حصار الموصل في وثيقة سريانية (القسم الأول)
الأب سهيل قاشا
في مكتبة كنيسة مريم العذراء القديمة ببلدة قره قوش، مخطوطة سريانية ضخمة يبلغ عدد أوراقها 325 ورقة وبحجم 33*24,5سم وعدد أسطر الصحيفة الواحدة 24 سطراً، كتبها القس حبش بن جمعة من عشيرة القس ايليا الباخديدي سنة 1745م وتضم بين دفتيها صلوات مواسم الأعياد الكبيرة. في هذه المخطوطة كتب القس حبش ناسخ المخطوطة حاشية طويلة ومسهبة وبالخط السرياني الغربي قصة حصار طهماسب لمدينة الموصل عام 1743م كشاهد عيان للحادث حيث يسرد الوقائع كما رآها وسمعها. وكون الحاشية هذه تستغرق من المخطوطة أكثر من ست صفحات فإنني هنا أُلخصها وبإيجاز وذلك لأنني مزمع أن أنشرها بالكامل مع التحقيق الوافي وجملة نصوص سريانية أُخرى عن حملات الفرس الى هذه الديار. فنكتفي هنا بالتعريف بها ليس إلاّ. إن الكتاب الذي بين أيدينا، والذي قمنا بترجمة وتحقيق الهامش التاريخي الذي ورد فيه عن حصار طهماسب[3] للموصل عام 1743م حيث هو مخطوط بالسريانية ومكتوب بالحرف الغربي[4]. والكتاب ناقص ورقة واحدة من المقدمة وعدداً من الأوراق من الأخير. وصف المخطوط عدد الأوراق: 2- 325 ورقة الحجم 33* 24,5 سم الصحيفة الواحدة مكتوبة بحقلين عدد أسطر الحقل الواحد 24 سطراً الخط فيه رائع وجميل ودقيق حالة الكتابة عامة جيدة الدفتان مصنوعتان من جلد أحمر، وأوراق سريانية لفنقيث يعود للقرن الخامس عشر، وأوراق عربية تعود للقرن الثامن عشر يضم الكتاب عدداً من صلوات الرتب الطقسية للأعياد الكنسية الكبيرة وكالآتي: من وجه 2- 37 ظ رتبة عيد السيدة العذراء على السنابل[5]. 37ظ- 63 رتبة عيد الصعود[6]. 63ظ- 127ظ رتبة عيد العنصرة[7]. 127ظ- 145ظ رتبة عيد تهنئة العذراء مريم[8]. 145ظ- 168ظ رتبة عيد التجلي[9]. 168ظ- 259 رتبة عيد إنتقال العذراء[10]. 259ظ- 323ظ رتبة عيد الصليب[11]. 323ظ- 325 ورد: لتوقير وعز.. الثالوث... كمل كتاب الأعياد الربانية على أيدينا... قسيس بالأسم".
كاتب المخطوطة هو القس حبش بن الشماس جمعة من عائلة القس ايليا الباخديدي[12] وأمه سلطانه. ولد في قره قوش. وعمل فيها شماساً ثم كاهناً. نسخ عدداً من الكتب الطقسية لكنائس باخديدا (قره قوش) ووضع عليها حواشي وهوامش تاريخية مهمة مما يدل على متابعته للأخبار واستقصائها وتدوينها حفاظاً لها جريا|َ على عادة ذلك الزمان إذ جعلها بشكل ملاحق منفردة على صفحات ما كان يستنسخه من الكتب[13]. لم ينتمِ القس حبش الى الكثلكة عندما إنتشرت في البلدة عام 1761، بل كان متعصباً لمذهبه الأرثوذكسي متمسكاً به رافضاً كل نقاش في ذلك. توفي في قره قوش عام 17م[14]. نشر الهامش التاريخي وتحقيقه أول من نشره هو المستشرق الفرنسي بونيون مع ترجمة فرنسية[15] عام 1، ثم ترجم النص الفرنسي (السرياني) القس روفائيل بيداويذ، ونشرهُ دون تحقيق كملحق لمذكرات دومنيكو لانزا التي نشرها تحت عنوان "الموصل في القرن الثامن عشر" الطبعة الثانية عام 