القس يوسف هرمزعبيا١٩٦٥-١٨٨٠نبيل يونس دمان
▼ اشتهرت القوش برجال دينها المسيحيين ، سواء في عددهم او في تميزهم ، ورسوخ اقدامهم في المذهب ، وفي ادارة شؤون الرعية ، اضافة الى تبوأ أعلى الدرجات الكهنوتية.
▼ ربما يرجع ذلك الى قدم بلدتهم ، موقعها الحصين ، تاريخها ، مناخها المعتدل في كل الفصول ، واجملها الربيع الذي فيه تتحول أطرافها وسهلها وجبلها ، الى لون سندسي اخضر ، تتماوج فيه كالطيف الشمسي ، الوان تلك الورود البرية الجميلة ، ولا ننسى ايضا قربها من نينوى ( قم انطلق الى نينوى تلك المدينة العظيمة وناد عليها المناداة التي انا مكلمك بها . نبوة يونان 3 : 2 ) . ▼ من هؤلاء القس يوسف عبيا ( رابي أيسف ) الذي يرجع نسبه الى بيت شكوانا العريق ، وقد ولد في بيئة ترعى وتشجع العلم . في مقتبل حياته درس في مدرسة مار ميخا النوهدري الذي كان يديرها خاله المعلم منصور( رابي مجو ) * ، وعندما برزت قابلياته ، اشتد ميله الى الكهنوت ، فالتحق بالمعهد الكهنوتي في الموصل ، وأمضى فيه خمس سنوات ، مجدا في تعليمه. كان البطريرك مارعمانوئيل تومكا معجبا بذكائه كثيراً الى درجة كان يلقبه (( بالبطرك الصغير )) ، فعندما ألحّت عائلته وخصوصا والدته ، على البطريرك ان يحول دون بلوغه درجة الكهنوت ، فيحرم فيها من الزواج ، وينقطع نسله بوصفه الولد الوحيد لعائلته ، وعند اشتداد الطلب الى حد البكاء ، أعطى الضوء الاخضر له بترك المعهد .كان متفوقاً في دراسته ، ومنذ صغره دفعته رغبة بلوغ الدرجة الكهنوتية ، ولكن الظروف لم تسعفه ان ينالها اثناء دراسته في المعهد الكهنوتي بالموصل في مطلع شبابه. في عام 1908 تحققت له الفرصة التاريخية ليكون في قوجانس بمنطقة حكاري ( في تركيا حاليا ) وليرسمه البطريرك الشهيد مار شمعون بنيامين كاهنا مع اخوانه القس سخريا گوكي والقس گوريال ججو دمان وغيرهم .▼ في يوم الاحد المصادف 19- نيسان- 1908 تم وضع يد مار شمعون بنيامين على الشماس يوسف عبيا ، ففي ذلك اليوم اجتمع المؤمنون في كنيسة مار شلـّيطا في قوجانس ، وبحضور ناطر الكرسي البطريركي مار بولس ايشي ، ومار اسحق حنانيشوع اسقف شمدين ، ومار ايليا ابونا اسقف وان ، ومار زيا سركيس اسقف اورميا . وبعد ارتسامته القى كلمة بليغة نالت استحسان الحاضرين ، وقوطعت مرارا بالتصفيق ، وبعد انتهاء المراسم خرج عبيا من كنيسة مار شليطا ، في موكب كبير ، والمزامير تختلط مع اصوات تغاريد النساء ، وضربات الناقوس مع اصوات البنادق ، ويردد اصداء ذلك جبلي ، كوكي والأيل . والقسيس يوسف يشق طريقه وسط الشباب بزيهم الجميل المطرز بالأوراد ، وعلى رؤوسهم الغطاء المخروطي ، الذي ينتصب فوقه ريش الطاووس والكورته ( اسم طائر ) .▼ لم يرق لسلطة كنيستنا الكلدانية ، تلك الحركة التي تزعمها المطران مار أيليا أبونا ، الحديث عنها يطول ، ونبقى في موضوعنا عن القس عبيا ، الذي نحيي ذكرى وفاته ، ونعيد لذاكرة الاجيال ، مكانته وغزارة معارفه ، وكذلك مقدرته في ايصال افكاره ، سواء الى بني جلدته في كل الاماكن التي رعى فيها شؤونها الكنسية ، او الى العشائر الكردية والايزيدية التي عاش ردحا ً من الزمن قريبا ً منها ، فاستحق احترامها ، وارتبط معها بافضل الصلات.