لا تخافوا .. فالمسيح في انتظاركم
الخورأسقف بيوس قاشا مَن يستطيع فليخلّص نفسه… هذا هو النداء الأخير الذي يُطلقه قبطان السفينة عندما يبلغ درجة اليأس لإنقاذها من الغرق… أمام الكوارث الكبيرة، مَن يستطيع تجنّب الموت والبقاء على قيد الحياة هو عظيم جداً، ولكن الإنسان لا يمكنه إنقاذ نفسه لوحده.. لا يمكنه التحرّر من كابوس السفينة الغارقة نحو الأعماق.. لا يمكنه الفرار من وجه الموت ولا من رعبه، الوحيد الذي كان قادراً على إنقاذ نفسه لكونه يملك القدرة والحق الكاملَيْن هو يسوع المسيح، ولكنه لم يفعل لأنه أراد إنقاذ الآخرين ولم ينقذ نفسه لمقاسمتنا حالتنا الإنسانية بكمالها… إنّه خيار المحبة. "خلّصْ نفسكَ"… ثلاث مرات تكرّرت هذه العبارة في إنجيل لوقا (39:23)، دعوة تُوقِع الإنسان في تجربة إنقاذ نفسه الكامنة غريزياً في عمق أعماقه… على أقدام الصليب عاد الشيطان ليجرّب يسوع كما جرّبه في الصحراء، ولكن يسوع صبر وقاوم، فذهب الشيطان مخذولاً ليعود عند أقدام الصليب ساعة الحساب النهائي بينه وبين يسوع… لقد عاش المسيح المصلوب حتى العمق ما علّمه لتلاميذه قائلاً:"مَن أراد أنْ يخلّص نفسه في هذا العالم يفقدها، ومَن يخسر نفسه يربحها في الملكوت"، فكان أول شهيد في المسيحية… وهذا هو موقف شهداء الكنيسة أيضاً عندما يُخيَّرون بين جحد إيمانهم لإنقاذ أنفسهم أو التشبّث به حتى الموت. ومسيرة الشهداء مسيرة طويلة وشاقة، أليس هو الرب الذي قال:"ويبغضكم جميع الناس من أجل اسمي" (متى 22:10)؟… أليس هو الذي مات على الصليب من أجل خلاص الإنسان من عبودية الخطيئة؟… أليس هو الذي صرخ في وجه بيلاطس إذ قال:"لا سلطان لكَ إلاّ من الله" (يو11:19)؟… من هنا ندرك أن رسالة المسيح الأكيدة هي إعلان الحق من أجل الحياة فهو الذي قال:"أنا الطريق والحق والحياة" ولا يمكن أن تكون الحياة إلاّ عبر مدرسة تحت أقدام الصليب… والقائم من بين الأموات الذي أرسل بدوره تلاميذه ليُعلنوا ويُكرزوا ببشارة الخلاص قائلاً:"اذهبوا وتلمذوا كل الأمم وعلّموهم أن يعملوا بكل ما أوصيتكم به" (متى 19:28-20). فمسيحي الكنيسة الأولى لم يكن همّه يقتصر على الثبات في الإيمان، ولا كان يفكّر في الصمود خلف حصون محصَّنة، وكذلك لم يكن همّه طلب ضمانات وحمايات خارجية، بل كان همّه أن ينشر الإنجيل، ويشهد للمسيح القائم من الأموات في كل مكان… ولم يكن له وطن يحرّره ويحصّنه ويحتمي فيه "ليعبد" ربّه بحريّة، بل كان يمارس حريته في أتون الاضطهادات المضطرمة مهلِّلاً بفرح الروح كالفتية الثلاثة في الأتون الذي رماهم به نبوخذ نصّر الملك. لقد جاء في رسالة ديوجينس، وهذا ما فهمه المسيحيون الأوّلون: أن كل أرض غريبة وطنٌ لنا، وكل وطن أرضٌ غريبة. فنحن نصرف العمر على الأرض إلاّ أننا من مواطني السماء… ويضيف صاحب الرسالة قائلاً عن المسيحيين الأولين: إنهم فقراء، وبفقرهم يغنون الكثيرين.. يفتقرون إلى كل شيء، وكل شيء فائض بين أيديهم.. يعملون الصلاح ويعاقبون كالسَفَلة، وفي عقابهم يتهلّلون كأنهم يولدون للحياة.. وإن سألتَ مبغضيهم عن السبب فلا