نظرة إستيماء
البناء الشعري وسيلة فنية من وسائل التكنيك الحقيقي
في الواقع أنّ لهذه العملية أساسها في طفولة الفرد وفي طفولة الإنسانية على السواء. نحن نعلم بأنّ الكلام الشعري هو واسطة تركيز تلائم الأعمال الجماعية الطقوسية والإيقاعية والسحرية. وإتّضح من ذلك بأنّ لغة الشعر هي أكثر بدائية من اللغة الدارجة لأنّها تحفظ بدرجة أكبر صفات الإيقاع واللحن والخيال الكامنة في هذا النوع من البناء الشعري. يقول طومسون في فرضيته الأولى إنّ الشعر سابق على النثر في نشأة اللغة. أمّا فرضيته الثانية فهي أنّ الشعر قد نشأ عن السحر. وإذا كان الشعراء يسعون للوصول إلى المستحيل فإنّ هذه نفسها هي الوظيفة الأساسية التي إستمدّها الشعر من السحر. فالشاعر كالساحر يريد بالتحديد أن يحفّز الآخرين إلى أن يرغبوا فيما هو ممكن التحقيق ولكنّه لم يتحقّق بعد وهذه ظاهرة معروفة لنا في العراق حيث نشاهد البنّائين مثلاً. يرددون أغاني العمل الجماعي وهي مشحونة بأحاسيس وإنفعالات مشتركة. ويعكس هذا الترابط بين العمل والإيقاع وبين حركات الجهد العضلي وحركات الجهاز الصوتي ومن خلال هذا التحليل يبيّن لنا بوخر ما قاله: في بداية القرن الحالي ومؤداه أنّ الكلام مظهر من الأفعال المنعكسة للجهاز الصوتي. إذاً يبقى الشعر بناؤه مضمون الموسيقى وأنّ الموسيقى هي شكل الشعر. فشكل الشعر هو البنية الإيقاعية التي ورثها من الأغنية. وهو يحكي قصة لها تماسكها الداخلي مستقلة عن شكلها الإيقاعي. كان الشعر بالإرتجال والإلهام في عالمنا المعاصر شعراً مكتوباً ويتطلّب درجة من التأمّل الواعي. ومع ذلك تظلّ وظيفة الشعر جذب الوعي من عالم الإدراك الحسّي إلى عالم التخيّل. كحالة بناء حقيقي نسمّيه التكنيك الحقيقي الذاتي للشعر.
<<<<<<<<>>>>>>>
اللفظة الشعرية ودلالاتها بين السمفونية وهموم السعادة
مجموعة شعرية للشاعر توفيق سعيد توفيق بعنوان سمفونية الرجل المهموم بسعادة من تصميم الفنانين خالد شمعون ورامي خليل والكتاب يقع في (84) صفحة من القطع المتوسط طبعت المجموعة في مركز الكلمة للطباعة والنشر سنة 2004 ضمت على ست وثلاثين قصيدة. سبق وان صدر للشاعر ديوان بعنوان الجسد. تُظهر قصيدة تحية انطباع نفسي الذي يذكرنا بالمدرسة النفسية التي تحكم الشخصية والتعصب السائد نحو آماداً طويلة ففي ص5 يقول: هل مضى الماضي../ واتى الزمان الآتي/ ثم يكمل لفظته 0الشعرية وكأنهُ يغني بسِّلم موسيقي أُطلقَ لهُ العنَانُ وتراني أكون متحمساً الى النقد النزيه الصريح وسأكون مرناً لتوسيع دائرة الابداع الشعري في اطراد مستمر. إنّ الشاعر توفيق سعيد يكتب بعفوية وانفراط متواضع وهو يفصح لنا كما قال بدر شاكر السياب "بأننا لا نزال جميعاً في دور التجربة، يحالفنا النجاح حيناً ويصيبنا الفشل احيانا. ففي قصيدة قصة سمر ص6 يقول: / اجمل ما عشقتُ من نساء../ وحق نفسي.. والزهور والسماء../ وأستطيع ان اقول بان السجع لازم الشعر والنثر وزميلنا الشاعر توفيق أراهُ يميل الى اللون القديم الذي أصبح من الآثار الدارسة في تاريخ الادب العربي فللجاحظ مقولة في فن السجع يقول فيها "السجعُ في النثر كالوزن في الشعر، إنّ استخدام الملامح اللفظية والنحوية والصوتية المعينة في التعبير لموضوع ما قد تكون وسيلة الموازنة والتحليل وكأداة رئيسية التي يمكن للناقد عن طريقهما أن يصل الى ما أسماهُ إليوت "الصدق أو الحق" فمحاولة الاستمتاع بالحب وجمال الطبيعة هما لونان صارخان غالباً ما يمتزجان في شعر السياب فقد لمّح شاعرنا توفيق الى (الحب، الهموم، الماء، الجنون) وكأنها اشباح تمر كل يومٍ وليلة. ومثلما كان للشعراء القدماء جنِّيات فجنّي حسان بن ثابت قبل الاسلام. كان من بني الشيصبان واسمهُ (وطورا) وجنيِّ الفرزدق كان (عمراً) وشيطان الاعشى كان (مسحلاً) فيصف الشاعر الربيع بأنهُ الصفاء بذاتهِ الذي نستنشقهُ من حولنا. ويختلف توفيق عن اقرانه من الشعراء بنكهةٍ خاصة متفرّدة وحبذا لو يحضى به الفنان القدير المطرب كاظم الساهر الذي على يديه سيحدد مدى تفوق اللفظة الغنائية الموجودة لدى توفيق على الساحة العربية. وتُذكرني قصائد الشاعر بدر شاكر السياب في مجاميعهِ (انشودة المطر) و (منزل الاقنان) و (حفار القبور) توحي كامل الإيحاء على نفس الرّقة، والمآخذ تكمن في قصائد توفيق سعيد وخاصة في اسرار المزمار وهذا يعني أنهُ قرأ وأبحر كثيراً في جعبة الشاعر الراحل بدر شاكر السياب ففي ص11 يقول:/ ونتحدثُ عن مدخل النور.. وعن دفئ القلوب في الشتاء/ وعن عيونك البلور السوداء../حتى تثور في داخلك الدماء../. إنّ الزمن عند توفيق سعيد هو نفس الزمن عند زهير بردى وهو يشدُّ عقارب الساعة على كفن مصاحباتهِ اللغوية الدالة على الاكتئاب والحزن والظلام كما كانت عند السياب وصلاح عبدالصبور ولكن العيون التي تراقبهُ هي غريقة بالغروب وعجلى بالنهار ففي ص13 يقول: /عقارب الساعة تشير الى الليل/والظلام فيه رائحة الالم../فلو أجرينا جدول احصائي حول مرادفات اللفظة وعدد تكرار المرات للفظة سنرى بان الكلمات تظهر في القصائد الخمس الاولى.
