عودة لوثيقة بعنوان شيء عن الفرقة السمفونية العراقية في رسالة جوابية. باسم حنا بطرس 2004
في البَدءْ: كان إثنان (فقط)، الله (خالق الكون) والكَوْن (المخلوق منه تعالى).
من هذه المعادلة البسيطة سأحاول الإجابة على رسالتك الرقمية ذات الأبعاد المتنافرة لكنها تصب بمجموعها في بؤرة مركزية تعدَّت جعرافية العراق.
أكان حقاً للأميركان إختراق صلاحية الله في الفعل الأوحد؛ لا أظن أني سأقتنع يوماً بأحقيَّة ذلك؛ إنها ثالثة الإثنين الأوَّلَيْن. ليخوِّلوا أنفسهم صلاحيات السيطرة على العالم بأية فِرية كانت، ووسيلة تحقق مآربهم! فجاءت عولمتهم بالفعل التدميري لشواهد ثقافة الشعوب، كما حالنا في عراق الرافدين.
وإن كان العراق يمثل {خدعةً تاريخية} في كل ما إمتلك ويمتلك من عمق الفكر والثقافة والحضارة، فليس بمقدوري – إذاً – تكذيب الخدعة وإرجاعها إلى حقيقتها
القيثارة السومرية (نسخة غير أصلية)
اليوم، نحن نعيش ضحالة المستوى الفكري التي أفرزتها العَولمة. هذه الضحالة تحيل كلَّ أمرٍ بالشكل الذي تريده العولمة ويريده أسيادها.
مَن كان غير إبراهيم نبياً، ومَن كان غير حمورابي مشرِّعاً، ومَن كان غير العراق بلاداً لبين النهرين؟ وهل سبق للآخرين صنع قيثارةٍ من قبلُ؛ قبل القيثارة السومرية؟
وهل كان غير الآراميين قوماً إحتضن من ثمَّ أنبياء العهدين القديم والجديد للكتاب المقدس؟ ولا أدري نبياً قد يأتيه الجابر العولمي؟
وهذه {الهلاَّت} لا ولن تنتهي: فهي قطرات متدفقة من نبعٍ ما جفَّ بعد، لن ينضب أبداً، رغم جفاف قاعه.
ويأتي {الخوار} بديلاً لرنين أوتار القيثارة والعود ونفير البوق: خواراً لن أقول فيه شيئاً بأفضل من هذه الوصفة. جاء الخوار حين إشتعلت أرض الرافدين برائحة النفط الساخنة. ليأتي معها الغضب النازل على العراق من كل صوب وحدب؛ حتى على يد {بروتس}.
فتكالب {المخوِّرون} من كل حدبٍ وصوبٍ ليُمعِنوا في بدن الرافدين تمزيقاً، وينعموا، بعد أنْ سطوا على آثار البابليين والسومريين والآشوريين ومن بعدهم العرب، بالحارق البترولي. ترى: أكانَ حقاً عليهم وحرُماً علينا؟
وبعـــــــــد ,,,
الفرقة السمفونية الوطنية العراقية (1941 – 2009)
إنها – بدءً – إمتداد لكل حلقات ثقافة بلاد ما بين النهرين، وهي نسيج تكويناتها. بالقدر الذي أنظر فيه تجاه هذه الفرقة العريقة، والتي كان لنا نحن آل حنا بطرس، مع غيرنا، اليد الطولى في تأسيسها وإدامة وجودها وتطويرعملها رسالةً ثقافية متميزة، كونها الكيان الوحيد الذي كان يعتبره كثير من الناس، مسؤولين وعاديين ومثقفين، واجهةً لـ {ثقافة أجنبية} صارت لبوساً لطبقة من نخبة الشعب! ولهذه النظرة أسبابها، فموسيقياً نحن:
- بدو رحَّل أخذنا بالإستقرار الحضري عبر حقب التاريخ المتعاقبة، - وأقوام حضرية بَنَت لها حواضرها على تضاريس أرض العراق، - منفتِحون ومتفتحون على كل مسارب الثقافة، شرقيةً كانت أم غربية، - ولنا، بالتالي، ينابيع ثقافتنا النقية غير الملَوَّثة، المركَّبَة من تلاقحاتٍ نقيَّة أخرى.
