باحثون عراقيون في علوم الموسيقى [الأب فيليب هيلايي]
باسم حنا بطرسباحث في علوم الموسيقى (نيوزيلندا)
مدخل ليس من قبيل الإستغراب أن تُعنى جهةٌ ما من خارج الوسط المتعامل مع الموضوع المختص، بنشر نتاجٍ أدبي في ذلكم الموضوع. وليس، أيضاً، مستغرباً أن يلجأ المؤلف – الكاتب، إلى جهات خارجية، في الحصول على التعضيد المطلوب لنشر نتاجه هذا؛ لكنه حين لا يجد من يحتضن ذلك يقوم ذاتياً بهذه المهمة، وهي ليست بالأمر الهيِّن من حيث توافر ما يغطي نفقات الطباعة. وربطاً لسياق الموضوع، فإن ذكريات القرن العشرين المنصرم ما تزال متوقدةً لم ينلها النسيان بعد؛ لكن التذكير بمعطيات الإبداع الثقافي لإنساننا العراقي، وهو يعيش صراعه مع ذاته لدفع نتاجاته حثيثاً نحو الصيرورة، لأمرٌ يستوجب التوقف عنده قليلاً، للتوثيق في الأقل، قبل غياب تلك المعطيات في مجاهل النسيان. هنالك من يقول، وقد قيل لي ولغيري مثل هذا القول، أنْ لماذا هذا التركيز والتأكيد على ما قد مضى وانقضى؟ هنا أؤكد ثانيةً، مجيباً أولئك المتقولين بهذا النهج: دعونا نتعامل حضارياً مع أنفسنا وذواتنا (وإن صارت كلمة الحضارية تطلق بشيء كثير من الفضفاضية!). ففي الوقت الذي يحلو لنا فيه (وذلك لا يندرج في قياسات التشدق) أنْ نستذكرما قام به أجدادنا في العصور القديمة لبلاد ما بين النهرين، من إبداعات حضارية فعلاً، وعلى مختلف الصعد، فإنما انتهالاً من ذلك النبع للوصول إلى حالنا الثقافية الإبداعية المعاصرة، التي لا أقول فيها المعصرنة أو المُأوننة!!. فإنساننا اليوم بحاجة (من حيث يريد أو لا يريد) للتعرف إلى معطياتنا الثقافية القائمة بوتائر بارقة المعالم، فينهل هو الآخر من معينها ما يجد فيه نفعاً أو حاجةً.
مدخل ثانٍ قلّة نادرة من المعنيين بالتأليف والكتابة في الأدب الموسيقى، أمام جحافل مؤلفي وكتّاب المصنفات العلمية والادبية والتاريخية والسياسية والاجتماعية والدينية، وما إلى ذلك من مسارب الإبداع. لذا أجدها ضرورة، نحن المتعاملون مع الأدب الموسيقي (على قلَّتنا)، وفي أقل إعتبار، ملاحقة النتاجات الحديثة وزيادة تسليط الأضواء الكشافة عليها، بهدف إيصالها بعيداً عن الطروحات الحرفية التخصصية، إلى عناية القارئ، ليتعرف إليها مادةً قرائية، إستزادةً معلوماتية، دفعاً لذائقته الثقافية والفنية. هكذا حين أروم التعامل مع النتاج الصادر حديثاً أو الفعالية الموسيقية حديثة العهد، أجد في نفسي أكثر من دافعٍ للتريث في بادئ الأمر في إنتظار ما ( قد) يُكتب من قبل الغير، متخصصين في الموسيقى أو من خارج الوسط الموسيقي، لأقوم بجولتي مضافةً إلى جولات الذين سبقوني.
