|
قصة قصيرة التجلي
سقط مستطيل الضوء على أفراد الجوقة الموسيقية الذين يحتلون الفسحة الواطئة الجالسة على مقدمة المسرح فبدأ العازفون كمومياءات مزروعة منذ الأزل بوجوههم الشمعية واقدامهم الجامدة وأياديهم المصلوبة على أبدان آلاتهم الموسيقية، وقف قائد الفرقة والضوء البنفسجي يصفع ظهره والنصف السفلي من قامته وقد اكتسب في وقفته هذه هيئة طاحونة هوائية مهجورة خرساء منذ الأزل تبكي مراوحها التي نخرها الصدأ، صمت، صمت ثقيل يلبد في ثنايا القاعة الغارقة بالغلس، والأنفاس مبهورة محتبسة داخل الصدور اللابدة على مقاعدها، ثم... حركت الطاحونة مراوحها. ννν - البحر.. آه.. انه البحر. ومضت العينان العسليتان، تحرك رأس الطاحونة نحو عازف (الجلو) ونوست إحدى الأذرع بتساوق منظم مع همسات البحر المنسل من أحشاء آلة الجلو، أشارت العينان.. - أين الرياح.. وتحركت الذراع الأخرى للطاحونة نحو (الساكسفون) الذي أطلق ريحه الهوجاء التي ما عتمت أن لطمت البحر على وجهه فأنشأ يدمدم بصوت مجلجل كرجل في قمة غضبه، وومضت العينان.. - عرائس البحر تراقصت الأوتار تتلو صلواتها بخشوع، صار الكمان ملكاً مطلقا يحكم القاعة بأسرها، امتدت إحدى الأذرع نحو الرقبة ونضت ربطة العنق السوداء ثم هبطت وتحسست الأزرار الذهبية للسترة السوداء... العازفون ماضون في حرث أراضيهم البكر والصدور تختلج بعنفوان دافق وعيون كثيرة تومض ثاقبة عتمة الفضاء، تصير الطاحونة ملاحاً يرقى درجات الفسحة الواطئة، البحر يناديه، يفتح ذراعيه، يسمع ندائه السري. - تعال يا صديقي، تعال.. مشى على الرمال، تنطبع أقدامه راسمة عليه أسس طاحونة عادت اليها الحياة بعد أن هجرتها منذ زمن قصي، سمع صوت صديقه. - كدت تنساني. أجابه مأخوذاً. - وهل ينسى الإنسان قلبه. وتلفّت حوله يتقصى أبعاد المكان، وجد قبة كبيرة تتبختر بجبروتها تحت سماء حُبلى بغيوم ربابية، سعى نحو القبة يوماً وبعض يوم وحين وصل وجد قصراً هائلاً كله بياضٌ في بياض تجلس فوقه القبة الزرقاء، جلس على الرمال وهتف. - يا صديقي البحر. أتته نبرة عاتبة. - أما قلت لك، إنك نسيتني… - لا يا صديقي، ولكنها الذاكرة اللعينة. لم يجبه صديقه، بل غلف الفضاء صمت طويل تخللته صيحة نورس ضل جماعته، ضرب جبينه بقبضتيه، يبحث عبثاً عن أسم صديقه، ضاع عليه.. تدحرج كعلبة فارغة داخل تجاويف دماغه المتلبد، جاس السماء بعينين مسهدتين حائرتين، وبغتة.. مثل فجوة تتفتح في جدار سد فينبثق منها في البدء سيل من الماء الصافي المتلألئ تذكر أسم صاحبه، هتف.. - آبسو..(1) تناهى إلى أسماعه صوت صديقه الحبيب وهو يقهقه ولمح باباً ضخماً ينفتح من بنيان الهيكل الحجري الهائل للقصر وصديقه ينسل منه مبتسماً.. لم يحفر الزمن أخاديده في وجهه إلا في بضع شعيرات في نهايات ذؤابته وسالفيه فقد وخطهما الشيب، وسع القائد الموسيقي خطاه، كاد يقع، هرول…وفي نقطة ما قرب جذع صنوبرة معمرة، التقى صديقه، التحما، تفارقا، التحما، ثم تعانقا... ννν - لا تذهبي أرجوك.. كانت الحورية تبتعد نحو الضباب الأبيض، ركض صوبها ماداً ساعدين مفتولين متوترين، انجذبت إليه كالنسيم وركنت بين ذراعيه، ضمها إلى حناياه كقطعة نفيسة وصار يراقصها، دار حول نفسه مرتين، طاوعته كقطعة إسفنجية ضمها بقوة، تحولت الحورية إلى عطر زكي أخذ يتصاعد إلى منخريه، تنملت خلايا جسده وداهمته قشعريرة لذيذة حين أنشأت الرائحة تتسلل إلى أعماقه، أمسك صدره حيث استقرت وهمس. - أحبكِ. جاءه صوت صديقه وهو يوغل في النأي. - تذكرنا كل حين. ثم بقهقة حبيبة. - ولا تنسى اسمي. أجاب برهافة. - سأفعل. أستقل صديقه عربته الخرافية المطرزة بالأصداف والاشنات الخضر، دكت الخيل سنابكها بقوة على أرض المسرح نتج عنها فرقعة جعلت قائد الفرقة الموسيقية ينظر حوله بذهول.. كان (الساكسفون) يصلي الجو ببرقه ورعوده والقاعة تسبح بضوء برتقالي بارق وقد وقف الجمهور برمته يصفق بحرارة لقائد موسيقي بعينين عسليتين، أندمج مع موسيقاه حد أنه تجلى فوق خشبة المسرح مجسداً المعنى الحقيقي للسمفونية وقد تجرد من ملابسه. (1) اله المياه عند العراقيين القدامى.
|