صورة فريدة
نعت الأخبار قبل بضعة شهور، وفاة الفنان المسرحي الرائد جعفر السعدي، وإهتم الإعلام في حينه بالحديث عن ريادة هذا الفنان الذي شهدت له الساحة المسرحية العراقية حضوراً متميِّزا لما يربو على سبعة عقود من الزمن. واليوم، أقلِّب بعض صفحات الزمن المنصرم، لأعرضَ صورةً أسميتُها " فريدة"، لكونها فريدة حقاً لم يجرِ نشرُها في السابق، ولا تحدَّثت الصحف عن الحدث الفريد المرتبط بالصورة. المكان : ساحة كرة السلَّة لثانوية الكاظمية، الزمان : صيف العام 1947، المناسبة: عرض مسرحية { القبلة القاتلة } لكاتبها أندريه مَوروا. الإخراج: جعفر السعدي. تمثـيل : طلبة فرع التمثيل في معهد الفنون الجميلة ببغداد. حديث الصورة: تظهر في الصورة، مجموعة من الفنانين الروّاد الذين حضروا العرض المسرحي، ندرج أسماءهم بحسب ما تسعفني الذاكرة، وعلى النحو الآتي، من اليمين إلى اليسار: 1. الجالسون على المقاعد: الرابع إلى اليسار راعي الحفلة الوالد حنا بطرس (1896 – 1958) وإلى يساره شقيقي الأصغر سمير، وإلى يمينه جعفر السعدي، وبعده عبر شخص آخر عزيز علي، وفي نهاية الخط إثنان من عازفي العود، شُوَّع (؟) ويعقوب يوسف. 2. الجالس على الأرض إلى أقصى اليسار: رضا علي (الذي كان طالباً في فرع التمثيل في المعهد). 3.الواقفون: الخامس في الخط سالم حسين (عازف القانون)، والسابع في الخط (باسم حنا بطرس)، كاتب هذه المتابعة. دعوة إلى إعادة أرشفة الحركة الفنية في العراق وبخاصة خلال مرحلة التأسيس الأولى (فترة النصف الأول للقرن العشرين المنصرم). كتابة باسم حنا بطرس (الصورة من الإرشيف الشخصي، تصوير إبراهيم عبد الوهاب). فنان موسيقي، ناقد، وباحث في علوم الموسيقى. أوكلند (نيوزيلندا) 8 كانون الثاني 2006.
هذا مقطع من مقال للكاتب المخضرم الأستاذ ناطق خلوصي، شمل الفنانين الذين رحلوا في العام 2005 المنصرم، يتناول جعفر السعدي بنهجٍ كرونولوجي، لأبرز إبداعاته الفنية. تواصلاً مع موضوعتي حول مسرحية (القبلة القاتلة) التي أخرجها جعفر السعدي في صيف العام 1947. باسم
جعفر السعدي اما ابرز الراحلين فهو الفنان (جعفر السعدي) الذي اغمضت عيناه اغماضتهما الاخيرة في لحظة ربما كان يحلم بها. فقد شاء القدر ان يكون رحيله تحت خيمة المسرح الوطني في حفل افتتاح مؤتمر المثقفين. والسعدي صاحب دالة على الحركة الفنية في العراق وليس على التلفزيون حسب، لذلك نرى انه يستحق وقفة خاصة منا. ان تجربته الفنية تنطوي على اهمية استثنائية تستمدها من غنى واصالة المعطى الابداعي الذي توافرت عليه، ومن عمقها الزمني وبعدها الانساني مثلما تستمدها من مكانة صاحبها وتعدد اهتماماته وتنوعها. فقد عمل مخرجا متميزا وممثلا رائعا واكاديميا رصينا واداريا ناجحا (من خلال ترؤسه لفرقة المسرح الشعبي بشكل خاص). وتوزعت اهتماماته على المسرح والسينما والاذاعة والتلفزيون. فقد كان من اوائل الذين عملوا في السينما العراقية في بداياتها الاولى. اما تجربته في الدراما التلفزيونية فهي جزء مهم من مكونات شخصيته الابداعية، وشهد عقد ثمانينات القرن العشرين ذروة نشاطه في هذا المجال فقد قدم العديد من الاعمال خلال هذا العقد بدءا من مسلسل (الذئب وعيون المدينة) وجزئه الثاني المكمل (النسر وعيون المدينة) (وهما من تاليف عادل كاظم) لقد ادى في هذا المسلسل دور عبد الله السلمان بتميز خاص واقتدار عال وتلقائية لاتتوفر الا عند المبدعين اصحاب المواهب الحقيقية والكبيرة. واصبحت لازمته الشهيرة عجيب