؤية القائم من القبر. يجب أن يتدخل يسوع ويظهر نفسه ويريهم جسده للتلاميذ كي يروي ظمأهم وعطشهم.
" رأينا الرب" هكذا قال العشرة تلاميذ لتوما ! فرد عليهم توما : "إن لم أرى .. وإن لم أضع أصبعي في آثار المسامير ... لن أؤمن !"
مرات عديدة ومتنوعة وفي أماكن مختلفة أظهر يسوع الناصري نفسه للتلاميذ وغير التلاميذ. وهذه الظهورات ما هي الا رحمة ومحبة للتلاميذ ! وفي كل ظهور ، كان ليسوع قصد وهدف يصل اليه. ونقدر أن نقول اجمالياً أن لولا هذه الظهورات لكان يسوع قد بقي في طي النسيان في عقول التلاميذ !
7. الظهورات علامة إيجابية
ظهورات يسوع المسيح كانت كثيرة جداً ولأشخاص كثيرين حسب ما يقول لنا القديس بولس. وفي كل ظهور سبب وغاية ورسالة مهمة جداً من قبل الرب يسوع . تأتي كل هذه الظهورات من مشيئة يسوع الحرة وهو يريد أن يفصح للتلاميذ الذين عاينونه والبشر الذي نالوا رؤيته بأنه يحبهم للغاية وما ظهوره لهم إلا فعل محبة من أجل أن يؤمنوا. لاننسى كم أن هذا الظهورات فرحت قلوب التلاميذ وغيرهم من الذين كانوا ينتظرون الرب بفارغ الصبر. هذا الفرح وهذه الغبطة إنما يأتيان من الله. فهذا الفرح كلم به يسوع قبل موته : "سترونني وستفرحون وفرحكم هذا لا أحد يمكن له أن ينزعه منكم."
ونؤكد هنا على أمر مهم ألا وهو أن يسوع الذي يُظهر نفسه بعد قيامته لتلاميذه هو بالذات يسوع الذي عرفوه وتبعوه واشتركوا معه قبل الصلب. ولكن يسوع القائم من القبر كان قد تجاوز عالم المادة فلم يبق للواقع المادي أي سلطان عليه. من هنا نفهم أن يسوع لم يعد مادياً ولو أن له هيئة انسانية ويحمل جسه النوراني آثار الصلب والحربة والمسامير. فندرك وبالاستعانة بالنصوص الانجيلية بأن يسوع المسيح القائم من القبر هو ذاته الذي عرفوه من قبل وهو يعمل ذات الأفعال ويقول نفس الكلام الذي سمعوه قبل الصليب ويمكن التعرف عليه. ولكن هذا القائم من القبر يأتي والابواب مغلقة ويدخل الى غرفة التلاميذ وهو يخترق الحيطان ويسير مع تلمذي عماووس بدون أن يتعرفوا عليه منذ اللحظة الأولى. إذاً يسوع القائم من القبر صار روحانياً ولم يعد جسدياً فقط. ورغم الحالة الروحية ليسوع المسيح بعد القيامة فهو يقدر أن يأكل قطعة من السمك. فنفهم بأن يسوع له سلطة كبيرة جداً وقد انتقل من عالم المخلوق المادي الى عالم الروح الالهي. وإذا كان القبر الفارغ علامة سلبية فأن الظهورات علامة إيجابية لأنها أتت بنتائج كثيرة وقيمة جداً.
8. القائم من القبر يعطي الحياة
عندما عُلِّق المسيح على خشبة الصليب هرب التلاميذ من هذا المشهد المروع وتفرقوا وتشتتوا وأصابهم الألم في الصميم لأن معلمهم مات وأملهم دُفن وضاعت كل انتظاراتهم في مهب الريح.
لكن ظهورات يسوع المتعددة عززت وقوت إيمان الرسل وأعطتهم الحياة والقيامة. لأنهم كانوا قد ماتوا روحياً ونفسياً ومعنوياً بموت قائدهم ومسيحهم ومخلصهم وأصيبوا بموت الأمل والرجاء. فكان لازماً بكل معنى الكلمة أن يأتي القائم من بيت الأموات ليحي وليقيم أحبته وأخوته وأصدقائه التلاميذ. واكبر عطاء يقدمه القائم من القبر هو ظهوره لهم لأن بظهوره قيامة وحياة وأمل ورجاء لهم وقوة وشجاعة ونفخة الهية. قيامة المسيح أقامت التلاميذ. وبظهوره لهم اسرى في عروقهم دماً جديداً يحيهم للحياة الأبدية.
9. القائم من القبر يهب السلام
عندما يظهر يسوع نفسه لتلاميذه يبدأ معهم بالسلام : السلام لكم ! كلمتان مهمتان جداً جداً ! فيسوع المسيح الذي صلبوه اليهود والرومان وأماتوه بعد آلام كثيرة وهجروه وتركوه التلاميذ لا يأتي لكي ينتقم من صالبيه ومن المسيئين إليه ومن الذين تركوه معلقاً على الصليب. لا يأتي للدينونة والانتقام وإنما يأتي بالسلام. والسلام الذي يعطيه ليس كالسلام الذي يعطيه الناس الذين يقولون : السلام عليكم !! إنما يسوع يقول : السلام لكم ! أي لأرواحكم ولأجسادكم ولحياتكم وهو السلام المسيحاني الالهي. هذا السلام إنما يأتي من المسيح المملووء بالسلام والحياة والقيامة. لا يقدر أحدٌ أن يعطي السلام للآخرين إلا إذا كان مملووءاً بالسلام الإلهي. فالمسيح هو الوحيد وفعلاً الوحيد الذي يقدر أن يعطي السلام. وسلامه حقيقي وأبدي وفعال ومثمر بحق. هذا السلام لا يأتي بغموض وإبهام بل بحق وحقيقة لأنه من شخص كان غير مرئياً وصار مرئياً ، من شخص كان ميتاً وصار حياً لأن الله أحياه بقوة وبجبروت الله وأعطاه سلطاناً أعظم من سلطان الموت. إذاً، سلامه حق ونعمة لا تُثمن !
10. إيمان الرسل !
جدير بالذكر أن بعض التلاميذ آمنوا بقيامة الرب يسوع قبل ترآيه لهم ومن بين هؤلاء يوحنا الرسول الذي عندما شاهد القبر المفتوح والفارغ آمن. "ودخَلَ التّلميذُ الآخَرُ الذي سَبَقَ بُطرُسَ إلى القَبرِ، فرأى وآمنَ" ( يوحنا 8:20) بماذا آمن يوحنا آنذاك ؟ آمن بأن الرب يسوع قام من بين الأموات كما قال سابقاً وأن أقواله كانت حق. لأن بالحقيقة كان الرب يسوع قد تنبأ عن موته وتكلم عن صلبه لثلاث مرات وكان قد تكلم عن قيامته من بين الأموات. فيوحنا آمن بقيامة معلمه المسيح بمجرد رؤيته للقبر الفارغ.
