في مثل هذه الأيام من تشرين الأول عام 2000، إهتزَّ الأثير بنبأ رحيل الأب يوسف حبّي وإنتقاله إلى الأخدار السماوية. وها هي ذي ستة أعوامٍ إنقضَت على الحادث، ولما تزال الأقلام تتناول الرجل الألمعي بالكتابات والمتابعة: لأنه سعى إلى الخلود. فتحقق له سعْيُه، وبقي خالداً. باسم حنا بطرس أوكلند في 30 تشرين أول 2006.
الأب يوسف حّبي الكاهن والعالم
متابعة وذكريات
باسم حنا بطرس
تواصلاً مع المقال الموسوم (الأب يوسف حبي الكاهن العالم) لكاتبه المحترم بهنام سليمان متي، أود أنْ أستكمل الموضوع بإضافة الفصل الأخير للأب حبي، من خبر نعيِه.
دأبنا على حضور قداس أيام الأحد في كنيسة اللاتين في منطقة (تلاع العلي – الكاردنز) في عمان فترة إقامتي في الأردن أستاذاً للموسيقى في المعهد الوطني للموسيقى. ففي مساء الأحد الموافق 17 تشرين الأول 2000، أعلن خوري الكنيسة الأب يوسف الربضي في نهاية القداس، (وفاة كاهن كلداني يعمل سكرتيراً للبطريرك، إثر حادث سيارة في منطقة الصفاوي بين بغداد وعمان). وما إن أنتهى القداس توجهنا زوجتي وأنا نحو الأب الربضي مستفسرين عمن يكون ذلك الكاهن: لأننا كنا منتظرين مجيء الأب بطرس حداد (سكرتير البطريرك) إلى عمان في اليوم التالي! لكن الأب الربضي قال: إنه الأب يوسف حبي.
في صبيحة اليوم التالي، الإثنين، تحدث تلفونياً معي الأب بطرس حداد من بغداد قبل إنطلاقه إلى عمان. فسألني ما هي الأخبار؟ أجبته: البقاء في حياتك!
في مساء اليوم ذاته كنتُ في إستقبال الاب حداد في محطة (المحطة) حيث موقف السيارات العراقية، ليحلَّ ضيفاً عندنا في البيت. تحدثنا عن الأب حبِّي والخسارة الكبيرة التي حلَّت بفقدانه بهذا الشكل.
في اليوم التالي، توجهنا إلى مطرانية اللاتين في الصويفية، فعلمنا أن جثمان الأب حبي سيجري نقله من الصفاوي إلى مستشفى البشير في عمان للإجراءات الرسمية.
وكان عصر يوم الأربعاء 20 تشرين الأول، اليوم الفصل، حيث إحتشد العراقيون في كنيسة (دير اللاتين) في منطقة الهاشمي الشمالي، بصلاة خاشعة، بانتظار وصول الجثمان لنقله من ثم إلى بغداد.
كان الموكب بصحبة المطران سليم الصائغ، مطران اللاتين في الأردن، وسكرتير السفير البابوي، فطلب المطران من الأب حداد إقامة القداس وصلاة الجناز. وهكذا جرت المراسيم بخشوعية حميمة، وإرتجل الأب حداد كلمة تأبين بليغة، حيث تربطه والأب الراحل زمالة دراسة وكهنوت لأكثر من ثلاثة عقود داخل وخارج العراق. وفي الختام، دار الجمع حول الجثمان توديعاً لصاحبه الكريم، الذي رافقته شقيقته في الرحلة الأخيرة إلى مقرِّه الأبدي.
ولابد لي من الحديث بعض الشيء عن طبيعة علاقتي بالاب حبّي: فلقد تعرَّفتُ إليه مذ كان في الموصل، وتوطَّدت معرفتنا بالعديد من الأنشطة الثقافية المشتركة. من بينها دعوته لي للمجيء إلى الموصل عام 1990، لتقديم محاضرة في الموسيقى الكنسية.
في الصورة من اليسار: الأب يوسف حبي، الأب فيليب هيلايي، باسم بطرس، وطارق ميخائيل.
ولدى إنتقاله إلى بغداد تم تشكيل تجمُّع ثقافي برئاسته لإقامة الندوات والمحاضرات الباحثة في أمور تخصصية تتصل بتراث الكنيسة شارك فيها نخبة من ثقاة الباحثين.
ثمة محطتين أتوقف عندهما قليلاً: بعُيد رحيل الأستاذ العلامة كوركيس عوّاد، أقام المجمع العلمي العراقي حفل تأبين له، فاستدعاني الأب حبي للمشاركة: قدمتُ ورقةً تناول الجانب الموسيقي في آل عوَّاد.
أما الثانية، وكانت الأكثر إثارةً، فلقد زارني الأب حبي عمان عام 1996، وهو في طريقه إلى بيروت وروما وباريس؛ أعلمني بأنه سيعود إلى عمّان بعد ثلاثة أسابيع. فعرضتُ عليه تنظيم محاضرة له، فكان وضع المخطط الأولي لها بعنوان (الخلود في أدب وادي الرافدين). وتم الإتفاق مع مؤسسة عبد الحميد شومان (دارة الفنون) الكائنة في (جبل اللويبدة) التي تربطني بهم علاقة ثقافية متميزة، وتم تقديم المحاضرة في موعدها لدى عودته من سفرته. كان موضوع المحاضرة مثيراً، حتى أن بعضاً من الحضور إندهش لـ (جرأة) رجل دين بالتعرُّض للموضوع في مذهب (يُخالف) ما ورد في (الكتب السماوية) – كذا.
وكان آخر لقاء لي معه، في صيف العام 2000، أثناء زيارتي الأخيرة لبغداد، حيث حضرت مجلس العزاء المقام على روح شقيق المطران جاك إسحق، فكانت فرصة جيدة للإلتقاء بالأصدقاء الخلصاء آباء كنيستنا العراقية والمعارف. وكان الأب حبي قد نزع عنه تماماً النظارة الطبية نتيجة خضوعه لعملية جراحية في العين.
وهكذا كان وداعي لأحبَّتي الآباء، لألتقي بعض من تبقَّى منهم عبر التلفون أو الإنترنيت، والإلتقاء ببعض آخر يأتينا إلى نيوزيلندا. وآخرون في البلاد الأخرى في أوربا وأميركا.
إنّه يوسف (فاروق) حبِّي الذي غادَرَنا بدون وداع إلى دار الخلود بتاريخ 17 تشرين الأول 2000.
|