يعلمون. بمثل هذه الروح وهذا الإيمان كان المسيحيون الأولون يؤدّون للمسيح شهادة الحياة، متأهبين في كل ساعة للشهادة الكبرى له بالدم، الشهادة التي بها غلبوا العالم مع معلّمهم الإلهي، وتغلّبوا على الإمبراطورية الرومانية فحوّلوها، بعد جهاد ثلاثة قرون بالدم، من إمبراطورية تضطهد المسيح إلى إمبراطورية تدين للمسيح… فالاضطهاد الذي طال مسيحيّي الكنيسة الأولى عمل على انتشار المسيحية إلى أقاصي الأرض عوض أن يحبسها في حدود ويلجم انتشارها ويوقف زحفها، وسرّ انتشارها يكمن في قوة عمل الروح فيها ومدى فعالية محبة الله ومحبة الإنسان في داخلها. نعم، أمام هذه الشهادة يقف الإنسان حائراً، فما سرّ هذا الحماس حتى الموت؟ وما سرّ هذه الجرأة أمام الحكّام؟… لماذا هذا الزحف إلى الموت في سبيل المسيح؟، فالتاريخ يرينا طغمات كبيرة من الناس ذاقت الموت في سبيل قضية وفي سبيل إنسان احتلّ مكانة كبيرة، لكننا لا نجد العدد الكبير، من الرجال والنساء، الذين حفل بهم التاريخ إلاّ في كنيسة الشهداء وتاريخ المسيحية… إن تاريخ المسيحية تاريخ طويل أثار الدهشة والإعجاب، وكان الاستشهاد بالنسبة لهم بطولة وأيّة بطولة، إذ أدركوا أن سر البطولة يكمن في كلمة المسيح في الإنجيل "وتكونون لي شهوداً" (أع 8:1)، وببطولتهم أسّسوا لنا مدرسة كَثُرَ تُبّاعها، وجذبت إليها نفوساً كثيرة، وأثمرت شهداء جريئين لإعلان الحقيقة… "فمَن أهلك نفسه لأجلي ولأجل الإنجيل يخلّصها" (مر 34:8-35)... واليوم يجب "أن نرفع رؤوسنا إلى فوق من حيث يأتي خلاصنا" (لو 28:21). فالله وضعنا على مرّ الأجيال في هذه البقعة من الشرق لنؤدّي للمسيح "شهادة حسنة".. شهادة ليس لها بديل عنّا… فإنّ ما يُضعف الكنيسة هو رحيلنا من وطننا إلى دول نلتجئ إليها لتُقيتنا ببعض أوراق الزمن، وننسى إذا ما توقّفت البشارة فقدت الكنيسة معناها. فالرب أنعم علينا لنُعلن رسالة الخلاص عبر بشارة الحياة، فإذا ما أهملنا رسالتنا هذه وهجرنا بلداننا بسبب خوفنا الجسدي، وسمّرنا عيوننا على المحيطات، وأفرغنا كنائسنا، وأضعفنا أصواتنـا بسبب المخاطر والصعوبات، وتركنا أنشطتنا جانباً، وبمرور الزمن أهملناها فكان الكسل في المرصاد ، وإذا ما بدأنا نستحي بمسيحيّتنا، فهنا الطامة الكبرى… فإنني أقولها بكل صراحة: إذا نحن لا نشعر بمعاكسات خارجية فهذا يعود ربما إلى أننا لا نشهد بالقدر الكافي لإيماننا، فلا يعني رفض العالم لنا ترك نواحي الإيمان جانباً، ونبذ الصلاة خوفاً مِنْ!، ولكن بالعكس إنّ هذا يجب أن يزيدنا تشبّثاً بإيماننا ومحبةً لتربتنا وأحراراً لإعلان شهادة الحياة، إذ يقول الكتاب: إن أعمال المؤمن كلها تصبح شهادة، فشهادتنا للمسيح تكمن في أنه هو أيضاً كان "شاهداً للآب الذي أرسله" (يو36:5). وإعلان الشهادة لا يكون إلاّ عبر الصلاة، فمَن لا يعرف أن يصلّي لا يمكن أن يُعلن الشهادة كما هي… فالصلاة للشاهد هي عمل الروح، ومن خلاله تشعّ محبة المسيح المصلوب والقائم من الموت. نعم، إن هجرة المسيحيين الكثيفة تهدّد بإلحاق الضرر بحياة الكنيسة في الشرق، لذلك علينا أن نُدرك إننا ننتمي