عَوْدة ثانية إلى غانم حدّاد وحديث معه عبر القناة الشرقية
قبل بضعة شهور، تحدَّثتُ تلفونياً مع فناننا غانم، وشعرتُ أثناء حديثي معه بحرارة الدموع التي سالت من مقلتيه وهو يستمع إليَّ كمَّن يشغل وقته ليكسر وحشته القاسية. تجاذبنا أطراف الحديث العام، لأستقي منه بعضاً جديداً لكتابة مقالة عنه. وهكذا كان، أنْ نشرتُ مقالتي على موقع بخديدا، وأبلغتُه بذلك ليستمتع بقراءته. واليوم وجدتُ في هذه المقابلة التي أجرتها معه القناة الشرقية، جدوى في إعادة نشرها أمام عناية القارئ، لعلّي بذلك أدعو الآخرين تناقل الموضوع على قنوات النشر الإلكترونية والصحفية الأخرى. إنه غانم إيليا حداد
باسم.
غانم حداد: والدي كان يمتلك صوتاً جميلاً مقدمة البرنامج : شيماء الزبير
· المقدمة:اثناء الحديث معك قبل اللقاء والتسجيل ذكرت لي قصة مقهى،وهي قصة مقهى المحلة؟ · حداد:انا كنت اصغي الى راديو هذا المقهى بعد الساعة يهدأ الشارع وتهدأ الحركة،حيث يعلي الرجل الراديو ،نحن في البيت ليس لدينا راديو في ذلك الوقت بداية الثلاثينات،فكنت اسمع الاغاني العراقية المقام العراقي،الفواصل الموسقية،كنت احبها دون ان يوجهني احد او يؤشرلي شيء فيها،كنت احب قهوة الطرب كما يسمونها في مناسبات رمضانية،وفي رمضان كانوا يحضرون بعض البرامج،الموشحات،المقامات مع الاغاني العراقية،كانت توجد برامج مكثفة تقريبا،فكانت مقهى فعلا منعشة اضافة الى صوت الراديو.
المقدمة:كم كان يبعد المقهى عن بيتك؟ حداد :مئتان متر ليس اكثر او اقل. · المقدمة:في الليل كان الطفل غانم يستمع للاغاني والالحان بطريقة من الممكن لان لا ينتبه لها اي طفل اخر؟اريد ان اتعرف اكثر على مناخ البيت في ذلك الوقت؟وحسب ما عرفت ان الوالد كان يمتهن الحدادة،طيب الحدادة مهنة شاقة واصواتها ليس لها اي علاقة بأي نغمة موسيقية بالاضافة الى هذا كان عدد الاخوة والاخوات كبير اربع اخوة وثلاثة خوات.هذه الجو ما علاقته بالموسيقى؟ · حداد:بالنسبة الى حياتنا لم تكن هناك علاقة بمعمل الوالد،هي علاقة بسيطة،والدي كان يمتلك صوت جميل،عندما يلتقي باصدقائه في معظم المناسبات كنت اسمع غناء ينفرد صديق من اصدقائه،والدي ايضا كان يحفظ المقام العراقي. · المقدمة:كان يحفظه دراسة ؟ام سماعا؟ · حداد:كان يحفظه على السمع،كانت المناسبات كأجتماع عائلي،والدي كان من المحبين للغناء والموسيقى،لديه وجهات نظر،لذلك اشترى لنا صندوق واسطوانات. · المقدمة:كان لديه بذرة في حب الموسيقى؟ · حداد:بالنسبة للوالدة ايضا،كانت تستأنس عند غناء والدي او اي احد منا. · المقدمة:ألم يفكر ان يوجهكم باتجاه العمل في الحدادة؟ · حداد:نعم،فكر كنا نقضي العطل الصيفية في المعمل معه،اخي الاصغر كان عنده هواية ومن ثم قام بفتح معمل للخراطة واستمر بالمهنة وكان يعزف الناي. · المقدمة:اذا السيد حداد رحمه الله والد حضرتك،كان يمتهن الحدادة ولديه اذن موسيقية عالية وصوت رخيم.طيب في هذه الفترة وانت في هذا العمر المبكر هل كان لكولورات الكنيسة دور في هذا الموضوع؟هل طورت جانب معين لديك؟ام لا؟ · حداد:لم نتعامل بهذا الموضوع،يعني فرق انشاد الكنيسة لم تكن تلك الفرق التي لديها امكانيات لتعليم الكورال الكنائسي،لم ندخل بهذا الموضوع.
