|
(((مؤلفاتـــه)))
كتب في الدين والفلسفة وعلم النفس والتاريخ والفن وفي مجلات عديدة عربية واجنبية
اما مطبوعاته فهي:
"الحكمة
تنطق" معرّب عن الفرنسية 1965
"مواعظ
ايام الآحاد والاعياد"1981
"تاريخ
وسير كهنة السريان الكاثوليك بطبعتين من 1750-1985"
"صلوات
الفرض السرياني بجزئين"، الأول لأيام الأسبوع البسيطة، والثاني لأيام الآحاد
والأعياد السيدية، وقد عرّبها عن السريانية 1998
"الاحوال
الشخصية لاهل الكتاب والسلطة البطريركية في الدولة الاسلامية باللغة الايطالية/
روما2000"
"السلاسل
التاريخية للأبرشيات السريانية من 1900- 2003"
"الاحوال
الشخصية لاهل الكتاب والسلطة البطريركية في الدولة العثمانية"
وهي
أطروحة الدكتوراه في الحق القانوني الكنسي
باللغة الفرنسية
"خواطر
في علم النفس السلوكي"
"موقع
الشر من الوجود"
"تاريخ
الادب الارامي"
(((
الاوسمة
)))
لقد نال مثلث الرحمات المطران ميخائيل الجميل الاوسمة تثمينا لجهوده وهي
الوسام الاول:هو وسام الاستحقاق من درجة فارس الصليب الاكبر من مؤسسة القديس
كازيمير
ايطاليا
عام 2000
الوسام
الثاني: هو درع الكومندور الاكبر للقبر المقدس- الفاتيكان 2001
الوسام
الثالث: فهو وسام التاج الذهبي من درجة وشاح الاستحقاق الاكبر (الفرنسي)
منح
له عام 2001
الوسام الرابع: وسام المواطنة الفخرية
هو العراقي الوحيد الذي مُنح له هذا الشرف ومعروف إقليميا ودوليا، رجل دين ودنيا،
راهب فيلسوف وباحث ومؤلف، شخصية مرموقة حصل على عدة أوسمة وشهادات تقديرية، اب و اخ
و صديق حنون لكل من عرفه من قريب او بعيد، يدخل حنايا القلب بابتسامته وترتاح له
النفوس حين تسمع صوته يمجد ويرنم للرب، يعمل بصمت وتواضع لا مثيل لهما، وكل ماعمله
تجسيد حي لرسالة المسيح في المحبة التي حملها للناس بإخلاص وتفاني انقطع نظيره.
إذ منحته مدينة "أتري
Atri"
الايطالية "المواطنة الفخرية" بتاريخ ١٧ تشرين الثاني عام ٢٠١٢ في قاعة بلدية اتري
(اي قبل رحيله بأسبوعين ونيف). وكان مجلس المدينة قد اتخذ هذا القرار بالإجماع منذ
٢٩ تشرين الثاني عام ٢٠٠٨. اِذ دعت مجالس الاقليات و(الحزب الديمقراطي الاشتراكي
والحزب الديمقراطي المسيحي، وحزب الوردة البيضاء) الى الإسراع في منح الجنسية
الفخرية للمثلث الرحمات الذي قام بالعديد من الزيارات الرعوية الى أتري, واحدى
الشخصيات القليلة في العالم ممن يعرفون اللغة الارامية قراءة وكتابة.
وقد صرح عمدة مدينة اتري غابريل استولفي (Gabriel
Astolfi)
في وقت سابق مؤكدا حقيقة انهم لم ينسوا مثلث الرحمات المطران ميخائيل الجميل.
في 17 اكتوبر (تشرين الاول) 2002 زار دار الوكالة البطريركية في روما ملك النمسا
ابن الملكة زيت
ومنح
لسيادته شهادة الدكتوراه في العلوم الانسانية والتاريخية من جامعة كازالي/ مونفيرات
لقد اجمعت المؤسسات الانسانية المانحة هذه الاوسمة على تقديرها لما يقوم به من
اعمال خير ولاسيما في حماية الطفولة والشيخوخة والضعفاء
ولسيادته صوت رخيم ويتقن اصول المقام الشرقي وتفرعاته
وإتقانه الألحان السريانية
في احدى المراسيم الدينية في بيروت وبحضور السيدة المغنية فيروز طلبت منه
ان يقرأ الانجيل
بصوته الرخيم
وفاة سيادة المطران مار يوليوس ميخائيل جميل
انتقل إلى الاخدار السماوية سيادة المطران ماريوليوس ميخائيل الجميل رئيس أساقفة
تكريت شرفاً والمعتمد البطريركي لدى الكرسي ألرسولي والزائر ألرسولي للسريان
الكاثوليك في أوروبا، فجر يوم الاثنين 3 (ديسمبر) كانون الأول 2012 في روما/
ايطالية، عن عمر ناهز (74) سنة، اثر تعرضه لجلطة دماغية يوم الخميس 29 نوفمبر(تشرين
الثاني)، نقل على أثرها إلى المستشفى في روما، ولشدتها لم يستجيب للعلاج
قداس وصلاة الجناز
للمطران المثلث الرحمات ميخائيل الجميل
في روما
عشتارتيفي كوم/ الفاتيكان/ الن جورج
اقيمت صباح يوم امس السبت 8-12-2012 في كنيسة سانتا ماريا
في روما صلاة وقداس الجناز
لمثلث الرحمات المطران
ميخائيل الجميل مطران السريان الكاثوليك على اوربا
وحضر المراسيم كل من السفير
العراقي لدى الفاتيكان حبيب الصدر وسفير العراق لدى روما سيوان صالح والسفير
اللبناني ومسؤول الاعلام في مديرية العامة لشؤون المسيحيين الن جورج ويحضور الاباء
الكهنة والاخوات الراهبات وعدد من الجالية العراقية
في روما وبعد الصلاة نقل
الجثمان الى العراق
(((وصول الجثمان الى اربيل)))
احتشد أبناء بغديدا (قره قوش) والألم يعتصر قلوبهم على مقربة من كنيسة الطاهرة
الكبرى عصر يوم الاحد 9 ديسمبر (كانون الاول) 2012 ، لاستقبال جثمان مثلث الرحمات
المطران مار يوليوس ميخائيل الجميل وكان قد رقد على رجاء القيامة فجر يوم الاثنين 3
كانون الأول 2012م في روما اثر جلطة دماغية بالغة وكان من المؤمل وصول جثمانه إلى
مطار اربيل فجر اليوم إلا أن الظروف الجوية أدت إلى تأخير وصوله حتى العصر
نُقل جثمانه الطاهر من مطار اربيل إلى بغديدا (قره قوش) بموكب مهيب، تقدمه سيادة
راعي الأبرشية المطران مار يوحنا بطرس موشي، وقرب كنيسة الطاهرة الكبرى في بغديدا
انتظم موكب التشييع: تقدمته كشافة السريان، ثم الأخوات الراهبات، أقارب سيادته،
الآباء الكهنة، وأمام النعش سار غبطة أبينا البطريرك مار اغناطيوس يوسف الثالث
يونان الكلي الطوبى، وسيادة المطران مار باسيليوس جرجس القس موسى (المعاون
البطريركي)، وسيادة راعي الأبرشية المطران مار يوحنا بطرس موشي، وسيادة المطران مار
افرام يوسف عبا (مطران أبرشية بغداد للسريان الكاثوليك)، ثم الشمامسة المحيطون
بالنعش، وجموع غفيرة من المؤمنين من بغديدا وبلدات أخرى عديدة. شُيع الجثمان إلى
كنيسة الطاهرة الكبرى، وفيها أقيمت الصلاة، وظل جثمانه مسجى أمام المذبح، بعد
الصلاة أقيم قداس الأحد، بعدها تقاطر المؤمنون لإلقاء النظرة الأخيرة على سيادته
مراسيم دفنة جثمان المطران مار يوليوس ميخائيل
احتضنت كنيسة الطاهرة الكبرى في بغديدا صباح
يوم الاثنين 10 ديسمبر (كانون الاول) 2012 وفي الساعة العاشرة صباحا
مراسيم دفنة جثمان المطران مار يوليوس ميخائيل الجميل، ترأس الذبيحة الإلهية غبطة
أبينا البطريرك مار اغناطيوس يوسف الثالث يونان الكلي الطوبى، بمعية المطران مار
اثناسيوس متي متوكا، المطران مار باسيليوس جرجس القس موسى (المعاون البطريركي)،
المطران مار يوحنا بطرس موشي راعي ابرشيتنا، المطران مار افرام يوسف عبا (مطران
أبرشية بغداد للسريان الكاثوليك)، بحضور المطران مار غريغوريوس صليبا شمعون،
المطران مار طيموثاوس موسى الشماني (مطران أبرشية دير مار متى وتوابعه للسريان
الارثدوكس) والمطران مار ربان القس (مطران أبرشية العمادية وتوابعها للكلدان)
المطران مار ميخائيل مقدسي (مطران أبرشية القوش للكلدان)، المطران مار لويس ساكو
(حاليا بطريرك الكنيسة الكلدانية )، المطران مار حنا يوسف (مطران الكنيسة المشرقية
القديمة في دهوك) المطران مار بشار وردة (مطران أبرشية اربيل للكلدان)، المطران مار
نيقوديموس متي شرف داؤد (مطران أبرشية الموصل للسريان الارثدوكس)، والآباء الكهنة
من الأبرشية والأبرشيات الأخرى، والإخوة الرهبان والأخوات الراهبات، ومسؤولي الدولة
ومنظمات المجتمع المدني والأحزاب، وجمع غفير من المؤمنين من بغديدا
والبلدات المسيحية الأخرى.