إلى كنائس عريقة، وإننا مؤتَمَنون على تراث عظيم لحمايته من الضياع والتبعثر، وفي الوقت نفسه على مسؤولية جسيمة… وهذا ما يردّده قداسة البابا يوحنا بولس الثاني إذ يقول: "في هذه المنطقة من العالم سار إبراهيم، أبونا في الإيمان، ومعه كل ذريّته. على تراب هذه الأرض كانت الدعوة"… فدعوتنا ثروة عظيمة مستمدَّة من التراث الإيماني الذي ينبغي على المؤمنين أن يسهروا ويحافظوا عليه، وليس تركه جانباً من أجل أهداف دنيوية. فبدون المسيح إذن لا خلاص لنا، وخلاصنا لا يستوجب السير في طرقات وعرة وملتوية، إنما الإقرار بتواضع لخطيئتنا قائلين:"اذكرنا يا يسوع متى أتيتَ في ملكوتكَ". فيسوع لم يخلّص نفسه من الموت بل خلّص أحد المجرمَيْن المعلَّقَيْن على الصليب، وبإنقاذه أنقذ معه البشرية جمعاء… إنه خلاص يجتاز حدود البشرية ويخترق آخر حواجز الشر الرهيبة ألا وهو الموت، الموت على الصليب… إنّ قيمنا ومفاهيمنا الإيمانية تجد في الصليب رمزاً لها، ومن الضروري أن يتأمّل المسيحيون في شهادات المسيحيين الذين منحوا حياتهم محبّة للمسيح وكنيستهم، بالضبط كما فعلت أولى الأجيال المسيحية التي بها تعالى ضريح الشهداء، كنائس وكاتدرائيات وأماكن صلاة، إحياءً لذكراهم الخالدة… وبالمسيح الذي دعانا، صانع النور وقاهر الديجور، به نستمدّ القدرة لمقاومة الشر والانحراف. فالخلاص الحياتي عبور من الخوف والقلق والتردد والانفصام في الشخصية إلى العيش الدائم في حقيقة المسيح المتجسّدة في سلام العالم ومحبة القريب والتفاهم معه. وأقولها خاتماً مقالي هذا، ما خاطب به قداسة البابا يوحنا بولس الثاني حاملي التقادم، في القداس الختامي الذي أُقيم بمناسبة اليوم العالمي الحادي عشر للشبيبة في مانيلاّ، في الخامس عشر من كانون الثاني عام 1995، وكانا من لبنان ومن روسيا البيضاء، وهما جاثيان:"إن بلدَيْكما بحاجة إليكما… انهضا وامضيا، وكونا شاهدَيْن على الأمور التي عشتماها". نعم، إنه نفس النداء الذي يوجّهه إلينا قداسته: "لا تخافوا… انهضوا وامضوا، فالمسيح في انتظاركم" (إطلالة الألف الثالث؛ 58)… فنحن أمل الشرق.. وأرضنا أرض الأنبياء.. أرض إبراهيم أبو الآباء.. وتربتنا مجبولة بدماء الشهداء وأصبحت لنا بذار للحياة (ترتليانوس)… فما بالنا ننظر إلى البلدان القريبة والبعيدة ونرحل إليها لعلّنا نجد مسكناً يقينا وملجأً يحمينا… "فإنْ لم يحرس الربّ المدينة فباطلاً يسهر الحرّاس"… وإنْ لم يُحيي الرب الإنسان فباطلاً يفتّش الإنسان عن الحياة. عزيزي… عزيزتي: إن أحوج ما نحتاج إليه اليوم هو التعبئة الروحية وإبراز الهوية بالانتماء الأكيد والنظرة الجريئة والبعيدة المدى، الشاملة في معنى وجودنا وغاية رسالتنا، وإلاّ فعبثاً نتحصّن وراء أنظمة، ونحتمي وراء ضمانات، ونتطلّع إلى حمايات… وعبثاً نسعى إلى تثبيت وجودنا على أرض نظنّها ثابتة تحت أقدامنا، فلنتذكر كارثة زلزال آسيا والمدّ البحري، وهذا يكفي ليجعلنا أن نسمع دعوة المعلّم في أن نتقدّم إلى العمق ونُلقي شِباكنا للصيد… إن خطر الأعماق مع المسيح أأمن من أمن الشواطئ… نعم، وآميـن.
|