نبذة عن تاريخ دير مار متي للسريان الأرثوذكس إعداد: كريم إينا / بخديدا
يقع دير مار متى على مسافة 35 كم شمالي شرقي مدينة الموصل. وهو من الأماكن الأثارية التاريخية في ربوع العراق. ومن المزارات الدينية المقدّسة العائدة للسريان الأرثوذكس. ومن محاسن شمال العراق جمالاً ومناخاً وموقعاً. ومن أشهر أديرة المسيحية صيتاً ومكانة.
تأسيسه: أسسه القديس مار متى الناسك السرياني في غضون القرن الرابع الميلادي. وتعين أول رئيس عليه. وإنضوى إليه بضعة آلاف من الرهبان والمتوحّدين من كورة نينوى وغيرها من بلاد العراق وفارس. لا نعلم التصميم الأول لهذا الدير. وبسبب الغزوات والكوارث التي ألمّت به إنعدمت فيه الآثار الفنية وإندرست النقوش والزخارف. والباقي إلى يومنا هذا من أجزائه الجميلة والأصيلة (1) المذبح وبيت القديسين (وهما جزء من الكنيسة) قلاية القديس مار متى (3) الصهاريج (4) بعض الكهوف والصوامع.
القديس مار متى مؤسس الدير: ولد في ديار بكر- تركيا في الربع الأول من القرن الرابع. ترهّب في ميعة صباه. وتنسّك. ولما أثار يوليانس الجاحد قيصر رومية إضطهاده للكنيسة المسيحية عام 361م، غادر مار متى ديار بكر مسقط رأسه إلى المشرق يرافقه أكثر من عشرين راهباً أشهرهم مار زكاي، مار إبراهيم،مار دانيال. إنفرد مار متى أولاً في صومعة صخرية في جبل مقلوب لا تزال مائلة إلى اليوم. ثم ترأس الدير الذي شيده بعدئذ كما مر. وإشتهر بتقواه وقداسته، وممارسة أعمال التقشف. شرّفه الله بصنع الكرامات والأشفية. توفي في أواخر القرن الرابع أو أوائل القرن الخامس وهو شيخ طاعن في السن.
الدير في مختلف العهود وعبر التاريخ: بعد مرور مائة عام تقريباً من تأسيس الدير،أصيب بحريق هائل عام 480م. وعلى إثر ذلك قضي عليه،وبادت معالمه- وترك قاعاً صفصفا. وفي نهاية القرن الخامس عاد إليه بعض الرهبان وإستأنفوا الحياة النسكية ورمموا الدير المحترق حتى برز إسمه من جديد في عام 544 فواصل مسيرته التاريخية بصورة منتظمة سيما في العهود العربية التي عقبت العهد الساساني. وفي عام 1171م هجر بسبب إعتداءات الدخلاء المجاورين. وظل مهجوراً حتى عام 1187 ثم أستؤنفت فيه النشاطات الكنسية في شتى المجالات. ولما جاء ياقوت الحموي الجغرافي العربي الشهير لزيارة الموصل في مطلع القرن الثالث عشر حيث كانت قد إشتهرت بمدارسها وعلمائها وعمرانها على عهد بدر الدين لؤلؤ. زار الدير وقال فيه (دير مار متى بشرقي الموصل على جبل شامخ يقال له جبل متى. من إستشرفه نظر إلى رستاق نينوى والمرج.وهو حسن البناء وأكثر بيوته منقورة في الصخر. وفيه نحو مائة راهب. لا يأكلون الطعام إلا جميعاً في بيت الشتاء أو بيت الصيف وهما منقوران في صخرة. كل بيت منهما يسع جميع الرهبان، وفي كل بيت عشرون مائدة منقورة من الصخر. وفي ظهر كل واحدة منهن قبالة برفوف وباب يغلق عليها. وفي كل قبالة آلة المائدة التي تقابلها من غضارة وطوفرية وسقرجة،لا تختلط آلة هذه بآلة هذه.ولرأس ديرهم مائدة لطيفة على دكان لطيف في صدر البيت يجلس عليها وحده. وجميعها حجر ملصق بالأرض وهذا عجيب أن يكون بيت واحد يسع مئة رجل،وهو وموائده حجر واحد. وإذا جلس رجل في صحن هذا الدير نظر إلى مدينة الموصل وبينهما سبعة فراسخ.ووجد على حائط دهليزه مكتوباً:
يا دير متى سقت أطلالك الديم وإنهل فيك على سكانك الرهم فما شفى غلتي ماء على ظمأ كما شفى حرّ قلبي ماؤك الشبم..)