موعظة غبطة البطريرك مار اغناطيوس يوسف الثالث يونان الكلي الطوبى بعد الإنجيل:
|
"جاهدت
الجهاد الحسن، أكملت السعي"
إخوتي أصحاب السيادة والنيافة
رؤساء الأساقفة والأساقفة
الخوارنة والكهنة الأعزاء
الرهبان والراهبات والشمامسة
أيها الشعب المبارك
ما كنت أنتظر أبداً أن أحتفل معكم
بالذبيحة الإلهية في هذا جوّ
الحزن والأسف على فراق أخٍ وصديقٍ
حبيب، هو المثلّث الرحمات المطران
مار يوليوس ميخائيل الجميل، الذي
فقدناه إثر وعكة صحية ألمّت به
ولم تمهله سوى أيام وساعات قليلة.
عندما نصلّي الصلاة الربانية،
نقول "لتكن مشيئتك يا رب كما في
السماء كذلك على الأرض". نعم نحن
نسلّم بمشئية الله ونقبلها، وإن
كان الألم يغمرنا لغياب هذا الوجه
المشرق في كنيستنا السريانية.
في نص رسالة القديس بولس الرسول
إلى تلميذه تيموتاوس الذي تلي على
مسامعنا، يوصيه الوصية الأخيرة،
يوصي الرسول تلميذه أن يكون
أميناً للدعوة، أميناً للرب الذي
دعاه، وأميناً للكنيسة التي
احتضنته ورعته. وهكذا يعطي ذاته
مثالاً حيّاً للتلميذ الأمين:
"جاهدت الجهاد الحسن، أكملت السعي".
هذا ما نستطيع أن نفهمه من كلام
بولس، هذا الرسول الذي قدّم
التضحيات والآلام والصعوبات. لقد
قاسى مار بولس الكثير لنشر بشرى
المحبة والسلام والخلاص، وكان
مستعداً أن يلاقي وجه المعلّم
الإلهي الذي أضاء له بنوره درب
الحق، وجعله رسولاً عظيماً لا
نزال نتأمّل بحياته حتى اليوم.
ومن الإنجيل الذي سمعناه، مثل
الوزنات التي استودعها ربّ العمل
لعبيده وخدّامه، نفهم كم على
التلميذ أن يكون أميناً، ليس فقط
على الكثير، بل بدءاً بالقليل،
أميناً في كلّ لحظة من حياته، وفي
كلّ عمل يقوم به، ليستحقّ مكافأة
الرب بقوله له "نعمّا أيها العبد
الصالح والأمين، كنت أميناً على
القليل، أنا أقيمك على الكثير،
ادخل إلى فرح سيّدك"
أيها الأحباء،
عرفتُ المثلّث الرحمات المطران
مار يوليوس ميخائيل الجميل عندما
كنّا نخدم سويةً في بيروت ـ
لبنان، خلال تلك الحرب الأهلية
المؤلمة. عرفتُ فيه ذاك الانسان
الطيّب، المحبّ، المنفتح على
الجميع، الذي ينشر حوله الفرح.
كان كلّه حميّةً وفرحاً ونشاطاً
لنشر كلام الله أينما حلّ
حياته الأسقفية جعلت منه أباً في
المجمع المقدس، منفتحاً وأخاً
للجميع، ومتفهّماً لحاجات الكنيسة
أينما دعي للخدمة. فقد كان أميناً
لسر البطريركية، ثم أصبح مطراناً
معاوناً بطريركياً، وأُسنِدت إليه
فيما بعد مهمّة النائب البطريركي
العام على الأبرشية البطريركية في
لبنان. ومنذ ما يزيد على 15 سنة،
أصبح المعتمد البطريركي والممثّل
لكنيستنا السريانية في روما، لدى
قداسة البابا والكرسي الرسولي،
ولاحقاً عيّنه قداسة البابا
الطوباوي يوحنا بولس الثاني
زائراً رسولياً للسريان الكاثوليك
في أوروبا. وقد عيّنه قداسة
البابا بنديكتوس السادس عشر منذ
بضعة أسابيع عضواً فاعلاً في مجمع
دعاوى القديسين التابع للكرسي
الرسولي في الفاتيكان
أيها الأحباء،
نحن شعب إيمان وشعب رجاء، لذلك
عندما نفتقد أحداً منّا،
نجدّد
فعل إيماننا وثقتنا بالمعلّم
الإلهي القائل "أنا معكم كل
الأيام وحتى انقضاء الدهر"
إنّ مسيرتنا الأرضية، مهما طالت
أو قصرت، عليها أن تتكلّل بنور
القيامة، وأن تكون انعكاساً لمحبة
الله للبشر،
وفعل
رجاءٍ وفرحٍ، بالرغم من المعاناة،
ومهما كان غياب الأحبّاء قاسياً
علينا نحن البشر نتابع هذه
الذبيحة الإلهية، ناظرين إلى ربنا
الذي يدعونا إلى الفرح والرجاء،
ومتذكّرين أننا جميعاً أهل
السماء، وحياتنا على هذه الفانية
ما هي إلا مسيرة نحو السماء،
مصلّين من أجل راحة نفس أخينا
المثلّث الرحمات المطران مار
يوليوس ميخائيل الجميل
هذا ما نطلبه من الرب في هذا
الوقت المقدس، ونحن نشيّع فقيدنا
الغالي وننقله إلى مثواه الأخير،
بشفاعة
أمّنا العذراء مريم، والدة الإله
الطاهرة المحبول بها بلا دنس، في
هذه الكنيسة الرائعة
المشيّدة
على اسمها، وبشفاعة القديسين
الشهيدين مار بهنام وأخته سارة،
اللذين
نحتفل بعيدهما اليوم، وبشفاعة
شهدائنا وشهيداتنا الأبرار أينما
كانوا،
آميــــــــــــــن |
وألقى المطران مار باسيليوس جرجس القس موسى كلمة تأبينية مؤثرة للغاية.
"صلاحا وتدبيرا وحكمة علمني" (مز 119: 66)
غبطة أبينا البطريرك مار أغناطيوس يوسف الثالث يونان الكلي الطوبى
أخوتي السادة الأساقفة الأجلاء
السادة الرسميون والإداريون والمسؤولون في الدولة والأحزاب والمنظمات
أخوتي الكهنة .. أخواتي الراهبات والرهبان
وأنتم جميعا أيها المؤمنون والمؤمنات وآل الجميل الأكارم وسائر أهل الفقيد وأصدقائه
وتلامذته ومحبيه
في عزّ جريانه وعنفوانه كبا حصان الفارس المطران ميخائيل الجميل كبوة حاسمة وهو في
وسط الميدان يهلهل... وتوقفت فجأة تلك الحركة الدائبة، الغادية المقبلة، التي لم
تعرف الكلل على مدى 48 عاما من الكهنوت والشهادة والعطاء الثر. في عام واحد تفقد
كنيستنا السريانية وأبرشية الموصل وبخديدا اثنين من أعلامها وأبنائها: المطران مار
يوليوس ميخائيل الجميل، المعتمد البطريركي لدى الكرسي ألرسولي والزائر ألرسولي
لسريان أوربا، والخوراسقف فرنسيس جحولا رئيس دير مار بهنام الشهيد.
وتستحق بخديدا أن يعود إليها ابنها البار الذي أحبها حتى النخاع وتغنى بلسانها
وأمثالها وتراثها ومثّلها حيثما كان بتألق، تستحق أن يعود إليها ليضمّ رأسه للمرة
الأخيرة إلى صدرها الحنون، وتضمه بحنان الأم الرؤوم إليها ليغذي ارثها ويثري عطاءها
وغدها بما أعطى ولا يزال يعطي أبناؤها وبناتها، البارحة واليوم، من علم وفضيلة وفكر
وطاقة خلاّقة لمستقبل أفضل. ويستحق الفارس أن تستقبله جماهيرها، شيبها وشبابها
وأطفالها، في شبه أوشعنا لا ينقطع من الهلاهل والتصفيق والترانيم. ومن البركة
والشرف لبخديدا أن يترأس الموكب غبطة أبينا البطريرك، أبو آباء سينودس كنيستنا
السريانية الأنطاكية، شخصيا، ولبخديدا مكانة متميزة في قلب غبطته. كما كان يكنّ
للفقيد الغالي تقديرا خاصا لصفاته الشخصية وجدارته كعضو في السينودس العام وفي
السينودس الدائم.
يوم الخميس 29 تشرين الثاني المنصرم، وفي نحو الساعة الثانية ظهرا، صعقت جلطة
دماغية فجائية حادّة المطران ميخائيل الجميل وهو في مكتبه في الوكالة البطريركية
بروما، فصرعته على أديم غرفة عمله فاقد الوعي، وأخذته غيبوبة لم يفق منها أبدا.
