المسيحيون ... في أرضهم أصلاء المونسنيور بيوس قاشا
جواباً لصرخة الحق التي يطلقها غبطة أبينا البطريرك مار أغناطيوس يوسف الثالث يونان بطريرك الكنيسة السريانية الكاثوليكية الأنطاكية واستنكاراً للاستهداف المستمر للمسيحيين في العراق منذ نيسان عام 2003 مروراً بأحداث الموصل الأخيرة والتي لا زالت تُدمي القلوب، والتي ذهب ضحيتها العديد من المسيحيين في محلات عملهم وفي بيوتهم. دعت اللجنة الأسقفية لوسائل الإعلام والمركز الكاثوليكي للإعلام في لبنان إلى تنظيم يوم تضامني مع مسيحيي العراق يوم السبت 13 آذار الماضي وتحت شعار "صليب العراق ينزف، فمتى القيامة؟". واختُتم اليوم التضامني بقداس إلهي أقامه غبطة أبينا البطريرك مار أغناطيوس يوسف الثالث يونان بطريرك الكنيسة السريانية الأنطاكية الكاثوليكية، إذ ألقى عِظَةً معبّرة ناشد فيها ذوي الإرادة الصالحة من مسلمين ورؤساء دول إلى وقفة أخوية شجاعة للدفاع عن المسيحيين، حيث يُقتَلون بدماء باردة. نعم، كان لابدّ أن يكون هذا اليوم التضامني، وكان لابدّ من صرخة شجاعة في وجه الأقوياء، كصرخة غبطة أبينا عبر رسالته إلى كبار المسؤولين لإحساس الضمير، وإشعار الذين بيدهم مقاليد الحكم أن يكونوا أمناء لمناصبهم بأن يدافعوا عن الضعاف في بلدهم، وعن المسيحيين سكان العراق الأصليين، بنائي حضارة الرافدين. نعم، لم يشهد العراق يوماً ما شهده منذ سنوات إلا حوادث القتل الدامي لأجدادنا في الجيل الأول من القرن العشرين... فمنذ أربعة أجيال وأبناء العراق فريسة للأنانية والمصالح الدنيوية الزائلة، وتحت أحكام قاسية. فمن الحروب إلى الحصار إلى التقشف حاصد الفقراء، وصولاً إلى الاحتلال زارعً الموت والتهجير والقتل والتنكيل كما بالأحياء، هكذا بالأموات. وكأن الحقد ملأ القلوب، والضغينة سادت ملكة على إعلاء اسم الشر والدمار، فكانت العقيدة سبباً لنحر الكثيرين، وبطاقات الأشخاص علامة لفريسة وحشية، جثث ملقاة هنا وهناك، فأصبح عراقنا غابة للإرهاب، ومرتعاً لذئاب وحشية وقاتلة، وأُفسدت الأرض بالمقابر الجماعية، ولُوِّث ماء أعظم نهرين في جنة عدن بدماء الأبرياء وضحايا الليالي السوداء، وعناصر القتل والعقيدة، وما شابه ذلك. ومع هذه الأحداث، وضمن هذا المخطط المميت، خُصِّصت صفحات لقتل واستهداف المسيحيين وسلب أموالهم. وسار قطار الظلام من البصرة إلى بغداد وصولاً إلى الموصل ذات الجذور المسيحية الأصيلة. ومن خبر مؤلم إلى آخر، ومن هدف إلى آخر، فكان تفجير الكنائس والأديرة ثم مسلسل خطف المطارنة والكهنة والشمامسة والمؤمنين الأبرياء وفي وضح النهار، وأمام أعين الذين سلطة الحماية بيدهم... وامتدّ المسلسل إلى تهجير وخطف ذوي المهن، أولئك الذين بذلوا عرق جباههم لبناء البلد وإعلاء اسمه من أطباء ومهندسين وتجّار وكسبة، غير مبالين لشرائع سماوية كانت أو وضعية، ولا حتى إنسانية، ولم يفرّقوا بين النساء والأطفال وكبار العمر وصولاً إلى تفجير البيوت التي أخلاها ساكنوها خوفاً من جبروتهم الظالم وإلى استهداف باصات الطلبة. المسيحيون أصلاء في بلاد الرافدين، لهم جذور عميقة في العراق، وليس كما يحلو للبعض بوصفهم طوائف أو جاليات أو أقليات تخدم مصالح الغرب... إنهم يمثّلون شريحة مهمة جداً من شرائح المجتمع العراقي، وكانت