القس يوسف عبّا
قداس ليلة عيد الميلاد 2004 عمانوئيل " الله معنا "
في ليلة عيد الميلاد من كل سنة ، ينحني العالم المسيحي على مذود طفل وديع ، فقير ، حمل للبشر حب اله غنيّ وعظيم . وفي كل عام يحاول العالم الممزّق أن ينعم ولو بلحظات من السلام والاطمئنان ، فيتوقف وينصت الى دقات قلب هذا الطفل العجيب ، يرتفع منها نغم الفرح والحب والحنان . تتوالى الأجيال المسيحية جيلا بعد جيل يعبّر كل منها عن سر الميلاد وسر المسيح بأحلى ما عنده من كلمات والحان تقودنا الى أعتابه ، فتفتح المجال للغة القلب ، لأن القلب وحده يساعدنا على رؤية ما لا تراه العين وادراك ما لا تدركه الحواس . بالايمان يتفتح قلبنا لله ، فيجد السبيل الى تذوق سرّ تجسد المسيح ابن الله . القديس مار أفرام السرياني من القرن الرابع ( +373 ) لخّص سر التجسد بقوله في أناشيد الميلاد : مبارك من صار صغيرا بلا حدود ، ليجعلنا كبارا بلا حدود ." والقديس ايريناوس اسقف ليون الذي توفي نحو سنة 200 م قال : صار الله انسانا لكي يصير الانسان الاها . ومع قانون ايمان نيقية القسطنطينية نعترف جميعا قائلين : من أجلنا نحن البشر ومن أجل خلاصنا نزل من السماء ، وتجسّد بالروح القدس وولد من مريم العذراء وصار انسانا .
من منا يعرف سرّ المسيح ؟ لا يعرفه إلا من احبّ المسيح وسار على دربه ، من آمن بكلامه وعمل به ، من تخلّق باخلاقه وصار صورة له مثلما هو صورة الله الآب . بتجسد يسوع " عمانوئيل " الله معنا " لم يعد الله بعيدا عنا ، نتجنب ذكر اسمه ونرتعب من المثول أمامه ، إنه معنا ، جاء الينا ليكون معنا ويجعلنا من أهل بيته ، شاركنا الضعف والتعب والجوع والعطش والحزن والألم والموت ، فرح مع الفرحين وتألم مع المتألمين ، شاركنا الأفراح في عرس قانا الجليل ، وبكى معنا موت صديقه اليعازر .
أراد الله أن يكون معنا جميعا ، مع الفقراء والمساكين ، مع المرضى والمتضايقين ، مع المنبوذين والمتروكين ، مع البائسين والتائهين ، مع الخطأة والضالين . يحررنا من العبودية التي تسلب الانسان انسانيته ، يحررنا من العبودية التي تتمثّل بمختلف قوى الشر والضلال المعادية لله . عمانوئيل : الانسان الاله – الله معنا . لا أحد أكثر انسانية من المسيح ، الاله الذي تجلّى في المسيح هو اله كلّه انسانية ، والانسان الذي عرفناه في المسيح هو انسان كلّه الوهية . في المسيح يلتقي الله بالبشر لقاء صفح ومصالحة ومحبة . في مذود بيت لحم ، نرى الله معنا ، يعلمنا انتصار التواضع على الكبرياء والبساطة على التظاهر والوداعة على العنف والسلام على الحرب والحنان على القسوة والعفاف على الدنس والحب على الكراهية . أيها الأحباء : يطلّ علينا عيد الميلاد هذه السنة من دون أن يحمل لجميع الناس بهجة العيد الروحية ، الباطنية الحقيقية . أجل هناك مظاهر العيد ، من شجرة الميلاد ، الى الأضواء الساطعة ، وربما الأثواب الجديدة والأطعمة الفاخرة ، ولكن هذا كله لا يتوفر لجميع الناس ، لهذا تبقى الفرحة ناقصة . والعائلة لا تكتمل فرحتها الا إذا شارك جميع أبنائها فيها ، وأنى لنا أن نشارك في فرحة العيد ، ما دامت الهموم تقض على الكثيرين مضاجعهم لا سيما ونحن نسمع ما يحصل يوميا من العجب العجاب في بلدنا العراق .