امور غريب قضية التي كانت تتكرر على لسانه تجري على الالسن مجرى الامثال. فقد كان يرددها بايقاع خاص، وكانت هذه الشخصية بانتهازيتها ووصوليتها مرسومة بشيئ من الكاريكتيرية بهدف اسقاطها وادانة نموذجها، لكنه اداها يرصانة ارتقت بها عن مستوى النمط المبتذل من الكوميديا وكان السعدي يجيد اداء الادوار الشعبية والتاريخية معا وعلى مستوى واضح من الاقتدار بل ان تمكنه من الفصحى اهله لان يؤدي دوره المتميز في البرنامج الدرامي (مكاني من الاعراب) الذي عرض في العام 1973 وكان من تأليف شريف الراس واخراج علي الانصاري وقد سعى ذلك البرنامج الى تقريب الفصحى من اذهان المشاهدين عن طريق المشاهد الدرامية بهدف الحفاظ على سلامة اللغة العربية لذلك عرض ولا يزال في العديد من القنوات التلفزيونية العربية. ومن بين ما قدمه من اعمال درامية تاريخية كان دور عدي بن زيد في مسلسل (النعمان الاخير) الذي عرض في العام 1986 بمشاركة فنانين عرب الى جانب الفنانين العراقيين. وضمن هذا السياق ادى دورين في حلقتين من سلسلة (لقاء في الذاكرة) اولهما في الحلقة التي تحمل عنوان (حكاية للصغار) التي تحدثت عن شخصية ابن ظفر الصقلي الذي يعد رائدا في كتابة ادب الاطفال والثاني في الحلقة التي تحمل عنوان (رجل الزهور) التي تتحدث عن شخصية ابن البيطار وشارك السعدي في اعمال درامية اجتماعية مثل عنفوان الاشياء و (الاماني الضالة) و(من تأكل النار) وكان يتأنى في اختيار ادواره ولا يقع اختياره الا على الاعمال الاجتماعية الرصينة والتي تنطوي على مضامين انسانية فقد عرضت له تمثيلية (الهجرة الى الداخل) في العام 1985 وكانت من تاليف عبد الوهاب الدايني واخراج خليل شوقي. لقد ادى دور البطولة في هذه التمثيلية القصيرة وجسد من خلال شخصية المدرس نافع المسحوق اجتماعيا والواقع تحت سطوة ضائقة مالية تبعا لذلك، ليمثل بذلك شريحة من الناس واقعة تحت عبء المعاناة الاقتصادية والاجتماعية. وعلى الرغم من الاشارة التي وردت فيها الى انها تتناول المدة التي سبقت ثورة 14 تموز فان ادانتها للواقع الاجتماعي الذي كان سائدا في زمن الاحداث يوفر الفرصة لاسقاط الماضي على زمن انتاج التمثيلية وعرضها. وقد فاز السعدي بجائزة احسن اداء عن دوره في هذه التمثيلية في مهرجان براغ للاعمال التلفزيونية الذي اقيم في العام 1985، وشارك فيه العراق الى جانب خمس واربعين دولة عربية واجنبية وفي العام 1987، ظهر في دور شخصية عزيز في مسلسل (عنفوان الاشياء) اما دوره في (الاماني الضالة) فهو واحد من ادواره الكبيرة. وفي مطلع العام 1990 عرضت له تمثيلية (العرف والقانون) وقد ادى فيها دور (عبد الرحمن) المحامي الايجابي الذي يحتمي بموقعه كممثل للقانون. وهو بفعل تواضعه الممتلئ لم يتردد عن اداء ادوار في اعمال لمبدعين شباب تشجيعا لهم، فقد وافق على قبول المشاركة في تمثيلية (الصدى) التي عرضت في العام 1988 مع انها اول عمل تلفزيوني يكتبه عبد الامير شمخي وتخرجه التفات عزيز وعاد فأدى دورا في تمثيلية من اجلهم جميعا وقد كانت ثاني عمل تخرجه التفات عزيز ايضا. هكذا كان جعفر السعدي مبدعا وانسانا رائعا سيترك غيابه فراغا في الشاشة الصغيرة ويمكن قول الشيئ نفسه عن الكوكبة التي رافقته في رحلته الابدية وعسى ان تثير كلمة الاستذكار هذه التفات المعنيين الى احوال اسر الذين رحلوا ولم يخلفوا ما يعول عليه. املين ان لايكتفي بالتوقف عند حدود الدعم اللفظي في احتفاليات التأبين. ناطق خلوصي :كاتب من العراق
|