مدخل ثالث شهدت العقود الأخيرة للقرن العشرين نشاطاً ملحوظاً في الكتابة الموسيقية، بعد أن كان ذلك أقل حجماً خلال النصف الأول من القرن، حين كان مقتصراً على الجهد الذاتي لقلة نادرة جداً من أساتذة الموسيقى، عراقياً وعربياً على حد سواء نسبياً، في الكتابة التأليفية وإمكانية طباعتها ونشرها في وقتها أو فيما بعد. قادني إلى هذه المداخل صدور كتابين، للأخ الفاضل الأب فيليب هيلايي؛ هما كتاب [مبادئ الموسيقى ونظرياتها] وكتاب [تحليل التوافق الصوتي – هارموني – الجزء الثاني] من سلسلة دراسات موسيقية، ذروةً لنهاية الألفية الثانية، وفاتحةً للألفية الثالثة: لكونهما من بين الكتب العلمية في الموسيقى الأحدث صدوراً لدينا في العراق أو في معظم حواضر العالم العربي الثقافية. ما كان هذان المصنفان وليدَة طفرةٍ [مزاجية] عند الأب هيلايي. بل هما قطاف من غرسة تعب في إنباتها سقياً وإرواءً، من بذرةٍ ما جاءت من العدم، بل استخلصها من غرساتٍ أخرى، أينعت في عقود سابقة من الزمن، حين صدر عدد من المصنفات العربية (عراقياً) في علوم الموسيقى، كما في نظريات الموسيقى وتاريخ الموسيقى، وغيرها من الاختصاصات، على يد أساتذة من علماء وأساتذة البحث الموسيقي العراقيين.
مدخل رابع إن الذي نما مرحلياً عند المؤلف الأب هيلايي دخوله معترك الحياة الثقافية الموسيقية في حلقاتها الأكاديمية المتقدمة، التي ضمت نخبةً من الأساتذة والباحثين، قاد ذلك إلى إنضاج الأفكار، وخلق أجواء مشجعة للغور في غمار ثقافة البحث والأدب الموسيقي. فصار (القلم والقرطاس) قناة لمرور سيل الفكر والعلم، نحو المتلقي، قارئاً، مستمعاً، مناقشاً، دارساً. فاتحني الأب هيلايي لتحرير تقريضٍ لكتابه عن النظريات الموسيقية، كما فعل مع منذر جميل حافظ. لكني لم أفِ بذلك لانشغالاتي في مهامي المتنقلة باستمرار بين بغداد والخارج، ومن ثم الاستعداد للسفر إلى حيث الأقاصي. وكخطوة للتعريف والترويج لنتاجاته العلمية القيمة هذه، قمتُ بعرض نسخٍ من الكتاب إلى زملائنا الأساتذة العرب، كالدكتورة رتيبة الحفني (مستشار دار الأوبرا المصرية في القاهرة)، كفاح فاخوري (مدير المعهد الوطني للموسيقى في عمان)، د. محمد غوانمة (عميد الأكاديمية الأردنية للموسيقى)، وصلحي الوادي (عميد المعهد العالي للموسيقى في دمشق)، والأب د. إيلي كسرواني (من جامعة الروح القدس في الكسليك) والأمين بشيشي (الوزير السابق للشؤون الثقافية – عميد المعهد الوطني الجزائري للموسيقى) وهم من أعضاء المجمع العربي للموسيقى (جهاز موسيقي أكاديمي مركزي يعمل في كنف جامعة الدول العربية، مقره بغداد) . وعدونا خيراً بدراسته بغية ترويجه للاستفادة منه في التعليم.
وقــفة هنا تتأتى مشكلة تواجه إبداع الإنسان، حيث أن مثل هذه المصنفات ما كانت ولا عادت تلقى عناية مؤسسات التعليم الموسيقي التخصصي، برغم إجماعها على افتقار المعاهد والكليات الموسيقية في عموم البلاد العربية، إلى كتابٍ بمثل هذا المستوى من المنهجية والانتقائية العلمية في كامل ما احتوى من فصول، حتى جرى وصفه بأنه [ معهدٌ مختص بالموسيقى، يدرس المرء فيه أعواماً عدة لكي يفهم ما تحتويه فصوله الأخيرة، ويكون قد تخرج فيه بجدارة – جميل جرجيس، في عرضه للكتاب في العدد 24 للسنة السادسة/4 لسنة 2000، من مجلة نجم المشرق]. وكما جاء في قول حكمت الزيباري في تعرضه للكتاب في العدد 26 السنة السابعة/2 لسنة 2001 […مع العل أن مكتبتنا الموسيقية تفتقر إلى مثل هذه الكتب.. ونصيحتي لكل من يعمل في المجالات الموسيقية أن يطلع على هذه الكتب لينهل منها الكثير… ويلمس فيها التميز والإبداع تأليفاً وتعريباً وإخراجاً ومضمواً وتبويباً وإخراجاً].
