|
والكلمة صار جسدا وحلّ فينا في مستهل إنجيله يعلن القديس يوحنا: "في البدء كان الكلمة. والكلمة كانت عند الله، والله كان الكلمة". ويختم بقوله: "والكلمة صار جسدا وحلّ فينا". هذا النص عينه تدعونا الكنيسة أمنا إلى قراءته يوم عيد ميلاد يسوع المسيح، مؤكدة لنا بأنّ المسيح هو كلمة الله الذي "صارا بشرا وسكن بيننا". والمقصود بكلمة الله هنا هو ذات الله. كيان الله. الله نفسه. فالمسيح كلمة الله هو من طبيعة الله. ابن الله، صادر من الله ومولود منه. إنه التعبير التام عن صورة أبيه. هو نفسه صار بشرا. جاء عالمنا ليكشف لنا من هو الأب. وبنوع خاص ليعلمنا واقعيا كيف نعيش نحن بشريتنا في هذا العالم. أصبح الله إنسانا ليعيش بيننا ومعنا "عمانوئيل". ليقترب منا ويختلط فينا ويعيش ويختبر حياتنا. جاء واتشح طبيعتنا وطبعنا بكل ما لدينا من نقص وحدود. "فصار مثلنا شبيها بكل شيء عدا الخطيئة"، ذلك لأن الخطيئة ليست من جوهر الله ولا من صنعة يده. سكن الله بيننا؛ ليس فقط لأنه يحبنا. ولا لكونه يفتقر، وهو الغني الذي لا يعوزه شيء، على حياتنا بما فيها من أفراح وأحزان، ومن ضعف والآم، كونّ ذلك يعجبه ويروق له، وقد جاء في الكتاب المقدس عن الحكمة الإلهية قولها: "نعيمي بين البشر". إنما جاء بالأحرى ليقول لنا: "أنتم بشر. وما ألمسه في حياتكم وتصرفاتكم ليس ما وددت أن تكونوا يوم خلقتكم بشر. لقد ميزتكم عن سائر الخلائق، ووهبت لكم ما ليس لها من حرية وعقل وإرادة لكي تسيروا بحريتكم وبعقلكم وبإرادتكم إلى المنبع الذي منه خرجتم. إلى الله حيث موطنكم ومقر سعادتكم وغاية وجودكم. إلا أنكم بسوء تصرفكم وعمى قلوبكم انحدرتم إلى مستوى هو غير مستوى بشريتكم. ففقدتم مكانتكم وكرامتكم البشرية، وأخذتم تتخبطون في حياة ليست حياتكم كبشر، بل صرتم شبيهين بالبهائم، بينما كان الأولى بكم أن تتشبهوا بي أنا إلهكم وخالقكم، "فتكونون قديسين كما أنا إلهكم قدوس". ها قد جئتكم اليوم لأعيش بشريتكم لعلكم تتعلمون مني كيف ينبغي أن تعيشوا بشريتكم وتستعيدوا كرامتكم. لنعد أيها الأحباء إلى أيام الخلقة. لما خلق الله آدم، بعد ما كمل عمله وخلق الكون كله والطبيعة وما فيها من الكائنات الحية والجامدة. استعرض الله أمام آدم كل مخلوقاته وسلمها تحت إمرته ووضعها تحت تصرفه وسلطته، مع كامل حرية التصرف والاختيار لمن يود أن يرتبط به ويرتاح معه. ورغم حلاوة الطبيعة وما شاهد فيها من عجائب وغرائب وجمال وعظمة لم يسعد آدم. فقد لاحظ قوة الأسد وشهامته، وشعر بشراسة الذئب ووحشيته، وتذوق لطافة الحمل ووداعته، وانبهر أمام شموخ النخيل وعلوها... استأنس بالطبيعة ومناظرها الخلابة واستنشق هواءها وتمتع بأريج ريحانها. إلا أنّ كل هذا لم يسلب قلبه ولم يستهوه. لا! ليست