ارى شيئاً خفياً وارتجافات الاكتئاب لدى الشاعر تنطبق بين الصباح والنهار وبين المساء والليل وكأنهُ يريد أن يبوح لنا بشئ مكبوت لازمهُ في ملامحهِ الفونولوجية (الصوتية). ففي قصيدة الحبيبة برتقال ص15 يقول: /حبيبتي ليست أي كلام يقال/انها العطور.. والبخور /اجمل ما رأيت من زهور /حبيبتي برتقال.. حبيبتي../. وقصيدة هدوء الألم ص18 يقول: /ويسكن الألم ويهدأ القلم /فتبدأ الحروف بالضياع/ ويغرق الزورق والشراع/ كالنهر السريع تتحدى السدود/ كلها صور مشبعة (بالأنا) اليتيمة، يتيمة الدهر والعنفوان ليمضي الشاعر الى الهدوء والسكينة بعيداً عن وشوشة العُذّال فتراهُ يُسمى: اشياءهُ بعشق الثراء وكقوله: ص21/ فإستنشقيني سيدتي /عطراً مع الهواء.. /لكي تصل لفظة توفيق سعيد الى عالم المغنوّاتي وتأخذ صيتها الواسع في الوطن العربي والعالم اجمع هو ملامسة الوزن او امتهان ايقاع السهل الممتنع حتى يشق الزحام ويصل بسلام الى الهدف المنشود. ان استعارة البديع والجناس في الشعر ليس سهلاً وهذا يخضع الى الإرث الفكري للشاعر وقدرة مخيلاته وطاقاته اللامحدودة فقد استخدم مفردة البكاء وضّدها الفرح ففي ص26 يقول: /إبتسمت وبدأت بالبكاء /ومن اجلها بكت السماء /تذكرني قصيدة سمفونية الرجل المهموم بسعادة بحكايات الف ليلة وليلة التي كانت جِدتي تحكيها لي رغم ان كتابة سيمفونية صحيحها هو (سمفونية) بحذف الياء. اما في ص33 يقول: /يبدأ مع الاحباب صنيعاً للعتاب /يفهمهم من خلاله لذة العذاب /والاصح يقال (صانعاً للعتاب) /وتيمناً بالمقولة القائلة يحق للشاعر ما لا يحق لغيره فيقول توفيق في ص34 /ياحياتي سر بالزورق في شراييني/ وبعثر الملايين من قبلاتي/ فالآتي ذاهب.. /والذاهب آتٍ /يقصد بقصيدته أمنية الزمن انهُ يعاني من ضيم كبير ترُى ضيمه هو في البيت؟ ام في مكان عملهِ؟ ام في شعرهِ؟ صورة جميلة؟ وفي قصيدة الهارب المجنون ص36 عندما يقول /يقتلني الخمر المعتق /في دهاليز الظلام.. /فعلاً الخمر يوضع في القبو المظلم البارد كي يحافظ على خواصهِ الاولية ويقول ايضا ص37 أحنو في مقاهي الحارة / ينقذني قرصان وبحارة /وكما يقول المثل الشعبي (عرب وين وطنبورة وين). الآن لا يعاني من شئ وغير مهدد او واقع في الفخ فكيف نطلب من اللصوص بالإنقاذ؟ ونترك الذئب عند الخروف ونألف القرصان والبحارة انا لا افهم. هل الشعر مجرد كلمات نرتبها والسلام؟! لا: (الشعر صعبٌ وطويلُ سُلّمهُ اذا ارتقى فيه الذي لا يعلمهُ زَلَّتْ الى الحضيض قَدمَهْ فأراد انْ يعُربَهُ فيعجمهُ. يملك توفيق سعيد مخيلة واسعة وخيرٌ لهُ لو زجهّا في مقالات لاذعة وشافية لعصرنا السريع هذا كهمسات أبو فادي السامية كان أهون لهُ من ركب حمار الشعراء كما أطلق عليهِ القدماء والتجربة اكبر برهان والشعر تجربة وجدانية عميقة تتصل باللغة وعليه فيجب علينا معرفة مكونات وشائجها المتينة لكي يكون شعرنا وفكرنا خلاّق في اللفظة الشعرية الحرجة التي اٌستخدمت بأدق ما أُتي من اللغة وادواتها النحوية. وخير الكلام ما قلّ ودّل أتمنى له المزيد من التطور في مجال الشعر واغناءاتهِ اللغوية واللفظية والله من وراء القصد
|