لكن ليس الحال مع كافة التلاميذ فتوما مثلاً لا يريد الأيمان بيسوع القائم من القبر الا بعد رؤياه ومشاهدته له ووضع اصبعه في أماكن المسامير وفي آثار الرمح. [ فقالَ التلاميذُ لتوما: "رأينا الرّبّ!" فأجابَهُم: "لا أُصَدّقُ إلاّ إذا رَأيتُ أثَرَ المَساميرِ في يَدَيهِ، ووَضَعْتُ إصبَعي في مكانِ المساميرِ ويَدي في جَنبِهِ". وعندما يُظهِرٌ يسوع نفسه وجسده لتوما يقول له : "هاتِ إصبَعَكَ إلى هُنا واَنظُرْ يَدَيّ، وهاتِ يدَكَ وضَعْها في جَنبـي. ولا تَشُكّ بَعدَ الآنَ، بل آمِنْ!" فأجابَ توما: "رَبّـي وإلهي!" فقالَ لَه يَسوعُ: "آمَنْتَ يا توما، لأنّكَ رأيتَني. هَنيئًا لِمَنْ آمَنَ وما رأى". [يوحنا 27:20ـ29]
نفهم من هذا أن يسوع يستجيب لطلب توما الذي هو طلب فردي ومحدد من أجل الإيمان. ونفهم أن يسوع لا يبخل على توما تحقيق طلبه. لماذا ؟ لأن يسوع دائما كان ولا يزال حتى بعد قيامته أيً تمجيده خادماً من أجل خلاص نفوس الذين أحبهم الى الموت من أجلهم.
وكذا الحال مع تلمذي عماوس اللذان لم يؤمنا الا بعد أن شاهدا الرب وجهاً لوجه وعرفاه بأنه هو. فكانت عيونهما مغلقة تماماً طوال الرحلة بين اورشليم وعماوس. ولكن الرب يسوع يهب لهما نعمة الرؤيا وهذه هي نتيجة شوقهما ومحبتهما ليسوع.
11. الهدف العام الظهورات
لكل ظهور اسبابه وهدف الخاص لكن بشكل عام هدف هذه الظهورات هو جعل التلاميذ يؤمنون بأن يسوه هو حيٌ وقد قام من بين الأموات. وجعل ايمانهم يتطور ويكبر ويكتشف ما لم يكن مكتشفاً من قبل في شخصية المسيح !
التلاميذ رأوا المسيح القائم الحي وآمنوا به وآمنوا ايضاً بأن كل ما قاله لهم قبل موته كان حقاً ! آمنوا بأن القائم من القبر هو بحق إبن الله لأن لا أحد يقوم إلا إذا كان الله نصيره ومعه وفيه. آمنوا بأن كل حياته السابقة كانت تهيئةً وتحضيراً لحدث الفداء والموت والقيامة من أجل تحرير الانسان من سطان الموت ! آمن التلاميذ بأن يسوع من الله والى الله يعود وان الله أبوه لم يتركه فريسة للموت والفساد بل جاء الله وأقامه لأنه مسيحه وإبنه.
فحدث القيامة المثبت بالظهورات يقيم التلاميذ قيامة فذة ! فمن شكوكهم الى الإيمان ، ومن تخوفاتهم الى قوة الرب القائم من الموت ، ومن إيمانهم بيسوع كنبي ومعلم الى الإيمان بيسوع إبن الله الحي بعد الموت ! هذا الإنتقال الإيماني نراه واضحاً عند تليمذي عمواس. يتحول ايمانهم من الايمان بنبي الى الإيمان بالرب :
[ فقالَ يَسوعُ : "ماذا حدَثَ؟" قالا لَه: "ما حدَثَ ليَسوعَ النّاصريّ وكانَ نَبيّا قَديرًا في القولِ والعَمَلِ عِندَ اللهِ والشّعبِ كُلّهِ، كيفَ أسلَمَهُ رُؤساءُ كَهَنَتِنا وزُعماؤُنا لِلحُكمِ علَيهِ بالموتِ، وكيفَ صَلبُوهُ. وكُنّا نأملُ أنْ يكونَ هوَ الذي يُخَلّصُ إِسرائيلَ. ومعَ ذلِكَ، فهذا هوَ اليومُ الثّالِثُ لتِلكَ الأحداثِ التي وقَعَت. ] كانت نظرتهما اليه كنبي ولكن تتحول هذه النظرة الى رب بعد أن يشاهداه حياً وقائماً من بين الأموات فهما يشهدان بقيامته أمام الرسل لأنهما رأياه بحق [ فأخبَراهُم بِما حدَثَ في الطّريقِ، وكيفَ عَرَفا الرّبّ عِندَ كَسرِ الخُبزِ.] . هذا الانتقال من إيمان بسيط الى إيمان حي هو هدف الظهورات العام. والايمان المسيحي هو إيمان حي يتطور وينقل الانسان المؤمن من حالة الى أخرى الى أن يصل الانسان الى الحياة مع الله وفي الله وبالله. وهكذا يقول القديس بولس بعد مرور زمن طويل على إيمانه : "لست أنا أحيا وإنما المسيح يحيا فيَّ."
12. إيمان أبناء الكنيسة
يأتي إيمان الرسل من حدث القيامة ومن الظهورات الكثيرة للقائم من القبر . وهنا الايمان هذا هو ثمرة القيامة وعطية من القائم من بين الأموات. وما ترائي يسوع لتلاميذه إلا لجعلهم مؤمنين به إيماناً ثابتا لا يتزعزع وليجعل منهم شهوداً له في كل مكان ولكي بأيمانهم وبشهادتهم يُدخِلوا البشرَ الى حياة وفرح الله.
بعدما صعد يسوع الى السماء ، بدأ التبشير بالمسيح المخلص بالمعمورة كلها. وأصبح إيمان المسيحيين يرتكز إرتكازا كلياً على إيمان الرسل وشهادتهم .
[أمّا الآياتُ المُدوّنَةُ هُنا، فهيَ لتُؤمِنوا بأنّ يَسوعَ هوَ المَسيحُ اَبنُ اللهِ. فإذا آمنتُم نِلتُم باَسْمِهِ الحياةَ. (البشارة كما دوّنها يوحنا ] [31:20]
فنحن كأبناء الكنيسة لم نرَ المسيح ولم نسمعه مباشرة ولم نتعرف عليه وجهاً لوجه لكن نقدر أن نقول بأننا التقينا بالمسيح من خلال الشهود الذين أقامهم المسيح لهذا الشأن ولهذا الأمر ولهذه المهمة. فكي نتعرف على المسيح يجب أن نقرأ الاناجيل المقدسة التي كتبها متى ومرقس ولوقا ويوحنا والرسائل الكاثوليكية التي كتبها بولس وبطرس ويوحنا ويهوذا ويعقوب. وهذه الكتابات إنما كتبها هؤلاء الشهود الحقيقيين كي يشهدوا بإيمانهم وكيما بشهادتهم نصل الى الإيمان بيسوع المسيح وكيما بإيماننا نحصل على الخلاص والحياة الأبدية. وهذا ما جاء في الآية التي سطرتُها اعلاه من انجيل يوحنا. وهكذا يتم التواصل المتواتر بيننا وبين الرب يسوع مروراً بشهود المسيح. وكما كان الآخرون شهوداً للمسيح لنا فإذاً علينا أن نكون شهوداً للمسيح أمام الآخرين الذين يضعهم المسيح في طريقنا.