1952. ثم نشرت ترجمة النص السرياني مع تحقيق بسيط وجعلته كملحق لكتابي "كنائس باخديدا" الذي طبعته عام 1882. ثم نشر ترجمة النص الذي نقله عن النص الأصلي الخوري الياس شعيا[16] السيد بهنام دانيال في مجلة "بين النهرين)[17] والنص المنقول هذا نشك في نقله حيث أورد الناسخ فيه عبارات حسب هواه لم تكن موجودة في النص الأصلي والذي ننشره اليوم بترجمة تَكاد تكون حرفية مع تحقيق دقيق والله وليّ التوفيق[18]. نص الهامش التاريخي "كمل هذا الكتاب الأعياد المارانية بيد القس حبش بن جمعة من قبيلة بيت قس ايليا البوخديدي. وقد كتب في القلاية[19] المتجهة نحو الشمال في كنيسة مريم في قرية بيث خديدة وكان هذا (تم) في 12 أيلول عام 2057 يونانية[20] وقد نسخ بسعي أبينا المعظم مار أيوانيس كارس مطران القرية، والشماس يوحنا أبن الشماس متي وأُمّهُ خاتون وأخوته كوركيس ويعقوب وداود عوض نفسه ونفوس ذويه. فقد أعطى أبونا المكرّم الأوراق والشماس يوحنا أعطى مصاريفه من ماله وأهداه لكنيسة مريم بقرية بيث خوديدة، في عهد الآباء مار أغناطيوس كوركيس بطريرك أنطاكية ومار أيوانيس كارس الخوديدي مطران دير مار بهنام وهو المتسلط على كل بلد الموصل أعني المشرق ليرفع الرب ويُعظّم كراسيهم. وكان في القرية في ذلك الزمان عشرين كاهناً ومائة وعشرين شماساً. وسبب نسخ هذا الكتاب هو أنه في سنة 2054 يونانية[21]، أتى ملك فارس مع عساكره الى هذه المنطقة وأخذوا معهم الكتب الموجودة قبل هذا الكتاب أي قبل كتابته.
نص حادث حصار الموصل بعد هذه المقدمة، يسرد القس حبش وقائع حملة طهماسب منذ تحركه ودخوله أراضي العراق، وحتى إندحاره ورفع الحصار الذي أحكمه حول الموصل وفشله الذريع وخيبة آماله الفاسدة والحاقدة. وهذه هي القصة كما وردت في الهامش التاريخي السرياني[22].. "والآن إخوتي الأعزاء إسمعوا عمّا صار بذلك الزمن، إذ بعد أن عيدنا عيد القيامة، ورد إلينا نبأ محزن مفزع، أن العدو الفارسي قادم وإنه يأتي بقيادة الظالم، فإرتجفت القلوب وخفقت هلعاً لهوله، فتقدم ملك الفرس طهماز[23] بخيله وجيشه بكثرة الجراد الطيار لا يحصى عددهم فتقدموا حتى بلغوا مدينة كركوك وحاصروها وقاتلوها تسعة أيام ولم يستطيعوا فتحها[24]. وفي اليوم العاشر ركّبوا عليها المدافع، وفي تلك الليلة عند الفجر رموا المدينة بالقنابل مدة ثلاث ساعات من النهار فأحرقوها فصرخ الناس الذين فيها وطلبوا منه الأمان، وسلموا له المدينة وكبسها ودخلها عنوة وقبض على رؤوسها وعظمائها فقتل بعضاً منهم وشنق البعض الآخر وسبى الفتيان والفتيات مع النساء ونهب الأطفال والبنات وسلب الذهب والفضة وأموالاً كثيرة وكل ما وجده فيها وولّى عليها حاكماً من قبله. وأخذ وجهته قاصداً قلعة أربيل فحاصرها وقاتلها أياماً قلائل وأحرقها بالمدافع وضيق عليها الخناق حتى إستلمت فسباها وسلب كل ما وجده فيها، وأوقع فيها وفي أهلها من الشرور ما يعجز القلم عن وصفه وولى عليها أيضاً حاكماً من قبله[25].
