|
محطات من رحلة الحياة والإبداع
تصدير :- لا اعتقد بأن أية سيرة ذاتية قادرة على الكشف عن خبايا حياتي الخاصة - نابوكوف.
المحطة الأولى: عام 1966 ـ السادس الابتدائي مدرسة قديمة مبنية من الحجر الجبلي والجص الأبيض المخلوط بالرماد، صفوف تنضح برائحة الطفولة المشاكسة بنوافذ خشبية نظيفة، رحلات قديمة متراصة بإنتظام تحتوي بين حناياها أجسادنا المتوثبة بقاماتنا الغصة المتسربلة بالدشاشيش المطوية حول بطوننا واللابدة تحت (التراكسوت) الأصفر، وعيوننا البريئة المتطلعة دوماً للإكتشاف تعانق المعلم وهو يكتب على السبورة: المدرسة: التغلبية الابتدائية المادة: الرسم وفي الجانب الآخر من السبورة: التاريخ: 20/12/1966 الموضوع: رسم منظر طبيعي ونرسم، نلون بالباستيل، يكون الجبل عندي بخمسة ألوان متباينة ومتوافقة، والسماء بلونين أو ثلاث، والكوخ بعدة ألوان، وكذلك السياج والنهر والزورق والأوراد. وعندما يصل المعلم إلى مقعدي يتأمل الرسم ملياً، ثم يتناول دفتر الرسم ويأخذ المنظر منه، يقصه بعناية وتؤدة، ومن ثم يقول: ـ أصبح عندك في المعرض خمس لوحات.
المحطة الثانية: 1968 ـ الأول متوسط من أجمل الذكريات ذلك التبدل في النسق الحياتي لمرحلة مهمة من رحلتي مع الحياة فبعد الركون إلى الرتابة والركود جاءت مرحلة الإنتقال من مرحلة إلى أخرى، فالعمر الآن ثلاثة عشر ربيعاً والرحلة إجتياز الخط الأحمر من الطفولة ودخول عتبة المراهقة مع ما يترتب من ذلك من تغييرات في السلوك الاجتماعي والبايولوجي، أول التغييرات هو تلك الرحلة الجميلة والمضنية بالأقدام من المدنية إلى المتوسطة والإعدادية ( إعدادية الصناعة حالياً ) مع ما يرافقها من إحتدام مع عوامل الطبيعة من برد ومطر وعواصف وطين، والمعركة غير المتكافئة بين هذه العوامل والأسمال التي كانت لصيقة بأجساد أغلبنا، ناهيك عن فقر الدم والسعال والزكام والأنفلونزا.. نحن الآن في تشرين والجهة البعيدة عن الإدارة تحوي أجسادنا المقرورة، يدخل مدرس المادة الفنية وتحت إبطه دفاتر الرسم، يوزعها علينا، أفتح الصفحة لأعاين درجة التقييم وأصعق (30/100) فيهمد على صدري حزن كثيف وأكاد أجهش بالبكاء، يحس صديقي (الذي رحل عن عالمنا قبل عقدين من السنين بالسكتة القلبية) بما أعاني، ينظر إلى المنظر الطبيعي وإلى الدرجة، لا يحتمل الموقف، وقف (وقد كان معروفاً بجرأته ومحبته للمحاججة) ويهمس: ـ أستاذ.. يلتفت إليه المدرس. ـ نعم.. ـ لماذا وضعت لهيثم هذه الدرجة. ـ انه يستحقها. ـ كيف؟... أنظر إلى لوحته، إنها جميلة، بل هي أجمل اللوحات المرسومة.. ـ إنني أنقذه من نفسه.. ـ كيف.. ؟ ـ أن يتحاشى المواقع الصعبة.. ـ ماذا تعني؟. ـ أعني، إنني لا أصدق أن ولداً مراهقاً يرسم شجرة بعشرة ألوان، هذا تفكير سابق لعمره.. ـ أستاذ، (الله يخليك) انه فنان التغلبية ـ ليكن.. هذه قناعتي.. ثم أمر صديقي بالجلوس، فيما كانت الدمعة التي إنساحت من عيني ووقعت على المنظر الطبيعي تتخذ مسارها كالسكين فوق تفاصيل المنظر الطبيعي. وبالمناسبة... بعد أن تركت الرسم عقب هذه المأساة وبعد ثلاث سنوات وأنا في (الرابع الإعدادي) كان نفس المدرس يملي علينا رسم أي شيء نختاره وفي الصف.. كنت غير مبالٍ بكل هذا، وفجأة برق في خاطري.. ـ عليّ أن اثبت للأستاذ إنني فنان.. وقف على رحلتي، كانت الورقة بيضاء، قال: ـ أرسم. قلت له. ـ شرط أن تجلس جواري على الرحلة. ـ لماذا.. ـ لغرض في نفسي ابن يعقوب. أجاب بنبرة مستخفة: ـ حاضر.. وصالت ريشتي وألواني على أديم الورقة، وفي ظرف ربع ساعة إكتملت اللوحة، نظرت إليه اللوحة بعين دامعة وقالت له: ـ هل تيقنت أنه كان يخوض المواقع الصعبة بجدارة. قال الأستاذ للوحة: ـ كان صغيراً على هذا.. قالت اللوحة. ـ ولكن خاضها قبل ذلك. ـ كنت أسير ظني. ـ ولكنك خسرته كفنان. ـ الوقت لا يزال في يده.. قالت اللوحة بتوكيد.. ـ نعم لا يزال في يده ـ إنه يرسم الآن ولكن بالكلمات.. نهض الأستاذ وربت على كتفي وهمس . ـ إنك فنان موهوب.
