فنانونا السريان الاستاذ الفنان باسم حنا بطرس يعد الملف خصيصا لموقع بخديدا
حديث الصوَر: الصورة رقم 1
من المبادرات المتميزة للموسيقار حنا بطرس { الدورة الموسيقية الصيفية في السليمانية عام 1947} في حديث عن الصورة المنشورة في هذه الصفحة وضعنا هذه الصورة ضمن الصُوَر التي وثَّقَت موضوعَنا عن الفنان (غانم إيليا حداد). تحدِّثنا هذه الصورة عن مضمونها ومناسبتها. في صيف العام 1947، وبمبادرة من (الأستاذ) حنا بطرس، معاون عميد معهد الفنون الجميلة، ورئيس قسم الموسيقى فيه، وافقت (وزارة المعارف) على إيفاد مجموعة من الفنانين إلى مدينة السليمانية للمشاركة في دورة موسيقية صيفية لمدة شهر. السفر إلى السليمانية: كان معظم الطرق البريَّة في العراق غير معبَّد، لذلك فضَّل المسافرون إستخدام خطوط القطارات الرئيسية الثلاثة، وهي: خط بغداد – الموصل (وهو خط متطوِّر لما يُعرَف بالخط العريض، يتفرع منه خط إلى مدينة سامراء)، يربط العراق بسوريا وتركيا، ليصل المسافر عبره إلى أي مكان في أوربا، حتى لندن. وخط بغداد البصرة (وهو خط متري، بعرض متر واحد، يتفرع منه عند مدينة أور فرع يتجه نحو الناصرية)، وخط بغداد – كركوك (وهو أيضاً خط متري، يتفرع منه عند جلولاء خط ثانٍ يصل إلى خانقين). وبرغم قلَّة عدد خطوط السكك الحديد آنذاك، فلقد كان الناس يجدون متعة في السفر بالقطار الذي كانت قاطراته تعمل على البخار. هكذا كان على الوفد أخذ القطار للسفر من بغداد نحو كركوك، الذي يستغرق ليلةً كاملة؛ ومن ثم إستقلَّ الوفد سيارتَي (باص) كانت في ذلك الزمن تحويراً لشاحنة حمل (لوري)؛ واستقلَّت عائلتا المدير الإداري والفني للوفد (حنا بطرس) والأستاذ البريطاني في معهد الفنون الجميلة (والتر جنكي Walter Jenke) بسيارة صالون (تكسي) لكل منهما. أما الطريق، فكان معبَّداً وضيِّقاً وملتوياً في خط سيره وبخاصة في المناطق الجبلية. توقف الرتل لإستراحة قصيرة في قصبة (جَم جمال) وواصل سيره صعوداً نحو منطقة (طاسلوجة)، وسيارات الباص تلهَث من سخونة الماء في (الراديتر)، وبعدها أخذ الطريق بالنزول تدريجياً نحو سهلٍ منبسِط، ليتراءى من جانبه الإيسر وبالقرب من منطقة (قَه لْيَسان وسِرجِنار) جبل (بيرَه مَكْرون) الشاهق الإرتفاع بصخوره السوداء، الذي يمر بمحاذاته الطريق المؤدي إلى منطقة دوكان. أخذنا بالإنحدار بهدوء لتتراءى أمامَنا " عروسة " مدن الشمال، السليمانية، وهي قابعة بين أحضان ثلاثة جبال: جبل (بيره مكرون) من جهة اليسار، وجبل (دَرْبندي خان) من جهة اليمين، وجبل (إزمِر) خلف مدينة السليمانية: لكأنَّك تضَع موقع المدينة بشكل (شبه جزيرة): ثلاثة جبال تُحيط بها، ومداخل المدينة لا جبل فيها إنما تشكل إمتداداً للسهل. كانت دائرة المعارف في السليمانية قد هيَّأت المبنى الجديد لمدرسة ثانوية الصناعة، وأفرغَت عدداً من قاعاتِه الواسعة التي تم فرش أرضيّاتها بالبُسُط والملاحف لإقامة الأعضاء، وخَصَّصت غرفتين لعائلتَي المسؤولَين. وفي ذات اليوم، جاء مسؤولون في المتصرفية (المحافظة) ومديرية المعارف للترحيب بالوفد، والوقوف على راحته، وتوفير الإحتياجات الضرورية. الدورة الموسيقية: تقدَّم للدراسة في الدورة عدد من شباب المدينة، وكان من بينهم، حسب ذاكرتي، المغني الراحل شمال صائب، المشهور بأداء أغنية (هَرا ليلَي جمهورية، لملحنها الراحل أحمد الخليل)؛ عمل شمال صائب أستاذاً في جامعة السليمانية بعد حصوله على درجة علمية (ماجستير) من إحدى الجامعات في أوربا. والعازف الراحل قادر ديلان (الذي عمل طويلاً في إذاعة براغ، وأجرى معي مقابلة إذاعة عام 1977 عند حضوري مهرجان ربيع براغ السنوي للموسيقى)، أما الآخرين فلا تسعفني الذاكرة بأسمائهم. تلقَّى المتدربون مبادئ الموسيقى