من كل ذلك نستنتج ألوانَ فنوننا الموسيقية من الفولكلور الشعبي، إلى الشعبي المديني، إلى المديني الكلاسيكي التقليدي، إلى التلاوة لكل شرائح المجتمع الدينية: كل هذه إنتقَعت وإرتوَت من عمق تاريخ البلاد، وبَنَت عليه إبداعاتها المتواترة عبر مختلف العصور.
ومن هنا نتوصل إلى أنَّ الموسيقى لدينا، شأنها شأن فصائل الثقافة الأخرى، أثَّرَت وتأثرَت وأخذت ومنحَت، فصار لها نتاجات إبداعية إختلف في تقييمها المنظِّرون والناس على حد سواء.
وكما إستسهل الناس تعلُّم اللغات غير القومية، بدءً من لغات شعوب الجوار، وتطلعاً نحو لغات الشعوب الأخرى، وبخاصة الأوربية منها، تقبَّل الناس أنفسهم ما وفَدَ إلى مجتمعاتهم من فنون المعارف الأخرى، لغاتٍ وآداباً وعِمارة وتشكيل، وموسيقى. فصار للمسرح شكسبيره، والفلسفة سارتَرها، وفنون التشكيل بيكاسو_ها، وهكذا دواليك، فأخذ مثقفونا يُفاخِرون بذكر أسماءٍ ذات رنين خاص؛ وصارت أسماء المتنبي وابن سينا والواسطي لا تليق بلبوس الزمن الحاضر. فانغلق بعضُنا في منغلق تراثه، وإنفتح آخرون منا بخَرْق ورق التوت!
من هذا كلِّه، كان العمل في مجال الموسيقى السمفونية في بلدٍ مثل العراق يتطلَّب جرأةً وإقتداراً: الجرأة في المواجهة والإقتدار في العزم. هذه الحال جعلت من رواد الموسيقى السمفونية العراقية (الأوائل منذ أواخر الثلاثينات) ومن تلاهم عبر الاربعينات والخمسينات وحتى يومنا هذا، يواجهون صراعاً بين القبول – مِن بين المتحمسين لهكذا نوع من الموسيقى – والرفض – لدى المتسلطين على ساحة العمل الفني؛ فكان على الفرقة السمفونية العراقية أنْ ترفعَ رايتَها عاليةً وتعمل بشكلٍ فخري تطوعي، رافضةً موقف الدولة التي كانت ترى في مثل هذا النوع من الموسيقى ترَفاً لا يقيت الشعب؛ فمن الموقف الشجاع أنْ شهد العام 1948 تأسيس جمعية (بغداد الفيلهارمونيك) لعناصرها ومشجعيها لتنبثق من رحمها الفرقة السمفونية!
هذا لا يعني تقبُّل الناس لكل ذلك بمستويات متساوية؛ بل أن ثمةَ رفضٍ وعدم قناعة بكثير منها. هكذا كان نصيب الموسيقى السمفونية في العراق، التي صار إعتبارها موسيقى النخبة
هذه الموسيقى، وإنْ كانت نخبويَّة، إستمع لها الناس من حيث لا يدرون، وبشكل عفوي عبر مصاحباتها للأعمال الدرامية، في السينما المصرية، وخلفياتٍ للبرامج الإذاعية ومن بعد التلفزيونية، كتمثيليات الأسبوع الإذاعية لعبد الله العزاوي، وكذلك البرامج الثقافية للشعر والأدب والفنون التشكيلية، والعلمية لكامل الدباغ، والرياضية لمؤيد البدري. كما لم تنجُ منها مقدمات نشرات الأخبار وفواصل الخبر المميَّز.
وقبل هذا وذاك: تلك هي أناشيدنا الوطنية والقومية المبنيَّة على الأسس المقامية والقوالب البنائيَّة لما يُعرَف بالموسيقى الكلاسيكية. وكذلك تُصنَّف موسيقى السلام الملكي والجمهوري مع متغيراته الزمنية، بالصنف الكلاسيكي.