ولحسن الحظ سمع جار مكتبه السيناتور الايطالي صوت السقوط، وباب المكتب مفتوح، فهرع
ليجد جسد المطران هاويا على وجهه، مضرجا بدمه. فما كان منه إلا أن استدعى الإسعاف
ونقله إلى المستشفى الأقرب، مستشفى الروح القدس، ومن ثم نقل إلى مستشفى الأخوة
الرهبان في جزرة التيبر، غير بعيد عن كنيسة القديس بطرس. وهنا أجريت له كل
الإسعافات الطبية اللازمة وبقيت الأجهزة والعلاجات الخاصة تقتصر على تنشيط التنفس
والقلب وحدهما. ولم يفلح الأطباء الأخصائيون على مدى أربعة أيام في إيقاظ أية ومضة
استجابة في الدماغ: هكذا رايته ظهر الأحد الماضي عندما أوفدني غبطة أبينا البطريرك
إلى روما على عجل، ووقفت عند رأسه والطبيب يشرح لي أن لا بصيص أمل بشري سوى بأعجوبة
ربانية. وتوقف القلب الكبير الشهم العارم دوما بالحيوية، توقف تماما عن الحركة في
الساعة الرابعة والنصف من فجر يوم الاثنين 3/12. وانتشر الخبر في أوساط روما،
ابتداء من مجمع الكنائس الشرقية وراديو الفاتيكان، ومن روما الى العالم. وللفقيد
أصدقاء ومعارف وعلاقات واسعة، رسمية وشخصية، لا في روما وحدها بل في لبنان والعراق
وأقطار كثيرة من العالم. لا أنسى هذا الصوت الذي جاءني من بلد أوربي في موبايل
الفقيد ذاته ونحن نرتب غرفته كيف أجهش في البكاء وقطع المكالمة اذ علم بالخبر
المباغت. ولا هذا الصوت الذي كلمني بالايطالية في الموبايل ذاته من مكتب دعاوى
القديسين، حيث كان الفقيد قد عينه قداسة البابا مؤخرا عضوا فاعلا فيه، وهو يخبره
بموعد اجتماع قادم للمكتب...وعندما أنبأته بما جرى: هل حقا ما تقول؟ وكيف حدث ذلك؟
كيف حدث ذلك يا أخي ميخائيل؟ قل لنا كيف خمدت فجأة حيويتك العارمة وحركتك الدائمة
وجلجلة ضحكتك الصاخبة ؟ كيف توقفت دون سابق إنذار وبغتة عن كيل هذه التعليقات
الحاذقة والدعابات الخفيفة المصحوبة بدندنة موسيقية أو مقطع من أغنية ذكية، مما كنت
معتادا عليه لتلطيف الجو؟ ماذا تقول
لأشقائك وشقيقاتك ولأبنائهم وبناتهم ولكل ذويك في البلدة المحبوبة، ولأحبابك
ومعارفك الذين يملأون الدنيا وقد تركتهم على حين غرّة من دون سلام ولا وداع؟ كيف
هان عليك أن تغلق ملفات مسوداتك والصور التراثية والتاريخية ومراجع التآليف القادمة
المكدسة في غرفتك؟ أين سنجد ابتسامتك الدائمة التي كانت إحدى علامات تفاؤلك المعدي
وحرارة لقائك مما كان يضفي الفرح والبهجة في أي مجلس أنت فيه، ويفرج عن كرب كل من
يأتيك مهموما في منفاه، أو طالبا عونك، أو سائلا أن تدله على طبيب أو مستشفى، أو
لمجرد السلام عليك في مقرك الروماني؟ هذا كنت في روما وهذا كنت في لبنان وهذا كنت
في العراق وهذا كنت حيثما حللت ... ولم نلق أحدا ممن عرفك أو قصدك إلا وأشاد
بعنفوانك وسرعة بديهيتك وخفة دمك.
وأضيف إلى هذا كله: بساطة عيشك وشبه نسكك في قلايتك في روما وأنت الحاضر في كل
المحافل والدواوين والمناسبات. حتى أهل الحي والمطاعم في كامبو مارزيو بروما صرت
جزءا لا يتجزأ من مشهدهم، غير ناسين إذ كنت تقود في تلك الأزقة التراثية الضيقة
فريقك المحبوب من الكهنة والطلبة الدراسين في المدينة الأبدية. وهل ينسى أحد صوتك
الرخيم العذب الذي وظّفته لتمجيد الرب في الاحتفالات الليتورجية وترنيم المزامير
والتخشفتات، بل أحيانا لطرب من يطرب؟
ولد المثلث الرحمة المطران يوليوس ميخائيل الجميل في بـلـدة قره قوش (العراق) في 18
تشرين الثاني 1938. والده باكوس توفي قبل أن يتعرف عليه ميخائيل الصغير، ووالدته
أمينة موشي كانت غاية في اللطف والطيبة. بعد المرحلة الابتدائية اختار التوجه نحو
الكهنوت فقصد دير مار بهنام في كانون الأول 1951، وبعد سنتين دخل معهد مار يوحنا
الحبيب للآباء الدومنيكان في الموصل. سيم كاهنا على يدي المثلث الرحمة المطران
عمانوئيل بني في 7 حزيران 1964. وفي أيلول من السنة عينها انضم إلى جماعة كهنة يسوع
الملك وصار مسؤولا عاما لها لفترة. في آذار 1967 عين كاهنا لخدمة رعية الطاهرة
الكاتدرائية بالموصل. والى جانب العمل الرعوي اضطلع القس ميخائيل بعدة أوجه
للرسالة: التعليم في معهد مار يوحنا الحبيب، إرشاد الأخويات ومنها الأخوية المريمية
التي صار مرشدها العام لفترة، التعليم المسيحي في المدارس الرسمية والمراكز
الكنسية، مواعظ الرياضات الروحية للراهبات، زيارات منتظمة للمرضى في المستشفى
الحكومي وللسجون من 1965-1972. خدم رعية سنجار من 1970- 1972 يقصدها الجمعة ويعود
الاثنين. وفي 1971 كلفه الآباء الدومنيكيون بتسلم إدارة قسم الفلسفة واللاهوت لمعهد
مار يوحنا الحبيب الكهنوتي في الموصل.
في 1974 قصد الجامعة الكاثوليكية في تولوز بفرنسا للتخصص في الفلسفة وعلم
النفس فنال شهادة الماجستر في الفلسفة. ثم نال لاحقا شهادة الدكتورا في القانون من
جامعة اللاتران بروما سنة 1998عن أطروحته "الأحوال الشخصية لأهل الكتاب في الدولة
الإسلامية"
في أيلول 1977 تغيرت مسيرة القس ميخائيل إذ التحق للخدمة في أمانة سر البطريركية في
بيروت الى جانب المثلث الرحمات البطريرك أنطون الثاني حايك. ومع ذلك استمر في عطائه
بإرشاد الكشاف السرياني اللبناني، وتدريس الدين المسيحي للصفوف الثانوية في مدرسة
سيدة الرحمة، وإعداد موعظة الأحد للكنائس السريانية لعموم لبنان. وفي 1979- 1986
عين مسجلا، ثم قاضيا في المحكمة الكنسية.
في آب 1981 منحه البطريرك حايك درجة الخوراسقفية مع إنعام لبس الصليب والخاتم. وفي
1984 أسس "مركز البحوث والدراسات السريانية" بهدف إحياء التراث السرياني. وفي آب
1986 انتخب مطرانا معاونا بطريركيا، واقتبل الرسامة الأسقفية في 9 تشرين الثاني
باسم "يوليوس رئيس أساقفة تكريت شرفا" ليكون أحد أكثر أساقفة السريان شبابا. وبين
1989- 1990عيّن نائبا عاما على الأبرشية البطريركية في لبنان. ومذ ذاك رشح لمناصب
أو عضوية هيئات أو لجان كنسية عدة منها: لجنة العلاقات المسكونية ولجنة المدارس
الكاثوليكية في لبنان؛ اللجنة التنفيذية لمجلس كنائس الشرق الأوسط؛ لجنة السينودس
من أجل لبنان؛ ممثلا عن الكنيسة السريانية في منظمة برو اورينتي - فيينا.
وجاء المنعطف الكبير الثالث في حياة المطران ميخائيل عندما عينه السينودس سنة 1997
معتمدا بطريركيا لدى الكرسي الرسولي، وفي نيسان 2002 عينه البابا الطوباوي يوحنا
بولس الثاني زائرا رسوليا لسريان أوربا. وقبل أسابيع عدة فقط من وفاته كان قد عينه
البابا بندكتس السادس عشر عضوا في مكتب تطويب القديسين، سيما وأن بطريركيتنا قد
رفعت الى الكرسي ألرسولي دعوى تطويب الشهيد المطران فلابيانس ميخائيل ملكي الذي
استشهد في الحرب العالمية الأولى سنة 1915.
النشاط العلمي والثقافي الذي زاوله فقيدنا ليس بأقل أهمية من المواقع الكنسية
والإدارية التي اضطلع فيها. فقد نشر مجموعة من الكتب والأبحاث، منها:
·كتاب تاريخ وسير كهنة السريان الكاثوليك من 1750- 1985
·صلوات الفرض السرياني لأيام الأسبوع البسيطة
·السلاسل التاريخية للمطارنة السريان الكاثوليك من 1900- 2003
·الأحوال الشخصية لأهل الكتاب في الدولة الإسلامية
وله كتب أخرى جاهزة للطبع أو ملفات جاهزة لمؤلفات جديدة.