الجدوى فيليب هيلايي، تجريداً، جريء في نقده، هجومي في تصديه لأمية المتعاملين بالموسيقى، لا يهدأ له بال حين يرى إعوجاج خط سير السائرين في ركب الإنسلاخ من الجذور، بمختلف الحجج، وبحسب قناعاته. وهو في ذات الوقت، يركن بعفوية صادقة إلى من يفيده علماً جديداً. لا يقبل التحذلق، لكنه يستمع إلى الضد فيناقشه بمادته العلمية وخبرته الانتقائية. الموسيقى لديه نبعٌ رضع من حليبه غذاء الأم، بل وأبعد من ذلك، هي ركنٌ من إيمانه. لكنه لم يرتو. فالظمأ لديه يحتاج إلى إرواءٍ من معين نبع المعرفة الموسيقية ثقافة وتقاليداً وإصالةً وتجدداً. وبحكم معايشتي له بكل تفصيلاتها، وطيلة أكثر من ثلاثة عقود عامرة من الزمن، عرفت نوازعه الإنسانية في الخدمة. فمع حرصه في مد يد العون إلى كل من يطلبها، دون تمييز، وإنغماره في لجّة مهامه الرعوية الكبيرة نهاراً وليلاً، ومجالساته التي لا تنتهي، كان يختلس بعضاً من وقته المزدحم ليختلي إلى نفسه، في أي مكان يختاره، كأن يكون ديراً في الموصل أو دهوك، أو بغداد، أو يقفل باب غرفته على نفسه، بعيداً عن المراجعات والمراجعين، حاملاً معه قرطاسه ومراجعه العلمية، وآلته الموسيقية الخاصة به، ليعود من بعدها متوَّجاً بما أنجز من مصنفات في علوم الموسيقى، فيقوم بعرضها على البعض منا للمناقشة والتصويب أو التعديل، إن إقتضى، قبل دفعها للطباعة. ليس كلامي هذا من قبيل المجاملة والمديح. فقد كنا نحتدم نقاشاً حين نتناول الجدوى من كل ذلك. هل من جدوى في هذا الزمن لمثل هذه المصنفات؟ هل هناك من يعنى باعتمادها في التعليم، أفراداً ومؤسسات؟ هنالك تياران: كلاسيكي يعتمد الكتب حتى الحديثة منها، حين يكون المنهاج التعليمي معداً وواضحاً، صالحاً للإعتماد من قبل أي مدرس للمادة. وتيار لا ينمتي لعصر سوى مجاراة الحالة والوضع التعليمي القائمين، يتمثل باجتهاد المدرس في خلق نمطٍ من عندياته، يتغير بتغير شخص المدرس من واحد لآخر، فيقع التخبط وتتسع هوَّة المتاهة لدى دارسي فنون الموسيقى. ولنا أمثلة واقعية في ذلك، وعلى مستوى بلادنا العربية. لكن التيار الأقوى حالياً، هو المتمثل باعتماد (الكمبيوتر) في نقل البرامج التعليمية، من أي منشأ كان، لسهولة الحصول عليها. ومن ثم نقلها على الورق بشكلٍ كراريس (مَلازم) تحمل إسم المعلم وكأنه هو المؤلف.خاتمة عودة إلى ذاكرة الأيام الخوالي، حين كنا طلبةً ندرس في معهد الفنون الجميلة (مطلع الخمسينيات) كيف كانت الدروس العلمية في الموسيقى تسير حسب هوى، أو قدرة المعلم، وبما هو متوافر من كتب التعليم الآلي والنظري التي كان محل (إسكندريان) في منطقة المربعة ببغداد يقوم بعرضها ومختلف الآلات الموسيقية للبيع.ففي الجانب النظري (العلمي) سارت الدراسة بين تيارالإجتهاد الذاتي، إلى تيار النقل من مصادر أجنبية ، بدون تدرج في الدروس. وبقي الحال بعد مرور قرابة نصف قرن من ذلك الزمان، لنجد التعليم العلمي في الموسيقى ما زال متأرجحاً بين هذه التيارات، برغم وجود مناهج وبرامج مقررة وتوافر الكتاب العربي في علوم الموسيقى.