وسائل التدخين .. أيام زمان
نحن نعلم أن التدخين له أضرار صحية ومادية على حياة المدخنين، وهو السبب الرئيسي لأمراض عديدة كالسرطان الرئوي وأمراض القلب والشرايين وما يسببه من مضايقات جمة بسبب رائحته الكريهة. وبعد أن تطلعت على ما تيسر لي من الكتب والمجلات والسؤال من أناس تقدم بهم العمر وما سمعته وشاهدته في موضوع التدخين فهذا لا يعني بأنني مع التدخين بل العكس تماماً ولن أشجع على التدخين ابدأ، إلا انه يجب أن نهتم وندون كل ما كان يقدم به أبائنا وأجدادنا وتجمع تراثنا القديم وتسجيل ارثنا الحضاري لأهميته الكبرى في بيان الحضارة. فأرجو المعذرة من قرائنا الأعزاء والمدخنين إذا فاتتني وسيلة ما من وسائل التدخين وثم أتطرق عليها.
عندما كان الخديدي يدخل داراً معينة يقول (شلاما ليخن) السلام عليكم فيجاوب الجميع (بشينا وبشلاما) بالهدوء والسلام وبعد أن يجلس الشخص الزائر يقولون له (بشينا ثيلخ) وبعدها يُلقي فيرد عليهم (بشينا بكوخن) بالهدوء لانفسكم وبعدها يُلقي صاحب الدار كيساً أمام الزائر بداخله كمية من التبغ (التتن) وورق اللف لإعمار سيكارة أو ليعبئ سبيله أو غليونه والسبيل عبارة عن وعاء مصنوع من الطين المفخور ذو لون احمر وفيه بعض النقوش وهو بشكل حرف اللام اللاتيني ورأسه من الأعلى مدور ومخصص لوضع التتن. أما الغليون فهو عبارة عن قصبة من الخشب مجوفة فيها نقوش معينة أو يلف حولها قطعة من القماش ذات ألوان مختلفة وتتم صناعة رأس الغليون من الطين المفخور وأحيانا أخرى من المعدن، يختلف الغليون من طوله ونوع قصبته فمنه القصير يضعه الخديدي في زناره، والنوع الآخر متوسط الحجم يحمله الشخص بيده أما النوع الطويل فيستعمله في داره ويشرب به مع رؤساء وأكابر البلدة بعد أن يجلس ويتكئ على مخدة أو أكثر، فياتي ابنه أو احد أقاربه أو الغلام الذي يؤجره الفلاح الخديدي للفدان (كما ذكرنا في موضوع الأجر والفلاح الخديدي والذي تم نشره في مجلة النواطير تحت العدد 28) فيقوم الشخص بملء الغليون بمادة التبغ ويأخذ جمرة صغيرة من الموقد بالماشا (كماشا) ويضعها فوق التتن ليعمره إذا كان شتاءاً أو يشعل القاو ويضعه فوق التتن إن لم يكن الموقد موجوداً ولا ننسى أن بعض الخديديون يضعون قطعة من الشيح الأصفر أثناء التدخين ويحكى أن القاو كان يصنع محلياً من النباتات الشوكية في المنطقة بعد جمعها وتركها كي تجف (تفقد السوائل) وبعدها يتم دقها بمطرقة خشبية تسمى (خطُرتا) لإزالة الأشواك العالقة بها وتخلط مع ماء البطيخ أو ماء الباقلاء بعد طبخه لزيادة سرعة اشتعاله. وبعد أن تجف تُلف بقطعة من اليشماخ القديم (جمداني اتيقا) والمدخن يقوم بوضع كمية قليلة من القاو في كيس التتن فكلما أراد أن يدخن اخذ قليلاً منها ووضعه فوق حجر الصوان ويضع إبهامه ليمنع حركة القاو ويضرب المقدح (يصنع من الفولاذ عادة) فوق الحجر فتخرج شرارة من النار ليلتهب القاو ويحصل على النار المطلوب. ويقوم الزائر بسحب كيس التتن الموضوع أمامه ويأخذ ورقة واحدة من دفتر اللف الموجود في كيس حيث كان متوفراً آنذاك نوعان من دفتر اللف (ورق الشام – ورق بافره) ثم ظهرت أنواع أخرى كالعربي والكرواتي.... والخ) فيبلل الشخص إحدى جوانبها الطويلة بلسانه الذي يمرره عليها مرتان ذهاباً واياباً ثم يقوم بنتف الجزء المبلل بأصابعه لتصبح حافة الورقة متعرجة وغير منتظمة فيضع قليلاً من التتن فوق الورقة يوزعه حسب رغبته ويلف الورقة من الجهة الطويلة غير المبللة ويمرر لسانه ثانية على الجهة المبللة ليزيد التصاقها بالسيكارة وتصبح قوية ومتماسكة وبعدها يتم غلق بداية السيكارة وتكوير نهايتها