هذه الشريحة تعيش بأمن وسلام تامَّيْن مع بقية شرائح المجتمع العراقي قبل الاحتلال، وكانت الأجواء سائدة في جميع أنحاء العراق ولا أحد كان يسأل عن شخص ما إذا كان مسيحياً أو سنيّاً أو شيعياً، بل كلهم كانوا عراقيين، وكانوا جميعاً يتقاسمون المعاناة، ويشاركون بعضهم البعض المصير الواحد، كما وكان الجميع يعرفون جيداً أن المسيحيين هم الصخرة الصلدة التي عليها يقوم العراق، ومن أجله ساهموا في نموّ وازدهار البلاد، كما كانت طبقات المجتمع في الواقع بمثابة موزائيك يعجّ بمختلف الأقليات (رغم أنني أتحفّظ على هذه الكلمة) التي يعود تاريخها إلى آلاف السنين. وأظن أن المسلمين هم أحوج إلى المسيحيين في هذا الوقت أكثر من أي وقت آخر، لأن خلوّ العراق من المسيحيين أو إضعافهم لا يعني أن المسلمين سيعيشون بأمان وازدهار، بل ستدبّ الخلافات والصراعات بينهم، وستكون مفاعيلها أقصى وأعمق... فنقولها حقيقة وصراحة لأن الرب يسوع علّمنا أن نقول الحق فهو يحرّرنا (يوحنا32:8). إن هذا الوطن وطننا... إنه وطن آبائنا وأجدادنا... لقد قُتِلوا وشُرّدوا وذُبحوا على مذبح البراءة لا لشيء إلا لكونهم مسيحيين. فكما كان الأشرار في الأمس هم اليوم أحفادهم أكثر وغولاً في الشر، واختراعاً لطرق التنكيل والتعذيب، فلم يتعلّموا شيئاً من دروس التعايش واحترام الآخر وحرية العقيدة في ممارسة الإيمان. لذا نسأل اليوم، وبكل شجاعة إيمانية: أين حقوقنا في العيش الكريم؟ أين حقوقنا في مجال الحياة والوظيفة؟ أين حقوقنا في مجال كسب العلم والمكافأة؟ أين حقوقنا في تدريس ديانتنا في مدارسنا؟ أين حقوقنا في إنسانيتنا؟ أين هم أطباؤنا؟ مَن الذي هجّرهم؟ أين هم مهندسونا؟ مَن الذي طردهم؟ أين هم رجال الأعمال؟ مَن الذي هدّدهم؟ أين هي حريتنا الدينية؟ أين هي حقوق الإنسان؟ لماذا قَتْلُ المسيحيين؟ مَن الذي فجّر الكنائس؟ مَن الذي قتلنا في الأمس واليوم؟ مَن الذي قتل شيخ الشهداء سيدنا رحو؟ مَن الذي قتل الشهداء الأبرياء؟ مَن... ومَن... ومَن... وتطول القائمة، ولماذا؟ هل يريدوننا أن نكون لهم أتباع، ونعمل مشيئتهم في وقت ينادون بالكلمة الحرة، وبحقوق الآخر؟ يريدوننا أن نؤمن بما يؤمنون، أو كما يشاءون، بما يقرأون ويكتبون، بل علينا أن نقرأ ما يكتبونه لنا، وأن نؤمن بما كُتِبَ. كما يريدوننا بذلك أن نترك جانباً مسيرة إيمان آبائنا وأجدادنا لنكون لهم أتباعاً، بل ربما عبيداً وخدماً، لماذا يريدون منا أن ندفع الجزية؟... نعم، هكذا ساقوا أجدادنا في الماضي، وهاهم اليوم يجدّدون المبتغى، ولكن ربما بطرق غير التي كانت آنذاك. فبئس التاريخ الذي تُكتَب صفحاته بسكاكين الأشرار، وبسيوف الظالمين والإرهابيين، وبعبوات التهجير ونسف البيوت، بل وبئس أولئك الذين يُنزلون بالآخرين عقاباً باسم الله (جلّ جلاله) من أجل حذف الآخر من الوجود، أو إبعاده عن أرضه إلى حيث لا يشاء. فالمسيحية لا تُشترى بالأموال، ولا تُباع بالطائفية والعنصرية المقيتة، ولا تخاف من السيوف الممشوقة لقطع الرقاب، فهي تسلك دائماً طريق الحقيقة في إعلان الشهادة والاستشهاد. فكل الكتب تشهد للمسيح عيسى الحيّ بأنه رسول السلام والمحبة، وستبقى المسيحية علامة السلام والمحبة والحقيقة... أيجوز أن يكون المواطن المسيحي مهجَّراً داخل