إذا جاء الكتاب بمنهاج تعليمي، كما في مصنفات الأب هيلايي، فهو الذي يساعد على تحديد طبيعة المنهاج، فيجري إعتماده للتعليم. ومهما بلغت العلوم التكنولوجية المتقدمة من مراتب عليا في توفير المادة العلمية للمتلقي، فإنها لن تصبح بديلاً عن الكتاب، الذي يمثل عصارة جهدٍ وعلمٍ ومعرفةٍ وخبرة. وهو بالتالي لا يحتاج إلى جهاز (كالكمبيوتر) لقراءته.هذا الذي وددتُ تناوله في موسيقية شخص الأب فيليب هيلايي. لينعم برعاية الباري تعالى بموفور الصحة للسير قدماً في رسالته. aqA المصنفات الصادرة والجاهزة للطبع للأب فيليب هيلايي: 01 تحليل التوافق الصوتي (السنة الأولى) 02 تحليل التوافق الصوتي (السنة الثانية) 03 الطباق (Contre point) 04 الفوكا (Fugue) جزءان 05 الصولفيج البوليفوني 06 الأوركسترا 07 الأشكال الموسيقية 08 تعليم العزف على آلة الكيتار (كارولي) 09 تعليم العزف على آلة الأرغن الإيلكتروني (جزءان). 010 مبادئ الموسيقى ونظرياتها.
مع الأب الراحل فيليب هيلايي في قمَّة عطائه ! باسم حنا بطرسباحث في علوم الموسيقى أوكلند في كانون ثاني 2003. إستهلال : كان أخي الكريم الأب فيليب هيلايي، قد فاتحني لكتابة تقديم يتصدَّر كتابه الموسوم {الأوركسترا}، ونزولاً عند رغبته أرسلتُ إليه نص الرسالة المرسلة إليه في حينها. لكن القضاء كان أسرع من أبينا فيليب فرحل عن الدنيا إلى خلود السماء وهو في قمَّة عطائه.
نصّ الرسالة: الموضوع : كتاب الأوركسترا
الأوركسترا، إسم عِلْمٍ صار معروفاً ومتداوَلاً بين أوساط الموسيقى والنشر الموسيقي. حتى أخذ استعماله يجري بشيء من العفوية وصفاً لأية فرقة موسيقية ذات تشكيلٍ آلي متنوع. لكن هذا الإسم العلَم له دلالة مبنيَّة على أسس البُنية العلمية لتكوينات الفرقة الموسيقية ذات التوزيع الآلي المنهجي. ولعلنا في مجال عرضنا لتعريب وتحقيق كتاب الأوركسترا لمؤلفه الفرنسي (آلان لوفييه)، كنتاجٍ قد يكون الأول من نوعه في مكتبتنا الموسيقية العراقية – العربية، لابد من التنويه إلى أن إنتشار "الأوركسترا" في بلادنا العربية صار يشكل ظاهرةً فنية ثقافية آخذة بالإنتشار ومؤكِّدة لحضورها ضمن فصائل الثقافة الموسيقية المنهجية. الأوركسترا في بلادنا، العراق، قديمة عهدٍ قياساً على غيرها في البلاد العربية. وتناول كتّاب الموسيقى لدينا هذه الأوركسترا بالمتابعة من خلال فعالياتها الفنية التي غطَّت المساحة الأوسع للتراث الموسيقي السمفوني، حتى أخذ البعض يصف هذا التراث بالموسيقى العالمية، بينما هي في حقيقتها موسيقى فنّية لا غير إنتقلت من أوربا إلى أرجاء العالَم. فإن كانت عالميَّة، وهي ليست كذلك، أو كانت بأية صفة أخرى، فهي (أوركسترا للموسيقى السمفونية) بمعنى الموسيقى الفنيَّة المُقنَّنة وفق علوم الصوت وتردداته وقواعد الأشكال (القوالب) التأليفية المعتمَدَة في عالم الموسيقى، الآخذة بنظر الإعتبار التدرج الطبقي للأصوات وألوانها وتأثيراتها على المستمع. أسوق هذه الأفكار تمهيداً للدخول في صلب موضوعنا، عرضاً للكتاب موضوع البحث. الصعوبة في صياغة التعريب لكتابٍ مؤسَّس بلغةٍ أوربية صعبة، اللغة الفرنسية، تكمُن في نقل الأفكار والقواعد والبيانات وتبسيطها لقراء