وقد سبق والي الموصل حسين باشا[26] قبل قدوم العدو الى كركوك، أن أرسل الى قريتنا قره قوش رسالة: يقول فيها: أجلبوا كل ما تملكون من حنطة وشعير وتبن وخشب مع باقي أثقالهم وأموالهم ومواشيكم وكذلك النساء والأكفال الى الموصل. فأخذنا كل شي وهربنا، وما بقى في القرية عدا أُناس قلائل مع الطوباوي مار يوحنا كارس المطران سيدنا المستحق الذكر، ومكثنا في القرية الى عيد السيدة[27]، وكملنا جميع الأسرار والرتب كجاري العادة. وما كدنا نخرج من الكنيسة إلاّ ويرد إلينا النبأ أن أهربوا هوذا العجم العدو قد أقبل، فحدث خوف ورعب عظيم حتى إنحلت الأعصاب من شدة الفزع، فأسرعنا وحملنا ما وصلت إليه أيدينا من المتاع وهربنا الى الموصل في ذلك اليوم التالي وبقي حراساً لحراسة القرية نحو ثمانين شخصاً، فأقبل العدو وأدركهم فسلبهم ثيابهم ولم يقتل منهم سوى شخصاً واحداً، ومن ساعتهم جاءوا ودخلوا المدينة (الموصل). .............. - الأب سهيل قاشا - سهيل بطرس متي قاشا - مواليد بغديدا (قره قوش) 29 حزيران 1942. - أنهى دراسته المتوسطة والإعدادية في الموصل 1960. - أكمل الدورة التربوية وعُيّن معلماً. - بكالوريوس آداب/ جامعة الموصل- كلية التربية- قسم التاريخ 1987. - أكمل دروس اللاهوت في إكليريكية (مار أنطونيوس البادواني) لبنان 1993. - إرتقى الى الدرجة الكهنوتية/ كنيسة سيدة النجاة- لبنان في 17 تموز 1994. - عضو إتحاد المؤرخين العرب. - عضو إتحاد الأُدباء والكُتّاب العراقيين. - عضو إتحاد الأُدباء العرب. - نال الدكتوراه يوم 21/ تموز/ 2004. - أمين عام جامعة الحضارة العربية الإسلامية/ بيروت منذ 2001. - أصدر أكثر من (75) مؤلفاً في مواضيع مختلفة (تاريخية، تراثية، دينية، شعر، قصة قصيرة، تحقيق).
[1]- الفنقيث: كلمة سريانية وتعني الرتب أو الأنظمة. [2]- المارانية: كلمة سريانية وتعني الكبيرة وتكون أيامها عطلة وبطالة. [3]- طهماسب: هو لقب أعجمي تلقب به ملوك إيران ومنهم نادر شاه (1688- 1747) صاحب الحصار المشهور. ولد في مشهد وتوفي في فتحباد. كان أول الأمر جمالاً. دخل في خدمة الشاه ثم بويع له بالمالك. فتح آسيا الوسطى وقسماً من هندستان. [4]- من المعروف أن اللغة السريانية تكتب بثلاثة خطوط (حروف) الأول وهو الأقدم يسمى بالخط الأسطرنجيلي، والثاني هو الخط الشرقي (شرق نهر الفرات) وتتبناه الكنيسة النسطورية والكلدانية ويسمى أحياناً بالخط الكلداني. والثالث الخط الغربي وهو الأحدث إستنبطه الأرثوذكسي في أواسط القرن العاشر الميلادي وتتبناه الكنيسة اليعقوبية (الأرثوذوكسية) وسمي بالغربي نسبة الى غرب نهر الفرات. [5]- يصادف هذا العيد اليوم الخامس عشر من شهر أيار كل عام. [6]- يصادف هذا العيد بعد عيد القيامة (الكبير) بأربعين يوماً وهو متنقل. [7]- يصادف هذا العيد بعد عيد الصعود بعشرة أيام. [8]- يصادف هذا العيد اليوم الثاني من عيد الميلاد أي السادس والعشرين من كانون الأول. [9]- يصادف هذا العيد اليوم السادس من شهر آب من كل عام. [10]- يصادف