المحطة الثالثة: 1969 ـ 1970 (الثاني والثالث متوسط) كان إسمه نائل فرج، طالب من بعشيقة، يدرس في ثانوية قره قوش، يقف في مكتبة المدرسة والكتب خلفه مرصوفة بعناية،إنبهرت بهذا الكم الهائل من الكتب، وإستافت خياشمي رائحتها الزكية، أعطيته ورقة الاستعارة.. أسم الكتاب: الملك لير. أسم المؤلف: إعداد - كامل كيلاني . رقم الكتاب: ==== راوزني بعينيه الزرقاوين وقال: ـ للقراءة أم للتفرج على الصور. أجبته بتوكيد: ـ بل للقراءة.. وبعد أن أعدته بعد أسبوع أمسكني من ذراعي، ثم فتح الكتيب المزين بالصور البديعة وقال: ـ إشرح لي القصة. ففعلت، وزدت عليها من خيالي، قوس حاجبيه دهشاً، ثم قلت: ـ وأستطيع أن أقول لك لمن هذه القصة بالأصل. إزدادت دهشته وهو يقول: ـ من.. ؟ قلت وأنا أحاول أن أتلفظ الإسم جيداً. ـ وليم شكسبير. قلت الكلمة من فمه. ـ رائع.. وهكذا قرأت كل كتب كامل كيلاني (خمسة وعشرون كتاباً أو أكثر) وكتب محمد أحمد برانق (عشرون كتاباً أو أكثر) وقصص المغامرات والتشويق بحيث بلغ عدد الكتب المعارة بإسمي خلال عام 1969 وأنا في الثاني المتوسط أكثر من ستين كتاباً. وبعد عام.. إكتشفت (جرحي زيدان) هذا الروائي العاشق للتاريخ فقرأت رواياته الإحدى والعشرين (إبتداء من فتاة غسان وإنتهاء بجهاد المحبين) كانت رواياته ضخمة جداً بحيث أن أبي رحمة الله كان يقول. ـ كيف تقرأ كل هذا الكتاب.. وإنبهرت بهذا العالم الساحر المدهش الخلاب (الرواية) وبهذا الحجم الهائل، فإنفتح أمامي عالم الأدب الرهيف من خلال جرجي زيدان وصرت عاشقاً يتعبد في محراب الرواية وتحضرني الآن حادثة.. ذات يوم من نفس العام، كان يوم جمعة، جلست أقرأ إحدى روايات زيدان وفيما أذكر كانت رواية " جهاد المحبين " بصفحاتها (الثلاثمائة) وفرغت من قراءتها في الساعة السادسة من عصر نفس اليوم، فغيرت ثيابي وخرجت، تمشيت مع صديق لي حتى الساعة الثامنة والنصف ليلاً (وقت متأخر قياساً إلى الشتاء) وعند دخولي البيت سألت عن زهير فقالت لي الوالدة: ـ إنه نائم. فذهبت إلى الغرفة، كان زهير نائماً وكتاب ضخم ينام على صدره، رفعته برفق كي لا أوقظه ونظرت عنوانه (بائعة الخبز لكرافية دي مونتيبان) قلت بنفسي: ـ لأقرأ المقدمة وإنكببت اقرأ، ولم أحس إلاّ والدنيا فجر، والعصافير تزئزيء فوق أفنان شجرة الزيتونة، والرواية في آخر صفحة وإنتبهت على صوت باب الغرفة ينفتح وأبي يحتل الفراغ، إندهش وقال بدهشة: ـ ألم تنم يا بني...