وطنه، ويمتلك بيتاً محرَّماً عليه سكناه؟... فغبطة أبينا البطريرك مار أغناطيوس يوسف الثالث يونان، هذا الرجل الشجاع، الأمين على وديعة الإيمان، الحاضن أولاده في سلام جبّته الكهنوتية الأبوية، كان صوتاً أُذيع من على صفحات القلوب، لتسمعه آذان الضمير، كما قال في عِظَته، يوم احتفاله بالقداس الإلهي في التضامن من أجل العراق، ما نصّه: "إن مسيحية المشرق ليست طارئة، أو وليدة اليوم. والمسيحيين ليسوا كما يحلو للبعض وصفهم طوائف أو جاليات تخدم مصالح الغرب"... أننسى ما سطّره التاريخ في الماضي القريب، وبالذات ما يخصّ مدينة الموصل، يوم كان المسلمون والمسيحيون قلباً واحداً، وسلاحاً واحداً، يوم تهديد مدينتهم بالاحتلال من قِبَل نادر شاه الصفوي (1736-1747) حيث اعتصموا كلهم في كنيسة الطاهرة متضرعين إلى السيدة مريم العذراء لتنقذ مدينتهم من أيادي الشاه الذي اكتسح المشرق بأكمله، ولم ينجو من بطشه واحتلاله، فكان بأعجوبة سماوية أن أنقذت العذراء مدينة نينوى حيث فرّقت جيشه وعاد خائباً إلى بلاده، جارّاً ذيول الخيبة والعار؟ وهل ننسى كيف أنّ الوالي العثماني، حسين باشا الجليلي، قام بترميم كنيسة الطاهرة، ولا زال حتى اليوم ظاهراً للعيان؟... ولكن ويا للأسف، فإن عدم اكتراث الشعوب لما يتعرض له المسيحيون من إضطهادات في الماضي كما اليوم، علامة مخيفة تقول بأن معظمهم مشتركون في هذه الإبادة. فالدول الكبرى وأطماعها، والشعوب القوية، تتجه لغزو أراضينا، وشراء دورنا، والاستيطان في مناطقنا، بحجّة نشر أديان، أو المحافظة على أديان. وكوننا سكان البلاد الأصليين، فما كُتِبَ علينا هو دفع الثمن لهذه الغزوات والفتوحات، واستغلالنا، والعمل على تفريقنا لينالوا مآربهم بكل سهولة، فيعملون جاهدين _ في السر كما في الخفاء _ على إفراغ ديارنا عبر عصابات فاشلة، تضرب أضعف الناس وأفقرهم، ولكن نسوا، أو تناسوا، أنه خزي وعار لكل مَن يدّعي أنه ثوري ومجاهد، ويقتل مواطناً بريئاً لا يملك من الدنيا إلا محبة وطنه، وسلامة عيشه، وحلال رزقه، وإيمانه بعيسى الحي. أقولها إيماناً بتربتي: إن العراق بلدي، مُلْكٌ للأمناء والأوفياء، وليس مُلْكٌ للأشرار والأعداء. ولكن ما يحصل، أتساءل: هل هو مخطط منظَّم لإفراغ البلد من مسيحييه؟ هل هو مخطط دولي لإكمال المشروع السيئ الصيت بأهداف شريرة ولغايات دنيئة، ولمصالح سياسية، لا نعلم مَن يرسم لها، ولا مَن ينفّذها، ولا مَن يموّلها؟. ختاماً... مهما سطت القوة، ومهما كان الجبروت ذئباً، فنحن لن نكون إلا أناساً مسالمين، محبّين للحياة... ومهما فتكوا بنا، سنبقى في أرضنا، ولن يفيدنا جواز سفر إلى بلد آخر، حتى لو كان ذلك البلد جنّة حواء العدنيّة... ما يفيدنا هو تماسكنا، وتقوية روابطنا، وإيماننا بعيشنا الحس الإيماني المسيحي. فهناك أناس يرسمون لنا مخططاً في سواد الظلام... ولا نيأس فنحن لسنا إلا أبناء الرجاء... ألم يقل غبطة أبينا البطريرك مار أغناطيوس يوسف الثالث يونان:"أن الرجاء لا يخيب، لأن القيامة _ مهما طال العذاب _ سيكون لها الكلام الفاصل، والحدث الأكيد، والعلامة المشرقة"... ومهما استكبر الشر، ومهما كانت أبواب الجحيم حصينة، لن تقوى على ما وعد لنا الرب يسوع قائلاً:"وأبواب الجحيم لن تقوى عليها" (متى 18:16).
|