وبذلك تصبح جاهزة. وبعد ذلك توضع آلة بسيطة وصغيرة تقوم بلف السيكارة تسمى (لفاف) مكينة لف وهي عبارة عن قاعدة معدنية مركب عليها قطعتين من المعدن طولانية الشكل وإحداهما ثابتة والأخرى متحركة تتحرك بشكل هلالي من كلا الجانبين وملفوفتان بقطعة من القماش السميك فتوضع ورقة اللف على اللفاف ثم تضاف كمية قليلة من التتن وبحركة صغيرة بالأصابع بعد تبليل وقص الطرف السائب من الورقة تخرج السيكارة كاملة وقوية. حيث تطورت تلك الآلة لتصبح أكثر سهولة من سابقتها وذلك بتثبيت اللفاف على صندوق صغير يسمى (قوطيه) ليوضع فيها التتن بدلاً من الكيس. وبعد فترة من الزمن ظهر نوع آخر من السيكارة يسمى (زبانا مزبن) وهي عبارة عن عدد من السكائر الجاهزة والملفوفة والخالية من التتن موضوعة بعضها داخل البعض وهذا النوع من السكائر يستخدم اثناء المناسبات بعد تهيئته وإملائه بالتتن. ثم ظهرت انواع اخرى تشبه (زبانا دلف) ولكنها مملوءة بالتبغ وتكون على شكل حزم تحتوي كل حزمة على (20) عشرين سيكارة وكانت تسمى آنذاك (سكرة السبعاوي) واعتقد أنها كانت تصنع في الموصل لان الخديديون كانوا يشترون التتن من مدينة الموصل بعد ذهابهم إليها أما البعض الآخر فكان يفضل شراء التتن من المنطقة الشمالية حيث كان أهاليها يقصدون بغديدا بين الحين والآخر للتبادل التجاري ويجلبون معهم أرقى أنواع التبغ. أما الخديديات فكنَّ يضعنَّ (البرنود) وهو عبارة عن مسحوق ناعم جداً من التتن ويقربنه قرب الانف ليشتمنّ بين فترة وأخرى عوضاً عن أعمار سيكارة وبدلاً من التدخين. ونلاحظ في السينما أواسط القرن الماضي ظهرت أنواع مختلفة من علب السكائر بمختلف أشكالها فمنها الجمهوري – غازي – وانتشرت أنواع أخرى (الروغان – الكريفن – الكنت- دنهل و....الخ ). أما النركيلة فكانت آخر وسيلة قد وصلت إلى بغديدا مطلع الستينات ولا حاجة لذكرها لكونها موجودة وتستعمل حالياً بكثرة في المقاهي والنوادي وحفلات الأعراس وفي بعض البيوت. .............................. بغديدا وتسمياتها العديدة بغديدي تاريخ زاخر. تحفل بالأمجاد العظام،عهوداً تتالت عليها وهي تحكي لزائريها قصّة الأمجاد وتترك في العيون صوراً لا يمكن أن تفارقها، وتأسر وافديها برباط لا ينفصم عراه ولا تهرأ خيوطه،عبق تاريخها وعطره الفواح يتصافح مع أريح فكرها، رجال بغديدي حنايا جسدها ومحراب عفّتها لأهلها، إنّها القدوة الحسنة والنموذج الأمثل في التسامح الديني والإجتماعي... تقع بغديدي على الضفة الشرقية لنهر دجلة وتشكل سهلاً خصباً جميلاً مع نهر الخازر، تحيط بها (17) سبعة عشر بين ناحية وقرية، تتوسطها (7) سبع كنائس أثرية قديمة في غاية الروعة والإبداع منها كنيسة الطاهرة وكنيسة مار يوحنا وكنيسة مارزينا وكنيسة مار يعقوب وكنيسة سركيس وباكوس ومارت شموني ومار كوركيس، تتواجد حول بغديدي عدداً من الأديرة التاريخية والمناطق الأثرية مثل دير ناقورتايا (يوحنا الديلمي) ودير مار قرياقوس،ومنطقة مضاعة هذا الموضع الأثري التاريخي القديم الذي يحكى عن غرق أحد أبناء الملوك القدامى قبل آلاف السنين. من الأرجح أن تكون بغديدي قد أسست في القرون الخوالي منذ العصر الآشوري وتوالت عليها أمبراطوريات وعهود وغزوات بين حقبة وأخرى من الزمن مما تعاقبت هذه الأحداث من إكتساب البلدة تسميات عديدة تتعلق بالحقب الزمنية التي مرّت بها وفيما يلي بعض هذه التسميات التي نتطرّق عليها بشكل مختصر جداً. 