الحدادة في بغديدا قديماً وحديثاً .. الجزء الأول
كريم إينا بعد أن إستخرج الإنسان خامات الحديد أخذ يتنوّع في إعداد المستلزمات الحياتية وإستنبط أشياءاً كثيرة ووضعها في خدمته. تعلّم كيف يتعامل مع الحديد بإستخدام النار القوية؟ وتعلّم أن يخلط خامات أخرى مع الحديد أو وضع بعضها على البعض وخاصة بعد الثورة الصناعية.
فوصلت هذه الثورة إلى أكثر مناطق العالم وبدأت الحرف تنشط يوماً بعد يوم ومن ضمنها الحدادة حيث بدأت بطرقها التقليدية البسيطة. ففي بغديدا كانت هناك محلاّت للحدادة لما لهذه المهنة من أهمية كبيرة لدى أهلها لغرض صناعة حاجياتهم ومن هذه المحلاّت: المحل الأوّل كان لبهنام نعّوم الحدّاد وإخوته، والمحل الثاني كان لناصر الحدّاد وإخوته، مرّت الحدادة في أطوار بدايتها بمراحل بدائية بسيطة لا تستعير إهتمام الجذب السكّاني في القديم فقط أنّها مهنة قديمة ظهرت في الموصل ثمّ في بغديدا حيث ذكرها الأستاذ عبد المسيح بهنام في كتابه (قره قوش في كفّة التاريخ). كما ذكر هذه المهنة أيضاً الأستاذ الأب سهيل قاشا في إحدى مجلاّت التراث الشعبي، وذكرها الأستاذ عبد السلام سمعان الخديدي في بعض مجلّداته وهي من المهن الشعبية الشاقة ترجع أصولها إلى بداية القرن العشرين، إذ كان يأتي إلى بغديدا حدّاد غريب في أوقات معيّنة يستحضر بعض لوازم الفلاح البغديدي ثمّ ينصرف، وفي موسم آخر يأتي غيره من الموصل أو القوش حتى عام 1910 حيث جاء من الموصل شخص يدعى جرجيس معلان إستقرّ مع عائلته في بغديدا حتّى عام 1938، وعنه أخذت عائلة (غديديثة) سر هذه المهنة سميّت بعائلة (فرّوحة)، أصلها من الموصل والذي قام بممارسة هذه المهنة هو المرحوم نعوم عبد الأحد ميخا فرّوحة في الموصل حيث رأى بأنّ مهنة الحدادة في بغديدا هي مهنة مربحة لذلك إستطاع أن يشتري أرضاً ويبني عليها داراً وأصبح له أيضاً دكّاناً قرب (قنطرة عشيرة آلـ إينا) عمل فيه وقد نجح بإخلاصه في العمل بحدود الثلاثينات. وخلّف ثلاثة أولاد وهم: (بهنام،مارزينا،متي) وثلاثتهم عملوا في الحدادة وراثة عن أبيهم وبنفس الإخلاص والإتّقان.وبعد وفاة المرحوم نعوم أصبح بهنام الإبن الأكبر صاحب العمل (أوسطه) مع شقيقيه مارزينا ومتي معاونيه. ثمّ لقّبت هذه العائلة بعد إمتهانها بهذه المهنة بـ (الحدادة).
ومن خلال لقائنا بالمرحوم مارزينا نعوم عبد الأحد فرّوحة مواليد عام 1926 قبل مماته تحدّث عن بدايات عمله في هذه المهنة والسبب الرئيسي للعمل فيها فقال: بدأت العمل بها منذ عام 1940 وعمري 14عاماً، والسبب الرئيسي الذي جعلني العمل بها هو تركي المدرسة بسبب حدوث مشكلة بيني وبين معلّم كان يدرّسني، ممّا أدّى إلى تركي المدرسة وإتّجاهي نحو العمل بهذه المهنة، كان العمل يتمّ من الساعة السابعة صباحاً وحتّى الثامنة مساءً، وأحياناً كنّا نعمل خلال الليل وخاصة عند وجود طلب على الآلات الزراعية البدائية المستخدمة أثناء موسم الحصاد.