13. طوبى لأنقياءِ القُلوبِ، لأنّهُم يُعاينونَ اللهَ. (متى 5:8 )
إن معاينة الله هي هدف الانسان والله وهي قمة الوصول الى الملكوت الله السماوي. فلنتذكر طلب فيلبس من الرب يسوع :
" أجابَ يَسوعُ توما : "أنا هوَ الطّريقُ والحقّ والحياةُ، لا يَجيءُ أحَدٌ إلى الآبِ إلاّ بـي. لَو كُنتُم عَرَفْتُموني لَعَرَفْتُم أبـي أيضًا. ومِنَ الآنَ أنتُم تَعرِفونَهُ، ورأَيتُموهُ". فقالَ لَه فيلبّسُ: "يا سيّدُ، أرِنا الآبَ وكَفانا". فقالَ لَه يَسوعُ: "أنا مَعكُم كُلّ هذا الوَقتِ، وما عَرَفتَني بَعدُ يا فيلبّسُ؟ مَنْ رآني رأى الآبَ، فكيفَ تَقولُ: أرِنا الآبَ؟ ألا تُؤمِنُ بأنّي في الآبِ وأنّ الآبَ فيّ؟ الكلامُ الذي أقولُهُ لا أقولُهُ مِنْ عِندي، والأعمالُ التي أعمَلُها يَعمَلُها الآبُ الذي هوَ فيّ. صدّقوني إذا قُلتُ: أنا في الآبِ والآبُ فيّ، أو صدّقوني مِنْ أجلِ أعمالي."
إن ما طلبه فيلبس من يسوع هو أن يرى الآب. وكيف رؤية الله ؟ كيف للإنسان أن يرى الله ؟ ونحن نجاوب بالإستحالة طبعاً . لأن الله قال لموسى عندما طلب موسى رؤية وجه الله. فقال الله لموسى : " لا يمكن لأحدٍ أن يَراني إلا ويموت ! " لكن الذي كان مستحيلا في العهد القديم أصبح ممكناً في العهد الجديد. بالمسيح يسوع نرى الله ونلتقي بالله. لأنه فقط المسيح هو الطريق والحق والحياة. المسيح هو صورة الله المنظورة التي رآها البشر أيام حياة المسيح الأرضية ! لكن بصعود المسيح الى السماء أصبحت هذه الرؤيا المباشرة رؤية قلبية بالشوق والرغبة والأمل والرجاء لكل مَنْ يؤمن بالمسيح إيماناً ثابتاً وحقاً ! فالمؤمن الحقيقي بالمسيح يُبرره المسيح بالإيمان وبما أن المسيح يبررنا بالإيمان فأنه ينقينا قلبيا وروحياً ويجعلنا قادرين للهذه الرؤية الإلهية. التبرير ينقي قلوبنا فيجعلنا قادرين أن نعاين الله. فتتحقق التطويبة بعد التبرير : فطوبى لأنقياء القلوب ، المبررين بالإيمان لأنهم بإيمانهم يرون الله ومنذ الآن !
هؤلاء هم أنقياء القلوب الذين حازوا على إيمان ثابت وأكيد لا تهزه رياح الشك ولا يعصف به الشر ولا تنال منه الخطيئة ! إننا ظمن هؤلاء الذين بررهم الإبن من أجل معاينة الآب لأننا نؤمن بأن الرب الاله أقام إبنه يسوع المسيح من بين الأموات. وبإيماننا إنتقلنا من الموت الى الحياة فنحن نحيا في قلب الرب وحياته تسري في عروقنا.
عيد الشعانين : رموز ومعان لا بد من معرفتها
الأب أنيس شعبو الدومنيكي
أولاً وقبل كل شيء، يأتي عيد الشعانين او السعانين في يوم الأحد الذي يسبق أسبوع الآلام وهذا الأسبوع يسمى بأسبوع الحاش بالسريانية والأسبوع المقدس باللاتينية.
وكلمة الشعانين او السعانين تعني أغصان الأشجار التي تقطع في هذا العيد وهي من الزيتون أو النخيل في بلاد الحوض البحر المتوسط أو من البقس في البلاد الأوربية أو من غير ذلك في أماكن أخرى.
ويحتفل المسيحيون الملتزمون بالتقليد الكنسي المسيحي كل أبرشية وكل خورنة كما يتاح لها أن تفعل بيوم السعانين ليتذكروا دخول الرب يسوع أورشليم كملك متواضع راكبا جحشا ابن أتان. وغالبا ما تقوم الجمعات المسيحية بتبريك أغصان الأشجار قبل الشروع في مسيرة فرح وابتهاج يتخللها ترانيم تفصح وتعبر عن يسوع الملك الداخل إلى مدينة أورشليم. وبما أن دخول المسيح إلى أورشليم كان دخولا ملوكيا واحتفاليا وجهوريا كذلك في احتفال الأبرشيات والخورنات.
فلنعد إلى أورشليم ، هذه المدينة المقدسة التي وطأتها أقدام المحتلين الآشوريين والكلدانيين والفرس والإغريق والرومان ونالت من كل حدب وصوب ألآلام تلو الآلام وضربات تلو الضربات والجلاء لمرات عدة حرق وتدمير واستيلاء، بقيت ومع كل هذا مدينة السلام واليها تتوق النفوس وحتى الرب يسوع العارف بتسليمه وصلبه وموته القريب لا يفوت الفرصة في دخوله العلني إلى مدينة داوود الملك. هكذا يأتي دخول الرب يسوع ملك الملوك ورب الأرباب وملك السلام ، المسيح المخلص له المجد رجاءاً وأملا لسكان هذه المدينة المقدسة.
يدخل يسوع كملك متواضع ونحن نعرف في المسيحية كم أن التواضع ليس ضعفا بل قوة لأن القوي فقط يقدر أن يتواضع ونعرف من شهادة ومن أفعال ربنا المسيح أنه لم يأت ليُخدم بل ليَخدم وقد أتى بالتواضع بدءا بتجسده وانتهاء بموته. فهو يختار دخوله إلى المدينة المقدسة بطريقة متواضعة جداً. وهذا الدخول هو بداية الأسبوع الأخير من حياته الأرضية أي أن موته قادم وها قد دنت ساعته وستكون في يوم الجمعة التي تلي احد السعانين. إذا يدخل يسوع المدينة المقدسة العظيمة أورشليم راكباً جحشاً وسط هتافات التلاميذ والصغار الصارخين والهاتفين للملك الآتي باسم الرب، المسيح المخلص ابن داوود ويلوحون له بسعف النخيل وبأغصان الزيتون والشجر ويفرشون ملابسهم على الأرض كي يمشي عليها موكب المسيح الملك. المشهد رائع جدا وجميل للغاية لكن معانيه أعظم من جماله ودروسه اكبر من تصوراتنا.