العربية، في وقتٍ لم تتوصل فيه بعدُ عملية ترجمة المفردات العلمية (ومنها الموسيقية) إلى قَوْمَسة واضحة البيان للدارس والمتابع والباحث والمُتلقّي. لذلك بقيت هذه المفردات قيد إجتهادية " المُعِدّ " في محاولةٍ منه لإيصال المعلومة إلى قارئ اللغة العربية. فإن كانت صعوبتها بهذا المستوى في المفردة، فصعوبتها أكبر في بُنية فقرات وفصول الموضوع. هنا جاء الكاتب المُجتهد الصبور، ليسيل من معين معرفته الواسعة والموسوعية والتخصصية في مجال الثقافة الموسيقية، تعريباً للكتاب. إنه الأخ الأب فيليب هيلايي. الكتاب في مجمله عظيم الفائدة، ليس على صعيد معرفة الأوركسترا وما يتصل بها من تراكيب وقوالب موسيقية وعصور مؤلفيها، وما إلى ذلك من مسارب وقنوات، حسب، بل لهو منهاج علمي في التحليل الموسيقي، الذي يقود إلى النقد الموسيقي التخصصي. سيكون من الصعوبة بمكان لمن يطلِّع على الكتاب، محتوياتٍ وفصولاً، إستيعاب المفاهيم وسُبل معالجة وضع الأوركسترا والأعمال المؤلَّفة لها؛ صعوبة حتى بمستوى ممارسي الموسيقى السمفونية من المؤلفين والموسيقيين. لذا سيتطلَّب إعادة متمهلة ومتعمقة لقراءة فصوله بالتسلسل وبشكلٍ منهجي مع الإستماع إلى ما يتوافر من تسجيلات أو أداءات حيَّة للقطع والأعمال المختارة في سياق الكتاب.
هنا تكمن خصوصية الكتاب في قول المعرِّب المحقِّق (ولماذا لا يكون المؤلِّف عربياً) في مقدمته "لكني، لم أقرأ كتاباً واحداً، مخصصاً بالأوركسترا (حسب معلوماتي)".
إنه الكتاب. وإنه الكاتب "المؤلف" الأب فيليب هيلايي.
طلب الراحل العزيز أن نترحَّم عليه حين تصعد روحه الطاهرةإلى علِّيين؛ وها نحن نَفي بتخليد ذكراه.
شريط الذكريات مع الأب الموسيقار فيليب هيلايي (1931 – 2002) في الذكرى الخامسة لرحيله
آخر صورة له في صبيحة يوم الأحد الموافق 24 آذار/مارس 2002، نعت البطريركية الكلدانية في بغداد الأب فيليب هيلايي (69 سنة) الذي إنتقل إلى رحمة الله فجر ذلك اليوم، إختناقاً من غاز أول أوكسيد الكاربون نتيجة تماس كهربائي في المدفأة الزيتية في غرفة نومه. كان عليه في ذلك اليوم إقامة القداس الأول لعيد السعانين على مذبح كنيسة مار إيليا الحيري في الأمين ببغداد الجديدة؛ لكنه لم يستيقظ كما هي عادته. تم إستدعاء زميله الأب المحترم ليون نيسان، وكذلك إبن شقيقه الدكتور سلوان هيلايي، فوجدوا أبانا فيليب قد فارق الحياة.
طلب الراحل العزيز أن نترحَّم عليه حين تصعد روحه الطاهرةإلى علِّيين؛ وها نحن نَفي بتخليد ذكراه.
مدخل: الموسيقى لديه نبعٌ لا ينضب والإرتواء منه لايزيل العطش؛ كان يتوسَّل بأية وسيلة لتنمية مداركه الموسيقية، وخاصةً فترة دراسته الكهنوتية، في معهد مار يوحنا الحبيب في الموصل. فإلى جانب مبادئ العلوم الموسيقية التي درسها في المعهد استعان بما كان متوافراً من تسجيلات فونوغرافية للموسيقى الآلية والغنائية، من أية ثقافة كانت.
أما كنسياً، فكانت تربيته بين أحضان كنيسة مسكنتا في الموصل، التي أفاضت أجواؤها عبق الأصوات الشجية للإكليروس والشمامسة والمنشدين: فعرِف فيها وغرِف منها أصول الإلقاء السليم والترتيل المُجيد.
