العنقاء
شعر ابيض، عينان زرقاوان، بدن ناحل، وبدلة عتيقة سواد … هي كل ما يميز هذا السيد الستيني المتجذر في مقعده أمام وخلف الأجساد المستريحة في آتون العتمة المخيمة .. صارت تعابير وجهه تمثالاً جبسياً حائل اللون تشخص بعينين حجريتين صمائتين محتوية تفصيلات المسرح المفروش اسفل القاعة وقد حلقت في فضاءه الفسيح بجعة بيضاء بوجه قمحي وشعر مصفف على شكل هرم شبك بدبابيس بيضاء وجسد رشيق تتقافز كل خلاياه في حركات إيقاعية خاطفة مسافراً إلى جزر مطمورة في ذاكرة التاريخ المركون على الرفوف الحجرية تعاركها أمواج امتطتها العفاريت فصارت تشن هجماتها على سواحل الجزر جاعلة أسراب البجع تحلق راحلة إلى أماكن حالمة ترقد على جنباتها بحيرات تبدو عند الأصيل مرآة صقيلة … تطير البجعة في الهواء مفردة جناحيها ثم ترتد نحو العشب العسجدي وقبل أن تعانق القدمان اللدنتان عشب الحديقة البرية يركض العاشق المسحور ويحتضن البجعة بين يديه ثم يحدق في العينين باحثاً بأنفاس مشدوهة عن صورة فتاة تلهو بين أشجار الدفلى والدردار، ومن غلالتها البيضاء تنث طائرةً العشرات من الفراشات الصفراء والبنية والبيضاء، يتقنفذ الرجل الستيني مغمضاً عينيه وتسافر جمجمته العتيقة قاطعة المحطات الموبوءة بالغبار والطحالب لتحط على جنبات مسرح حجري بمقرنصات قديمة مرمرية تركض على بلاطة بجعة بيضاء مسحورة يتبعها شاب حائر يحاول في ذهنه إيجاد تفسير للغز هذه الفاتنة التي تبدت له في ابهى صورة تحت ضياء القمر الفضي، وحين يتلقفها بين يديه ينزلها برفق وينظر إلى عينيها باحثاً بانفاس متهدجة عن صورة تتمخطر تحت عباءة ليل مقمر بين أشجار الدفلى والدردار .. همس لنفسه بحسرة ..
- زمن قديم … !
حدق ملياً في عمق المسرح، كان الراقص يتوسد خشبة المسرح وثمة زبد بين شدقيه المتيبسين وحوله تحلق بجعات صغيرات يحدقن بعيون استوطنتها الحيرة والخوف في هذا الكائن الراقد امامهن، توقفت البجعة هي الاخرى مسمرة في مكانها مصعوقة مرتبكة ، توقفت الموسيقى لوهلة ثم عادت تعزف مقطعاً معادا، انهض جسده المكدود وهمس ..
- حصل خطأ فادح ..
ثم ..
- ثمة امر جلل ..
نزل درجات القاعة يتلمس طريقه بيديه، كانت البجعات الحزينات يستحلن في حدقتيه المومضتين بضياء خارق إلى كائن كتلوي ابيض بسيقان لحمية عديدة، اقتحم غرفة الملابس وقال بسرعة لاول وجه يصادفه ..
- اريد أن تجعلوا البجعات يحملن الراقص ويخرجن به خارج الكادر..
ثم وبسرعة ..
- اريد أن يحصل هذا بحركات إيقاعية عفوية ..
ثم موجهاً كلامه إلى رجل آخر ..
- وارجوكَ أن تفهم البجعة المسحورة بأن تواصل الرقص كعاشقة تبحث عن خلها ..
وبعد هنيهة غمغم ..
- اريد ملابس رقص ..
***
راقص بشعر أشقر وعينين زرقاوين وبدن ناحل، خرج من الباب الجانبي وحين غمره مستطيل الضوء الساقط من نقطة ما في سقف المسرح قفز محلقاً في الفضاء، بقي معلقاً في قفزته المفعمة بالحبور لفترة تيقن فيها السيد الستيني انها ستطول إلى الأبد، هبط إلى الأرض، ركض بخطى رشيقة نحو البجعة البيضاء، طارت تميس على مويجات البحيرة، دارت حولها بأجنحتها البيضاء ثم انزلقت بين ذراعيه الضامرتين، ركضت البجعات المحمومات مشكلة دائرة صغيرة حول الرجل الذي اصطاد الملكة، كانت الموسيقى تدفع في عروقه المسكونة بالكولسترول قوة دافقة فأنشأ يرقص، يرقص، يحمل البجعة، يطلقها في الفضاء، تطير نحو سماوات لازوردية، ومن ثم تهبط بين ذراعيه وتنزلق نحو العشب العسجدي، يحتضنها بحركة خاطفة سريعة ويحدق في العينين، يجد فيهما دهشة واعجاب وحيرة وأفلاك راسية تنتظر ملاّحيها ..
***
في المنزع ما كان متعباً البتة، بل ثمة حياة يافعة تسري في عروقه وقوة هائلة تنطلق من نقطة ما عميقة غائرة في حشاياه، رفع رأسه وحدق في المرآة الطويلة ليجد وببساطة لا متناهية جسداً فتياً بعينين زرقاوين وبدن ناحل رشيق كالايل وشعر مثل ليل عارك قمره ..