ومقر عملنا كان في وسط القصبة القديمة بالقرب من القنطرة التي سقطت أخيراًً وتلاشت معالمها ويرجع فضل تخليدها إلى مصوّري شعبنا وفنانيه سواءً كانوا من بغديدا أو خارجها الذين خلّدوها بلوحاتهم وكذلك ما نشره الصحفيون والمحررون في الجرائد والمجلاّت والمنتديات من خلال الإنترنيت. المصادر:- .................................................... كتاب قره قوش في كفّة التاريخ - المرحوم الأستاذ عبد المسيح بهنام القس موسى. لقاء سابق مع المرحوم مارزينا نعوم عبد الأحد فرّوحة. لقاء مع السيّد أبلحد بهنام نعوم حدّاد مواليد 1939- معلم متقاعد إبن الأوسطه بهنام نعّوم. كتاب التراث الشعبي في بغديدا للكاتب والباحث بولص إسحق بربر- 2005. جريدة صوت بخديدا: العدد (3) – 2003م-تحقيق مصوّر – ص5
الحدادة في بغديدا قديماً وحديثاً .... الجزء الثاني والأخير
وعن الآلات والأدوات المستخدمة في العمل قال: أوّل شيء الكور: وهو الفتحة التي تأتي من المنفاخ ومنها يكون النار قوياً جدّا يحتوي على كميّة من الفحم داخل (كفاية) جندية من الطابوق والطينً يوضع الفحم داخل هذه الكفاية ثمّ يشعل الفحم ويسلّط عليه هواءاً مستمراً فيزداد لهيب النار فيقوم الحدّاد بوضع قطع من الحديد على النار المشتعلة إلى أن تصل إلى درجة الإحمرار تؤخذ بواسطة ملقط حديدي مخصّص لهذه العملية ثمّ يأتي دور المنفاخ: حجمه كبير تم عمله في الموصل من قبل اليهود وهو مصنوع من جلد الثور على شكل جزئين متقابلين يضغط بالتوالي عليهما ومنهما إنبوب متّصل بالكور الذي يأتيه الهواء من هذا المنفاخ. والأشخاص الذين يعملون به يسمّون بـ (النفّاخين) مفتوح من الأمام كل جانب مثبت به ماسكة خشبية تضيق تدريجياً إلى أن تصل إلى قصبة صغيرة لكي ينحصر فيها الهواء ويندفع بقوّة على مصدر النار لكي يستمرّ النار بالإشتعال وبطريقة دفع الهواء بغلق الماسكتين اللتين بيديه مع حركة يمين ويسار يتمّ فتحها لكي يدخل بها الهواء وفائدته تكمن بإحداث شرارة مستمرّة ًثمّ يفتحها لكي يدخل بها الهواء ويغلقها مرّة ثانية وهكذا يستمرّ واقفاً أثناء العمل ويضخّ الهواء إلى الأمام من مقدّمة الكور. ومن الأشخاص الذين عملوا به في فصل الشتاء:(المرحوم سركيس باكوس جميل، المرحوم يوسف حمندوش، المرحوم سعيد ددّو وغيرهم. أمّا في فصل الصيف فقد أدار المنفاخ السيد سالم متي نعوم والمرحوم غريغوريوس ددّيزا مقابل أجور مجزية. وبالإضافة إلى هؤلاء العمال هناك عمال حدادة آخرين عملوا بأجور مجزية جيدة مثل السيد نعيم متي نعوم وكتّا شندخ،يوسف حلاّبي..إلخ. السندان: وهو قطعة كبيرة مصنوعة من الحديد الصلب من أحد طرفيها على شكل مخروط والطرف الآخر على شكل مستطيل يستخدم لطرق الحديد عليه وعمل الأدوات الزراعية كالمنجل وسكك الحراثة وسكك لربط الحيوانات في الأرض والتي تصنع من شيش حديدي يثقب وتوضع في ثقبه حلقة. أمّا الكلاّب الكبير يستخدم لمسك الحديد عند وضعه في الكور وإخراجه منه. والمطارق منها الصغيرة التي يستعملها الأوسطه والكبيرة التي تسمّى (المزربّة) ويستعملها الخلفة (المعاون) والشيش: (قطعة من الحديد) يستخدم لتحريك الفحم وجمعه لزيادة لهب النار على القطعة المسخّنة وكذلك لإخراج القطع المنصهرة من الحديد ومعادن أخرى من الكور. حيث كانوا يجلبون الفحم من المنطقة الجبلية مثل:(عين سفني،وبرواري بالا). أمّا حوض الماء: وهو إناء محفور من المرمر أو الفرش الغاية منه يستعمل لتبريد الحديد بعد الإنتهاء من عمل الآلة المصنوعة وكذلك له إستعمالات أخرى كزيادة صلابة الحديد ويستخدم الماء للغسل بعد التعزيلة من العمل.