الأب هيلايي يدير محاضرة في الترتيل الكنسي، للكاتب في كنيسة مار كوركيس ببغداد
معرفتي بالأب فيليب هيلايي: تأسَّست معرفتي بالأب هيلايي، منذ ما يزيد على الثلاثين عاماً من محور الثقافة الموسيقية، الكنسيَّة منها على وجه الخصوص. لكنها نضجت لتبلغ ذروتها عقد سبعينات القرن العشرين المنصرم، التي أدرج فيما يأتي خطوطها البيانية: - لدى إعادة تأسيس الفرقة السمفونية الوطنية العراقية عام 70-1971، كان حضوره فعالياتها متواصلاً، وزيارته لمقر إدارة الفرقة والمناقشة معها متكررة ، - تنظيم موسم ثقافي موسيقي في جمعية الموسيقيين العراقيين عام 1972 ، - تنسيبه ممثلاً رسمياً لدولة الفاتيكان للمشاركة بأعمال مؤتمر بغداد الدولي للموسيقى إبتداءً من دورته الأولى عام 1975 ، - مشاركته في جولة مع أعضاء مؤتمر بغداد الدولي الأول للموسيقى سنة 1975، إلى مدينة الموصل وبخاصة حضور القداس الكلداني المقام فيها من قبل الأب الراحل يوحنان جولاغ، فأسهم الأب هيلايي بالترجمة إلى الفرنسية مع هيئة الترجمة الفورية،
- حصوله على عضوية اللجنة الوطنية العراقية للموسيقى بترشيح من كاتب هذه المتابعة، عام 1976 ، - تقديمه ضيفاً على إحدى حلقات برنامج (مع الموسيقى العالمية) التلفزيوني، الذي كان من إعداد وتقديم كلٍّ من منذر جميل حافظ وباسم حنا بطرس، - مشاركاته في كافة المؤتمرات الموسيقية الدولية المنعقدة في بغداد للجنة الوطنية العراقية للموسيقى ، - مشاركاته في ندوة الموسيقى التي تقيمها وزارة الثقافة والإعلام سنوياً، - تقديم محاضرات في التثقيف بالموسيقى الكنسية داخل العراق وخارجه. - في الموسيقى الكنسية: عملنا سويةً طيلة تلك الفترة، في مجالات نشر الثقافة الموسيقية الكنسية، داخل العراق وخارجه، عبر مختلف المنافذ. حتى صار أحدنا "يجد ظلَّه في الآخر" على حد وصفه. كان الأب هيلايي، يتوجَّس خشيةً على ديمومة ألحان الطقس الكلداني العريق في مواجهة المدّْ الهادر من تيارات التعامل الإجتهادية بها، لأناس جعلوا من أنفسهم أصحاب رسالة في ‘تطوير‘ الأداء الفني لها، متخذين من بعض إلماماتهم في الموسيقى أداةً لإقامة هذا التطوير الذي يريدونه بديلاً للبُنى الأصيلة لتلك الألحان. وقد تعامل الأب هيلايي بكل ما امتلك من معين غزارة العلوم الموسيقية التي تحصَّن بها طوال عمره، فأقام التجارب في تشذيب الأداءات القائمة لتراث الموسيقى الكنيسة، مما طرأ عليها من جهلٍ بقيمها الفنية والمقامية ومن ثم الآلة الموسيقية المرافقة للأداء. في صراعه مع تقليعة الإبتعاد عن اللغة الكلدانية الأمّ التي بُنِيَت عليها تلاحين الطقس الكلداني، بحجة التطوير أيضاً، أخذ يرنو إلى الإستعانة بالترجمات العربية للنصوص التراثية التي ما كانت مبنيةً على أوزان وإيقاع النصوص الكلدانية الأصل في نظره. فكنتَ تراه تارةً يلجأ إلى الأب يوحنان جولاغ، الذي يمتلك الحسّْ الموسيقي والشعري في ترجماته، وتطوَّر الأمر لديه بالإستعانة بترجمات الأب يوسف حبي، الذي امتلك هو الآخر حسّاً فنياً في البناء الشعري.
