الحقيقة ... وواقعـنا الحلقة الاولى ... ميلاد الرب يسوع
الخورأسقف بيوس قاشا
في قرار للمجمع الفاتيكاني الثاني _ في حياة الكهنة وخدمتهم الراعوية _ وبالتحديد في الفصل الثاني في خدمة الكهنة ومهماتهم، ما نصّه:"إنَّ الكهنة مدينون للجميع، ومن واجبهم أن لا يعلّموا حكمتهم الخاصة لكن كلمة الله، وأن يدعوا الجميع بإلحاح إلى التوبة والقداسة". فالبشر مهما إختلفت أجناسهم ومشاربهم وأزمنتهم وبلدانهم، يشعرون بحاجة إلى الله، وإلى توثيق العلاقة به. والكاهن حامل رسالة الأرض إلى السماء، فهو الدليل والرسول والبشير والنذير، في قلبه سرّ الله، وعلى لسانه بشارته الخلاصية. وكل الديانات تشدّد على أن مهمة الكاهن الأولى هي إرشاد الناس إلى الخير، وهديهم إلى أفضل السبل للوصول إلى الله. وبينما الأجيال تتعاقب، إذا بالكنيسة تُعرَف في الأرض كلها، ويُغرَس الصليب الذي هو عربون العهد وخشبة الخلاص وعلامة إنتصار فوق كل تلّة وجبل، وفي كل بقعة من بقاع الأرض الواسعة، " أنتم شهود لي " (يو 27:15)، واستمرت ولا زالت تواصل حمل رسالة المسيح رغم عصف أمواج الإضطهاد والحقد والضغينة، ورغم أهواء الإنسان ونزواته، ولا تزال الكنيسة راسخة الأسس، حيّة ناشطة لا تتزعزع أبداً. فهي عمود الحق وقاعدته (2تيمو3:15)، هي أمّ ومربّية، وكما قال البابا بولس السادس، قد نذرت نفسها لترشد كل إنسان إلى طريق الخير والمحبة، بواسطة الكهنة والمرسَلين والمبشرين، وبعملها هذا تصرّ على الرسالة والوعظ.
عيد الميلاد وعيد بابا نوئيل كلنا نروي لأطفالنا الأحبّة قصة بابا نوئيل _ القديس نيقولاوس أو "سانت كلوز" _ الذي كان يقوم ليلاً بتوزيع الهدايا والمؤن للفقراء ولعائلات المحتاجين. وتطورت الفكرة بقصة حاملها، وأخذ الناس يتخيّلون بابا نوئيل شيخاً ذو لحية بيضاء كالثلج، ويرتدي ملابس حمراء، وراكباً على عربة سحرية تجرّها غزلان ومن خلفها الهدايا، ليتمّ توزيعها على الأولاد أثناء هبوطه في المداخن، أو دخوله من النوافذ وشقوق الأبواب.
تعليــق جميل جداً أن نعيش الفرح، بل أن نملأ قلوب الآخرين منه، وبالخصوص أفراد العائلة الواحدة، ومنهم أحبّتنا الصغار الذين، إذا ما كانت الهديةُ نصيبَهم، ملأوا دنياهم لعباً لا يوصف ومرحاً لا يقاس ولهواً وضحكاً لا مثيل لهما. وطوبى للرجل الذي يزرع الفرح في قلوب الآخرين، فإنه رسول المحبة يُدعى.