المحطة الرابعة: 1973 (الصف السادس العلمي) (ألف ليلة وليلة) هذا السفر الملحمي المدهش جعلني أحلق في عالم مليء بالسحر والغرابة والخيال الجامح، وجعلني سندباد أعيش حالة صوفية وإنغمرت في عالمه الساحر بحيث جعلني أفكر في أن أسمي نفسي سندباد (وقد حصل هذا مستقبلاً عندما تعينت في إحدى قرى محافظة الأنبار التي تبعد عن قره قوش مئات الكيلومترات وسفري المتواصل منها وإليها جعل أبي يقول لي إحدي المرات: هل أنت سندباد يا بني ألاّ يضجرك السفر والتجوال الدائمين) هذا الكتاب وجدته في مكتبة الثانوية فإستعرته، وفي درس اللغة العربية وجده الأستاذ الشاعر المبدع معد الجبوري الذي كان يدرسنا المادة المذكورة في درج الرحلة فأنهضني وسألني: ـ ما أسمك ـ هيثم بهنام. فنهض زهير وقال: ـ إنه أخي أستاذ. وكان زهير على معرفة طيبة بالشاعر كون زهير يكتب بداياته ويعرضها على الشاعر، وكان الأخير يرى في زهير شاعراً في المستقبل القريب.. فإبتسم بوجهي ثم إلتفت إلى السبورة وكتب (جمجمة في متحف) وإستدار قائلاً: ـ هذا هو موضوع إنشاءنا هذا اليوم. وبعد وقفة. ـ في نهاية الدرس أريد دفاتر الإنشاء عندي.. صدمني العنوان الرومنطيقي وإستفزني في آن.. فأنشأت أكتب.. وأكتب.. وأكتب، ولم أنتبه إلى الأستاذ وهو يقف إزائي ودفاتر الإنشاء في يده واللغط في الخارج على أشده فخجلت ووضعت القلم جانباً وقلت في وجل: ـ بقي القليل.. وأعطيته الدفتر، بيد أنه أرجعه وقال: ـ بل أكمله.. وفي اليوم الثاني، أعطاني الدفتر فتحت الصفحة لأتفاجأ بالكلمات التالية: " أنت مشروع قاص ".
المحطة الخامسة: 1974 ـ 1975 / معهد الصحة كانت فرحتي لا توصف وأنا أرى اسمي مطبوعاً تحت عنوان القصة في صفحة (ثقافة) من مجلة (الإشتراكي) التي كان يصدرها الاتحاد الوطني لطلبة العراق ـ فرع نينوى، وصارت المجلة صديقي الودود أحملها بين كتبي وأتأملها في الليل، إلى أن إنسل من روحي شخص أعرفه، يحمل ملامحي. ولكن بها بعض الشيب مع صلع في الرأس ونظارات طبية سميكة، إبتسم عن أسنان صفراء تلبد تحت شارب كث وهمس: ـ هذا أول الغيث. وبعد عام.. شاركت في مسابقة مجلة (الفكر المسيحي) بقصة (أوف لن استطيع كتابة قصة قصيرة) وكانت لجنة الفحص مؤلفة من: د. عمر الطالب، القاص الراحل محمود جنداري، والقاص نجمان ياسين، فازت بالمرتبة الثانية.
المحطة السادسة: 1976 / صيفاً قرية جميلة جداً، تحفها أشجار النخيل والمشمش والرمان والأجاص بيوتها من طابوق وأسقفها من حديد الشيلمان إسمها غرائبي (الجواعنة الشرقية) يفصلها عن ناحية البغدادي هذا الكائن الأزلي الرائع السرمدي البقاء الذي إسمه نهر الفرات. هنا في إحدى غرف المركز الصحي يجلس هيثم في عمر (25) يقرأ في العدد العاشر من مجلة الطليعة الأدبية قصته (تل الزعتر) بفرح من إكتشف طريق الإبداع ووضع خطواته الأولى في طريق الشهرة.. وفي نفس المكان وبعد أشهر عديدة من الكتابة ينجز روايته الأولى (الغرفة 213) * ( نشرت في كتاب عام 1987. )
المحطة السابعة: 1976 / القصة القصيرة جداً كنت أحبها وأنا في الإعدادية، وكانت تحبني، كل يوم أتحجج بأي مشوار لكي أقطع الزقاق لأجدها تنتظرني أمام عتبة الباب بدشداشتها الزرقاء ووجها البض البديع، وكنت عندما أحاذيها أرفع طرفي حياءً لتعانق نظراتها ليتضرج وجهي بالدم ويصير مثل رمانة، أبتسم ثم أغادر على عجل، أضبط أعصاب أقدامي لئلا تنهار وأسقط على الأرض، وفي يوم ما، لاحظت أن هناك عيوناً زرقاء جميلة تراقبني، سقط قلبي من صدري، تدحرج على الأرض، وقفت أراقبه وهو ينتفض مثل دجاجة مذبوحة، أحسست الخطوات خلفي، جمدت، أنظر إليها بعينين زجاجتين، وفجأة، وقف أمامي وبيده وردة حمراء، أعطاني إياها، ثم مشى صوبها، وإنتضى من عبه وردة حمراء أخرى وأعطاها، وقف، نظر إلينا، إبتسم ومشى صوب فم الزقاق. كان هذا (سالم) المجنون كما يعرف في قره قوش (بغديدا) . هذه الضربة الختامية للواقعة الحقيقية جعلتني أكتب القصة القصيرة جداً.