تجارب تطبيقية في الموسيقى الكنسية: من تجارب الأب هيلايي في هذا المضمار، إستعان بعددٍ من عازفي آلات التراث الموسيقي العراقية وهي الجوزة والسنطور والإيقاعات لترافق الأداءات الإنشادية الطقسية. فأخذ عليه البعض ممن وجدوا في ممارساته هذه خروجاً على الأعراف والإصالة! أذكر مرةً أنْ أقمنا في كنيسة مار إيليا الحيري ببغداد وأمام حشد من الحضور، ندوة بشكل ورشة عمل بمشاركة أربعة من علماء الموسيقى الباحثين المشاركين في مؤتمر بغداد الدولي الرابع للموسيقى (1978)؛ فنلندي، وأميركي، ولبناني/فرنسي، وباحثة أميركية. تم مناقشة كيفية الحفاظ على الإصالة الكنسية، ونوع الآلة الموسيقية المُراد إستخدامها في مرافقة الأداء، وشكل البناء الهارموني (تعدد الأصوات) في أدائها، ومشاكل ترددات الصوت داخل جدران الكنيسة. وقدَّمت جوقة كنيسته نماذج مختارة من التراتيل، كنماذج للعرض والمناقشة. عند تأسيس كلية بابل، تم إعتماد تدريس علوم الموسيقى فيها على يد فريق ضمَّ الأب هيلايي (علوم الصوت) ومنذر جميل حافظ (النظريات الموسيقية) وباسم حنا بطرس (التذوُّق الموسيقي). فكانت قفزةً نوعية في تنمية ذائقة الطلبة وتعلُّم كيفية التعامل موسيقياً مع الأداء.
الكتاب الموسيقي التخصصي: كان حريصاً على رفد المكتبة العربية بالكتب العلمية الموسيقية. فعندما كان الأب هيلايي يروم ترجمة كتاب علمي في الموسيقى، كنا نعقد جلسات مطوَّلة لمناقشة أو التوصل إلى مفردة باللغة العربية أكثر صلاحية وقرباً لإعطاء المعنى المطلوب لها يستطيع الدارس أو القارئ المهتم إدراك معناها. وهكذا خرجت على يديه جملة من الكتب العلمية الموسيقية تناولتها مجلاتنا المسيحية (بين النهرين، نجم المشرق، والفكر المسيحي) بالعرض والتفديم. المصنفات الصادرة والجاهزة للطبع للأب فيليب هيلايي: 1 تحليل التوافق الصوتي (السنة الأولى) 2 تحليل التوافق الصوتي (السنة الثانية) 3 الطباق (Contre point) 4 الفوكا (Fugue) جزءان 5 الصولفيج البوليفوني 6 الأوركسترا 7 الأشكال الموسيقية 8 تعليم العزف على آلة الكيتار (كارولي) 9 تعليم العزف على آلة الأرغن الإيلكتروني (جزءان). 10 مبادئ الموسيقى ونظرياتها.
ولئن أردتُ، أو أراد أخرون الكتابة عن مناقب الأب فيليب هيلايي في مجال إهتماماته كرسالة في التثقيف الموسيقي (العلمي والفني والكنسي) لكان علينا أن نسطِّر صفحات بين دفة مجلدات ضخمة. مرثاة لمن كان وسيبقى خالداًأخاطبك أيها الأب فيليب هيلايي
لن يكون رحيلك عنا نهاية المطاف ! بل ما كان الرحيل بِعاداً عن ضمائر الناس، أولئك الذين استصرخوا القدر في محاسبةٍ لقسوته على مَنْ كان مثل أبينا فيليب محبّاً وفياً نافعاً غير منتفعٍ، مثل أولئك الصالحين في تكريس ذواتهم بكل تجرِّد خدمةً للناس كل الناس دون تمييز . هذه كانت خصالكم أبانا الراحل الأبيّ؛ تميَّزتم بها طيلة أيام حياتِكم على هذه الأرض الفانية ! هل أرثيكَ أبَتِ ؟ أتراني في موقع الراثي ؟ كلاّ ما كنتُ كذلك و لن أكون ؛ في خاطرةِ جالَتْ في ذهني و أنا محلق بالأجواء العطرة لأحد السعانين هنا في أوكلند، إستقطرتُها كلمات نابعة من صدق المشاعر بعثتُ بها إلى أبينا هيلايي في ذات اليوم الذي سبق رحيله قلتُ فيها :