ولأنشطته المتعددة الوجوه، وعلاقاته الواسعة وعلى أرفع المستويات، فقد أنعم عليه
بعدة أوسمة، من ايطاليا وفرنسا والنمسا ولبنان.
لقد عشنا سوية منذ سنواتنا الأولى في المعهد الكهنوتي ثم في نطاق الحياة المشتركة
لكهنة يسوع الملك في الموصل، وكنت وبقيت قريبا جدا منه، إضافة الى كوننا أبناء قرية
واحدة، وانطباعي عنه في الأكليركية: تلميذ مرح، مجدّ، نظامي، وطائع، ذو صوت رخيم،
ومعشره مريح ودمث. وفي الكهنوت: كاهن غيور، روحاني، سعيد، وممتلىء حيوية ونشاطا، لا
يمسك نفسه عن أية خدمة يستطيع أداءها. وفي الأسقفية: رجل تحرر من حدود القولبة إلى
إثبات الذات، رجل علاقات واسعة وتواصل وأمانة في الصداقة، مشتغل كبير يعرف أن يسجن
نفسه لساعات للفكر والكتابة، إلى جانب قدرة التأقلم والاختلاط وزرع المرح، فلا يمر
طيفه بأحد دون أن يترك عبيرا منعشا ورغبة لتكرار لقائه. أ ليس في هذا كله شيء مما
ابتغاه فقيدنا الغالي عندما اختار شعارا كهنوتيا له هذا المزمور: "صلاحا وتدبيرا
وحكمة علّمني" ؟.
فاذهب بسلام يا أخا عزيزا طالما صلينا وتأملنا معا، ضحكنا وتألمنا، تسامرنا ونظرنا
إلى الحاضر والمستقبل سوية! "اذهب يا أخانا في طريقك ولا تحزن، فإذا فصلك الموت
عنا، فالحنّان الذي اقتادك من بيننا، هو يسعدك في النور مع الأبرار، وفمك الذي صمت
ألان عن الخدمة، لن يهدأ من بعد بتسبحة الملائكة، ورجلاك اللتان كفّتا عن ارتياد
المذابح، ستطوفان مع الصدّيقين أمام الرب" (صلاة الدفنة).
وأسمعك تجيبنا بنغمات صوتك الشجي، وبكل الرجاء الذي سكن قلبك: "امضوا بسلام يا
أخوتي وأحبائي، ها قد دنت ساعة الفراق، فلا تنسوا ذكري من محبتكم. وإذا تغربت عن
صفوفكم، التمس منكم يا أحبائي أن تصلوا من أجلي. امضوا بسلام يا بني رتبتي"
(الدفنة).
إن المطران ميخائيل الجميل ثروة كنسية وشخصية وعراقية ذات حضور متميز ومتعدد الآفاق
والثراء في المجتمع وفي العالم الثقافي والفكري والكنسي، وبفقدانه خسارة فادحة
لكنيستنا السريانية ولأبرشيتنا ولبخديدا. فالي أبي كنيستنا السريانية الحاضر معنا
هنا، غبطة أبينا البطريرك مار اغناطيوس يوسف الثالث يونان، والى الأبرشية الموصلية
العزيزة المتمثلة براعيها الجليل المطران يوحنا بطرس موشي، والى بخديدا البلدة
الحبيبة ومهد طفولة الفقيد الغالي ومرجع اعتزازه الدائم، والى كنيسة العراق بكل
طوائفها وأحبارها، فالمطران ميخائيل الجميل كان ابن كنيسة العراق جمعاء، نرفع
المواساة والتعزية. ولكم أنتم يا أخوته عبدالله وجميل، وأخواته امامة وحنة وسائر آل
الجميل وآل القس توما وموشي وكل أصدقاء الفقيد ومحبيه حيثما أنتم، صلاتنا وتضامننا
في الألم وتعزياتنا برجاء القيامة الذي رقد عليه حبيبكم وحبيبنا جميعا. باسم الأب
والابن والروح القدس آمين.
خدم القداس جوق الشمامسة،
وبعد
القداس أقيمت صلاة تشمشت الجناز تم خلالها توديع النعش للكنيسة
بطرقه ثلاثا على الهيكل، وعلى عتبة الباب
الملوكي ثم عتبة البابين الجانبين.
ثم انتظم الموكب فشيع جثمان مطراننا الراحل الطاهر من كنيسة الطاهرة الكبرى إلى
كنيسة مريم العذراء القديمة ليوارى الثرى في داخلها.
وعصرا أقيمت جلسة العزاء للرجال في قاعة دار الآباء الكهنة وللنساء في قاعة الجمعية
الخيرية.
نعزي أنفسنا...كنيستنا وكنيسة العالم، ورجاؤنا بالرب راسخ أن يلبسنا بهاء أبديته
مناديا: "أحسنت أيها العبد الأمين... هيا ادخل نعيم سيدك"...أميـــــن
(((مجلس العزاء)))
عشتارتيفي كوم / بغديدا / جبران الطوني
شارك وفد ضم وزير النقل الاتصالات في حكومة اقليم
كردستان جونسون ساويش ورئيس حركة تجمع السريان انور متي هداية في مجلس عزاء في دار
الآباء الكهنة في بغديدا ( قره قوش )عن راحة المثلث الرحمات المطران ماريوليوس
ميخائيل الجميل وذلك في قاعة دار الآباء الكهنة ببغديدا قره قوش .
وقد كان في استقبال السادة المعزين سيادة المطران مار
باسيليوس جرجس القس موسى المعاون البطريركي المطران مار يوحنا بطرس موشي رئيس
اساقفة الموصل وتوابعها للسريان الكاثوليك والخوراسقف لويس قصاب والاباء الكهنة من
خورنات قره قوش وبرطلة وبعشيقة .
وقد حضر مجلس العزاء ايضا محافظ نينوى اثيل النجيفي
وقائممقام قضاء الحمدانية نيسان كرومي رزوقي وسكرتير المجلس الشعبي سالم يونو وعضو
المجلس الشعبي صباح رفو ومدير ناحية نمورد والسادة المسؤلين واعضاء الهيئات والجهات
الادارية والسياسية .
*******************
الراحل ميخائيل جميل: بين نساكة المطران ونبالة الإنسان
بقلم: سعادة سفير جمهورية العراق لدى الكرسي الرسولي
السيد حبيب محمد هادي الصدر
في غفلة عن القلوب الخفقة
بحبك ــ أيها الراحل العزيز ــ تسللت
كف المنايا ـ على حين غرة ـ لتتخطفك
من بين أهليك وصحبك وأنت الذي كنت بالأمس القريب في جمعهم كالعطر من الزهر وكالربان
في المركب. وآخر ما إغتالته منك كلمة مناجاة ووداد سالت من ثغرك المفعم بالبشر الذي
ما لبث مبتسما للموت إبتسامته من قبل للحياة.
وما درت يد الردى أنها قد
مزقت منا شغاف القلوب وسرقت رحيق النفوس. وأنها قد غيبت في مطاوي الثرى فرقدا كانت
الأبصار إليه شاخصة والأفئدة والهة. ثم أبا روحانيا لطالما ضجت جنباته بفوح الخلال
وأريج الفضائل ونبل المواقف ... ما رأته البرايا يوما إلا بشا عطوفا يرخي على
جالسيه نسائم أشواقه ولذائذ أطيابه.
لله درك أيها الفقيد
الغالي ... كم أطفأت من شموع سنيّك السبعين من أجل أن تنير المسيرة الرسالية بعلمك
النافع ووعيك الثاقب؟!. وكم بذلت غاية المجهود والنصيحة لتوضح لطلابك ورعيتك معالم
الطريق الصحيح منهجا وفكرا وعقيدة؟!.فكنت بحق سليل أولئك الأساقفة الميامين الذين
ما إنحنوا إلا لخالقهم وما شدوا إزارا إلا لهدى وتقى ومعروف. ولا دارت لهم عين إلا
على سفر أو دعاء أو إنجيل.
ولا غرو أن إعتراني عجب من
همة كانت سبعينية بعمر الزمان لكنها متوثبة بلبوس العشرين دأبها العمل الصالح
وبغيتها الهدي القويم، ونصرة الله كانت لها نعم النصير. قد إحترفت اللطف وأتقنت
البر وترفعت عن الصغائر. أوليست
لآليءُ أفكارك ولمع مواعظك وعبق سجاياك هي جل ما أورثته لمحبيك من حطام دنياك؟!.
وهل غير ضميرك اليقظ ما لم تدن منه الدنايا ولا الخبائث شقت إليه سبيل؟!.
نعم .. لقد وسع قلبك
الرؤوف كل بني وطنك وأمتك وعالمك الإنساني الفسيح مقتديا بالنبيين والقديسين مفنيا
ــ والهفي عليك ــ مهجتك وعدتك ذبا عن المبادىء وصونا للعقائد وقراعا عن الغروس
المباركة التي زرعها أسلافك الجهابذة الأعاظم.
إني لأحسب نبضك الذي سكت
عن البوح قد أرشف حياة ما صيغت إلا
على نحو متفرد. وكأني برجع (قره قوش)
الوادعة الغافية في حضن أم الربيعين هو صدى الذكريات الخوالي يحكي لنا ولعك بمرابع
صباك وشبابك. أما بيان قلمك وسطوع حجتك ودرر مؤلفاتك المطبوعة والمخطوطة فتذكرنا
بالرعيل الأول من أساقفة العراق السريان الذين كانت لهم جولات فلسفية ولاهوتية
مشهودة في جميع المجامع المسكونية الأولى.