المبارد:وهي آلات مستوردة تستعمل لسن الأدوات الزراعية المناجل والفؤوس وبلطات الجرجر التي يجب أن تكون حادة جداً لقطع المزروعات وتكون بأشكال وأنواع مختلفة منها الصغيرة والمتوسّطة والكبيرة وكلّ واحدة لها إستعمالها الخاص. وهذه المهنة كانت مربحة ومتعبة لصاحبها وجيّدة بنفس الوقت في موسم الزراعة والحصاد. سكك الحراثة:وهي على ثلاثة أنواع:الصغيرة تستعمل لحراثة الأرض بالمحراث الخشبي القديم الذي تجرّه الحمير. أمّاّ سكّة الحراثة الوسطى وتسمّى بـ (محيّر) وهذه تسحبها حيوانات كالبغال أو الحمير. أمّا السكّة الكبيرة تسمّى بـ (يكسم) وهي أكبر حجم من السابقة تسحبها حيوانات قوية كالبغال والحصن .
ملابس الحدادة: قديمة تلبس أثناء العمل وهي عبارة عن زبون قديم يسمّى (الهُدُم) يكون مملوءاً بالرقع المهلهلة نتيجة إنبعاث شرارات النار من الكور عليها. غطاء الرأس:عبارة عن (قلنسوة) تصنع من القماش الثخين وهي على شكل مثلّث أو مخروط للخلفة والعامل ولها إمتداداً إلى الرقبة حيث تحمي الرأس من الأتربة والغبار وغطاء الرأس للأوسطه يكون بشكل (عرقجين) له من الوراء أي خلف الرأس إمتداداً ينزل إلى الرقبة لحمايتها من الغبار. أمّا مادة اللحيم تَنَكار (tnakar): فهي مادة إنكليزية مستوردة تشبه مادة الشب تطحن ناعماً حتى تصبح كالدقيق الأبيض يتم غربلتها ويخلط معها نسبة من برادة الحديد وعند تسخين الحديد إلى حد الإنصهار توضع هذه المادة عليه لكي يلتحم بواسطة الطرق. والحديد المستخدم في أكثر الحالات هو المطاوع عدا المنجل: يصنع من حديد الفولاذ (الصلب) وهو أداة تستعمل للحصاد وتصنع من الحديد المطاوع في داخله حديد صلب وعمله صعب ودقيق جدّاً والمنجل الجيد له مواصفات يطول شرحها.أمّا الجرجر:وهو آلة لدرس المزروعات اليابسة كالحنطة والشعير والعدس بعد حصادها فتدقّ بواسطة الجرجر المكوّن من بلطات حادة النهايات على شكل نصف دائرة مثبّتة على إسطوانات خشبية داخل آله تشبه العربة المسقّفة تدور على المحصودات وتنعّمها حتى تصبح قابلة لفصل الحب عن التبن. أمّا عن أهم الأدوات المصنوعة فقال الأُسطى: إنّها كثيرة منها صناعة المسامير (برجيم) وتستعمل لجمع قطعتين مع بعضها البعض مثلاً لترقيع منجل- وركائز الأبواب- وأقفاله- والفؤوس- والكوارك- وأدوات الحفر- والهَدم- والبناء- وسكك الحراثة- والمناجل- وأدوات صناعة الجرجر- وآلات الحفر- وحلقات الحديد- وحذوات الفرس- والمذراة- وسكاكين الجرجر- اللابوثا: التي تستعمل لقلع بعض النباتات مثل الكعّوب و (شكبّي) وتنظيف المزروعات من الأشواك الضارة- عقرب الجرجر- زنجيل: ويصنع الزنجيل من التيل (السيم) الغليظ نسبياً ويستعمل لربط الحيوانات- زناجيل الميزان- كفّات الميزان- الأوزان- القدور- المناقل- السكاكين: بأنواعها وأحجامها وتصنع من الحديد الصلب أو من منجل مكسور وهذه تسمّى (شبره)- السيوف- الرماح- الخناجر القلم والزنبة فالقلم: يستعمل لقطع الحديد أو لصنع شق طولي فيه أمّا الزنبة: تستعمل لثقب الحديد ومواد أخرى عديدة.