المحطة الثامنة: 1977 / صدى ـ الطفل البكر (صدى) أولى الولادات الصحيحة لهذا الفن الإبداعي الصعب، داعبتني الفكرة فحاولت أن أسكبها على الورقة وفي قالب قصصي، ولكنها أبت إلاّ أن تأتي وتولد في النهاية من رحم الذاكرة على شكل قصة قصيرة جداً، وهكذا كان.. صيف عام 1977 من لهيب حر تموز ولدت (صدى) لتطفئ سعير التوجس المحموم، فكانت طفلي البكر، وتوالت القصص حتى بلغت ثمانٍ وعشرين قصة نشرتها في مجموعة (حب مع وقف التنفيذ) عام 1989، وهكذا دواليك نصاً يعقب نص حتى أصدرت مجموعتين أخريتين هما (الليلة الثانية بعد الألف) عام 1996، و (عزلة أنكيدو) عام 2000. وقد رحب النقاد والوسط الثقافي بتجربتي في حوض غمار القصة القصيرة جداً حتى بلغت الكتابات النقدية عن مجمل تجربتي في كتبي الثلاث أكثر من ثلاثين نقداً لنقاد وقصاصين أذكر منهم: جاسم عاصي، سليمان البكري، ناجح المعموري، عبد الستار البيضاني، ناظم سعود، شاكر مجيد سيفو، يوسف الحيدري، صباح الأنباري، سمير إسماعيل، أنور عبد العزيز، جمال نوري، نزار الديراني، حمدي الحديثي وآخرين.
المحطة التاسعة: 2000 / نهر ذو لحية بيضاء رغم إنني تخصصت في كتابة القصة القصيرة جداً. إلا أن بداياتي كانت مع القصة القصيرة، ورغم أنني نشرت أولى قصصي في مجلة ثقافية متخصصة عام 1976، إلا أن أول قصة قصيرة كتبتها كانت عام 1973 بعنوان (نهر ذو لحية بيضاء) وعندما فكرت بإصدار مجموعة قصصية دون الجداً، قفزت هذه القصة أمامي مثل حلم جميل وأبت أن تغادر المخيلة، بل أصرت أن تكون هي عنوان المجموعة، وهكذا كان، تصدرت أولى القصص، وارتدت المجموعة حلتها وكانت إصداري الأول في القصة القصيرة، بعد رواية وثلاث كتب تعني بالقصة القصيرة جداً.
المحطة العاشرة: أدب الأطفال يقال: وهذا صحيح، أن الكتابة للأطفال عمل صعب جداً، فلهذا ترى أن الذين يكتبون للأطفال لا يربو عُشر المبدعين في مجال القصة والرواية والمسرح. ومن البديهيات أن الرجل مهما بلغ من العمر يتبقى في حشاياه طفل بريء يمارس ألعابه أحياناً في غياب الذاكرة والوعي، فنرى بعض الناس يتصرفون في سلوكهم أحياناً كالأطفال، والبعض الآخر يجلس طوال النهار يترقب أفلام الرسوم المتحركة والبعض يجلس مع أولاده الصغار يداعب الدمى ويراقصها، والبعض،... عند المبدع الحالة تختلف، فمنهم من تجد في نصوصه المكتوبة للكبار روح الطفولة، إن كان النص شعراً أو قصة أو مسرح. بالنسبة لي راودني إحساس عام 2001 م أن اكتب مسرحية للأطفال بعنوان " الحكيمة والصياد "، وأخذت اسوّد الأوراق، ثم عرضتها على القاص المبدع طلال حسن فأثنى على التجربة وأشار قائلاً : - أنك ذو تجربة تبدو بعيدة في الكتابة للطفل. وعام 2003 م أنجزت سيرة قصصية للأديب العربي الكبير (الجاحظ) وأفكر الآن في كتابة مسرحية للفتيان مستوحاة من حكايات كان يرويها لي جدي ( رحمه الله ) وربما ستأخذني الكتابة للأطفال إلى جزر بكر لم أكتشفها في طفولتي، وتبقى الكتابة للأطفال عندي تلبية لإلحاح الطفل الذي يفك قيده من تلافيف دماغي ويتحرر ليكتب هو نصه.
تصدير ثانٍ :- الكتابة تبدو سهلة، غير أنها في الواقع اشق الأعمال في العالم . - أرنست همنغواي
|