وهكذا كان المشهد واليكم النصوص حسب ما كتبه لنا الإنجيليون الأربعة
-------------------------------------------
فلننظر النص الذي جاء عند القديس متى الاصحاح 21
ولمّا قَرُبوا مِنْ أُورُشليمَ ووَصَلوا إلى بَيتِ فاجي عِندَ جبَلِ الزّيتونِ، أرسَلَ يَسوعُ اَثنَينِ مِنْ تلاميذِهِ، وقالَ لهُما: "اَذهَبا إلى القريةِ التي أمامكُما، تَجِدا أتانًا مربوطةً وجَحشُها مَعها، فحُلاّ رِباطَهُما وجيئا بِهِما إليّ. وإنْ قالَ لكُما أحدٌ شيئًا، فأجيبا: "السيّدُ مُحتاجٌ إلَيهِما، وسيُعيدُهُما في الحالِ". وكانَ هذا لِيَتِمّ ما قالَ النّبيّ: "قولوا لابنَةِ صِهيونَ: ها هوَ مَلِكُكِ قادِمٌ إلَيكِ وديعًا راكِبًا على أتانٍ وجَحشٍ اَبنِ أتانٍ". فذهَبَ التّلميذانِ وفَعَلا ما أمرَهُما بِه يَسوعُ وجاءا بالأتانِ والجَحشِ. ثُمّ وضَعا علَيهِما ثَوبَيْهِما، فركِبَ يَسوعُ. وبَسَطَ كثيرٌ مِنَ النّاسِ ثيابَهُم على الطّريقِ، وقطَعَ آخَرونَ أغصانَ الشّجرِ وفَرَشوا بِها الطريقَ. وكانَتِ الجُموعُ التي تتَقَدّمُ يَسوعَ والتي تَتْبَعُهُ تَهتِفُ: " أوشَعْنا لاَبنِ داودَ! تبارَكَ الآتي بِاَسمِ الرّبّ! أوشَعْنا في العُلى!" ولمّا دخَلَ يَسوعُ أُورُشليمَ ضَجّتِ المدينةُ كُلّها وسألَتْ: "مَنْ هذا؟" فأجابَتِ
الجُموعُ: "هذا هوَ النّبيّ يَسوعُ مِنْ ناصرةِ الجليلِ". (البشارة كما دوّنها متى ٢١ : ١-١١)
والنص الذي جاء حسب القديس مرقس الاصحاح 11 :
ولمّا قَرُبوا مِنْ أُورُشليمَ ووَصَلوا إلى بَيتِ فاجي وبَيتِ عَنيا، عِندَ جبَلِ الزّيتونِ، أرسَلَ يَسوعُ اَثنينِ مِنْ تلاميذِهِ وقالَ لهُما: "اَذهَبا إلى القريَةِ التي أمامَكُما، وحالَما تَدخُلانِها تَجِدانِ جَحشًا مَربوطًا ما ركِبَ علَيهِ أحدٌ، فَحُلاّ رِباطَهُ وجيئا بِه. وإنْ سألَكُما أحدٌ: لِماذا تَفعَلانِ هذا، فَقولا: الرّبّ مُحتاجٌ إليهِ، وسيُعيدُهُ إلى هُنا في الحالِ". فذَهَبَ التِلميذانِ فوجَدا جَحشًا مَربوطًا عِندَ بابٍ على الطّريقِ، فحَلاّ رباطَهُ. فسألَهُما بَعضُ الذينَ كانوا هناكَ: "ما بالُكُما تَحُلاّنِ رِباطَ الجحشِ؟" فَقالا لهُم كما أوصاهُما يَسوعُ، فتَركوهُما. فجاءَ التلميذانِ بالجحشِ إلى يَسوعَ، ووضَعا ثوبَيهِما علَيهِ فركِبَه. وبَسَطَ كثيرٌ مِنَ النّاسِ ثيابَهُم على الطّريقِ، وقطَعَ آخرونَ أغصانًا مِنَ الحُقولِ. وكانَ الذينَ يتَقَدّمونَ يَسوعَ والذينَ يَتْبعونَهُ يَهتِفُونَ: "أوشَعْنا ! تبارَكَ الآتي باَسمِ الرّبّ. تباركَتِ المَملكةُ الآتِيَةُ، مَملكةُ أبينا داودَ. أوشَعْنا في العُلى!" ودخَلَ يَسوعُ أُورُشليمَ والهَيكَلَ، ونَظرَ كُلّ شيءٍ فيهِ. وكانَ الوَقتُ فاتَ، فخَرَجَ إلى بَيتِ عَنيا معَ التلاميذِ الاثنَي عشَرَ. (البشارة كما دوّنها مرقس ١: ١-١١)
وللنظر النص الذي جاء حسب للقديس لوقا الاصحاح 19 :
قالَ هذا الكلامَ وتقَدّمَ صاعدًا إلى أُورُشليمَ. ولمّا اَقتَرَبَ مِنْ بَيت فاجي وبيت عنيا، عِندَ الجبَلِ المُسمّى جبَلَ الزّيتونِ، أرسَلَ اَثنَينِ مِنْ تلاميذِهِ، وقالَ لهُما: "اَذهَبا إلى القَريةِ التي أمامَكُما، وعِندَما تَدخُلانِها تَجدانِ جَحْشًا مَربوطًا، ما ركِبَ علَيهِ أحَدٌ مِنْ قَبلُ، فَحُلاّ رِباطَهُ وجِيئا بِه. وإنْ سألكُما أحَدٌ: لماذا تَحُلاّنِ رِباطَهُ؟ فَقولا لَه: السيّدُ مُحتاجٌ إلَيهِ". فذهَبَ التّلميذانِ ووَجَدا كما قالَ لهُما يَسوعُ. وبَينَما هُما يحُلاّنِ رِباطَ الجَحشِ، قالَ لهُما أصحابُهُ: "لماذا تَحُلاّنِ رباطَهُ؟" فأجابا: "السيّدُ مُحتاجٌ إلَيهِ". فجاءا بالجَحشِ إلى يَسوعَ، ووضَعا ثَوبَيهِما علَيهِ، وأركَبا يَسوعَ. فسارَ والنّاسُ يَبسُطونَ ثيابَهُم على الطّريقِ. ولمّا اَقترَبَ مِنْ مُنحَدَرِ جبَلِ الزّيتونِ، أخذَ جَماعةُ التلاميذِ يُهلّلونَ ويُسَبّحونَ اللهَ بأعلى أصواتِهِم على جميعِ المُعجِزاتِ التي شاهَدوها. وكانوا يَقولونَ: "تَبارَكَ المَلِكُ الآتي باَسمِ الرّبّ. السّلامُ في السّماءِ، أوشَعْنا، في العُلى!" فقالَ لَهُ بَعضُ الفَرّيسيّينَ مِنَ الجُموعِ: "يا مُعَلّمُ، قُلْ لتلاميذِكَ أنْ يَسكُتوا!" فأجابَهُم يَسوعُ: "أقولُ لكُم: إنْ سكَتَ هَؤلاءِ، فالحِجارَةُ تَهتِفُ!" (البشارة كما دوّنها لوقاا ١٩: ٢٨-٤٠)
وفي انجيل القديس يوحنا الاصحاح 12
وفي الغَدِ، سَمِعَتِ الجُموعُ التي جاءَت إلى العيدِ أنّ يَسوعَ قادِمٌ إلى أُورُشليمَ. فحَمَلوا أغصانَ النّخلِ وخَرَجوا لاَستِقبالِهِ وهُم يَهتِفونَ: أوشعنا! تبارَكَ الآتي باَسمِ الربّ! تبارَكَ مَلِكُ إِسرائيلَ!" ووجَدَ يَسوعُ جَحشًا فرَكِبَ علَيهِ، كما جاءَ في الكِتابِ: "لا تخافي يا بِنتَ صهيونَ: ها هوَ مَلِكُكِ قادِمٌ إليكِ، راكِبًا على جَحشٍ اَبنِ أتانٍ". وما فَهِمَ التلاميذُ في ذلِكَ الوقتِ مَعنى هذا كُلّهِ. ولكنّهُم تَذكّروا، بَعدَما تَمجّدَ يَسوعُ، أنّ هذِهِ الآيةَ ورَدَت لتُخبِرَ عَنهُ، وأنّ الجُموعَ عَمِلوا هذا مِنْ أجلِهِ. وكانَ الجَمعُ الذينَ رافَقوا يَسوعَ عِندَما دَعا لِعازَرَ مِنَ القَبرِ وأقامَهُ مِنْ بَينِ الأمواتِ، يَشهَدونَ لَه بذلِكَ. وخَرجَتِ الجَماهيرُ لاَستقبالِهِ لأنّها سَمِعَت أنّهُ صَنَعَ تِلكَ الآيةَ. فقالَ الفَرّيسيّونَ بَعضُهُم لِبَعضٍ: "أرَأيتُم كيفَ أنّكُم لا تَنفَعونَ شَيئًا. ها هوَ العالَمُ كُلّهُ يَتبَعُهُ!" (البشارة كما دوّنها يوحنا ١٢ : ١٢-١٩)
---------------------------------------------------
الإيضاحات :
بدءا وقبل كل شيء نلاحظ في هذه المقاطع الإنجيلية الأربعة روح البساطة والعفوية والتواضع ورد الفعل الجماهيري مسطر بكل اختصار. هناك فروق صغيرة بين النصوص الأربعة ولكن كلها كتبت من أجلنا لكي نفهم ما حدث في ذلك اليوم. المهم هو إرادة يسوع للدخول إلى المدينة المقدسة كملك سلام ودور التلاميذ في إحياء هذا الدخول بالفعل والهتاف ورد فعل الجمهور الذي كان متعطشاً إلى المسيح الملك المحرر والآتي باسم الرب الصاباووت [رب الجنود] رغم كل التخوفات من الرومان المهيمنين على كل اسرائيل.