أنقول بعد هذا وغيره أكثر، إنها موسيقى النخبة؟
إنها لكذلك، حيث أنها كواجهة من واجهات النشر الثقافي المتميز؛ كما في الشعر الكلاسيكي، مَنْ يقرأه من الناس؟ منحوتة {الحرية} لجواد سليم في الباب الشرقي لبغداد، مَن – حتى من المثقفين – وقف أمام ناصيتها متمعناً مستكشِفاً فلسفتها، بل ومَن تمكَّن من حلِّ ألغازها وطلاسمها؟ في ذات الوقت، إنها ليست لوحدها بين تلك الواجهات. وهي غير مطالَبة أو مسؤولة لتلبِّ رغبات الناس بمختلف شرائحهم
هذه الفرقة السمفونية الوطنية العراقية، التي ما اتفق حتى اليوم بناتُها الأولون (منذ أواسط ثلاثينات القرن العشرين المنصرم) ولا اللاحقون، ما اتفقوا على بداياتها تأريخياً. نشأت جنيناً في رحم الوجدان، بتشجيع فردي (من خارج الوسط الفني) من لدن قادة ثقافة الثلاثينات والأربعينات، متى عقراوي وفاضل الجمالي {كلاهما من مؤسسي اليونسكو}، ليجدا ضالَّتهم في الدعوة لتأسيس {المعهد الموسيقي العراقي} في بغداد عام 1936، بدفعٍ منهما. المعهد الذي تحول في العام 39- 1940 إلى معهد للفنون الجميلة. في زمن ما كانت المدارس العادية منتشرة ولا الثقافة متسعة، بل كان كل ذلك داخل محيط {النخبة} التي صارت من بعدُ حاملة مشعل النشر الأوسع للثقافة على المجتمع.
إنْ أردنا إنصاف الحال الموسيقية في البلاد، فهي متصلة بوجدان الشعب على إختلاف نِحَله: فهو يتغنى ويرقص ويصنع أداوت موسيقاه بشكل فطري، لا يحتاج إلى إفتعال الحدَث: إنها لديه محراث وجدانه ومحرِّك إنفعالاته.
حسناً فعلت هيئة الفرقة السمفونية الوطنية العراقية أنْ بادرت إلى التحرُّك نحو سلطات الإحتلال لتؤسس لها قدَماً في موقع الحياة، فقامت تلك السلطات باستغلالها واجهةً دعائية لإنسانيتهم - كذا، بأنهم حماة الحضارة، لتعكس بعضاً قليلاً من الوجه الحضاري الرافديني.
وهكذا كان سفر الفرقة السمفونية إلى أميركا لتقديم حفلة هناك، ومن ثم أُسدِل الستار على الفرقة ونشاطاتها التي ما عاد الإعلام مهتماً بها.
ختام السباحة ضد التيار: تُرى ماذا تخبئ الأيام لهذا البلد المعطاء نبوءاتٍ وكراماتٍ وحضاراتٍ وغرساتِ نخلٍ ومياهِ فراتين، وأرضِ آدم؛ الأمل وليس غيره هو مرجل الإدامة. ولكن؟
سألتُ أحد معارفنا في بغداد عبر التلفون عن أخبار النشاط الموسيقي في البلاد؛ أتدري ماذا كان جوابه؟ كان مرارةً أنْ قال: أتريدني أن أضحك؟ حتى الضحك ما عاد بالإمكان ممارسته، حتى نمارس الموسيقى أو الإستماع لها؟؟؟
الساحة حالياً قفر وجفاف ورماد. لن ينفع لمعالجة هذه الحال سيلُ أنواع الكتابات عبر المصنفات الإلكترونية (شبكات الإنترنيت) ومئات الصحف (حالياً 135 صحيفة في بغداد وحدها). فكيف يتنسى للموسيقى أن تنفذ إلى وجدان الناس المنشغلين بالمشاكل الثقيلة الهائلة التي تقلق وتهدِّد حياتهم بالكامل في وضعٍ غير طبيعي تماماً؟
متى ما عادت المحبة، وعاد الصفاء، ونفظت بغداد عن كاهلها غبارَ السياسة والتسيُّس، وعادت إلى "رَشيدها"، عند ذاك فقط نستطيع جميعنا أن ننشد بأعلى أصواتنا صادحين:
بغداد يا بلد الرشيد ومنارة المجد التليد
ما كتبتُه عبر هذه الأسطر إستقراء وجداني من الوثيقة الحية والذكريات قد ينساها الزمن. معزَّزة بصور من إرشف الكاتب.
باسم حنا بطرس من الجيل الثاني لمؤسسي الفرقة السمفونية الوطنية العراقية وقدامى عازفيها.
وثيقة تعود لتاريخ 17 حزيران 2004
اكبس هنا للأنتقال الى الصفحة الرئيسية للأستاذ باسم حنا بطرس
|