في هذا سعادة آدم ولا ما يملئ قلبه. إنه يريد من يساويه ويشاركه في الحب والكرامة، ويتفاعل معه في الحياة والسعادة. ويرتاح إلى عشرته والألفة معه. يليق به وبكرامته البشرية. فنام حزينا. ولما استيقظ آدم رأى حواء بجانبه فاستنفر وصرخ قائلا: هذا أنا: "لحم من لحمي ودمي من دمي". هذا يصون كرامتي وأصون كرامته. هذا يليق بي. إنها حواء. ستكون أما لأولادي ومعينا لي. وأنا أكون لها سندا ومعينا، رأسا يدبر أمرها لا لتحطيمها إنما لنرتفع كلانا نحو الله خالقنا. وهكذا بدأ حياتهما بالتجوال في الفردوس يتنعمان من الطبيعة ويرفعان بين حين وآخر عيناهما إلى الخالق ليوطدا العلاقة معه، ويسمعا صوته، فيهدأ بالهما. إلا أنّ الغرور دخل في نفسيهما، واستثقلا أن يبقيا تحت حكم الخالق وقد رأيا كيف أن الطبيعة تنحني أمامهما. فعصيا أمر الله. فانقلبت الأمور ضدهما وكانت النتيجة سلبية ضدهما. فحرما من نعيم الفردوس واختلفت لديهما موازين الحياة. وبدل الحب والانسجام صار البغض والحسد والخلاف. فقتل الأخ أخاه، وبغض الوالد ابنه وعاداه، وعصت المرأة زوجها، وتاهوا في البراري وتفرقوا في البلدان، ولم يعودوا يعرفون من هو منهم ومعهم، ومن هو عليهم وضدهم. وكل ينادي يا روحي... لم يترك الرب الإله من خلقهم على صورته يتخبطون في أوحال آثامهم. وبأسلوب بشري، تربوي وطبيعي، حاول مرارا وتكرارا أن يعيدهم إلى حكم الصواب. فاختار أشخاصا من بينهم وأقام أنبياء من بني جلدتهم ينادون بالتوبة والعودة إلى الرب. وأظهر أمامهم خوارق وعجائب في الكون والطبيعة لعلهم يستيقظون من غفوتهم ويرعوون. وما أن يتوبوا حينا حتى يعودوا إلى شرهم. لقد أظلمت الخطيئة بصائرهم. واستسلموا للشهوات وللنزوات. وما هدف الله من كل ذلك سوى إشعارهم بأنّ كرامتهم البشرية مفقودة ولا بد من استعادتها ليعيشوا بشرا سويا ويذوق حياة السعادة التي من أجلها أوجدهم. إلا أنّ حب الله قاده إلى أبعد من ذلك. فكانت وسيلته الأخيرة مع البشر أن يضحي بابنه فيكون هو المنادي المباشر الذي يقودهم إلى سبيل الحق : "بأنواع كثيرة وطرق شتى كلّم الله آباءنا...وفي هذه الأيام الأخيرة كلمنا بابنه". فكان التجسد وصار الميلاد. "ولما ولد الصبي دعي اسمه يسوع: أي المخلص. لأنه هو الذي ينقذ شعبه". أجل جاء يسوع منقذا ومخلصا ومحررا. جاء يسوع ليقول لنا: أين صرتم أحبائي. ما هذه الحالة المزرية وما هذا الوضع المأساوي؟ ما تعيشونه ليست حياة بشر. لماذا فقدتم بشريتكم وهبطتم إلى أحط من قدركم. ما يصدر منكم من أعمال ليست أفعال بشر سوي يمتلك عقلا وحرية وإرادة. إنها أعمال تصدر عن الجهل والوحشة والغريزة. لقد أصبحتم كالبهائم تنهشون لحم بعضكم وتستميتون من أجل البقاء، وكان الأولى بكم أن تفعلوا من أجل الحياة والكرامة اللائقة بمرتبتكم.. لا! ليست تصرفاتكم هذه تصرفات بشر ولا حياتكم حياة إنسان واعي ودارك. هلموا وتعلموا مني فأنا النور والحق والحياة. نور أهدي خطواتكم، وحقا أقودكم إلى الصواب، وحياة تعيشون فيها كرامتكم. هذا ما فعله يسوع، فقد عاش بيننا حياة بشرية حقيقية بطبيعته البشرية الحقيقية. لم يكن خيالا ولا شاذا إنما إنسان حقيقي وواقعي. اختلط مع جميع فئات البشر وأصنافهم، وعايشهم في ظروفهم وأحوالهم. صادق الخاطئ والبار، وتعامل مع الفقير والغني، وعمل مع الصغير والكبير، ولم يهمل المريض والمتعافى، وحتى مع من أرادوا به السوء وعادوه وكانوا سبب موته. وإذ كان بوسعه أن يصدهم عنه، بل حتى ويفنيهم من الوجود بكلمة، لا بالسيف والإرهاب، كونه الإله، إلا أنّه نادى بالصفح والغفران ودعا إلى الود والإخاء، ليعيش البشر فيما بينهم حياة السلام الذي أعلن عنه الملائكة ساعة ميلاد يسوع: "المجد لله في العلى وعلى الأرض السلام وللناس الإرادة الصالحة". هذا هو الميلاد أحبائي. يسوع يولد ليكون نورا للبشر يستنيرون بأنوار تعاليمه، وحقا يهديهم بمواقفه، وحياة يسيرون وفق نهجه، فتكون لهم الحياة الكريمة اللائقة ببشريتهم. هذه هي رسالة الميلاد لنا نحن المؤمنون. ليس المهم أن نستذكر حدث ولادة شخص عظيم بقدر ما هي دعوة لنا إلى التجدد والميلاد الجديد فننزع عنا القديم من عوائدنا وأفكارنا، والغير الصائب من تصرفاتنا لنتحلى بمزايا وصفات وأخلاق المسيح. ولكون يسوع يعرف وضعنا وضعفنا أعطى لنا الأسرار ينابيع حياة وقنوات نعمة منها نتغذى وبها نتسلح ونتقوى لنعيش الألفة والوفاق ويعم السلام والأمان، وتستعيد البشرية عافيتها وصحتها وتعيد كرامتها، فتسعد وتُسعد. ميلاد مجيد وكل عام وأنتم بخير. القس بطرس موشي ميلاد 2009 .............................
الميلاد الحقيقي
الميلاد الحقيقي هو أن يسقي العطشان كأسَ ماءٍ باردة، وأن يكسي العريان ثوبَ حبٍّ ويُطعم الجائع لقمةً هنيئة، وأن يُخرج الحقد والبغض من قلبه إلى الأبد ويملأه بالحب لكلِّ الناس . وأن يتعامل مع الجميع بلطف ومحبة وأن يعمل للناس ما يُريد أن يعمله الناس له وأن يُحِب قريبه كنفسه، وأن يُحب الأطفال لأن لأمثالهم ملكوت السماوات، وأن يبتسم في آلامه وصعوباته وأن يُبعد الأنانية من قلبه، ويدرك أيضاً أن الميلاد هو: عندما يركع ويصلي بخشوع أمام طفل المغارة .....ويسمع وهو يقول له "يا طفلَ المغارة يا شوقَ أشواقنا:
تعالَ واسكُن عالمَنا وضعِ السلامَ في وطننا؛ تعال
واملُك على أرضنا
تعالَ رسِّخ مبادىء إنجيلك في قلوبنا، تعالَ لنَجدة مَن هُم في ضيقٍ أو مرضٍ أو عَوَق، تعالَ ضَعِ العدلَ والمساواة بين البشر، تعالَ أسعِدِ ورفِّهْ كلَّ مَن يسعى ليجد لقمة ...