▼ كان عبيا يفرض احترامه على الجميع اينما حل وذلك لجاذبية مجلسه ، وسلاسة منطقه ، وقوة حجته . كانت اولوياته اينما حل ، ان يقوي علاقته مع رؤساء المنطقة والمتنفذين فيها ، مستفيدا من تلك العلاقة في خدمة جماعته ، التي كانت اقلية وضعيفة ، حتى ان احد اصدقاءه من الأغوات ، صرح يوما وامام مجموعة من اتباعه وهو حسين أغا ( من منطقة اتروش ) " لولا كثرة القوم الذي يأتمرني لأتبعتك يا عمي القس " ( وبالكردية مام قاشا ) ويعقب محدثي ( حبيب يوسف ابونا ) البالغ من العمر اليوم اكثر من تسعين عاماً ، هاتفا بان عبيا كان ( ملا ّلا ) وهي كناية عن علو مقامه ، وفصاحته ، ورجاحة فكره ، ويضيف ان الأغا كان يضيق ذرعا ً بأحد ملالي المنطقة لضحالة معارفه ، وباستمرار يدعو القس عبيا الى مجلسه ، ليفند مزاعمه ويجعل مكانته في المجلس مهزوزة.▼ في عام 1980 كنت في زيارة الى منطقة آزخ وهرماش و بيبوزي ، هناك قادتني امرأة مسنـّة الى غرفة صغيرة ، لتقول : هنا كان يقدس عبيا - مما جعلني ارسم في ذهني مكانته ، وقدرته على العيش وتحمل صعوبة ومخاطر تلك المناطق النائية خدمة لشعبه ، والتي ابقت ذكراه الطيبة حية الى يومنا هذا .▼ لعل مأثرته البارزة كانت في اقباله على الدرجة الكهنوتية وهو متزوج ، فلم يحرم الوطن والبلدة بخاصة من اولاده واحفاده . كان من القلة الذين انجبتهم القوش في امكانياته الخطابية ، وقد كان يحضر قداسه المئات ، مخاطبا اياهم بصوته الجهوري المعروف وبقابليته في اقناع الناس ، وفي اثارتهم الى اعلى المديات ، خصوصا يوم الجمعة العظيمة ( جمعة الاحزان ) ، فيجعل صراخ الناس ونحيبها مسموعا ً، مضفيا ً على المناسبة الحزينة جلالها وهيبتها.▼ كتب العديد من القصائد باللغة السريانية العريقة ، واهمها تلك التي القاها امام دير السيدة ، في الذكرى المئوية لحملة امير راوندوز محمد باشا ( الملقب ميري كور ) على القوش وذلك في عام 1832 ، والتي حصدت اكثر ابناء البلدة ، وقتل فيها رئيس دير الربان هرمزد الأنبا جبرائيل دنبو ورئيس القوش عوديشانا شمينا ، كما عذب بشدة البطريرك مار يوحنان هرمز والمطران ( بطريرك فيما بعد ) مار يوسف اودو .يقول مطلع تلك القصيدة وهي على الوزن الثلاثي وبالكرشوني :شمّد آلهه مار ِد كل زَوني بـِد مْشارن أوده حطـّايه تـّاني ما بريلي بألقـُش قـَم أمّه شِنـّي▼ منع القس عبيا من ممارسة واجباته الكهنوتية عدد من السنين ، وفرضت عليه احكام قانونية قاسية وطويلة الامد ، تحملها جميعها وواصل رسالته الكهنوتية ، واتبع ما كانت توجهه قيادة الكنيسة الكلدانية ، مواظبا ً على القراءة وتغذية ملكاته الفكرية والشعرية ، منتقلا من مكان الى آخر في ارياف المنطقة ، ومن الاماكن التي ادار كنيستها ، وشؤون رعيتها كنيسة مار عوديشو في قرية ( النصيرية ) ** ابتداءاً من عام 1911 ، وفي حدود سنة 1912 كتب ملحمته الشعرية ( مديحة الراهب ) ، ويقال انه استقى افكارها من اغنية كردية بذلك المعنى ، كان يغنيها الغجر . وقد طالعتها وانا تلميذ في الدراسة المتوسطة وسجلتها في دفتر لازال معي وذلك بتاريخ 1- 2- 1966 ، والتي مطلعها :مصيثوا يا أخنواثــــــي محكنوخو خذه تشعيثهدبرد ملكا مليَه حَخّمثَـه دويوا مبيثه دملكوثـــهكما والف في سني حياته الطويلة ملاحم اخرى ، منها نشيد مار ميخا شفيع البلدة الحبيبة ، الذي يحفظه ، على الدوام ، الكثيرون من ابنائها . يقول مطلعه الجميل :مزمرخلوخ يا مرميخه خزنته دمريَه مبُرخــــهمدحخلخ يا مكّيخـــــــه وردَه دألقـُش مرّيخـــه