أوشَعنا --- هوشَعنا --- هوزانّااليوم احتفلنا بيوم السعانين و لا أسميه عيداً فهو احتفالية الأطفال في أبهج حلّة لتمجيد الرب؛ وإذ كنّا في كنيسة القديس مرقس التي اعتدنا منذ وصولنا أوكلند الذهاب إليها ، حيث الكورال وجمهرة الشعب والكل يشارك غناءً بفرحٍ غامر مع حصةٍ رمزية للأطفال (بين الأسود والأسمر والأبيض وبين الكيوي و الماوري و الصيني و الهندي ) ، حلّقتُ بعيداً في أعالي فناءات الفضاء وحط بي التحليق إلى حيث أطفال محبتنا وهم متحلّقون بزغرداتهم العفوية في أجواء كنيسة ما إيليا الحيرى ببغداد، محيطين بصديق طفولتهم الذي أحبّهم بعاطفةٍ تدمع لها العيون ، أجل هم محلقون حوالّي أبيهم فيليب ، يترنحون نشوةً وهم ينشدون بأعلى صوتٍ : أوشَعنا ، أوشَعنا لإبن داؤد… فمن الأوشعنا بدأت مسيرة الظفر نحو ذرى الجلجلة ليرتفع صليبنا شامخاً سامقاً فيُصبح رمز كينونتنا و شرف إنتمائنا وسبيل خلاصنا .
تُرى : أين أنتَ قاشا فيليب ؟؟أنتَ حقاً في ملكوتك الحيرى مع أطفالكدمتَ بأيامكم راعياً للرعيةأرسلتُ هذه الخاطرة بالبريد الإلكتروني يوم السعانين بتاريخ 24 آذار 2002.
كان يحلو للأب الراحل أن يحتفل بالسعانين متوسِّطاً أطفال رعيَّته وهم في أبهى حلّةٍ، تصدح حناجرهم الندية بالأوشعنا ؛؛ أو شعنا لإبن داؤد .. فتنسلخ عن كيانه ماديات الحياة و يتجلّى في أعظم مراتب التصوّف ؛؛ فهو القائل وصفاً لهذا الاحتفال السنوي ( إنه الملكوت ، ملكوت السماء على الأرض ) . وكان القدر حين جاء صَعْقُ النعي صبيحة اليوم التالي ( الخامس و العشرون من آذار 2002 حسب توقيت نيوزيلندة ) ؛؛ و كأن الأقدار هي التي أنبأَتني استباقاً للحدث الجَلَلْ . و تسارعت رسائل البريد الإلكتروني آتيةً من كل حَدب و صوب معزيةً بحرقةٍ و لوعة : أترى مَن يُعزي مَن ؟ أيَصحُّ العزاء ! لا أدري !! و لعلِّي في هذا المجال أستأذن أبانا يوسف توما بنقل تعزيته التي جاء فيها ، نموذجاً من بين عشرات التعازي الواردة : عزيزي باسم نعم وقَعَ خبرُ وفاة الأب فيليب علينا كلنا وقوع الصاعقة ، طوبى له في مثل هذا اليوم ، ولتكن صلاته من أجلنا جميعاً . أقدّم لك و للعائلة أخلص تعازيّ لأنه كان واحداً منا ومنكم . محبكم الأب يوسف توما و لعلَّني في موقعي هذا ، و من موقعي في الأقاصي ، أستشعرُ بوحشة البعاد عن أداء بعض ما هو دَيْن يُطَوِّق عنقي .. بالمشاركة في خدمة التشييع لراحلنا الذي أحببتهُ وأحبَّني وهو الذي يحلو له دوماً ان ينادي كل مَن يحب ( أخاً حبيبَ العمر ) . أجل ، طوبى بكم أبانا فيليب و أنتم تحتفلون بأسبوع الآلام في الأعالي .. باسم حنا بطرس في السادس و العشرين من آذار 2002
وعليه، أكتفي بهذا القدر، إيفاءً مني تجاه أبينا الراحل، بما أنجز. باسم حنا بطرس(باحث في علوم الموسيقى) أوكلند في موسم الفصح لعام 2007.
|