الواقـــع إن المعنى الحقيقي لعيد الميلاد هو، ببساطة الكلمة، إن الله أحبّنا فتجسّد بيننا، وظهر طفلاً صغيراً شبيهاً بنا وبأطفالنا، أي أنه أخذ جسدنا وصار بشراً مثلنا (يو1: 14) وهذه حقيقة إيمانية تلقّنها الكنيسة المقدسة كما يقول مار بولس:"لما بلغ ملء الزمان أرسل الله إبنه مـولوداً من إمـرأة" ( غلا 14:14) وطفلنا نحن واسمه يسوع (متى 1: 21) كما دعاه الملاك قبل أن يُحبل به في البطن _ جاء ليكون معنا، ليقاسمنا الحياة بحلوها ومرّها، بأفراحها ومسرّاتها نعم، جاء ليخلّصنا. إن الهدية الكبيرة التي لا ثمن لها، وهي أثمن من اللآلئ، هي أن الله سكن بين الناس، وسكناه نعمة لأبناء الدنيا، بل سموّ محبة. وفي ولادته، قصد الرعاة الأرضيون المغارة فرحين _ مغارة بيت لحم _ وقدّموا له من خرافهم وما جادت به قلوبهم ومن السماء أتت الملائكة منشدةً فرحاً بالوليد الجديد فهل من وليد رتّل له جند السماء إلاّ طفل المغارة! لذا علينا أن نعلّم أطفالنا أن هذه الليلة _ ليلة الميلاد _ فيها يأتي الرب يسوع وليداً من مريم العذراء في مغارة بيت لحم، حاملاً لنا نعماً وبركات، وهكذا قليلاً فقليلاً نعمل على توعية أطفالنا على المعنى الحقيقي للعيد، وهذه هي التنشئة الصحيحة قبل الإهتمام بالهدايا والزينة والأمور الدنيوية الأخرى. فما فائدة الزينة والهدايا، والطفل لا زال في قلبه بغض أو نظرة سوء لإبن جاره؟ وما فائدة الإهتمام بأمور العيد، والوالدان يغلقان باب دارهما عن جارهما الفقير؟وما فائدة الإحتفال الظاهري بالعيد، وأفراد العائلة لا يمارسون إيمانهم المسيحي ولا يعيشون إنتماءهم إلى مسيحهم، بل يحيون مسيحيتهم عبر عاطفة زائلة رملية تتطاير مع أدنى عاصفة أو ريح شديدة، فيضيع الإيمان بين رمال الزمان. في هذا العيد _ أقولها صراحة _ إن صاحب العيد هو "يسوع" ليس إلا إنه يدعونا الى أن نتقاسم لقمة العيد معه، لقمة القلب قبل لقمة الزمن. وإذا ما زرعنا هذه البذار الإيمانية في قلوب أبنائنا سوف لن نخاف على مستقبلهم المسيحي مهما إشتدّت الصعاب، وبإمكاننا أن نقول: إن يسوع الطفل يحبكم أيها الأطفال، فأرسل إليكم هذه الهدية بواسطة رجلٍ شيخ اسمه بابا نوئيل، لكي تحبوا أنتم أيضاً يسوع الصغير وتجدوه في الشخص الآخر. الختام لذا أعزائي أسمحوا لي أن أقول: إننا لم نُخلَق لكي نملأ القلوب فرح الزمان أو لهو الدنيا، وإنْ كان هذا لابدّ منه، إذ في هذه يضيع العيد ومعناه، ويُشلّ الإيمان، ويموت الإنتماء. هل يجوز أن نجعل بذار الإيمان التي بذرها أجدادُنا في أرض قلوبنا بذاراً فاسداً ونبقى شجرة بأوراق خضراء ولكن بلا ثمراً، أم علينا أن نعيش! عمق الإنتماء إلى أرض الحياة عبر مسيح الإيمان؟ 00 لننتبه ساهرين إلى الذين يزرعون التعاليم المظلّة ، بل المظلمة، لكي يقتلوا المسيح وهو جنين في أحشاء أفئدتنا، من أجل عولمة الإنسان، ولهو الزمان، من أجل هدية بابا نوئيل، وليس هبة السماء، بطفل المغارة. أليسوا هم الذين حوّلوا كلمة Christ mass إلىX mass ، وهل المسيح هو X mass حياتنا، ألا نعلم ماذا يعني حرف X (يعني لا وجود له) فالصحيح هو، أنّ المسيح هو قداس حياتنا Christ mass لننتبه جميعاً، أن لانغطي المسيح بثياب الزمن وهداياه والقصة الآتية شبيهة بزماننا هذا: رُزقت إحدى العوائل بطفل جميل بعد إثنتي عشرة سنة من الزواج وكان فرح العائلة فرحاً لا يوصف. وأحب الزوجان أن يعبّرا عن فرحهما بدعوة الأهل والأحبة يوم عماد طفلهما الوحيد، ولما كان الموعد توجّه المدعوّون إلى بيت والد الطفل وإذ كان الوقت شتاءً والبرد قارساً، كان المدعوون يدخلون الدار، ويذهبون يقبّلون الطفلَ النائم في مهده الصغير، ويرمون معاطفهم على المهد ليقتربوا بسرعة من النار، حماية من البرد. ولما ملأوا بطونهم، أخذوا يودّعون الزوجين والوليد الجديد، وبعد الإنتهاء من المراسم الأكاديمية المنـزلية، ذهب الوالد وزوجته يتفقدان طفلهما، فوجداه ميتاً صاح الوالد: يارب! لقد أختنق الطفلُ بثقل المعاطف؟؟ ( بثقل المظاهر الخارجية ). نعم، لقد إختنق الطفل. إذن لننتبه لأنفسنا، فالدنيا تغشّنا ببهائها وبهلوانياتها، لتخنقَ طفلَنا الصغير ونبقى بلا خلاص وما أكثر البهلوانيين في ممرات الحياة، فيبقى العيد وصاحب العيد بعيداً يا أخي، ألا تعلم إذا كان صاحب العيد بعيد يبقى العيد بعيد؟ آميـن.