حرب العراق تحصد كل يوم عشرات القتلى ، وتهدم البيوت ، وتشرد الآمنين ، وتفجّر الكنائس وتدفع المواطنين دفعا الى مغادرة أرض ولدوا عليها وعاشوا تحت سمائها وألفوا مناخها . بلادنا كثر فيها الفقر والفقراء ، والأغنياء عنهم ومنهم براء . جبّارين أشقياء لا يلتفتون الى اخوانهم ، انتهت كل معاني الرحمة والشفقة والاخوّة وحسن الجوار من قلوبهم ، فقدوا كل القيم الروحية ، يذبحون الناس باسم الله ، ويقتلون الأبرياء باسم الدين ، ينتحرون بسياراتهم المفخخة لقتل المساكين العزّل ، ويعتبرون انفسهم شهداء عند ربهم يرزقون .
ينهبون ويسرقون مال الناس ، يخطفون ويسلبون الأبرياء ، يغتصبون وينتهكون الأعراض لا يطالهم قانون ولا هم للحساب مكترثون . بينما الله وكل الأديان السماوية منهم براء ، براءة الذئب من دم يوسف ابن يعقوب . ولا يمكننا أن ننسى كذلك ما يجري في فلسطين الجريح من مآسي ، وما يحدث من مجازر ، ويقع من خراب ، وما يساور الناس من مخاوف ، على أرض السلام التي ولد فيها اله السلام . ولد المسيح بهدوء في مغارة بيت لحم ، بينما يزداد اليوم طغيان الآلات الحربية والاسلحة الفتاكة على المواطنين المسالمين الأبرياء الذين يبحثون بين ركام بيوتهم عن مغارة يلجاؤن اليها لينفجر فيها النور الخلاصي . أيها الأعزاء : يطل علينا عيد الميلاد في هذا العام كما في أعوام سابقة ، ونفوسنا هلعة للأخبار المحزنة التي نسمعها عن مناطق عديدة من العالم ونتساءل : كيف تستطيع الشعوب أن تبدّل ظاهرة : " صراع الحضارات " ب " حوار الحضارات " فتتجنب الأخطار المحدقة بها نتيجة لبذور العداوة التي ازدادت بين التكتلات البشرية ولاحتكار اسم الله ، لا بل خطفه لمصلحة دين أو سياسة . وقد نشعر ببعض الذنب لأننا ننعم ولله الحمد بعطية السلام والحرية والكرامة في هذه البلاد التي لجأنا اليها ، فاستقبلتنا ومنحتنا كامل الحقوق كما لغيرنا ، أو ينتابنا شعور باليأس إزاء عجزنا عن المساهمة بتغيير ما يبدو أمرا محتوما . أيها الأعزاء : إن الهتاف المدوّي الذي أطلقه النبي اشعيا لمئات السنين سبقت تجسد الكلمة الالهي " المولود من الآب قبل كل الدهور ، اله من اله ونور من نور " يذكرنا بأن الظلمة لابد وأن تنقشع أمام النور الذي أضاء سماء بيت لحم ، وأن لغة السماء لا بدّ وأن تغيّر القلوب فتجمع الشعوب ، في يوم هو في قلب اله الكون . " لأنه قد ولد لنا ولد ، وأعطي لنا ابن .. ودعي اسمه عجيبا مشيرا ، الاها جبارا ، أبا الأبد رئيس السلام " ." اشعيا 9 : 5 " فيحق لنا من ثمّ أن ننشد مع الملائكة : المجد لله في العلى وعلى الأرض السلام وللناس المسرّة " " لوقا 2 : 14 " . نسأل اله السلام في ذكرى مولده ، أن يلهم المسؤولين ، لوضع حد لهذه الاضطرابات والحروب في أسرع وقت ممكن ، رأفة بالناس وحقنا للدماء البريئة . أتقدّم بالتهاني القلبية من جميع أبناء الرعية والأصدقاء والمحبين ومن جميع الذين يؤمنون بصاحب العيد ورسالته الانسانية في العالم أجمع وخاصة في بلدنا العراق ، نسأل الطفل يسوع أن يجود على منطقتنا وخصوصا على العراق بالطمأنينة والمصالحة الشاملة والسلام الدائم .
كل عام وانتم بألف خير القس يوسف عبّا
|