كل الأرض اليوم سهارة بعيدك يا طفل المغارة ................... إلى الأعزاء ابناء إرساليات السريان الكاثوليك في أوربا الغربية
أهدي إليكم التحية والسلام والمحبة، الطفل الصغير المولود في المغارة ، المطارَد من هيرودس، والمهاجر إلى مصر والعائد منها إلى الناصرة . هذا الطفل هو سند لنا نحن اليوم أبناء الشرق لاسيما أعزائنا العراقيين في محنتهم القاسية.في شرقنا المنكوب نحن كلنا في ضيق. ولكن يسوع قال لنا لا تخافوا. لاتخافوا لأن هذه الدنيا وهذه الأرض مهما قست أو أسعُدت. فهي تبقى ضعيفة وهزيلة أما قدرة الرب وحنانه ونعمته. هو عاش الصعوبات والمحن قبلنا ليكون لنا الأخ البكر الذي يعطي المثل لنا نحن اخوته.فهو قوتنا وهو عزاؤنا. لقد أتت بنا عناية الرب إلى هذا البلد، فاستقبلنا مشكورا. والكنيسة هنا اهتمت وتهتم بنا. كما اهتمت بنا كنائسنا الشرقية : السريانية والكلدانية والمارونية والآشورية والأرمنية فأرسلت كهنة لخدمتنا لئلا نفقد لغتنا وتراثنا وروحانيتنا . ولكي نكون أيضا مثل الخميرة الصالحة في عجين شعب هذا البلد الذي استقبَلَنا. هكذا يريدنا الأب الأقدس بابا روما عندما عين لكل طقس من طقوسنا زائرا رسوليا يجمعنا ويأتي لنا بكاهن من أجل أن نغطي بخدمتنا الكهنوتية وبقدر الإمكان كل المناطق . وأنا مدين للبابا الراحل يوحنا بولس الثاني الذي سيطوّب قديسا بعد أسابيع قليلة. فهو الذي سبق فانتدبني زائرا رسوليا على أوربا . وها أنا أعمل جهدي في تنظيم أوضاعكم الكنسية ليبقى تراثنا وغنانا الروحي المشرقي غذاء لنا ولأولادنا. ونكون مثالا وقدوة لإخوتنا في كل بلد أوربي وجدنا فيه . فيا أيها الإخوة اثبتوا في إيمانكم لتكونوا مثالا في مجتمعكم الجديد هذا. احترموا قوانينه وأنظمته ولا تنسوا أنكم نور المسيح وأن الأساقفة والكهنة في بلد اغترابكم ينتظرون منكم الكثير في تطعيم شعب كنيستهم بنَفَس وأخلاق وروحانية كنائسنا الشرقية التي حافظت حتى اليوم على الأمانة . يسوع المولود في مغارة هو نفسه الذي يولد في قلوبنا كل يوم وكل ساعة. كلما صلينا أو قمنا بعمل محبة أوصدقة أوغفران، يولد يسوع في قلوبنا. وينمو في حياتنا ومعه لا بدونه تنمو سعادتنا. وفي الختام انتهزها فرصة لأعبر لكم عن شعوري الأبوي تجاه كل واحد منكم . فلكم مني أعمق التهاني بعيد ميلاد مخلصنا سائلا لطفه وطالبا من محبته أن يحن علينا جميعا ويلطِّف أوجاعنا وأوجاع أهلنا في الشرق وينشر سلامه في كل العالم . كل عيد وأنتم بخير وكل عام وأنتم بصحة ونعمة.
روما في 20 كانون الثاني 2009 + يوليوس ميخائيل الجميل المعتمد البطريركي لدى الكرسي الرسولي والزائر الرسولي على سريان أوربا ………………………………….
|
|