في العزف الشرقي على آلات: الكمان (عند جميل بشير وغانم حداد)، والعود (عند يعقوب يوسف، وعازف آخر لا أتذكر إسمه)، والقانون (عند سالم حسين)، والناي والطبلة. وتلقَّى متدربون آخرون مبادئ العزف الغربي على الآلات الهوائية: الترمبيت (عند بطرس حنا بطرس)، والكلارينيت (عند منير الله ويردي وصباح حنا بطرس)، والترمبون (عند شهيم فاضل). إضافةً إلى التدريس، كان الوفد يقيم عدداً من الحفلات الجماهيرية في المدينة. وجدير بالذكر أنْ كان الفنان التشكيلي الراحل إسماعيل الشيخلي، ضمن الوفد، فدرس على يده عدد من الطلبة، وأنجز مجموعة مهمة من اللوحات لمناظر ومواقع من منطقة السليمانية (أنظر اللوحة). شيء من الذاكرة: مناخ السليمانية صيفاً جميل بنسيمه الهادئ، لكن ريحاً قوية، يسمّيها السليمانيون بـ (رَشَبا)، تهب أحياناً، لتقتلع ما يقع أمامها من الأسرَّة الموضوعة على أسطح البيوت، حيث ينام الناس خلال الصيف. أذكر أنَّ إحدى العوائل وهي نائمة ليلاً على السطح، طارَ بها السرير الكبير ليحطَّ على الأرض أمام الدار. ولشربَت الزبيب نكهة خاصة؛ كان الصبيان يجولون في الأزقَّة وهم يحملون دوارق (أباريق) زجاجية مليئة بالشربت، المبرَّد بقطعة من الثلج الطبيعي. وينادون بأعلى صوتهم (شَرْ بَه تي ساه). كان لذيذاً حقاًّ، وخاصةً إذا إقترن شربه بأكلة الكباب في السليمانية، الذي له نكهة خاصة. في أحد الأيام، جاءت السيارات لتنقل الوفد إلى موقع دوكان عند نهر الزاب. فما كان من الشباب إلا أنْ قفزوا إلى ماء النهر يستمتعون بالسباحة فيه، وصيد السمك بواسطة قنابر القناني الزجاجية، التي حين تنفجر داخل الماء يصاب السمك بالإغماء أو الهلاك: لينزل الشباب إلى الماء فييقتنصون السمك باليد. وهكذا عند العودة كان لنا صيد وفير من السمك، تم إعداده وأخذه إلى فرن لشوائه – فاستمتع الجمع بتلك الأكلة. اللقاء مع الشيخ محمود الحفيد: كان الشيخ محمود يتمتع بزعامة روحية وعشائرية وقتاليَّة قائداً لحركات "الشمال". وعبر نجله الشيخ لطيف، إلتقى الوالد (حنا بطرس) الشيخ محمود لمرتين في مقر سكنه، الذي أثنى على الدورة الصيفية وأوصى بتوجيه كل الرعاية والدعم لها. وكذلك أقام الشيخ لطيف وليمة كبرى على شرف الوفد في عزبته بجبل (إزمِر) دعا لها مسؤولي الدولة في السليمانية، من المتصرفية والدوائر ورجالات المجتمع؛ قضَّينا فيها نهاراً كاملاً تخلله الغناء الجبلي، الذي كان من بينه أغنية المطر (وَي وَي با رانا) الشائعة آنذاك. كما جرى التهديف بالبنادق والمسدسات نحو أهداف وُضِعَت على مسافات، فلعلَعَ صوت الإطلاقات. أهدى الشيخ لطيف فرخ كلبٍ (جروٍ) من فصيلة ممتازة، إلى الوالد، فأخذناه معنا إلى بغداد وعاش لدينا ثلاث سنوات. وهكذا كانت البذرة الناعمة الصغيرة التي تم غرسها بين ثنايا تربة السليمانية، أساساً لبُنية التعليم الموسيقي فيها، لتؤتى ثمارها في تشكيلات موسيقية عديدة، وفي المقدمة منها كانت (فرقة موسيقى السليمانية). خــاتمة: في ختام تلك الدورة، تم أخذ هذه الصورة التذكارية، التي نشاهد فيها من اليسار إلى اليمين: الجالسون على الأرض: عازف ناي (*)، باسم وسمير وصباح حنا بطرس (في الوسط، يحملون لافتة مكتوباً عليها " الدورة الموسيقية السليمانية 1947). الجالسون على الكراسي: سالم حسين (عازف القانون)، شهيم فاضل (عازف ترمبون)، بطرس حنا بطرس (عازف ترمبيت)، منير الله ويردي (عازف كلارينيت)، غانم حداد (عازف كمان وعود وطبل)، يعقوب يوسف (عازف عود)، عازف إيقاع، ثم عازف عود (*). الواقفون: الخامس من اليسار، شمال صائب – من طلبة الدورة. الواقفون في الخط الأخير: في الوسط، قادر كيلان (طالب كلارنيت). (*): لا أتذكر أسماءهم. من إرشيف باسم حنا بطرس: أوكلند (نيوزيلندا) 23 تموز 2005 |