الحلقة الثانية ... ختانة يسوع (عيد رأس السنة)
أتذكّر وأنا طفلٌ صغير كيف كان يصطحبني والدي [رحمه الله] في فجر كل يوم إلى الكنيسة لحضور صـلاة الصفرو "الصباح" ثم القداس، وأحياناً كان النعـاس ثقيلاً عليّ. وتذكّرتُ أيضاً وأنا صبي كيف كنا نحضر القداس الإلهي، أنا وأصدقائي، وكان واحد من بيننا يقوم بدور المسجّل للحاضرين والغائبين ... ولما كبرتُ بدأتُ أشعر بعظمة إيمان آبائنا وأجدادنا الذين كانوا يُمضون ليلة رأس السنة في السهر والصلاة حتى الفجر حيث تتوَّج هذه السهرة وهذه الصلاة بإقامة القداس الإلهي. وفي نهاية الإحتفال كان يتمنى الواحد للآخر بدخول عام سعيد وبدء مسيرة زمنية حولية جديدة ... ولم أكن أعرف غير هذا الشيء. بين الختانة والليلة مرت الأيام والسنون، ودعاني الرب لأكون خادماً لمذبحه. كما، ومنذ سنين عديدة، دعتني العناية الإلهية أن أقوم بخدمة الكهنوت في بغداد. وما حملتُه من ذكريات لهذه الليلة _ ليلة رأس السنة _ هو إنني كنتُ أشاهد الناس يقومون بتهيئة ما تحتاجه ليلتهم هذه من مأكل ومشرب ... كما كان البعض يقوم بحجز القاعات والفنادق ... وآخرون كانوا يوجّهون دعوات لأقربائهم وأصدقائهم ويجتمعون في دارٍ ما ... المهم أن الكلّ كان مشغولاً بما تحتاج ليلتهم، وما هو برنامجها الدنيوي، وما إلى ذلك، وكلٌّ على طريقته الخاصة. وإذا ما اقتربت ساعات الليل الأخير من السنة، يبدأ الفرح وتبدأ السهرة، ويعبر منتصف الليل ويأتي الفجر في ساعة متقدمة، وربما بعض منهم كان يسهر حتى الصباح، وفي هذه السهرة يتقاسم المحتفلون ما تجود به الدنيا من مأكل ومشرب، وما هيأته نساء العوائل من الطيّب واللذيذ، من المالح والسكّر، من الفواكه و... و...، ويضيف بعض الناس فرحاً إلى سهرتهم بلبس الأقنعة الوجهية كلعبة دنيوية ... وكل هذه الإحتفالات والبرامجيات من أجل أن يُنهي الناس آخر يوم من السنة بالفرح والمرح، بالضحك واللعب، بالجد والحب، آملين أن تبدأ ساعات نهارهم الجديد، وسنتهم الجديدة المقبلة، سنة مليئة بالأفراح، متمنين أن لا تعكّرها الأحزان ولا المشاكل ولا... ولا.... كما يتضمن احتفال رأس السنة عادات بذيئة لا يمكن أن يقبلها اليوم الواقع المسيحي الذي يجب أن يكون خميرة للمجتمع وليس شكوكاً. فالملابس التي ترتديها النساء والصبايا والشابات تكون في كثير من الأحيان عثرة للناظرين، وخاصة إذا كانوا غرباء عن مسيرتنا الإيمانية، ومدعوين بين الحاضرين. مدّعين إن العالم كله يسير في مثل هذه الطريق ... إنها العولمة الجديدة ... إنني هنا أتذكّر كلمة نبي الرجاء البابا يوحنا بولس الثاني الذي يدعونا إلى عدم الخضوع للعولمة الدنيوية الجديدة، وإنما في كل ما نعمله نضع أمام أنظارنا إننا مسيحيون ... وفي ذلك دعوة أن يكون المسيح فينا في كل حركة أو عمل أو قول ... وهذه ليست دعوة للإنغلاق، بالعكس، بل هي دعوة للإنفتاح نحو الآخر ... فلننتبه من تجربة الحيّة مرة أخرى ... يكفي مرة وما ورثناه من ألم وشقاء، فلا زالت الحواء تتصيّد لأنانيتها، وإنما العذراء فإنها تعطي كل شيء.