بالسلام يدخل يسوع أورشليم ، مدينة السلام. لا بالحرب ولا بالقوات ولا بالجيش. لا يتمطى فرساً أو مركبة تجرها الخيول كما كان الحال مع القادة المحاربين والقتلة والمدمرين والفاتحين الشرقيين والغربيين ولكن الرب يسوع الملك يأتي على ظهر أتان وهنا يطبق نبوءة النبي زكريا القائلة :
[ قولوا لابنة صهيون هوذا ملكك يأتيك وديعا راكبا على أتان وجحش ابن أتان] ، [زكريا 9:9 ]. فعلامة المسيح الحقيقي هي مجيئه بالتواضع والسلام وهنا تواضعه. فصدق ملك السلام هو مجيئة بالسلام. لا نبي حق لا الا اذا أتى بالحق. لا نبي سلام الا إذا أتي بالسلام. وأورشليم تعني ككلمتين مدينة السلام وملكها الحقيقي يجب أن يدخلها بالسلام وهو رب السلام وملك السلام. مدينة السلام هي لملك السلام. المسيح هو السلام الآتي من الله وهو أحب خاصته الى الموت والموت على الصليب. أحب المسيح إسرائيل وأحب أورشليم حبا جما وأراد لها الخير والسلام والأمان. ولا ننسى أن المسيح بكى ثلاث مرات على أورشليم
(كم مرة أردت أن أجمع بنيك كما تجمع الدجاجة أفراخها ولم تقبلوا ... [متى 37:23]
إذا كان هذا الدخول مفعما بالسلام فهو أيضا مفعم بالروح والتضحية أي أن المسيح يعرف مسبقاً أنه يدخل أورشليم لكي يصنع الخلاص لكل البشرية. يأتي الرب طواعية إلى أورشليم التي هي في معرفته قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين اليها، يأتيها يسوع لكي يعطي حياته بالموت على الصليب ويحقق الخلاص للبشرية في نهاية المطاف. فهذا الدخول هو بداية الانتصار على قوى الموت والشر والخطيئة.
فلنأخذ كل العناصر المحيطة بهذا الحادث :
أولاً: يسوع هو المخطط لهذا الدخول الملوكي وهو الذي يأمر بهذا الدخول وله زمام الأمور كلها. أي أنه ليس مجبرا على الدخول. وهو البادئ لهذه الخطوة وهذه تتم بإرادته وبحريته. فهو يأمر التلميذين بأن يجلبوا له الجحش وهو الذي يقوم بالدخول الاحتفالي والجهوري وبدون اي خوف أو تعتيم. لا يأبه الفريسيين الخائفين ولا يخاف من الرومان ولا يقلق لما قد سيقوله حلفاء الرومان. لماذا كل هذا ؟
لأن يسوع يملك هدفا ثابتا مهماً ويريد الوصول إليه. ليس هدفه أن يأخذ الحكم السياسي من يد بيلاطس البنطي ولا السلطة الدينية من يد الفريسيين والأحبار ورؤساء الكهنة لكن مخططه وهدفه هو إتمام الفداء. هدفه هو تحقيق الملكوت الروحي وإقامة هذا الملكوت يتم يهدر دمه على الصليب. ودخوله الملوكي الى أورشليم مرتبط ارتباطا وثيقا وروحيا ولاهوتيا بموتع على الصليب.
ثانياً : يأتي هذا الدخول علنيا وجهوريا على مرأى نبلاء المدينة وهم من الفريسيين والهيروديين والصدوقيين والكهنة وأحبار اليهود الكبار والرومان واليهود الغيوريين وأصحاب المطامع السياسية والى آخره من المكونات الاجتماعية والسياسية والدينية في ذلك الوقت. وهناك من يؤيد المسيح بهذا الدخول وهناك من يرفضه تماماً. وهناك أيضا من يرفض إعطاء رأيه تخوفا من رهب الرومان وعقوباتهم المؤذية.
والمؤيدون لهذا الدخول الملكي ليسوع يبتغون زوال الحكم الروماني وإعادة مملكة داوود بأوج عزها ومجدها وفخرها وهم ينهجون النهج القومي الكتابي ويريدون تحقيق وعود الرب باستعادة المملكة. والرافضون لهذا الدخول هم أنصار الرومان المحتلين وهم اليهود الذين قد استفادوا من طغيان الرومان بسبب مواقعهم ومناصبهم التي أعطتهم مالا وعظمة وجاها عاليا. وهناك أيضا جماعة من المحايدين المتخوفين من عجرفة الرومان المستبدين. كل هؤلاء وغيرهم لهم مواقفهم الدينية المتغايرة أمام يسوع الناصري الذي يعتبره الشعب برمته النبي الكبير والمسيح الآتي لتحقيق أزمنة الرب ووعوده.
ثالثاً : يدخل يسوع الى أورشليم في فترة حرجة للغاية من التقويم العبري. وهذه الفترة تسبق عيد الفصح وهو العيد الاكبر في حياة اليهود الدينية وفي تلك السنة كان الفصح قد وقع في يوم السبت ولهذا يسميه اليهود بالسبت الكبير [ يوحنا 31:19]. في هذه الفترة بالذات كان يتوجه اليهود لقضاء مراسيم وطقوس العيد في أورشليم. أختار يسوع الدخول في فترة تواجد الآلاف من الحجاج اليهود الآتين إلى أورشليم من جميع الأصقاع والبقاع وهذا الاختيار سيكون له وقعه في الشعب اليهودي الموحد في عبادته في مدينة أورشليم عاصمة الملك داوود.