بيد أن معالم هذين البيتين إختفت. ولا يعرف مكانها بالضبط. وبعد عام 1260 عانى الدير كثيراً من غارات المغول والتتر. ومر بظروف قاسية جداً، وصبر على إعتداءات الأعداء والعصابات طويلاً. وفي العقد الأخير من المئة الرابعة عشرة ظهر تيمورلنك الطاغية. فتضعضعت أحوال الدير في عهده وإنتهى به الأمر إلى أن أمسى مأوى لبعض المجرمين الذين إستوطنوه مدة من الزمن. ونتيجة لذلك تشرّد الرهبان وظل الدير مهجوراً منسياً مدة تنيف على المائة وخمسين سنة. ثم أخذ يلمع ذكره مرة أخرى بشكل خافت ضئيل في نهاية القرن السادس عشر وأوائل السابع عشر،ثم يتوهج بعد عام 1660 أي في العهد العثماني الثاني. فتتسلسل أخباره من ثمّ حتى يومنا هذا ويسير سيراً طبيعياً خلال الفترة الواقعة ما بين عام 1833-1846 إذ تولاه الخراب على إثر غارة محمد باشا (ميراكور) وخلا من السكان إثنتي عشرة سنة. وفي عام 1970- 1973 تجدد الدير تجدداً متيناً بكامل أجزائه. وأنعمت عليه الحكومة العراقية بإيصال القوة الكهربائية وتبليط الطريق المؤدي إليه من مفرق عقرة والبالغ 10كم، كما بلّط طريق آخر يربط الدير بالطريق العام. وهو اليوم يعتبر منطقة،دينية،آثارية.
شهرة الدير:- عاش الدير عهوداً سياسية مختلفة- فارسية ساسانية،عربية،مغولية،تيمورلنك،عثمانية وأخيراً عربية. ولدى دراسة تاريخه بتمعن وتمحص نرى أن شهرته تنحصر في العهود العربية فقط وهي الفترة التاريخية الطويلة الواقعة ما بين أوائل القرن السابع الميلادي وسقوط الدولة العباسية عام 1258م. وتتلخص شهرة الدير في ثلاث نقاط رئيسية:
(1) روحياً أ- نشر الإنجيل: عني القديس مار متى وبعض خلفائه بنشر الإنجيل بين الشعوب الوثنية واليهودية ما بين عام 380- 550م من جملة ذلك تنصير مار بهنام وأخته سارة ورفقائه ثم والديه سنحاريب وزوجته وعدد كثير من ولاية آثور. ب- الرهبنة: يعتبر القديس مار متى من أبطال النسك والتقشف في المشرق. جمع إليه عدداً كبيراً من الرهبان ونظم حياتهم. قيل أن عدد الرهبان في عصور الدير الذهبية بلغ سبعة آلاف. وذكر ياقوت الحموي أنه كان في الدير عند زيارته إياه في القرن الثالث عشر مائة راهب. ثم تضعضعت أحوال الرهبنة فيه بعد القرن الرابع عشر،فأخذ عدد الرهبان بالهبوط. فلم يسكن فيه منذ القرن السابع عشر وإلى هذا اليوم أكثر من ستة أو سبعة منهم وقد ينقص عددهم إلى إثنين أو ثلاثة. ج- مزار: أمست الأديرة المسيحية،بفضل قداسة الرهبان وتقواهم مواطن مقدسة (مزارات) يؤمها المؤمنون إلتماساً للشفاء. وتبرّكاً،وسماعاً لصوت كلمة الله. ودير مار متي أضحى مزاراً منذ القرن الرابع الميلادي وحتى يومنا هذا لإحتوائه رفات القديس مار متى وأرفتة رفقائه وبعض القديسين. ثم وجود ضريح العلامة الذائع الصيت المفريان غريغوريوس إبن العبري 1286+.