وبعد ــ أيها الحاضر
الغائب ــ فما عساي أن أقول لحظة وداعك الأخيرة غير أنك ستبقى تستوطن
ذاكرتنا ضوءا ينهمر في الأحداق وزهوا يأتلق في الحنايا وزهرا وآسا يورق في
الضمير وسوى تضرعات باكيات وزفرات ساخنات أطلقها في رحاب هذا المكان المطهر أنوب
بها عما يجول في وجدان إخوتي أصحاب السعادة السفراء والإخوة والأخوات الزملاء وكل
من حضر معنا من الجالية العراقية في
أن يتغمدك رب العزة والجلال بواسع رحمته ويسكنك فسيح جناته ويحشرك في عليين مع
القديسين والصالحين وحسن أولئك رفيقا.
*************
"أحبب وإفعل ما تشاء"
د. عصام ي. عطالله/ لبنان
هذه
الكلمات تلخّص مسيرة حياة وعمل الراحل صاحب السيادة المطران ميخائيل الجميل، الذي
اقتربت منه فجعلني "رفيق دربه" في السنوات الماضية فكانت
لنا معا لقاءات واسفار الى بلدان عدّة مشرقية وأوروبية في إطار خدمته ورسالته
البطريركية وزياراته الرسولية في اوروبا، فكانت أعماله كلّها فعل محبة. ومنذ أقلّ من شهر كنت قد توجّهت
اليه ومن على هذه الصفحات برسالة من الوجدان أهنّئه فيها على المنصب الجديد الذي
كان صاحب القداسة قد اولاه إيّاه في ال29 من شهر تشرين الاوّل 2012 كعضو أساسي في
مجمع دعاوى القديسين في الفاتيكان، فتوّج مسيرته مع من أحب اللقاء بهم سريعا منتقلا الى مهمّة أسمى وأبدية دعاه اليها الآب السماوي، فترك كل شىء ولبى النداء
سريعا، وله اكتب هذه الكلمات:
سيّدي،
من عليائك تظلّلنا وترافقنا في هذه الفانية، تنكسر الاجنحة، أجنحتنا، فلا نجد
التوجيه عند الحاجة له، انت من كنت دوما الراعي الصالح يسوس رعيته، فكانت "رعيته
تعرفه وهو يعرفها" حقّ المعرفة، ومع فقدانك شعر العديد من الاصدقاء والمحبين
بالخسارة الكبيرة التي ألمّت بنا أبناء الرعية، في ضعفنا البشري لم ندرك عند الصدمة
بأن المجد السماوي اعظم من هموم البشر وضياعهم، لم ندرك حقيقة اللقاء ودعوة الباري
لك لكي تكون في السماء ملاكا يظلّلنا ويشفع لنا أمامه تعالى، امام الخالق في عظمة
خلقه.
رغم الايمان، نطلب برجاء، أن يحلّ الفرح في كياننا، فالحزن والكآبة تعصر في قلوبنا
لفقدانك، لأنك لم تعلمنا بسفرك، فأتى مفاجئا، ونحن نفتش عن الاعذار لغيابك القسري،
فمن يستطيع أن يملأ الفراغ الذي تركت لولا الرجاء بالسيّد السماوي واليقين به! هو
من دعاك، واليه كلّنا عائدون.
سيّدي
لم يستطع قلمي سوى ان يكتب اليك، كيف لا وأنت العزيز على قلبي، وعزيز على العائلة
ورفاق الصلاة والقربان والاحبة، كيف لي ان لا اكتب عن "والدي" المطران الذي كنت اجد
عنده الملاذ والارشاد والمشاركة في شؤون وشجون عامة كنّا نتابعها معا وتحديدا فيما
خصّ الشؤون العامة والشؤون الشبابية وتأثيرات السياسات العامة على التصرّفات
البشرية، هو من حمل دوما، وبصمت، الوطن لبنان، ارض الانين والالم، ارض التناقضات
والوجع، وكان يردّد ما معناه بأن لبنان لا يعيش إلا من خلال تضحيات شعبه الذي يذوب
به ليحيا وتستمر الرسالة.
لقد انتقلت من بيننا لتجتمع باللقاء الابدي مع الباري وإنني على يقين بأن غياب
الجسد لا يعني غياب الروح فذكراك الحيّة تحمل الينا الانسان بالبعد والالتزام
بالدعوة التي أرادها الله له، انها الرسالة التي نشرتها على طريق الروح والحق.
والدي الروحي
لا شك بأن روحك يا "سيّدنا" تنعم بدفء النعمة والخلود بجوار الابرار
والصدّيقين، ونطلب منك وأنت في عليائك ان تصلي لنا ولعائلاتنا وللبنان الحبيب، لأن
الخلاص لن يأتي سوى من خلال صاحب الدار حيث تسكن النفس الطاهرة الابدية
********************
كلمات بلغة القلوب
أيها المُنطلِق من ثلاثينات الزمن
أيها المنطلق من أزقة بلدةٍ برائحة الطيب
وبطعم البساطة
وبجمال الرجاء
بلدة تضوع الصلاة في نسيمها
وتستقر في الأعماق إيمانا وأمانا وحنية ودفئا
آه، أيها الزمن الجميل
زمن بلدة تواصل إنجاب الأزمنة الجميلة
ومن رحم أبنائها
ومن بينهم أنت "يا سيدنا مِيخائيل"
انطلقتَ... حملت طفولتك وانطلقت إلى دير مار بهنام الشهيد
وكل حكاياتنا شبيهة بحكاية هذا القديس
شفيع بلدتنا
وانطلقتَ... حملت صباك إلى دير مار يوحنا الحبيب
دير ...مرتع للروح
فحتى لذكراه تبتسم الأعماق
فكيف بمن عاش في جنائنه الحليمة الحالمة...!!!
حيث تزهر في الروح
كل جنائن من زهر وجمال
وانطلقتَ ...حملت شبابك
صوب مديات البذل والتجرد
فكنتَ للرب كاهنا...خادما
وللقريب أيضا...
انطلقت...حملت مواهبك
فاطرب بعذوبتك حتى الإلحان
وكنت في صفوف مرنمي جوق ملفاننا مار افرام السرياني
ومار يعقوب السروجي...
وجوق الملائكة .
.حيث ترنيمهم لا يخفت ولا يتوقف...
"المجد لله في العلى..."
انطلقت...حملت كهولتك بذلا
وكدا وإبداعا
ومن عمقك أنجبت المؤلفات.
انطلقت...حملت شيخوختك
ورحلت مع الشمس
كانت الشمس تغيب
وأنت تواصل الإشراق
كان الغرب يبرد
وأنت تواصل الثوران
يا أيها البركان الجميل
أيها البركان الغيور
يثور ويثور
يحرق البرودة واليبوسة
رحلت...حملت رجاءك...صلواتك
هاربا من شيخوختك
فالشيخوخة لا تحل في صومعات النساك
الشيخوخة لا تنساب في عروق الثوار
الشيخوخة ومن شجى صوتك
تلبس العنفوان
واليوم.. هل نقول رحلتَ؟
لا...بل انطلقتَ حاملا تقدمتك للرب
وكانت...
ها أنا ميخائيل جميل من بغديدا
أنا بكليتك لكَ أيها الرب مخلصي
......ويبدأ سفر الحياة
والشكر للرب دائما
************
كلمات بلغة القلوب
رنّم أيها القادم الصامت
رنم مع مطر السماء
فينمو ربيع المسكونة
وتلبس الأرض البهاء
رنم ليزدهر ربيع الروح
فاليوم زكريا وبعد خرس شهود قد تكلم
بشّرَ العالم بحنان الله الغامر
فأمطرت السماء حنانا
وازدهرت الطرقات بالرجاء
رنّم يا سيدنا جميل
فصوتك أعذب من صوت المطر
من صوت الدفء
من صوت النبض
أحباؤك ينتظرونك في ساحات بغديدا الحالمة
بغديدا التي عشقتَ براءتها..أصالتها
ووجوه بيوتها وسمرة أبنائها
وعيونهم المحتفلة بالرجاء أبدا
وبالأعماق المتلذذة بجسد الرب
أحباؤك ينتظرونك
ليقولوا أننا نسمعك
حتى وان صمتّ إلى الأبد!!!