رابعاً : كان التلاميذ والبعض من الناس ينزعون ثيابهم ويفرشونها أمام موكب الرب يسوع وهذه العلامة تعني من جهة التلاميذ الخضوع التام لهذا الملك والاحترام لشخصه والتبجيل لعظمته والاحتفاء بقدسيته. وهو اعتراف من قبلهم بملكه ومملكته! هذا كان موقف الناس الذين أحبوا يسوع ورأوا فيه المسيح المنتظر وفي عرفهم أن المسيح هو المخلص السياسي والروحي في نفس الوقت. كان هؤلاء يريدون تحرير أورشليم من سيطرة الرومان وإرجاع مجد المملكة الداوودية. ولهذا فقد استقبلوه كملك بحق وله أعطوا أن يسير موكبه على ثيابهم وهذا خير دليل على تواضعهم أمام ملكهم ومحبتهم له واعترافهم به.
خامساً : كانت الجماهير تحمل أغصان الأشجار وتلوح بها أمام المسيح وهذه علامة الفرح والبهجة والسرور لأن هذا الملك يدخل مدينة الملك العظيم بالفرح وبالبهجة ولطالما تاقت نفوس أهل هذه المدينة إلى الفرح الحقيقي. وهي أيضا علامة الترحيب بقدوم الملك وعلامة قبولهم واشتراكهم عمليا وفعليا مع هذا الدخول. فهم يرحبون بالملك وما هتافاتهم إلا تأكيدا وإعلانا لمدى محبتهم لهذا الملك العظيم الآتي بأسم الرب. وأغصان الشجر الخضراء تعني السلام. وكانت هذه الأغصان بالتأكيد من شجر الزيتون الذي يكثر حول مدينة أورشليم وخاصة في جبل الزيتون. والتلويح بأغصان الزيتون يعني السلام الذي يجلبه الآتي باسم الرب وهنا تنويه للحمامة التي جلبت غصن الزيتون لنوح الذي كان في الفلك او السفينة. والتلويح بالأغصان الخضراء أمام المسيح علامة تعني انتصار الحياة على الموت لان شجر الزيتون وشجر النخيل يبقى مخضرا دائما ولا تذبل أوراقه ويعني أيضا الخصب والديمومة والحياة المستمرة.
سادساً : الهتافات التلاميذ المقصودة كانت معظمها منصبة في محورين أولهما شخص يسوع المسيح بالذات هذا النبي والمسيح والمخلص الذي ابهر الشعب بالمعجزات والتعاليم والرجاء والأمل والغفران والمسامحة وبكلامه عن الله أبيه وقيادته الروحية للشعب إلى الله أكثر من كل الحاخامات والرابيين والكهنة ورؤساء الكهنة. والمحور الثاني هو شخص الملك الآتي وهو تجسيد لداود النبي والملك العظيم والذي ترك في قلوب أبناء الشعب العبراني آثارا مهمة لمملكته الموحدة ولانتصاراته الغير المعدودة ولبذل ذاته وحياته من أجل الدفاع عن شعبه وعن الأرض والمملكة التي أصر على وحدتها وازدهارها. وهذه الهتافات كانت : اوشعنا في الأعالي ، مبارك الآتي بأسم الرب، اوشعنا في العلى. مباركة مملكة أبينا داود. ونفهم أن هذه الهتافات يرفعها التلاميذ للمسيح في دخوله إلى أورشليم فقط. أي أن الكتاب لا يذكر استعمالها في وقت آخر.
يمكننا القول أن التلاميذ الهاتفين كانوا الناس المترجين في يسوع المسيح المخلص السياسي والديني والروحي والاقتصادي والمحرر لهم من كل طغيان السلطة السياسية والسلطة الدينية أيضا. فكلمة اوشعنا هي كلمة عبرية הוֹשַׁענָא وتعني " انصرنا الآن" او "إعط النصر الآن" وبهذا المعنى استعملها التلاميذ المرافقين للمسيح الملك. بحق كان الشعب يتوق الى النصر لأنه كان تحت الاضطهاد منذ زوال المملكة وانتهاء الملوك وتبدد السلام.
بشأن كلمة اوشعنا فالمسيحية عبر القرون غيرت قليلا بمعنى هذه الكلمة فصارت الكلمة هتافاً روحيا فقط للترحيب بالآتي باسم الرب وهذا الهتاف مستعمل في ليتورجية المسيحيين. ففي طقس الاوخارستية عند الكاثوليك والارثودكس تأتي كلمة اوشعنا في نشيد القدوس الذي يسبق الكلام الجوهري في تقديس الذبيحة الفصحية أما في طقوس الجماعات والفرق البروتستنتية والمنبعثة من البروتستنتية فتأتي كلمة اوشعنا في الترانيم العديدة فقط.
ولهو جدير بالذكر أن اليهود يستعملون هذه الكلمة كهتاف بمعناها العبري إلى حد يومنا هذا في عيد السوكووت الذي هو عيد المظال.
سابعاً : كان الأحبار والكتبة الفريسيين اللذين يخافون الحكم الروماني والذين هم مع الرومان يقولون ليسوع أن يُسْكِتَ تلاميذه ويُسْكِتَ الصغار الهاتفين له. وهذا يأتي من الخوف أو التخوف أو قد يأتي من أجل الدفاع عن روما كما هو الحال مع المتواطئين مع الاحتلال الروماني. والفريسيين كانوا يخافون من هذه الهتافات لئلا يأتي الرومان يخربوا ويهدموا الهيكل الأورشليمي ويحرقوا المدينة المقدسة. وهذا الخوف كان موجودا بصورة مستمرة [ يوحنا 48 : 11]. لكن يسوع ينتهر هؤلاء الأشخاص الداعين إلى وقف الهتاف ويقول لهم بالحرف الواحد :إن سكت هؤلاء ، هتفت الحجارة ![ لوقا 19 : 40] أي ما معناه أن هذه هي مشيئة الرب ولا أحد يقدر أن يقاوم مشيئة الرب ولا يمكن إيقافها. بقوله هذا ، يعلن يسوع أن ملكوته آت لا محال ! ولا أحد يقدر أن يضع العراقيل أمام الملكوت إلهي الآتي.
ثامنا : عندما يدخل يسوع إلى أورشليم يذهب إلى الهيكل مباشرة ! ولنا هنا وقفة نراها مهمة جدا .ماذا يعني الهيكل لليهود وللمسيح ؟
ألهيكل هو مكان الصلاة لكل اليهود ومحور الحياة الدينية وهو بالنسبة للإيمان اليهودي حضور الله في المدينة المقدسة. وفي هذا الهيكل هناك قدس الأقداس. وهو مركز المدينة ومركز الحياة الروحية. المسيح كباقي اليهود كانوا يزورون الهيكل ويتأملون أروقته وتلك الأعمدة الرخامية العديدة التي تعلوها الأقواس الجميلة وبين أروقته الأربعة المتنائية تتسع فناءان لجمهور الشعب الآتي من كل إسرائيل. وحتى التلاميذ في يوما ما أعجبوا بالهيكل ، [مرقس 1:31].