(2) كنسياً أ- صيرورته كرسياً أسقفياً ثم مطرانياً في الربع الأخير من المئة الخامسة. وقد إحتل مطرانه مقاماً رفيعاً في كنيسة المشرق إذ أصبح فيها صاحب النفوذ الأول. وإستمر كذلك حتى القرن التاسع الميلادي. ب- جعله مقراً لإقامة بعض مفارنة المشرق منذ القرن الثاني عشر وما بعده منهم العلامة إبن العبري 1286+ الذي أقام فيه سبع سنين. ج- إتخاذه مكاناً لعقد بضعة مجامع كنسية هامة. د- نشأ فيه ثلاثة بطاركة،وسبعة مفارنة،وعدد كبير من المطارنة
(3) علمياً أ- المكتبة: وجدت في الدير مكتبة حوت مصاحف جليلة نفيسة في القرن الخامس الميلادي كانت تعد في طليعة خزائن الكتب السريانية. ثم إندثرت ثم أخذت تبرز إلى عالم الوجود ثانية في القرن السابع الميلادي، وذاع أمرها وإنتشر خبر مخطوطاتها في حدود سنة 800م. عاشت في المناخ العربي بقوة وعنفوان وظلت في نمو وإزدهار حتى عام 1171 حيث هجم الأكراد على الدير،مما إضطر الرهبان أن يحملوا الكتب ويغادروه إلى الموصل. وبعد عام 1241 نقلت كتب العلامة مار سويريوس يعقوب البرطلي برمتها بعد وفاته إلى خزانة والي الموصل بدر الدين لؤلؤ. وفي عام 1369 سطا الأعداء على الدير ونهبوه ومكتبته الثمينة ثم ظهرت فيه آثارها في المئة السادسة عشرة ثم أخنى عليها الزمان حتى إذا كانت سنة 1846 فما بعدها جمع فيها زهاء ستين مصحفاً. وهنالك عدد وفير من مخطوطات هذه المكتبة في خزائن المتحف البريطاني كمبردج، برلين،الفاتيكان،الموصل،دير الشرفة في لبنان،من ذلك على سبيل المثال: المصحف السرياني الثمين للإنجيل المقدس الذي أنجزه الراهب مبارك البرطلي سنة 1220م بالقلم الإسطرنجيلي البديع وزينه بأربع وخمسين صورة جميلة ملونة في غاية التأنق والإتقان وأوقفه على مذبح دير مار متى بجبل الفاف. ثم إنتقل إلى كنيسة السريان في قره قوش ثم صار في حوزة مطرانية السريان الكاثوليك في الموصل وأخيراً نقل إلى روما عام 1938م وأودع في خزانة الفاتيكان. ومن مخطوطات مكتبة الدير المحفوظة في خزانته اليوم، العهد الجديد بعمودين الأول سرياني بالقلم الغربي والثاني نقله إلى العربي بالحرف العربي نسخ عام 1177. وإنجيل كنسي سرياني بالقلم الغربي وبحسب النقل الفيلوكسيني والحرقلي نسخ عام 1222م. بعض أسفار العهد الجديد بالقلم الإسطرنجيلي على الرق في أوائل القرن الثالث عشر. وهنالك أكثر من عشرين مخطوطة أخرى نسخت ما بين القرن الثالث عشر والسابع عشر. ت- المدرسة: إزدهرت خاصة في المئتين السابعة والثامنة. ومن أشهر تلامذتها مار ماروثا التكريتي، وراميشوع وجبرائيل ولدا اللغوي الكبير الربان سبروي جد الملفان الربان داود بن فولوس آل بيت ربان. وقد أسهم أساتذة هذه المدرسة وتلامذتها بالحركة العلمية في العصر العباسي، وتابعت سيرها حتى إنقضاء القرن الثالث عشر ومن جملة أساتذتها في الفترة الأخيرة، مطران الدير مار سويريوس يعقوب البرطلي 1241+ والمفريان العلامة إبن العبري 1286+.