▼ من خلال مجريات الحرب العالمية الاولى وبداية سقوط الدولة العثمانية ، وتقهقرها امام جيوش الحلفاء ، بدأ تشتت جيوشها في كل مكان ، خصوصا بعد دخول الانكليز العراق عام 1916 . وصل بعض هؤلاء الجنود الى قرية النصيرية فاعملوا فيها سلباً ونهباً ، وبطبيعتهم القاسية ، وروح التعصب المتأصلة فيهم ، جعلتهم يرتكبون المآثم ، وفي احد البيوت احتجت امرأة على سلوكهم وصرخت بوجههم وعلى برائتها قائلة ـ انها ستخبرالقس بما يقومون به - هنا جن جنونهم عند سماعهم لكلمة القس ، فاخذوا يبحثون عنه في كل مكان ، الى ان عثروا عليه مع والدته ( ساره ) في الغرفة المجاورة للكنيسة فاعتقلوه ، واصدر رئيسهم ( الچاويش ) أمرا بقتله .▼ اقتاده عدد من الجنود الى النهير الذي يمر بجانب القرية لذبحه ، وصادف في نفس الوقت ان مر بقرب المكان ، ومن الجهة الثانية للوادي أيزيديا إسمه ( حسن بسمير ) ابن عم علي حسين بك جد امير الايزيدية الحالي تحسين سعيد ، عندما راى حسن ما يحدث امامه ، صاح بأعلى صوته قائلا " ان القس خاص بقصر الامير ، والذي يمسه بسوء يذبح " . لدى سماع الجنود ذلك اخذوا يكيلون السباب للمنادي ولأميره ، فتركوا القس لفترة وركضوا خلف حسن الذي كان يمتطي جواداً اصيلا ً. إستغل عبيا الفرصة وهرب سالكا مجرى النهر الذي كان مكتظا بالحشائش والادغال ، ومتجها ً بإتجاه قرية ( بيوس ) المسيحية ، وكان مختارها يدعى ( حنا شابو) ، فاستقبلته زوجته بالترحاب ، وطلب منها على الفور اخفائه من الجنود العثمانيين ، وهكذا اخفته في غرفة ، واوعز اليها ان تذهب لتخبر قصر الامير في ( باعذرة ) ، فتظاهرت انها ذاهبة لجلب الماء من النهر ، لكنها غذت السير بخطى سريعة الى قصر الامير لتخبرهم بالقصة وبالاخطار المحيطة بالقس عبيا ، فخرج حالاً من كان في القصر بل والقرية برمتها لنجدته ، وامسكوا بالجنود الثمانية الذين كانوا قد وصلو قرية بيوس . ارادت العشائر المسلحة ان تقضي على الجنود ولكن تدخل عبيا حال دون ذلك ، وهكذا جـُردّوا من اسلحتهم وخيولهم وأطلق سراحهم ، وهم يرتعدون هلعا ً، ويشكرون القس على روحه السامية وتسامحه ، ومضوا في سبيلهم ، لترتاح المنطقة منهم ومن شرورهم الى الابد .▼ اصبح عبيا يدير شؤون الرعية في قرى تابعة لأبرشية العمادية ، منها بيبوزي ، ميزي ، تلا ، آزخ ، وأرماشي ، وفي فترة لاحقة قرية ( ملا بروان ) ، ولكن الظروف القائمة آنذاك جعلته يترك المنطقة لفترة ، وحين عودته وجد ان الكنائس قد تعرضت للنهب واصبحت خاوية ، مما حدا به ان يشكو مظلوميتها الى الحاكم البريطاني في دهوك ، والذي امر أغوات المنطقة بإعادة المسلوبات ، وفعلا أعيد قسم منها . ولكنهم عندما اكتشفوا ان القس عبيا ، هو الذي اوصل تلك الاخبار الى الحاكم ، قرر بعضهم قتله . وظل يتعرض لمحاولات الاغتيال ، وكانت تلك القرى تتولى حمايته في تنقلاته بينها . في احدى المرات كان الرمي مركزاً على موكب عبيا ، وكادت احدى الرصاصات ان تصيب رأسه ، وقد روى لاحقا بان شدة الاطلاقة ، ادت الى تطاير رغيف الخبز ، الذي كان يتناوله في الطريق .