تعليــق "إفرحوا بالرب كل حين" (فيلبي 4:4) ... هكذا يقول مار بولس في رسالته إلى أهل فيلبي، ويزيد ويقول:"وأقول أيضاً إفرحوا" ... الفرح الحقيقي هو الفرح النابع من عمق الإنسان الطيب، المؤمن، المحب، صاحب هذا الفرح يعكسه على الآخرين ولا يمكن أن يحتفظ به لنفسه لأنه ليس مُلكه بل هو هِبة من السماء ليهبها بدوره إلى إبن الأرض والزمن ... أما الفرح الظاهري ربما يكون مزيّفاً أو ربما يكون حالة أو غاية ما في قلب الشخص، وأكيداً يكون مزيّفاً إذ لا عمق له ولا أساس، فهو لساعته الزمنية ليس إلاّ ... إنه دنيوي بمعنى الكلمة ... إنه نداء الجسد، بل إنه نداء حواء من أجل الكشف عن كبريائها فكانت الخطيئة. إن يوم رأس السنة، هو اليوم الثامن لميلاد طفل المغارة _ رسول المحبة والسلام، الرب يسوع المسيح وفي مثل هذا اليوم خُتن الطفل وأُعطي له اسم ( يسوع )كما دعاه الملاك قبل أن يُحبل به في البطن (متى 1: 21). والختانة تعني أنه شخص مكرَّس ومخصَّص لله وليس للدنيا، وتعني بدء مسيرة جديدة مختلفة عن المسيرة السابقة، بدء عهد جديد _ عهد الإنجيل _ بعدأن إكتمل العهد القدبم بمجيء المسيح وتحقيق نبوءات الأنبياء. أليس هذا العيد دعوة لنا لكي نتهيأ في الصلاة ولو قليلاً، وأجمل صلاة هي المشاركة في الذبيحة الإلهية صباح رأس السنة؟ ... أليس الكثيرون منا بسهرهم ونومهم إلى ساعة متأخرة من النهار يغيبون عن هذه الفعالية الروحانية؟ ... أيجوز أن نستسلم للدنيا ونعطيها كل ما تحتاج ولا نبالي بذكرى الختانة التي حوّلها الرب يسوع لنا إلى العماد المقدس، وبالعماد يُعطى لنا اسم فنصبح من المسجّلين في سجل سفر الحياة "إن إسماءكم كلها" (لوقا20:10)، وإذا ما أردنا أن نفرح للدنيا فذاك مباح بحدود اللياقة وعدم البذخ وملء الموائد. تأمل في الفقير فهناك أناس يصرخون إلينا دون أن ندري، وقد جعلهم الله في الدنيا لنقوم نحن بواجب الإطعام "كنتُ جائعاً فأطعمتموني" (متى35:25).
الختام ختاماً، إحتفال رأس السنة _ عيد ختانة يسوع _ يعني عيد الله في قلب الإنسان، أو بمعنى آخر إن الإنسان جعل اسمه بين أسماء أبناء الله ، وحينما يُعطى لنا أسم توكّل الينا رسالة مثل ابراهيم وشاوول والصخرة ... المهم على الرسول أن يكون أميناً لرسالته وليس لدنيانا، ورسالتنا نحن لا أن نحمل أسما فقط بل عبر أسمنا نعطي المسيح للأخرين وفي الأخر نجد المسيح واسمه ... وباسمه تكون لنا الحياة، وهذه أجمل رسالة مُنحت لنا. أعزائي لننتبه دائماً إن الدنيا تغرينا من أجل غاياتها، والرب في كل هذه يعمل في هدوء من أجل الحياة.وما الاسم إلا رسالة وما الختانة إلا إنتماء ... نعم وآميـن.
|