دير مار متى اليوم : 1- موقعه: يقع دير مار متى على مسافة 35كم شمال شرقي الموصل في صدر جبل الفاف بإرتفاع 2100 قدم عن سطح البحر. يتوصل إليه يتسلق الجبل مشياً على الأقدام أو ركوباً على ظهور الخيل في طريق بين مرتفعين مرصوف بالحجارة في إثنتين وثلاثين إستدارة يتلوى يمنة ويسرى يقدر بكيلومتر تقريباً، أطلق عليه إسم (الطبكي) وهي كلمة سريانية من طبويو أو طبيوثو ومعناها المرتقى. يشرف على السهول والأودية وترى منه الموصل وقراها. يتألف من ثلاثة طوابق تشكل مائة غرفة تقريباً. 2- كنائس الدير: في الدير حالياً كنيستان. تعرف إحداهما بإسم القديس مار متى. والأخرى بإسم السيدة العذراء. أولاً: كنيسة القديس مار متى: شيدت على الطراز المألوف في إنشاء كنائس المشرق وتشتمل على ،المذبح،ومدفن الآباء القديسين،والهيكل،ومدفن الرهبان: أ- المذبح: قديم جداً ينطق بقدمه بناؤه وقبته الشاهقة البالغة إرتفاعها عشرة أمتار. وفيه ترونسان أحدهما كبير يقع في صدره، والثاني صغير يقع في أقصى الجهة الجنوبية. ووراءه في الجهة الشرقية ترونس ثالث وجب بجانبه. وإلى شمال الترونس الثالث، ترونس رابع في مذبح سري كانت تقدم عليه الذبيحة الإلهية في الظروف القاهرة. ب- مدفن الآباء القديسين: هو المعروف ببيت القديسين، وهو القسم الشمالي من المذبح. تعلوه قبة يبلغ إرتفاعها سبعة أمتار. تشبه ريازتها ريازة قبة المذبح المشار إليه. ويشمل على عدة أضرحة منها ضريح القديس مار متى مؤسس الدير وضريح العلامة إبن العبري المتوفي عام 1286 ث- الهيكل: جديد أنشىء عام 1858م وهنالك كتابة سريانية في واجهة المذبح تنطق بتاريخ بنائه. بيد أن جداره الشمالي وضع على أساس قديم. يتألف من ثلاثة أنابيب إسطوانية، الجنوبي والأوسط متساويان- أما الشمالي فصغير. مدفن الرهبان: مغارة صخرية كبرى تحت هيكل القديس مار متى كانت قد إختفت مدة طويلة حتى إكتشفت عند وفاة أحد الرهبان عام 1910م. ثانياً: كنيسة السيدة: كنيسة قديمة جددت عام 1762 وهي بسيطة في شكلها. تحوي مذبحاً صغيراً يشتمل على ترونس صغير، تعلوه قبة صغيرة وبسيطة. وهيكل مستطيل صغير.
ويلحق بالكنائس: أ- مدفن الآباء الخارجي: سمي بالخارجي لوجوده خارج سور الدير وقديماً كان ضمن الدير. وهو مغارة صخرية كبيرة أنشئت على جانبيها الشرقي والغربي عشرة أضرحة، يتقدمه إيوان صغير. ب- الصوامع: منها صومعة القديس مار متى تقع جنوبي شرقي الدير. كانت منسكاً للقديس مار متى قبل إنشاء ديره ولا تزال بحالة جيدة. نقرت فيها مائدة للتقديس. وأنشئت إلى جانبها صومعة صغيرة حيث كان يتعبد القديس، وصهريج. وصومعة إبن العبري واقعة شمال شرقي الدير نقرت عام 1195 كما تنطق الكتابة السريانية بالقلم الإسطرنجيلي المزبورة فيها. ثم عرفت بإسم إبن العبري لتردده الكثير إليها إنصرافاً إلى الكتابة والمطالعة. وقد نقرت مائدة للتقديس في شماليها وأريكة في غربيها وشيد إلى جانبها صهريج صغير.
ومن الأمور التي تسترعي الملاحظة وتستحق الذكر: أ- رواق الملاك: هو رواق صخري نقر في عصور موغلة في القدم في قعر واد سحيق في الجهة الشمالية من جبل المقلوب. وقد سوده رعاة الغنم بدخان نيرانهم أبان الشتاء. وفي صدره رسم بارز لملاك متجه نحو الشرق، وبيده إكليل قد رفعه ليضعه على هامة مجاهد. وإلى جانب الملاك البارز رسم صليب. ويقابل هذا الرواق، فوق صخرة شاهقة،صومعة صخرية فيها أربع أرائك صخرية كذلك وثقوب صغيرة في جدرانها لوضع السراج فيها. ب- الصهاريج: في الدير عدة صهاريج نحتت في بدء تأسيسه لخزن مياه الأمطار المنحدرة من الجبل. ولا يزال أربعة صهاريج ماثلة يبلغ سعة أكبرها 2420متراً مكعباً. ج- كهف الناقوط: أكبر الكهوف، وأكثرها سحراً وجمالاً،غرب الدير على مسافة 200م. وهو قسمان القسم الخارجي ومساحته 10 × 15م رصف بالحجر المعروف بالبازي تتوسطه بركة ماء. والقسم الداخلي مساحته 6 × 4م يتقطّر ماء طوال السنة، تتجمّع المياه في حوض صغير وتنساب إلى القسم الخارجي حيث تصب في البركة. يقضي الزائرون فيه وقتاً ممتعاً في فصل الصيف
|