يا صوتا تلذذ بكلام الرب
بمزاميره...بوصياه..بمعجزاته بأمثاله
وبقصائد رجالات الله
الخافقة بالنبض السرياني
الجموع غفيرة
هيا رنم..هيا أكرس...هيا ابتسم
فالحياة ترنيمة
الحياة كلمة حق
الحياة فرح ابدي
هيا رنّم أحزاننا...معاناتنا
رنم لتصبح الطرقات عودة
وتهرب القلوب من الغربة
وتهرب من الخوف
وتطفح
شجاعة
فالحق يتطلب شجاعة
والحقيقة أيضا
رنم مآثرنا في ثباتنا في كلمة الله
في كرمة الرب
في وطن الرب..الحب
هيا رنم محبتنا
وحكايات حبنا
وعشقنا لفجر يلد شموسا حرة
وليل يحبل بأحلام حرة
رنم حريتنا
فما كنا يوما ولن نكون عبيدا لأحد
رنّم معجزاتنا تلك التي نجترها من نار محبتنا
من نسائم عهدنا الجديد
رنم تجددنا...وخرائط انفتاحنا
فنحن إنسان جديد
لا يوهمه الموت على انه الخاتمة
وان سرنا حاملين النعش
فالموت لا يمنعنا من الحياة
ولا من أن نسمع الترنيم
فهيّا واصل الترنيم يا سيدنا
فدنيا الله ترنيمة الأبد
وان سرنا نشيَعيك
فلكي نبشر الموت بأنه معبر
والدمع الذي نذرفه ليس يأسا
إنما يجذر الرجاء فينا ويرسخه
لا لن يوهمنا الموت بادعاءاته
قلب الحياة لن يصمت إلى الأبد
فنحن أبناء فجر القيامة
"فما بالنا نبحث عن الحي بين الأموات"
ليس ها هنا..بل قام
قام المسيح حقا
فالحياة قيامة...
والشكر للرب دائما
****************
هناك مَن ينتظرني
المونسنيور بيوس قاشا
قالوا ... وسُمِعَ الخبر ... وما أقساه، بل وما أهوَله
عظيمٌ رحل ... رايةٌ انحنت ... عَلَمٌ أُنْزِلَ من ساريتِه
رحل الجميل إلى دار الأجمل...
لقد بدأتَ بتاريخ، ولكنكَ لم تنتهِ في زمن
لأنكَ أنتَ التاريخ، كما في الأعالي، اليوم وغداً وأبداً
هكذا بالأمس كنتَ رايةً حَمَلَتْها كلمات الزمن
فلم تَمُتْ حتى بعد أنْ مُتَّ...
ماتَ جسدُكَ ... وإنْ قالوا قد ماتْ
فناسٌ قد ماتوا قبل أنْ يموتوا
وآخرون وإنْ ماتوا ... وسكنوا القبور ... هم أحياء
وأنتَ منهم ... حيٌّ بالمسيح الحياة
هل تعلم يا سيدي ... يا جميل
إننا نمشي أمواتاً ، فالموت لهذا الزمن رحمة ...
ولا نحيا إلا بكلمةٍ من معلِّمِكَ ... مَن آمن بي ...
إيمانُكَ أبدعَ كلمة ... وصفحات كتبكَ أينعت ثمراً
فكُتب لوحٌ ... خُطِّطَ عليه ... هنا قد رقد
لكنه غادر ... إنه كاهن الله ... حَبْر السماء
سليل ملكيصادق ، احنوا له قاماتِكم ...
واتركوا له سنابلَكم ... بعد بركة
خذوها واطعموا أولادَكم
فالحياة في القبور لا تموت
بل الموت هو سبات ، من أجل ربّ الحياة
كان لي حديثاً معكم قبل يومين بالتحديد
كما في الأكيد ... من مأساة الغياب
وبعد أنْ طال الحديث ، رجوتُم قائلاً ...
وأطلقتُم نداءً ، هناك مَن ينتظرني ...
فقلتُ تمضي ساعة ويكثر زوّارُكَ
ولم أكن أعلم حينها ... أنّ ربَّنا آتٍ كي يصطحبكَ
ليكلِّلَ هامتَكَ ... مجداً وإكليلاً
ويتوّج مسيرتَكَ ... كي يورثكَ مُلْكاً واعداً
لم تكن تحلم به ... بل أعدَّه لكم عبر اسمٍ في سجلات
فيا حبرنا ... اذكرنا أمام الذي أحبّنا ... إننا له
ونحن من رعيَّتِكَ وغنمِكَ
وأجدادُكَ قد ذاقوا خبزَنا
وكانوا لنا كما هو عونكَ
قل لخالقِكَ ... بعد تقديمِكَ حساب وكالتِكَ
إن الحقيقة قد شُيِّعَت ، والغدر أصبح سلالة القانون
والضمائر قد فَسُدت ،
وما هناك إلا بيانات واستنكارات
وأضف قائلاً إننا شبعنا تصريحات
فالكراهية والحقد ما هما إلا علامات
ونسي عبد الزمن ملء الفراغات
في العيش والحب ومنح الغفرانات
والأنانية والطائفية والمصلحة أصدرنَ لهم الجوازات
ورحلوا دون منع أو سياجات
وهكذا ضاعت الحقيقة كما في الحياة
وتحولت إلى الغدر وأسلوب الممات
بدلاً من الوفاء نادر الوجود والثبات
فمكاسب زائلة ومناصب هاوية
وما ذلك إلا زمن الهرولة والزائلات
وضاع العناق وغاية العزم والعنفوان
يا حبرنا ... سلّم على الذين التحقتَ بهم
قل للأب الرحوم :كنيستك تحتاج الى صوتكَ
وهكذا المعمذين باسمك
قل أن ينهر الأمواج والبحر
كي يُسكتَ البحرَ .. فتموتُ الأمواج
أكّد إلى ربكَ ... لأجله نحيا
سنبقى له أوفياء ، فالمسيرة وإنْ طالت أو قصرت
فنحن له أمناء ، وقل له أننا سنُلقي الشِباك ... باسمه
وفي ذلك نحن أغنياء
فنحن لا نملك لا خضراء ولا حمراء وإنْ كنا فقراء
عطاؤه عطاء ... ومنحُه سخاء ... وحُبّه دماءٌ فداءٌ
لا لن نرضى إلا أن نكون له شهداء
وفي ميراثه وخيراته شركاء
فلكَ مني يا حبرنا الراحل ... إلى حيث البقاء
صلاةً وتذكاراً ... أنشد ...
بخوراً أُحرق ... وشموعاً أُضيء
أحني له هامتي. ونخلتي تعلن قيامة الحي
ومعها أرزة القديسين .
ياعنفوان الزمن ، وعزم المسيرة ،
إذهب وإطمئن . فيونان ساهر وماهذا إلا نقاء الحب
وما الحب إلا رسالة ...
فمعكَ أردّد ، في البدء كما في الشروع
هناك مَن ينتظرني ... إنه يسوع
نعم إنه ينتظرني ... نعم إنه
يسوع
*******************
المطران ميخائيل جميل، سيرة وذكريات
لويس إقليمس
بغداد/ 22 كانون ثاني 2013
معلمٌ بارزٌ من أعلام السريان يرحل وهو في عزّ نشاطه،
وشخصية بحجم المطران ميخائيل جميل تودّعُ قرقوشَ – بخديدا مصنعَ الرجال وقوتَ
الثقافة السريانية وترياقَها، وأسقفٌ طافتْ سمعتُه أرضَ الله الواسعة متجاوزةً حدود
الوطن إلى الديار العليا والمحافل الدولية والدواوين الفاتيكانية يرقد صامتًا،
بائسًا، صاغرًا لقساوة المنون الذي لا يرحم أحدًا. هذه هي الحياة الدنيا... ولادةٌ
ونموٌّ وتعليمٌ وتدرّجٌ ورقصة وهولٌ وسفرٌ وإنتاجٌ فنهايةٌ محتومة! ما أقساها من
حياة وما أرهبكَ يا موت! ولو لم يكن في جعبة الإنسان شيءٌ من الإيمان بالقيامة، فهل
كانت تستحق كلّ هذا العناء؟؟؟
هكذا إذن، عادَ إبنُ بغديدا البار إلى أحضان بلدته،
ليس فارسًا راكبًا على فرسٍ أصيلٍ كما اعتاد في زياراته السابقة منذ مغادرتها، ولكن
هذه المرة محمولاً، مخذولاً لا حراكَ فيه ليرقد بين حناياها، بعدَ أن أسكته الموت
القاسي قبلَ أوانه.
لقد كبا الفارس المقدام عن صهوة جواده وهو لمّا يزل
كتلة ساخنة من الحركة الفاعلة والنشاط الدؤوب والإنتاج الفكري الغزير، وهو في
حياته، لم يكنْ يعرف الملل حتى ساعاته الأخيرة، ولا عرَف التوقف عن العَدْوِ
والتسابق مع الزمن منذ سيامته الكهنوتية في حزيران 1964 وتسنّمه المسؤوليات الشاقة
والعديدة أينما كان وحيثما كان، في المكان والزمان واختلاف الظروف والميادين
والأصقاع.
كان فارسًا من نوع خاص يعرف كيف يدوس الأرض بحدوته،
ونجارًا ماهرًا يختارُ أين يدقّ مسمارًا في جدارٍ مشجّع، وأكّارًا شغولاً يبذر
ثمارًا في أرضٍ صالحة، ويسقي زرعًا في مواقع كثيرة أينعت عن حاصل طيبٍ.
ذو جدارة بارعة ونيةٍ عامرة بالمحبة وانفتاح للفضاءات
الكثيرة التي نجح في تسلّقها بحكمة وعنادٍ وطموح بارز. واسع الاطلاع، عنيدٌ في
كبريائه ومغمورٌ في اعتداده، رغم همومه وانشغاله بأهوال بلدته ووطنه وطائفته
وبلبنان وأبناء المهجر الذين تولّى مسؤولية رعايتهم وزيارتهم في كلّ فرصة سانحة،
كالحمام الذي يحنّ لعشّه وفراخه.
أديبٌ مصقعٌ مقنعٌ في كلامه، سلسبيلٌ في سرده مداعبٌ
في روايته، بشوشٌ لا تنقطع ابتسامته وعبوسٌ حين يشغله همٌ أقفل عليه الحلّ . فوضويٌ
بعفوية في قهقهاته التي تنساب لتصل جنبات الفضاء الذي يسكنه بأكمله.
ذو قلم سيالٍ لا يعرف التوقف تأليفًا وترجمة. خفيف الظل، سريع في بديهته،
مطربٌ في عشرته، كريمٌ في عمله ورفقته، سليمٌ في علاقاته، متفتح الذهن والروية،
متحرّر في قراراته وحركاته، أنيسٌ في أي مجلس يحلُّ فيه، ولا يخفي نوعًا من الجدّية
حينما يقتضي الظرف ليقول لك: كفى، فقد طفح الكيل! شغوفٌ بالعراق، البلد الذي أولاه
شيئأ كثيرًا من اهتمامه. كيف لا، وقد توشح منصب أسقفية تكريت شرفًا في 1986، لتأكيد
هويته وعراقيته استذكارًا لدور تكريت، عقرِ دار السريان في غابر الزمان! ومن شدّة
حسرته لما يجري فيه وله، كان يعبّر عن اسفه لما آلَ إليه حالُه ويتخوّف من تجزئته
وإفراغه من سكانه الأصليين في ظلّ العولمة والمخطط
الجهنّمي المرسوم للشرق الأوسط الجديد.
كان المطران جميل فوق ذلك كلّه، لطيفًا في معشره،
محبًا للناس، كل الناس، حريصًا على تحلية المكان الذي يحل فيه وتجميله بدعاباته
البسيطة المعقدة في آنٍ معًا، وهي خليطٌ من مداخلات وتغريداتٍ لا تنقصها النكتة
والقهقهة العريضة أحيانًا لتبديد الهموم وتبسيط سبل العيش، رغم جِدّه في العمل
وأصوله. يعرفه المقربون في جلساته، سارحًا بذكريات الأمس التليد وحكايات الجدّات
والقدامى أيام زمان وبذكريات الصبا وقساوة أيامها وحلو طعم الأكلات التقليدية
لبلدته من البرغل والحبية والكبة وأشباهها. هذه كلُّها وغيرها في غربته الرومانية،
لم ينسى طعمها والشوق لها متى حلّ لديه ضيوفٌ من أهلها وقساوستها وتلاميذها
الدارسين في الأروقة الفاتيكانية الذين خصّهم برعاية مميّزة.
ذو صوت رخيم تطربُ له الآذان وتشنفُ الأسماع، حين
ينبري في التنغيم والولوج إلى عالم الموسيقى، لاسيّما منها ما يثير المشاعر ويأخذ
الألباب كالمقام والجالغي وشيء من روائع الغناء العربي كفيروز وأم كلثوم ومحمد
عبدالوهاب. ما أطربه حين كان يغني أغنيته المحبّبة " يا جارة الوادي" مفتونًا
شغوفًا بلواعجها وترنيماتها وسلّمها وكأنها تطلع من عمق جوارحه المكبوتة وهو مأخوذٌ
بها لغاية العشق من شدّة تفاعله مع النغم.
صوته وهو في قلاّيته أو في أروقة مقره في روما، كان
يجلجل وهو يضفي على مَن برفقته أو بالقرب منه، أجواءً من المحبة واللطف والكياسة
إلى جانب سحنة من الحنين والحزن والعودة لسالف الأيام. وفي موقعه الكنسي الرفيع
وبرغم هيبة البناية التي يسكنها، كانت قلايتُه أشبه بغرفة ناسك متعبّدٍ لعمله
ومخطوطاته التي لم تُنجزْ بعدُ، وما أكثرها، وهو في بلاد الغربة، وما أدراكَ ما
الغربة!
كان جميلًا بسمرته، يحب الجمال والوجهَ الحسن بتقاطيعه
ولاسيّما شكلَ الأنف... وكم كان يتغنى ويفخر بأنفه الشبيه بالكشتبان، وهو يعدّه من
محاسن الجمال لدى البشر. أتذكر بعضًا من مثل هذا الوصف له ونحن في صالة الدرس في
معهد ما يوحنا الحبيب في مرحة سمنير الصغار في نهاية الستينات. وحينَ أعودُ لتلك
الأيام الخوالي، أتذكر عنها الكثير الذي لا يمكن نسيانُه. ومنها ما تعلّمتُه على
أيدي معلّميّ وأساتذتي في معهد مار يوحنا الحبيب منذ 1967 لغاية 1973. وقد كان القس
ميخائيل جميل آنذاك واحدً من هؤلاء الذين لا يمكن طمسُ تأثيرهم في مسيرة من
عاصروهم. إنّي أكنُّ له العرفان بتعلّمي على يديه الكثيرَ من مبادئ اللغة العربية،
قواعدِها وأدبِها، ومن الألحان الكنسية الطقسية
التي فيها كان مرجعًا وكنزًا نادرًا للعديدين، مع زميله وأستاذنا جميعًا
المرحوم القس جبرائل جرخي، صاحب الحنجرة الذهبية وفطحل اللغة العربية للعديد من
الأجيال الذين احتضنهم معهد مار يوحنا الحبيب بالموصل. وهنا أعيد للتذكير، أن القس
ميخائيل، كان قد سجّل ألحان "بيث كازو" الطقسية على كاسيتات خلال فترة عمله في
"السمنير" وخدمته في إبرشية الموصل، ولا نعلم مصيرها وبيدِ مَن صارتْ، فهي كنزٌ ما
زلتُ أبحث عنه منذ زمنٍ!
أتذكر أيضًا، ونحن تلاميذ في معهد مار يوحنا الحبيب
الكهنوتي، كيف كان يحكي لنا ما يجري في زياراته للسجون في الموصل، وحكايات السجناء
والمفارقات التي فيها أحيانًا، رغم صعوبة المهمة الموكلة إليه. فقد كان تولّى تلك
المسؤولية الشاقة إلى جانب مهماته التدريسية في المعهد المذكور وخدمته في رعية مار
توما وبعدها في كنيسة القلعة، لغاية مغادرته أرض الوطن إلى فرنسا للدراسة في 1974.
وكم زادني بهجة حين تكرّم وأرسل لي نسخة من "البيث
كازو" بعد استعارة أحد الأصدقاء نسختي الأصلية والادّعاء بفقدانها. فقد كنتُ
طلبتُها من القس ميخائيل حين توليه مهمة سكرتارية البطريركية في 1977. كما كانت
بيننا خلال تلك الفترة، عدة مراسلات بعضُها بالسريانية - ما زلتُ أحتفظ بها-، في
متابعةٍ لموقفي وقراري بعد إغلاق معهد مار يوحنا الحبيب في عام 1973 وتشتت
التلاميذ، إلاّ سواي، حيث كنتُ قد حصلتُ في تلك السنة على إذن مسبق من إدارة المعهد
ومن المثلث الرحمة مطراني "مار عمانويل بني" لنيل شهادة الثالث المتوسط في امتحان
خارجي بالموصل ونجحتُ آنذاك بتفوق إلى جانب تفوقي في دروسي بالمعهد. وقد زارني القس
ميخائيل جميل خصيصًا آنذاك، ذات عصر أحدِ الأيام في هذا الخصوص في البيت العائلي في
قرقوش في صيف 1973، باعتباره مديرًا لقسم الكبار في المعهد المذكور منذ عام 1971.
وعندما استنفذ أي أملٍ بقبولي عرضَه بالتحاقي بالدراسة الكهنوتية خارج العراق،
شكرتُ له اهتمامه أمام عائلتي واعتذرتُ منه في حينها، حيث كانت لي طموحاتي بتكملة
دراستي الجامعية والعليا قبل أن أقرر مستقبل حياتي. ولكن حصل ما حصل بعدها حين
تعقدت الأحداث وتفاعلت الأمور!
كنتُ قد تنبأتُ له مستقبلاً مغمورًا بالمسؤوليات في
كنيستنا السريانية الكاثوليكية، وهذا ما حصل حين اختياره أسقفًا وسيامته في 1986.
وتوالت مسؤولياتُه، حتى كاد أن يكون قاب قوسين أو أدنى من تولّي رئاسة الطائفة حين
شغور الكرسي البطريركي في 2009. وفي هذا الصدد، لا أنسى ما كرّره لي في مرات عديدة
خلال زيارتين لي إلى روما في نهاية 2010 وبداية 2011، أنه كان الأجدر بتسلّم المنصب
البطريركي لطائفته. وقد ردّدها لي مرارًا وآخرُها في مطعم إيطاليّ حين دعوتُه لعشاء
برفقة أحد القساوسة الدارسين في روما
بقوله: "ديدي ياوا" أي كانت لي.