▼ كان القس يوسف هرمز عبيا قد تولى شؤون كنيسة مار عوديشو في قرية النصيرية للفترة من ( 1911- 1916 )، في احد الايام وصل عدد كبير من طلبة المعهد الكهنوتي في الموصل برئاسة القس ( بطريرك لاحقا ً ) يوسف غنيمة ، الى محل اقامة القس عبيا ليحلوا ضيوفا عنده في المساء ، وفي اليوم التالي يبكرون قاصدين وادي ( لالش ) ، الذي يبعد عن النصيرية بضعة كيلومترات . كان القس عبيا فقير الحال يعيش هناك مع والدته في غرفة صغيرة ملاصقة للكنيسة ، وبين حيرته في توفير الطعام لهذا العدد الكبير ، كان في الجانب المقابل في قرية ( الجراحية ) من يتابع الموقف ، فدفعت شيمة وكرم اهلها ، بتوفير الطعام لضيوف القس ، وكانت مفاجأتة سارة عندما راى قدور الطعام تملأ المكان ، فاقبل ضيوفه على الطعام اللذيذ ، وكذلك وفرت لهم افرشة النوم فباتوا ليلتهم منتظرين الضياء الاول للصباح التالي ، ليرتقوا صعودا الى كلي لالش .في فجر اليوم التالي ، كان الجميع يمرون من امام قرية ( باعذرا ) ، فطلب القس عبيا من زميله القس غنيمة ، ان يعرجوا عليها للسلام على أميرها ، لكن غنيمة لم يوافق متذرعا بالوقت ، فمضوا الى الوادي الساحر باشجاره وصخوره ومياهه العذبة ، وبحيواناته البرية وطيوره المغردة ، اضافة الى المقيمين فيه والساهرين على مقام الشيخ عادي ( شيخادي ) الرفيع ، وقضوا نهارهم بالمرح والسرور حتى كان العصر ، فقفلوا راجعين الى النصيرية مرورا بمحاذات باعذرا مرة اخرى . كرر القس عبيا الطلب بزيارة قصر الامارة ، فامتنع القس غنيمة ثانية بحجة الوقت ايضا ، هنا شرع عبيا بالتطرق الى عمق العلاقة التي تربطه بأمير الايزيدية علي بك ( جد الامير الحالي تحسين ) وبضرورة الذهاب اليه وتحيته ، اذ دون ذلك سيؤثر على العلاقة الضرورية بينهما ، وعلى هذا المنوال اقنعه ، فدخلوا القرية وجلسوا في ديوان الامارة . كان ترحيب الامير بهم فاتراً وعلى وجهه علامات الاستياء ، فبادره عبيا بالسؤال عن سبب تكدره ، فاجاب بانفعال انت السبب ، فكيف تطاوعك نفسك بالمرور مع ضيوفك في الصباح ، على مقربة خطوات دون ان تكلف نفسك عناء تحيتنا ، فاجابه القس عبيا بان الاعراف تفرض ان يكون السلام على الكبير اولا ً ، فرد الامير بغضب ومن هو اكبر واعظم مني حتى تفضلونه يا حضرة القس المحترم ، فاجابه بنبرة عالية ، نعم هناك من هو اكبر منك واكثر اهمية ، انه الشيخ عادي الذي سلمنا عليه اولا ً ، وها نحن نسلم عليك ثانيا . هنا انفتحت اسارير الأمير وفرح كثيرا ً بالجواب القاطع للقس يوسف عبيا ، وطلب من الخدم توفير افضل انواع الطعام له ولضيوفه.▼ ومن الجدير بالذكر ان أيسف عبيا عندما عاد الى بلدته ، بعد تركه المعهد الكهنوتي ، اخذ يدرس في المدرسة الدينية في البلدة ، وسيم شماسا ، ثم تزوج من السيدة كتي بنت ياقو( طاهو) هومو في عام 1905 ، رزق منها اربعة بنين وهم : المرحوم رؤوف ( 1910- 1988 ) ، المرحوم حنا ( 1917- 1993 ) ، حبيب ( 1924 ) ، وابراهيم ( 1931 ) ، ومن البنات : المرحومة مريم ( 1922- 1996 ) ، استير ( 1928 ) ، ساره ( فرمان 1933 ) . بلغ عدد اولاد واحفاد القس عبيا : واحد واربعون ولدا وحفيدا ، منهم الاطباء والدكاترة والمهندسين ، و خريجي مختلف الجامعات والمعاهد . وله ايضا اربعة وثمانون اولاد أحفاد ، فتصور عزيزي القارئ انقطاع كل تلك السلسلة لو واصل دراسته في المعهد الكهنوتي التي يحرم من يبلغ درجة الكهنوت بالزواج وحرمان المجتمع من خدمات هذه الكفاءات.