1- مدينة راسن:ذهب بعض المؤرخون إلى أنّ بغديدي ما هي إلا آثار المدينة الآشورية القديمة وكتب عنها المؤرخ ياقوت الحموي بناءاً لما ذكره المستشرق (أوبير) من خلال رحلاته إلى بلاد ما بين النهرين حيث قال:(يرجى أن يكون موقع راسن- المدينة الآشورية التي شيدها (الملك نمرود) بين (آشور وكالح) هو موقع بغديدي اليوم. وذكر الكاتب عبد المسيح بهنام المدرس (إنّ أحد سكان بغديدي عثر قرب دير ناقورتايا على ختم حجري إسطواني الشكل نقشت على جوانبه صورة ملك آشوري يتعبد للشمس والثور المجنح وشجرة الحياة). 2- بكديدو: لفظة باكديدو هي ند للفظة (كذوذو) ومعناها الشباب وهناك رواية منقولة تقول: (إنّ المعركة الحاسمة التي دارت بين قوات الفرس والآشوريين عام 610 ق.م حصلت قرب (بكديدو). 3- بيث خوديدا: محرّفة عن لفظة (بيث كذوذي) الآرامية ومعناها بيت الشباب. 4- بيث خديدا: لفظة آرامية معناها بيت الآلهة وإستعملها الساسانيون كذلك. 5- بيث خديدة: تسمية فارسية معناها (بيت الآلهة) وكانت بغديدي بلدة مجوسية فيها معابد كثيرة للنار وللأوثان ولا تزال آثارها شاخصة لحد الآن وخاصة ما موجود تحت تلّة كنيسة مارت شموني من زقورة وثمانية آلهة كان أهل بغديدا يعبدونها قبل إعتناقهم الديانة المسيحية ومن تلك الأصنام الإله ياني- وكوش- ومام. 6- بيث كذاذي: لفظة آرامية / سريانية معناها: (بيث يعني الموقع أو المكان كذاذي تعني خيوط) حيث يقال أنّ بغديدي قد إشتهرت فترة من الزمن وبالتحديد في أواخر القرن الثامن عشر- بضاعة الغزل والنسيج. 7- باخديدا: لفظة آرامية محرّفة عن لفظة (بيث ديتا) أي بيت الحدأه وهو طائر أسود اللون يقال أنّه كان يكثر وجوده في المنطقة. 8- بوخديرا: هناك تقليد آخر عن إسم بغديدي مثبت في مخطوطة كتبها الناسخ (هديا شمو) عام 16669- 1670 يضاف إلى لائحة أسماء بغديدي غير أنّه من السهل الخلط بالسريانية بين (بوخديرا) و(بوخديدا) بمجرد وضع النقطة فوق حرف ما قبل الأخير (بوخديرا) ليقرأ راء،أو تحته ليقرأ دال (بوخديدا) باللغة السريانية. 9- بغديدي: كلمة يطلقها سكان بغديدي المسيحيين والناطقون باللغة الآرامية الشرقية (السريانية) ومحلياً تسمى (السورث). 10- قره قوش: بالرغم من الإختلاف في كتابة كلمة قره قوش فتكتب أحياناً (قره قوش أو قرقوش أو قراقوش) إلاّ أنّه هناك إجماع عام وقناعة ثابتة بأنّها لفظة تركية تعني (الطير الأسود) وأطلقت هذه التسمية أبان حكم الأتراك وهناك من يقول: أنّ الزي الأسود الذي كان يرتديه سكان بغديدي من كلا الجنسين آنذاك كانت تسمى بهذا الإسم. ومن المحتمل أنّ الأتراك قد نقلوا معنى كلمة باخديدا (بيث ديتا) إلى لغتهم فقالوا قره قوش. وقيل أنّ الدولة العثمانية كانت تطلق أسماء خاصة على كثير من المواقع وتستمد ذلك من إعتبارات ترجع إلى الفرق الحربية والعسكرية وأعلامها الخاصة. 11- الحمدانية: في مستهل القرن العشرين بدّل إسم بغديدي بإسم آخر وهو الحمدانية الأولى ثمّ مركز قضاء الحمدانية إستناداً إلى حجج التعريب وتيمناً بإسم قبيلة (البوحمدان) التي كثيراً ما نغّصت عيش سكان هذه البلدة وإنتشرت هذه التسمية بسرعة فائقة بفضل إستخدامها في الدوائر الحكومية التي فضلتها عن بقية أسماء بغديدي التاريخية بعد أن تم فرضها جبراً على المواطنين. فالتاريخ والحضارة لا يجيزان المساس بأسمائها وتشويه تاريخها فمن حق بغديدي أن تحتفظ بأسمائها القديمة وتعاد إليها بعد طمسها بتعمّد حالها حال الموصل التي إحتفضت بإسمها القديم (نينوى) وهكذا بالنسبة إلى تلكيف والقوش وسنجار وإلخ. المصادر:.......................................................... - كتاب قره قوش في كفة التاريخ- عبد المسيح بهنام المدرس. - كنائس بخديدا- الأب سهيل قاشا. - أعداد من مجلة العائلة الصادرة في بغديدي.
|