هذا العيد اليوم الخامس عشر من شهر آب من كل عام. [11]- يصادف هذا العيد اليوم الرابع عشر من شهر أيلول من كل عام. [12]- الباخديدي يعني القره قوشي نسبة الى كلمة بيث خوديدة (باخديده) وتعني (قره قوش) مركز قضاء الحمدانية اليوم. والكلمة آرامية قديمة تعني (بيث الأله) والخديديون تعني بصيغة الجمع القره قوشيون. [13]- قد قمنا بترجمة أغلب هذه الهوامش التاريخية وقسم منها نشرناها ضمن ملاحق خاصة بكتابنا "كنائس باخديدا" ومن أراد الزيادة في التعرف عليها فليراجع البحث الذي نشرناه ضمن كتاب "المخطوطات السريانية في العراق" الجزء الأول، بغديدا، 197 تحت عنوان "مخطوطات قره قوش". [14]- راجع تفاصيل أخباره في كتاب "عناية الرحمن في هداية السريان. للمطران أفرام نقاشة، دمشق، 1910. [15]- M.H.Pognon,Vogue De Melchior Florilegium، طبعة باريس 1909، تحت عنوان: Chronique Syriaque،Relative 1743 en peransles par Mossoul ص489- 503. [16]- الخوري الياس شعيا: ولد في برطلي سنة 1895م. رسم كاهناً لكنيسة العذراء في سنجار في 10 حزيران 1928، تولى رئاسة دير مار متي في آب 1942، فآستأنف المدرسة الإكليريكية فيه ورتب شؤونه وآهتم بدير مار دانيال الناسك الواقع في جبل مار دانيال (عين الصفراء) شمال شرقي الموصل وسنة 1948 عين عضواً في مجلس التمييز لمحكمة السريان الأرثوذوكسي وترأسه منذ أيلول 1951 حتى صيف 1952. لبى نداء ربه في 5 حزيران 1970. [17]- مجلة بين النهرين العدد 37- 38 ص 121- 146. [18]- كثيرون ترجموا نص الهامش التاريخي هذا إلاّ أنهم لم يوفقوا في إتقان الترجمة وتحقيقها حيث تصرفوا فيه كثير وبطريقة غير علمية ومنهم، الخوري أفرام عبدال، والقس بهنام نهاب، والقس بهنام سوني وغيرهم. [19]- القلاية، كلمة سريانية تعني مكان الراهب الذي يقطنه كغرفة. [20]- يقابلها السنة 1746 ميلادية. [21]- يقابلها السنة 1743 ميلادية. [22]- في خزانتنا نص سرياني آخر يحكي لنا قصة حصار نادر شاه لمدينة كركوك وأربيل سننشره في فرصة قريبة إن شاء الله. [23]- كذا ورد إسم الملك الفارسي صاحب الحصار في النص السرياني وهو الأسم المتداول بين الأهالي الى يومنا هذا، وأحياناً يلفظونه "كهماس". [24]- للتفصيل راجع النص الخاص بحصار كركوك من قبل طهماسب. [25]- المصدر السابق. [26]- الحاج حسين باشا الجليلي هو إبن إسماعيل باشا بن الجليل ولد في الموصل سنة 1108هـ وحجّ سنة 1132هـ. تولى الموصل أول مرة سنة 1143 هـ وعزل بعد حكم دام عشرة أيام فقط. ثم وليها ثانية لمدة سنتين وأُعيد إليها للمرة الثالثة ولمدة سنتين. وفي عام 1151هـ/ 1738م تولاها للمرة الرابعة وواليها للمرة الخامسة التي خلالها تعرضت الموصل لحصار نادر شاه الفارسي أكثر من أربعين يوماً. علماً أنه تولى ولايات أُخرى. وتوفي في الموصل يوم الثلاثاء 19 ذي القعدة سنة 1171 هـ (25 تموز 1758م) ودفن في المدفن الخاص بالجامع الذي بناه (جامع الباشا). [27]- يُصادف عيد السيدة الخامس عشر من شهر آب في كل عام
|