وهذا الهيكل كان يذكر اليهود بالمملكة وسلطانها وقوتها عزها وفخرها ومجدها. :ان الهيكل الأول قد أنشأه سليمان بحكمة فريدة من نوعها وعلم بالغ وبهندسة رائعة فكان من عجائب الدنيا في وقته لكن الهيكل دمروه الكلدانيين بقيادة نبوخدنصر الغازي والسفاح وكان ذلك سنة 586 قبل الميلاد. وقد بني الهيكل الثاني سنة 515 عندما عاد قسم من اليهود [42360 شخصا] من بابل إلى أورشليم وتحت أمرة زروبابل ويواقين وعظيم الكهنة يشوع. بُني الهيكل الثاني على أنقاض هيكل سليمان. ولكن الرومان هدموا الهيكل الثاني سنة 70 للميلاد وكان المسيح قد تبأ بهذا الحدث بأربعين سنة قبل حدوثه.
ولكن اليهود كانوا يأتون الى الهيكل بالأخص من أجل الصلاة وإقامة الذبائح التي أمر بها موسى في تشريعه. فنقدر أن نقول بكل وضوح وإيجاز أن قلب إسرائيل كان أورشليم وأن قلب أورشليم كان الهيكل ومحبة اليهود المخلصين لله كانت تمر بمحبتهم للهيكل لأنه بيت الرب. وكان خوف اليهود الأكبر هو هدم وخراب الهيكل لأنهم كان يضعون كل إيمانهم وقوتهم بهذا بالحضور الإلهي وسط شعبه.
ولما يطهر المسيح هيكل الرب من الباعة والتجار [مرقس 15:11] يعلمنا بأن بعض اليهود كانوا قد حولوا بيت الله هذا الى بيت تجارة وإلى مغارة لصوص. فنفهم كلام الله : غيرة بيتك أكلتني [ يوحنا 17:2]
الى هذا الهيكل قدم يسوع عندما دخل إلى أورشليم كملك وله كل الحق فهو ملك روحاني لا يعيش في قصور ولا قلاع بل بالبراري والأماكن القفر لأنه ملك لا كملوك البشر بل كإله من أله. فهو سيقول لبيلاطس ألبنطي : مملكتي ليست من هذا العالم فلو كانت مملكتي من هذا العالم لكانت قد دافعت عني قواتي كي لا أقع بأيدي اليهود ولكن مملكتي ليست من هذا العالم [يوحنا 36:18] وبيلاطس ألبنطي سيكتب لوحة تعلق على صليب المسيح وهي التي توضح جرم : يسوع الناصري ملك اليهود ! [يوحنا 19:19] وكانت هذه اللوحة تعبر عن اشتهزاء بيلاطس بيسوع شخصيا وبالشعب العبراني عامة. وكان يريد من هذا أن يعطي درسا مهما لليهود ولكل من يريد الادعاء بأنه ملك اليهود.
يسوع هذا الملك الذي وقت ميلاده جعل هيرودس الظالم ويرتج وترتج كل أورشليم هو ذاته الذي جعل اليهود يرتجفون وقت محاكمته والرومان يخافون من سلطانه لأنه إبن الله. [19 : 6 ـ 11 ]
أن موضوع مُلْك يسوع المسيح هو موضوع لاهوتي طويل وعريض وله أبعاده في العهد القديم وفي حياة يسوع المسيح وفي انتظار الشعب العبراني وفي العهد الجديد. لكن ما قدمناه هنا ليس إلا الشيء البسيط المتعلق بعيد الشعانين. فليعذرنا القارئ الكريم.
ونورد هنا صلاة من الطقس الماروني تقال في أحد السعانين :
نظّم يا ربّ، ألسنتنا لتسبيحكَ ونقِّ ضمائرنا لتمجيدكَ وطهّر أفواهنا للترنيم لكَ بمزامير الرّوح القدس، فنمجّدكَ بنقاوةٍ مع الأولاد الصّافين، ونمدحكَ بقداسةٍ مع الأطفال الأبرياء، ونبجّلكَ بحبٍّ مع الأنبياء القدّيسين، ونبارككَ بالرّوح مع الرّسل الكاملين، ونكرّم دخولكَ مع الجموع باوشعنا في العلى والعمق، لكَ ولأبيكَ وروحكَ القدّوس إلى الأبد. آمين.
وكما شرّعت أورشليم أبوابها تستقبلك، يوم دخولك وديعاً حليماً ظافراً، فأرجعتها مدينة الصلاة والسلام، كذلك، ربّ، أسكن نفوسنا فيفيض فيها الفرح والسلام. إغفر لنا ما خطئنا إليك وإلى كلّ إنسان، فنعيّد لك بالقداسة، ونستحق أن نهتف مع المعيّدين: هوشعنا! مبارك الذي أتى وسوف يأتي باسم الربّ! لك المجد والشكر، أيّها المسيح مخلّصنا، ولأبيك وروحك القدّوس إلى الأبد. آمين.
ونورد أيضا جزءا من النشيد الأولي في مسيرة موكب السعانين في الكنائس الشرقية ومنا الكلدانية والسريانية :
شعب المسيح في هذا اليوم مسرور ............ جئنا نبشركم بالفصح والنـــور
عيد السعانين قد زادت محاســنه ............ عن كل عيد أتى في الكتب مسطور
قوموا جميع النصارى وانهضوا فرحاً ............ بحمل أغصانكم وامضوا إلى الطور .
أفنان نخل وزيتون مقدســــة ............ قضبان آس وأوراد ومنثـــور.
نحمل صليب منجينا وخالقنــا ............ مطيباً بتسابيح وتبخيـــــر.
