|
رسالة عيد الميلاد 2009
مار اغناطيوس يوسف الثالث يونان بطريرك السريان الأنطاكي --------- "الشعب السالك في الظلمة أبصر نوراً عظيماً.." (اشعيا9: 2) إلى اخوتي الأساقفة الأجلاء، والكهنة والرهبان والراهبات الأفاضل، وإلى أحبائي المؤمنين المباركين بالرب: هذه الصورة المشيحانية التي وردت في سفر النبي اشعيا في العهد القديم، والتي تذكّرنا بغلبة النور على الظلمة وبرسالة الملك-الإله الذي يهدي شعبه ويقوده الى الخلاص: هي إيحاء ولا اجمل لميلاد كلمة الله الأزلي في أحشاء مريم البتول. وكلمة النور، كما نعلم، وردت مراراً في أسفار العهد الجديد، كالأناجيل والرسائل، وجاءت مرادفة للخير والحق والخلاص. عندما يسرد لنا لوقا الانجيلي ظهورالملاك لرعاة بيت لحم كي يبشرهم بميلاد المخلص، يقول ".. ومجد الرب أشرق عليهم ..". وفي انجيل متى يقرّ المجوس أن: "رأينا نجمه في المشرق فأتينا لنسجد له". وفي الهيكل أوحى الروح لشمعون الشيخ أن الطفل الذي يحمله على ذراعيه ليقدمه للعليّ، هو المخلص الموعود، فهتف:" .. رأت عينيّ خلاصك.. نوراً يتجلى للأمم..". وما أكثر ما يذكّرنا بولس رسول الأمم بأن الرب يسوع هو النور الذي يهدينا في عتمة هذه الفانية، فلا يحق لنا إلاّ أن نكون "من أبناء النور". وكلّ مرّة نتلو فيها "قانون الإيمان"، وهو تحفة لاهوتية خلّدها لنا آباء المجمع النيقاوي في أوائل القرن الرابع، نردّد العبارة التالية التي تقرّبنا من استشفاف سرّ الله العميق ".. إله من إله، نور من نور.. " إن إشراقة النور وترادفه مع كل ما هو حق وخير ، هي من أجمل التشابيه التي تساعدنا على سبر أغوار الوجود والكشف عن سرّ علاقتنا مع الله الخالق والمخلص والمدبّر. ففي جعبتنا اللغوية المستمدة من اختبارات حكمتننا البشرية التي تنسب النور الى جوهر الألوهة، اعتدنا أن نقول: إنّ الظلمة تنقشع ببزوغ الضوء، والضلال يضمحلّ أمام الحقيقة، ولا من غلبة على الشر إلّا بالخير. الميلاد هو بدء مشروع الخلاص الذي قام به الله مبدعنا، فلم يدعنا يتامى، بل أرسل الينا: "لمّا تمّ ملء الزمن"، حسب حكمته غير المدركة، ابنه الأزلي، مولوداً من إمرأة، ليعيدنا الى حالة النعمة بالتبني الكامل. إنه "سر التجسّد"، سرّ اتحاد الخالق بخليقته، "عمانوئيل: الله معنا". حقيقة إيمانية تسمو على كل عقل بشري، لا يقبلها إلّا مَن آمن بإعجوبة المحبة. عيد الميلاد يكتسي في كل عام حلة من الألوان والأنوار، تكاد تطغي على كل عيد واحتفال. نشهد زينات جذابة على واجهات المنازل وفي الأسواق، واهتماماً غير عادي لدى الافراد والعائلات، ونأنس لحماس الاطفال وتلهفهم لمعرفة الهدايا التي ستغدق عليهم. هذه المظاهر هي دون شك معبّرة عن فرادة عيد الميلاد، واختصاصه في إثارة الفرح في مجتمعاتنا التي طالما تحتاج الى متنفس عن همومها وتطمين في مخاوفها، بحثاً عن نفحة امل في عيش اكثر استقراراً وسعادة. ولكننا، كمؤمنين مدعويين أن يعيشوا ايمانهم بقناعة، نعلم أنّ عيد الميلاد هو أعظم بكثير من أن يختزل بالمظاهر البراقة، وأسمى من أن نقضيه بوثنية الذين يعتبرونه عطلة شتوية. فالذكرى السنوية لولادة المخلص تعني لنا الإنطلاقة الأولى لسر فدائنا، وهي احتفال الفرح والمحبة، كما هي تجديد الدعوة لنا أن نتجاوب وهدية السماء، لنضحي رسل السلام، فلا ننخدع بالمظاهر المزيفة للعيد بل ننطلق بقلوب متحدة وأيادٍ متشابكة، وبحرية أبناء الله نبني أولاً عالمنا الصغير، أي عائلاتنا ورعايانا بالفرح البريء وبأعجوبة التسامح وعظمة الحب. اليوم ونحن نحتفل بميلاد المخلص، نتذكّر كيف أنّ الله افتقد خليقته بنوع عجيب: " والكلمة أصبح بشراً وحلّ بيننا.. فرأينا مجده !". الى هذا النور المشعّ الذي غمر أجواء بيت لحم لنأتِ خاشعين ومتأملين، لتنقشع عن أعيننا عتمة هذا العالم فنخلع أعمال الظلمة. ومن عمق ضعفنا لنبتهل إلى الطفل الإلهي، هو القوي بضعفه ، كي يجعل من هذه الأعياد موسما روحياً مباركاً، فيه تتنقّى الضمائر ومعه تلين القلوب. وبحرارةٍ إليه نصلي، كي تعود البسمة الى أطفالنا وتتجدّد الثـقة في شبابنا ، ولكي تلتقي العائلات بالتسامح الحقيقي، متذكرين الوعد الذي لا يرضى بغير العهد، عهد المحبة. ولتهتدِ نفوسنا بالذي وحده قال: " أنا نور العالم مَن يتبعني لا يمشي في الظلام " . والميلاد، احتفال الفرح والتسامح، فيه تلتقي الجماعة المسيحية لتعيش جواً روحياً يبدّد كل خوف. هي تستقبل مخلصها، تنحني عليه طفلاً عجيباً، شاكرةً ومعترفة بعظمة العطاء الإلهي الذي يفوق كل هدايا االبشر، لأن الرب "افتقد شعبه وافتداه" (لوقا 1: 68). كما أنها تؤمن بأنّ النورالذي شعَّ فوق بيت لحم لا بُدّ وأن يبدّد ظلمة الخطيئة، وأن يسوع الوديع والمتواضع الراقد في مذود، قادرٌ أن يليّن أكثرالقلوب قساوةً ونفوراً. لطالما حنّ الى الميلاد أصدقاءٌ متباعدون، وتاقت إليه عائلات تمزقت لأتفه الأمور، فقاموا بفعل تسامح شجاع وطووا صفحة من الماضي مؤلمة ومشكّكة. والميلاد هو البادرة الإلهية التي تفرض علينا تجاوباً شخصياً وفعّالاً. إنه يذكّرنا بأن طفل المذود، عطية السماء الى ارضنا المرهقة بالظلم والعنف وتهميش الضعفاء، هذا الطفل "الذي دُعي اسمه عجيباً" ، القوي بضعفه واللامحدود في عذوبته، لهو بالحقيقة أمير السلام. والذين يستقبلونه اليوم بعاطفة الإيمان المقرون بالمحبة الفاعلة، لا بدّ أن "يسدّد خطاهم لسبيل السلام" (لوقا 1: 79)، إذ يترجون "ارضاً جديدة وسماءً جديدة" (رؤيا 21 :1) . أحبائي، إذ نتابع كل يوم الاخبار المؤلمة التي تأتينا من كل صوب من العالم، سيما من بعض أرجاء شرقنا المعذب الذي ما زال يبحث عن ذاته في مخاض عسير، كما يجري في العراق حيث نشهد إنسانية المواطنين العزّل والابرياء تُذبح بسبب التعصب الديني الاعمى، وحيث تطالعنا وسائل الإعلام بالأفعال المروّعة التي يرتكبها الإرهابيون المجرمون دون رادع أو استنكار فاعلين، من واجبنا جميعاً ألاّ نستسلم لليأس إزاء عبثية الظلم، بل نتمسك بالحقيقة وندافع عن الحق. علينا أن نشعر بواجبنا للعمل على رفع الظلم وإحقاق العدل، فلا نكف عن العمل ولا نكلّ عن السعي الجدّي ومطالبة المسؤولين وأصحاب القرار، من حكومات وطنية ومراجع دولية، كي يحترموا شرعة حقوق الإنسان ويفعّلوا حرية العبادة وحرية الضمير لجميع المواطنين على السواء. علينا أن نصرخ عالياً وبمصداقية لا تقبل التأويل، كي لا تُداس كرامة الإنسان في أي مكان على أرضنا. عندئذ نستحق أن ندعى رسل عدلٍ وسلام وحاملي رجاء وانبعاث لعالمنا اليوم، عندئذ يحقّ لنا أن ننشد مع ملائكة السماء: " المجد لله في العلى وعلى الأرض السلام والرجاء الصالح لبني البشر" (لوقا 2: 14 ، ترجمة الفشيتو السريانية) . محبكم بقلب الرب الفادي اغناطيوس يوسف الثالث يونان بطريرك السريان الانطاكي
|