تلكم كانت آخر ذكرياتي الطيبة مع سيادته، حين قصدتُه
قبل عامين من اليوم تمامًا ولمرتين متتاليتين في فترة علاجي في أحد مستشفيات روما
بعد إصابتي في حادثة سيدة النجاة، وبمساعدة القاصد الرسولي في بغداد ، حيث استضافني
في مقرّه الروماني. وقد لاحتْ لنا في تلك الأيام عدة فرص للقاء والحديث والخروج
معًا والمشي في أزقة الحي الإيطالي الذي يسكنه في بيازا كامبو ماريزيو الشعبي ذي
الأزقة الضيقة، مرورا بالمطاعم الكثيرة فيه، حيث كان يتحاشى احيانًا أصحابَها،
لكثرتهم، وهم يصرّون على دخوله مطاعمَهم الفاخرة. فقد صار علامةً بائنة لأصحاب
المطاعم في حيّه. كان يعرفه الجميع، بل صار جزءًا من مشهد حياتهم، إذا انقطع عن
زيارتهم أو طال غيابُه، ساورهم قلقٌ وريب. وفي المطعم، كان لا يتردّد في البوح لي
بالكثير من المشاريع والهموم التي ترواده، ليس بخصوص بلدته وطائفته فحسب، بل بما
يخص كل تراب الوطن الذي خصه بشيء من محبته وإخلاصه وتفانيه وكذا للبنان الذي نقش
فيه الكثير من سبل العطاء والمعرفة. لقد كان له بحرٌ واسعٌ من المعارف والأصدقاء
والأحباء، ازدادت حين توليه مهامه معتمدًا بطريركيًا لبطريركية السريان الكاثوليك
لدى الفاتيكان في 1997 وزائرًا رسوليًا في أوربا في 2002.
لا أنسى وقفته وأنا في روما، مع مَن استضافهم لفترة
طويلة من شباب بلدته من الطلبة المصابين في حادثة سيارات جامعة الموصل الذين عزّز
فيهم روح البنوّة فتعلّقوا بشخصه وكان يشعرُ بعيشه وسط أهله وعائلته وبني جلدته.
فقد كان لهم الأب والأخ والصديق والكاهن، يؤازرهم ويشجعهم ويحنو عليهم ويسهل عليهم
إجراءاتهم.
رافقتُه وأنا في روما، للمشاركة في أربعينية شهداء
كنيسة سيدة النجاة في دار السفارة العراقية في العاصمة الإيطالية، وشعرتُ به
مهمومًا ومصعوقًا بتلك الحادثة الإرهابية، لاسيّما مع تزامنِ وجودِ مجموعةٍ من جرحى
الحادث وهم يعالَجون في أحد المستشفيات الفاتيكانية.
شخصية فذة بهذا القدر من العلم والكفاءة والغيرة
والجدّية والإنتاج والنشاط والنظام في الحياة، إلى جانب محبته وشدّة تعلّقه بمسقط
رأسه ووطنه وطائفته وروحه المسكونية وسعة علاقاته الطيبة مع شرائح عديدة ومتنوعة من
البشر، تستحق الاحترام- وأيَّ احترام-، على المستوى المحلي والوطن والعالم، كما على
المستوى الكنسي والمسكوني. في سنواته الأخيرة، كان شعلة متقدة من الحرارة والحركة
والنشاط والسفر الدائب والدائم في ذهابه وإيابه.
لقد استحق أن يودعه هذا السيل الجارف من البشر
المتحرّق الأنفس أسفًا لفقدانه، غبَّ تغييبه باكرًا وهو بعد في أوج عنفوانه ونشاطه.
نم قرير العين، يا ابنَ بغديدا البار، يا فارسًا جالَ
وصالَ وفعلَ. وإن كنتَ لم تستطع توديع كنيستك وبلدتك ووطنك ومحبيك وأهلك واصدقاءك
كما كنتَ تحلم، ها هم اليوم يودّعونك بما تستحقه من إكرامٍ للذكرى. وفي عُلاكَ
السماوي، سوف تعلم أنْ ليست قرقوش وحدها تودّعك، بل انضم إليها كلُّ محبيك من كلّ
أصقاع الأرض ومن بشرٍ متعدد الجنسيات والأتراب والأجناس. فقد أديتَ الرسالة وصنتَ
الوديعة وحفظتَ الأمانة بالصلاح والتدبير والحكمة، كما تكلّم بها شعارُكَ.
تعازيّ القلبية لرئاسة طائفتنا السريانية الكاثوليكية
الموقرة وللسينودس الأسقفي السرياني ولذوي الفقيد الكبير ولأصدقائه ومحبيه وأهل
بلدته وطائفته وكنيسة العراق جميعًا. وعزاؤُنا نيلُه إكليلَ الغار السماوي المحفوظ
للأبرار والصدّيقين والفعلة الصالحين: "نعمّا يا عبداً صالحًا، أدخلْ إلى فرح
سيدك"، فالوزنات التي أودِعَها المثلث الرحمة، قد ربحت غيرها، ومقدارُها عند ربّ
السماوات وحده!
**********************
بغداد، بيروت وروما
في عيون الجميل
نمرود قاشا
جميلٌ هو السلامْ...
وجميلةٌ هيَّ الكلماتُ التي ُتقالُ بحق السلامْ وتصفهُ...
والأجمل من ذلك اولئك الذين يساهمون في بناء السلام هم صانعو السلام.
طوبى لصانعي ألسلام فأنهم ابناء الله يدعون.
السلام... يعني الهدوء والسكينة والفرح ... والتضحية وغيبة القلاقل في
السياسة العالمية.
يستخدم مصطلح ( السلام) كمعاكس للحرب واعمال العنف ووجود السلام لا يعني
بالضرورة وجود الانسجام العام بين الشعوب المختلفة او طبقات المجتمع المتباينة،
فحتى في وقت السلم يدخل الناس في الصراعات والسجلات والحوارات وغيرها.
ومما يتبين من التاريخ جنوح الغالبية الى صنع السلام ومحاولة احلاله.
والسلام... لا يشعر به الأ من افتقده وحرم منه عاش ويلات الحروب.
هل يمكن لأي أحد منا ان يكون رسولاً للسلام والمحبة، مهما كان عمله وموقعه
ومنصبه وانتماءه؟
نعم .. يمكننا ان نكون ادوات سلام اينما كان موقعنا في خريطة هذا العالم
الكبير..
ومثالنا في هذا انسان نذر نفسه للخدمة في حقل ألرب سخر حياته لخدمة الإنسان
مهما كان شكله ولونه ودينه وعرقه فبدأ نشاطه الرسولي في وطنه العراق ومدينته الموصل
وقراها ألمنتشرة معلماً ، مرشدا وزائراً للمستشفيات والسجون للفقراء والمحتاجين في
دورهم ومحلات عملهم.. فكانت ابتسامته ويده الممدودة للجميع عنوناً للمحبة والصفاء
والسلام.
بعدها... كانت باريس وبيروت وروما محطات مهمة في حياته.. استطاع فيها ان
يعزز مفهوم المحبة والسلام والتضامن كلما وجد ذلك ممكناً..
في زمن صار الوفاء فيه نادر، وتحول فيه الغدر الى اسلوب حياة في زمن الهرولة
وراء المناصب والمكاسب الزائلة ، انطلق الحبر ألجليل الأسقف ألحبيب اب الكل وللكل ،
للتعاون والتواصل في سبيل الخير السليم مشجعاً على الحوار والتفاهم بين الحضارات
تحقيقاً للسلام العالمي.
انه المطران ميخائيل الجميل، فهل يمكن لرجل دين ان يكون رسول سلام...
*******************
سيدي.. ميخائيل الجميل
لازال الشاي فوق النار
والخبزُ في التنور..
كيف
امتد الموتُ إليكَ
وأطفأ عينيكَ الجميلتين
أنتَ
لم تحقق أحلامكَ
ولم
تُكمِلْ أبجدية عشقِكَ؟!
تُرى.. مَنْ كسر الزجاج الأبيض
وخالف الموعِدَ والحساب والمقاييس؟
كيف
تجرّأ الردى ومَنْ المسؤول
عن
خطفِ أجمل ما فيكَ
يا
صاحب النُبلِ والخُلق الرفيع؟
تُرى.. مِنْ بعد رحيلكَ
مَنْ
يرسم ضوء البنفسج
حين
يغرق السفرجل والياسمين
ومَنْ يختارُ لجنة القديسين
ويزرعُ الوردَ في مشاتل الفاتيكان؟!
اسمكَ باقٍ يا ابن بغديدا في الأعماق
سأحملهُ على جواد الأمل
أكتبهُ بماء الورد على الأوراق
مثلُ
الكُحلِ على الأحداق
كُلَّ عامٍ وأنت جميل
سيدي.. ميخائيل الجميل
أيُّ
أُسْقُفٍ أنتَ.. وأيُّ وفاءٍ أنتَ؟!
الرهبان والفتيان على حُبّكَ ثابتون
الشباب والشيوخُ على عهدكَ باقون
هذه
أرضُ بغديدا تُنادي
طالما تشرق الشمسُ
سنظل
على فراقكَ صابرين
ما
أجمل وأقدس زرعِكَ
سنقدم لكَ القرابين
نحن
أبناؤكَ الذين طلعنا
من
عظام الآراميين
براءتُنا من براءةِ زرقة السماء
وقداستُنا من قداسة الورد والياسمين
من
قامةِ كلكامش وقامتُكَ الهيفاء
يغتسِلُ بماء النهرين كُلّ الطوباويين
من
حكمتِكَ وطهارة ماءكَ المقدّس
يشرب
الفقراء المنسيون
وكلُّ الأيتام والمشرّدين
من
صلاتكَ وصومكَ وحُبّكَ
يخضرُّ الآسُ والسوسنُ والنسرين
يخضرُّ حتى الترابُ والطين
شعر/جميل الجميل