تأمل في ماهية الايمان الاب أنيس شعبو الدومنكي ـ فرنسا
تأتي الويلات والاضطهادات ويأتي المسحاء الدجالون وشهوة المادة والخطيئة. فاين يبقى الايمان في نفوس الضعفاء وحتى في نفوس أولئك البشر الذين اصعدهم الرب الى مناصب عالية في الكنيسة ولكن اضاعوا ايمانهم بسبب شهواتهم الدنيئة ؟ أين يصيرون أولئك المتضعضين الذين كالقصبة المرضوضة تهزها الرياح وبالنهاية تكسرها. قبل كل شيء الايمان هي علاقة محبة بين الانسان والله وهذه العلاقة تدوم او لا بسبب الكثير من الاسباب. وقبل ان أشرح ما هو الايمان يجب ان انبه القاريء على هذه المعركة الموجودة في الانسان ومسرحها حياة الانسان، معركة بين قوة الله وقوة الشرير. لان الانسان المؤمن هو الذي يجربه الشيطان ويريد ان يترك ايمانه ويترك اتكاله على الله. وكم من البشر فقدوا ايمانهم بالرب بسبب او بآخر. فالشرير يغير غيرة شديدة من الانسان الذي هو في ذات الوقت محبوب من الله حبا جما و هو اي الانسان قادر على ان يصل الى الله بالايمان وبعلاقة الايمان وباتحاده مع الرب. والايمان حياة. فالبار بالايمان يحيا. وحياة البار هي بالايمان وفي الايمان ومن خلال الايمان. وبالايمان يبررنا يسوع المسيح فادينا ومخلصنا. بالايمان نتبرر لان بايماننا بالرب يسوع نتحد ببره وبقداسته وبفدائه على الصليب. وكل من يتحد ببر الرب بسوع يصير باراً. وكل من ينظر اليه يخلص ويحيا. والتبرير بالايمان يأتي من بر المسيح وليس منا نحن الضعفاء الخطأة. فالمسيح يبررنا لاننا نؤمن به. وبر الله ينساب في ارواحنا كعطية اضافية لأننا نؤمن بأبنه ونضع رجاءنا برجائه. وبالايمان بيسوع المسيح نرى ونحس ونعيش في عالم ليس عالمنا بل هو ملكوت الله. بالايمان نرى ما لا يرى. نرى عظمة الرب ونرى فداء المخلص المسيح وبالايمان نحس بما لا يحسه الغير المؤمنين. نحس بأن الرب معنا وهو يسبقنا ويمشي معنا ويسير بجانبنا ويحملنا على ذراعيه في وقت النكبات. ولاننا نؤمن به نحس ونشعر بانه يرافقنا في كل ثانية من حياتنا وحضوره فينا يعطينا القوة والشجاعة ويزيد ايماننا. ولاننا نؤمن به فإننا بحق نعيش الملكوت هنا على هذه الارض ونعيش المواعيد الالهية منذ الان. لا نعيشها كما لو كانت بعيدة عنا ، كما لو كانت تنتظرنا بعد موتنا. لا. فالرب يسوع علمنا ان نعيش في ملكوت الله منذ الان. ملكوت الله هو بينكم. الايمان يقودنا الى حياة الله والتشبه به. الله محبة وحياته هي محبة واعماله هي محبة فالايمان يقودنا الى المحبة الكاملة. بالايمان نحن ايضا نجسد المحبة. لأننا نجسدها بأسم الرب الذي نؤمن به. كل ما تعملوه فاعملوه باسم الرب يسوع المسيح. والايمان يجعل منا اناسا يحملون الفرح والخير البشرى السارة للعالم. بإيماننا نصير شموعاً تنير الطريق للاخرين : انظروا كيف يحبون بعضهم البعض ، انهم تلاميذ الرب. الايمان يجعلنا أن نصير رسل السلام والرجاء في عالم الحقد والكراهية والكذب والسرقة والنهب والسلب والقتل. تلامذة يسوع هم صورة يسوع ملك السلام لارض البشر العطشى. والايمان يحث الانسان الى الاعمال الالهية. لان الايمان يجب ان يتجسد في اعمال تظهر علامات وجود الله ومحبته ورحمته. والا فيكون الايمان اديولوجيا وفكريا ومفهوما ينتمي اليه الانسان من دون واجبات واعمال وسيرة حقيقية. اعمال الايمان تمجد الله. ليتمجد الرب في كل اعمالكم وافعالكم التي تصنعونها لانكم ابناء الرب. واخيرا الايمان هو حياة الله في البشر وهو حياة البشر في الله. لان ايماننا هو بشخص المسيح الحي. له المجد الى الابد. الخلاص أختياري أم أجباري؟ يعتقد البعض من المسيحيين ويعلمون غيرهم بأن الخلاص المجاني الذي حققه الرب يسوع على الصليب بذبيحة نفسه كفارة عن خطايا يكون خلاصا مجانيا ولجميع البشر بدون أن يطلب الرب منهم اي شيء. أي الكل يخلص بكل بساطة يجب أن نصحح هذا الاعتقاد صحيح أن الخلاص حققه الرب يسوع عندما قدم ذاته فداءاً على خشبة الصليب ومن أجل غفران خطايا البشر لكن هذا الخلاص لا يمكن أن نصل الى ثماره الا بالأيمان بالرب يسوع. (من آمن خلص ومن لا يؤمن يدان) أعني أن الانسان الذي يرفض الإيمان بيسوع المسيح سوف لن يستفيد من الخلاص أبداً. وجدير بالاشارة الى أن الايمان ليس فقط الاعتراف أو الإعتقاد ببعض العقائد وببعض الافكار !! كلا !! هنا أيضا يتوهم الكثيرون بأن الايمان مجرد اعتقاد أو إعتراف أو مجرد إنتماء. وهذا خطأ جسيم. (ليس كل من يقول لي يا رب يا رب يدخل ملكوت أبي لكن كل من يعمل بما بوصاياي) الأيمان هو حياة مع الذي نؤمن به. أي انا لا أؤمن بأفكار بل أؤمن بشخص وهو المسيح وبما أنني أؤمن بالمسيح إذاً أنا أعيش وأحيا معه وهو يعيش في وانا احيا به. الايمان المسيح هو إيمان بشخص المسيح وليس ايمانا بافكار وآراء مفكرون أو فلاسفة. فهذا يقول أنا لوثري وهذا يقول أنا كالفيني وهذا يقول يعقوبي وهذا يقول انا اوغسطيني و و و و مع احترامي لكل انسان ولكل شخص. ايماننا ليس بأفكار بشر. لكن بشخص المسيح الذي هو كلمة الله المتجسد. حتى أننا لسنا أهل الكتاب كما ينعتونا البعض. إننا أبناء شخص واحد وهو المسيح. المسيح ولدنا والمسيح هو مخلصنا والمسيح هو محيينا وفادينا ومعلمنا الوحيد. إذاًً فليكن إيماننا حياً بالمسيح الحي. والايمان في المسيح ليس ايمانياًً مائتاً وليس إيماناً جامداً. الايمان هو اتحاد القلبين. الايمان هو حياة الرب في الإنسان. الايمان هو السير في رجاء الحياة والقيامة. الايمان هو وضع كل الثقة الشخصية بالرب يسوع القائم من القبر والمعط الحياة للذين يؤمنون به وبأسمه. الايمان يرتكز ارتكازاً عميقا على المحبة التي أوصانا بها الرب يسوع :( أحبب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل فكرك ومن كل قوتك !!) لأنه إن أحببت الرب فأنت تؤمن به. والايمان يولد فينا الحياةالمسيحية الجديدة التي تدعونا الى الشهادة الايمانية بعيش الانجيل في حياتنا وتقديم ذواتنا أمثلة حية شهادة للمسيح. أعني بذلك أننا نكرس حياتنا للمسيح يسوع بعد أن آمنا به. المؤمن الحقيقي هو الذي يخدم بأسم المسيح خدمة مجانية يعلن بها أن الانجيل حياة للبشرية. وهذا ما نلمسه في سيرة القديس بولس إذ بعد أن آمن وأعتمد كرس نفسه لخدمة الإنجيل وللبشارة بالإنجيل فصار رسولاً يعطي ذاته للرب لانه صار يحب الرب محبة قصوى. اذاً ليس الخلاص اجبارياًً على البشر. بل يتطلب إيمان الانسان وعمله ومثابرته. ولكي نحصل عليه يجب أن يكون إيماننا ايماننا فعلياً وحقيقياً. والايمان تغذيه ينابيع كثيرة لكي يقوى وينمو ويتطور لكي يجابه التجارب والمحن التي يحيكها لنا الشيطان واعداء الرب يسوع. ومن تلك الينابيع التي تغذي الايمان نذكر اولاً التعمق بكلام الله من خلال قراءته وفهمه وادراك كنهه ثانياً الصلاة الفردية والجماعية لانها غذاء فردي وجماعي في نفس الوقت ثالثاً خدمة الآخرين خدمة انسانية وهذه تعني عيش المحبة المسيحانية من خلال اعمال الرحمة رابعاً اخذ الاسرار المقدسة والمشاركة في العبادة الحقة مع المسيحيين الاخرين خامساً الشهادة الانجيلية في الحياة فعلاًً أمام الاخرين خلاصة القول : خلقنا الله من دون أن يأخذ رأينا ولكنه لا يخلصنا إلا برأينا وإلا بإيماننا وبعيش الإيمان عيشاً حقيقياً وفعلياً وانسانياً الأب أنيس شعبو |