▼عندما نشر الشاعر الشعبي متي ابونا ( 1903- 2001 ) قصيدته الرائعة عين السقـّا ( ايند سقّا ) في مطلع الثلاثينات من القرن الماضي ، ورد فيها البيت التالي : بساحَة قِملي تري مَلـِّه كِمْ جَغشيلـة مَحلــّيقاشَه جُكّا كـَثـــــــاوة أمّح بحّو بـِرد دَلــّيادى ذلك الى امتعاظ الكهنة ومنهم رابي أيسف عبيا ، جرت بينه وبين الشاعر متي ابونا ( الملقب كبسون ) مشادة كلامية ، وعلى اثرها ذهب في الصباح الباكر الى فناء بيت ابونا في محلة قاشا ، صاح باعلى صوته على والد الشاعر قائلا ً " يا جدّوح !! علــّم اولادك الآدب " ومضى منزعجا . في المساء اقبل ثانية الى الدار مخاطبا نفس الشخص بالقول " يا سليمان ! اعذرني عن ما بدر مني في الصباح فانا لا استطيع النوم او التقديس غدا وقد ازعجتك بكلامي " ، فتامل عزيزي القارئ في شدة تواضع الرجل وعمق أيمانه .▼ عندما اصدر النظام في عهد الملك غازي سنة 1933 ، امراً ( بالتركية فرمان ) بابادة الاشوريين ، احتمى الالاف منهم وجلهم من العوائل ، في القوش ، وحدثت ازمة خطيرة ، وصلت حد نصب المدافح حول البلدة لاجبارها على اخراج الآثوريين ، لتتم تصفيتهم ، وحدث حماس لا سابق له بافتداء هؤلاء المدنيون العزل ، وبالقتال حتى النهاية دفاعا عنهم . كان القس يوسف عبيا في مقدمة من نزل الى ساحات وشوارع البلدة متحدثا ً وخطيبا ً ، للحيلولة دون اخراج الاخوة الاثوريين ، وبالتالي تعريضهم للابادة على يد الجيش العراقي والعشائر الحاقدة ، وقد أرّخ تلك الحوادث في تسمية ابنته المولودة في تلك الايام ( فرمان ) .▼ انتقل القس يوسف الى رحمته تعالى في الثاني من تموز سنة 1965 ، وبموته فقدت اسرة عبيا عميدها ومرشدها، وبموته ايضا فقدته بلدته والطائفة عموما ً . توقف قلب ذلك الخطيب الذي كان صوته يجلجل لاكثر من نصف قرن تحت قباب الكنائس بمواعظه العميقة ، وفي يوم وفاته ايضا توقف نبض ابداعه فيما كتبه ونظمه . خلف ديوان شعر لم يطبع للاسف ، ولكن الكثير من اشعاره حفظها المعجبون به ، وقسم غير قليل ترددها اصوات على أشرطة التسجيل .▼ وورِي الفقيد الثرى في كنيسة مار يوسف ببغداد ، و كان موكب التشييع مهيبا ً ، شارك فيه رؤساء الطوائف المسيحية ، وانهالت العشرات من برقيات المواساة ، وفي المقدمة من اهالي بلدته . لم تشأ الصدفة الاليمة ان يكون البطريرك المرحوم مار بولص شيخو حاضرا الجنازة ، لوجوده في الديار المقدسة ، ولكنه اقام قداسا تذكاريا خاصاً حال عودته الى العاصمة بغداد .▼ كما تناقلت الصحف في اليوم التالي خبر وفاته ، ولعل ما كتبه مؤرخ القوش الراحل المطران يوسف بابانا الى جانب صورة الفقيد كان ابرزها. في مقر البطريركية استقبل البطريرك مار بولص شيخو والى جانبه اولاد الفقيد المعزين ، وقد حضر ممثل رئيس الجمهورية لتقديم التعازي ، فقال :▼ بينما كنا في الدوام الرسمي ، دخل غرفتنا السيد رئيس الجمهورية انذاك عبد السلام عارف ، وبيده مجموعة من الصحف الصادرة في ذلك اليوم وسألنا ، ان كنتم طالعتم الصحف الصباحية ؟ فاجبناه بالايجاب ، والقول لا زال للكيلاني – ممثل الرئيس ، ثم سأل : هل جلب انتباهكم خبر مهم هو من صلب واجباتكم ، واخذ كل من زملائي ينظرالى صاحبه ، لاننا لم نفهم ما يعنيه سيادته ، ثم اردف قائلا ً : عالم دين فاضل مثل هذا الرجل يتوفى ، واشار الى الصورة المثبتة في الصحيفة ، وانتم لم تقوموا بالواجب ، لماذا عندما يموت احد الجهلة ، تهرعون لحضور مراسم تقديم التعازي لذويه ، بينما مثل هذه الشخصية العلمية تغضون النظر عنها ، وامرنا بوجوب الذهاب وتقديم التعازي لاسرة الفقيد وللطائفة ككل ، وهكذا ترونا الان هنا .▼ لا يفوتني القول انني شاهدته مراراً ، في كنيسة مار كوركيس ، او في الطريق اليها من بيته المبني فوق صخور الجبل ، في موقع اسمه ( قرزي ) ، يرجح ان يكون اقدم موضع استيطاني لانسان القوش . رأيته طويلا ً ، مهيب الطلعة ، واسع العينين ، ذو لحية بيضاء كثيفة ، كث الشاربين ، عريض المنكبين ، تكاد الارض تهتز تحت وقع اقدامه .▼ بهذا القدر أتوقف عن السرد الذي املاه واجبي ، بمناسبة الذكرى الاربعين لوفاة القس يوسف عبيا ( 1865- 2005 ) ، تقديراً لمكانتة . واثقٌ بان العديد من الصفحات المطوية من حياته سيجليها الباحثون والكتاب ، المتجددون ابداً في بلدتنا ، التي انجبت ذلك الانسان ، المسكون بالموعظة ، والادب ، والمعرفة .الهوامش :* رابي مجو ( 1846- 1929 ) هو الشماس منصور سمعان كادو والد الخوري يوسف ، والشماس ميخا ، معلم ومدير مدرسة لتعليم التلاميذ ، يعتبر بحق مؤسس المدرسة الحديثة في البلدة . اشتهر بشدته وقسوته مع الطلبة ، وادخل عقوبة الفلقة في حياتهم . مارس ايضا مهنة ساعور الكنيسة حتى عام 1908.** النصيرية : قرية صغيرة تقع بين القوش وعين سفني ، فيها كنيسة مار عوديشو ، كان يسكنها المسيحيون منذ القدم ، ومن العوائل التي سكنتها حتى الفترات الاخيرة نذكر : حنا سيبا ، يوسف زروكا ، منصور نصرنايا ، حنا توما عوديشو ، ياقو شيخو ، يوسف سلقا ، بطرس كمونا ، وغيرهم . و ابتداءا من 1936 عاشت بشكل مشترك وبمحبة وبافضل العلاقة عدة عوائل أيزيدية منها : حجي الياس ، مرزا جندو ، حجيكو ، صالح نرمو واخوانه ، وغيرهم . ونتيجة للظروف التي مرت بها المنطقة ، هجرها المسيحيون ولم يبقَ اليوم فيها الا سادن الكنيسة المدعوهرمز حنا عوديشو. في عام 1986 اصبحت القرية مجمع يسمى ( مجمع التحرير ) يشمل اكثر من 500 عائلة ايزيدية رحلت من القرى القريبة قسرا ً .المصادر :◄ القوش عبر التاريخ - المطران يوسف بابانا - بغداد 1979.◄ سفر القوش الثقافي – بنيامين حداد - بغداد 2001 .◄ الرئاسة في بلدة القوش – نبيل يونس دمان – اميركا 2001 .◄ مار عوديشو وقرية نصيرية – حياة يلدا حنا - الموصل 2001 .◄ دراسة بعنوان - تاريخ التعليم في القوش - بقلم السيدين نوئيل قيا بلو وايليا عيسى سكماني . مجلة قالا سريايا - بغداد 1978.◄ من اوراق ولده حبيب القس يوسف عبيا .◄ كراسة مخطوطة ( القس يوسف عبيا الالقوشي ) جمع نوئيل قيا بلو- 1998.◄ كراسة مخطوطة عن القس عبيا ، من مذكرات الشماس يلدا ابونا .
القس يوسف عبيا خلف الملك فيصل الاول ، في الخط الاخير من اليسار ، تاريخ الصورة 1931
|