وعن طريقة العمل حدّثنا المرحوم مارزينا قائلاً: في البداية يُدخل العامل الحديد المطلوب التعامل معه داخل النار، ثمّ يخرجه بواسطة ماسكة حديدية (الملقط) يضعه على السندان الفولاذي لكي يبدأ التعامل معه بالدق عليه بإستمرار من قبل شخص واحد أو شخصين، لكي يأخذ الشكل المطلوب، ثمّ أخيراً يوضع في الماء لكي يبرد، وكان يلحق بمكان العمل غرفة صغيرة يضع الحدّاد الآلات والأدوات المصنوعة فيها حيث يسجّل على كلّ واحدة منها إسم صاحبها
يا ترى من أين كانوا يجلبون الحديد الخام؟ وكم كانت أجرة العامل أثناء عمله في الحدادة؟ كانوا يجلبونه من الموصل بعد أن يستورد من تركيا ودول أخرى، أمّا مقدار أجرة العامل فقد بلغت ثلاثة دنانير خلال الأسبوع، والأرباح كانت تقلّ خاصة عندما يكون موسم الإنتاج الزراعي قليلاً بسبب قلّة سقوط الأمطار أو إنتشار الأمراض والأوبئة الزراعية والآفات كالجراد والسونة وحشرة المن، والطلب على الآلات الزراعية المستخدمة والمصنوعة قليل لهذا إندثرت هذه المهنة بسبب تطوّر آلات الحراثة والحصاد من ساحبات وحاصدات التي تحرث وتحصد مساحات كبيرة وتبذر كميّات كبيرة من البذور أثناء الزراعة وكذلك عملية رش المواد الكيمياوية ضد الأمراض وبذر الأسمدة الكيمياوية لزيادة خصوبة التربة. أمّا الحدادة الحديثة في الوقت الحاضر فقد تنوّعت وتطوّرت بتطوّر الأجهزة المستخدمة ولكن مهما يكن من أمر فإنّ الحدّاد لا يزال باقياً في بعض المناطق من مدينة الموصل ليقوم بنفس عملية الحدادة سابقاً إحياءاً لتراث تلك المهنة للأجيال القادمة. أمّا الحدادة الحديثة فقد أخذت طابعاً متميّزاً يختلف عن العهد السابق من حيث تطوّرها والأدوات المستخدمة فيها وإستخدام الطاقة الكهربائية من قبل موّلدات ومحوّلات ساعد على لحيم القضبان الحديدية والشبابيك والأبواب والسلالم الحديدية والأسيجة: جمع سياج ومختلف أنواع الحديد (المطاوع- الفولاذ ..إلخ). وهذه المهنة الجديدة تكاد تكون ثابتة ومتحركة (متنقلة) عكس مهنة الحدادة القديمة التي إنتشرت في مكان واحد في بغديدا لم تغيّر إتّجاهها. والحدادة في الوقت الحاضر لا يمكن الإستغناء عنها لأنّها تلبّي حاجة المجتمع وهذه الحاجات يستخدمها الإنسان في حياته اليومية حيث توفّر عليه الكثير من الإجهادات الجسدية بواسطة الآلة الحديثة التي يعمل بها فهي العون والوسيلة في آن ٍ واحد. ومن الأدوات المستخدمة في مهنة الحدادة الحديثة هي: ماكنة لحيم: تحتوي على وايرات مع يدة (كونتاك) لمسك واير اللحيم وإيصال واير حار وبارد لتوصيل اللحيم الكهربائي- سندان حديدي- كوسرة يدوية صغيرة وأخرى كبيرة لجرخ الحديد- مثقب كهربائي كبير وصغير (مزرف) لثقب الحديد- بنج بليت: لغرض قطع الحديد- كتر (تيغة)- تونك: يعمل براجيم- ماكنة قطع الحديد- وأحجار الكوسرة. وهذه المهنة شجّعت العامل على العمل بها لأنّها وسيلة مربحة وسريعة وموادها متوفرة في الوقت الحاضر.
المصادر:- · كتاب قره قوش في كفّة التاريخ- المرحوم الأستاذ عبد المسيح بهنام القس موسى.
جريدة صوت بخديدا: العدد(3)-2003م – تحقيق مصوّر – ص5
|