· المقدمة:كان يحب توظيفكم بطريقة اخرى؟ · حداد:بعد سنة ،اصبح لها امكانية بان تعزف في استعراضات بعض الالوية،في بغداد الى اخره. · المقدمة:ما حكاية الخمسين اغنية التي لولا غانم حداد وفرقة الانشاد العراقية وتلك الانتقاعات التي حدثت في ذلك الزمن،لضاع الجزء الكبير من التراث العراقي؟ · حداد:الفترة من الخمسين الى وسط الخمسينات تقريبا كان يوجد موجة من الفنانين المعروفين مثلا المرحوم رضا علي،المرحوم يحيى حمدي،محمد كريم،عناصر كثيرة غنوا الاغاني العراقية الخفيفة،الاغاني العراقية الاصيلة،التي غنتها مثلا سليمة مراد اصوات نظيفة كانت،فانا فتحت هذا الموضوع مع رئيس المذيعين وقلت له: الاغاني العراقية لم تظل لنا،فقط بقى على الساحة الله يرحمهم زهور حسين ولميعة توفيق،فقال لي فكرة جيدة وقلت له لنفاتح مدير الموضوع لان بامكانه تهيئة مستلزمات القضية كي نسجل قسم من الاغاني،فأختاريت من الموسيقيين قبل كل شيء المرحوم حسين عبدالله وهو عاصر هولاء المطربين القدامى وبعض المغنيين،كونت فرقة انشاد بسيطة من بعض الموسيقيين وسجلت ما يقارب الخمسين اغنية في ذلك الوقت وبعدها اخذ الجقمقجي بها موافقة ونقلها على اسطوانات حيث انتشرت انتشار كبير بالوقت الذي لم يكن للاغنية اي اثر . · المقدمة:كيف تنظر للتراث العراقي الان في ظل العولمة وفي ظل صيحة الطرب الحديث؟وكيف تنظر الى الملحن العراقي الجديد؟ · حداد: الانحراف موجود والاغنية العراقية الاصيلة لا يوجد لها ملحنين اندفعوا او اخذوا تلك السلوكية بالنسبة للموسيقى او الالحان،او اي شيء مقارب،حيث اندفعوا الى الاشياء الحديثة. · المقدمة:اذا هل تعتقد انه هناك في ظل الهجمة لاغاني البوب والالحان التركية والهندية ومختلف انواع الالحان الجديدة التي وردت على اللحن العربي.يعني هل النغم العربي اصبح في خطر؟ · حداد:بلا شك،العراق لا زال محتفظ،المطربين العراقيين حقيقة لا زالوا محتفظين تقريبا بالنكهة العراقية ولكن عندما تخرجين من الوطن العربي،كلا وخاصة بالنسبة للبنان والاردن. · المقدمة:عطيل وشهلاء وسولاف وانس اولادك الاربعة لربما كل شخص بارع في مجال اختصاصه يحسدك عليهم ،لانه دائما الاشخاص يفتقدون ان ابنائهم يمتهنون مهن والديهم اولادك الاربعة بين عازفي بيانو وكمان واورك.اي واحد فيهم تجده اكثر موهبة وتفرد واكثر قربا الى غانم حداد على مستوى الموهبة الموسيقية؟ · حداد:بلا شك هم تربيتهم الفنية لم تأتي عن طريق البيت اي انا،بالصدف تأسست مدرسة الموسيقى والباليه التي احتفظت بالنسبة لثقافة الطالب من الناحية التربوية ومن الناحية الموسيقية،وهذا كان عمل بالنسبة لوزارة الثقافة عملا كبيرا. · المقدمة:وتأسست قاعدة جديدة على مستوى اللحن والموسيقى والاحساس؟ · حداد:جدا حتى ان اذكر في احدى السفرات الطلابية لمدرسة الموسيقى والباليه، سافر وفد من المدرسة الى المانيا عندما عزفوا وهم بهذه الاعمار،وزير الاعلام الالماني في كلامه وقف وقال ان كنت اتصور انا في العراق،هذه شهادة كبيرة ومن ضمن هذه المجاميع اولادي كانوا،عطيل الكبير يعزف بيانو،وشهلاء بالكمان وسولاف على البيانو.اكملوا الدراسة الثانوية والموسيقى في وقت واحد،طبعا عطيل عندما اكمل الثانوية،تم قبوله في احدى الكليات وبعدها ذهب في بعثة الى الاتحاد السوفيتي وكان موفق. شهلة اكملت ثانوية في ذات المدرسة واكملت معهد ادارة وسولاف ايضا اكملت الثانوية واكاديمي التربية الفنية،اما انس فلم يكمل المنهج الموسيقي في مدرسة الموسيقى والبالية،لانه لم يكن مندفع فاخرجته،لكن بعدها فاجأني باندفاعه نحو الموسيقى،فهو يعزف اورك بأقتدار. · المقدمة:نقول انه السيدة لوريس ميشيل رحمها الله رحلت عنك منذ عامين،انت اتيت من بغداد الى عمان؟ · حداد: لكي استقبلها واذهب الى بغداد. · المقدمة: يعني اتيت الى عمان لكي تبقى ثلاثة ايام وتعود والثلاثة ايام اصبحت اربع سنين؟ · حداد:الفترة التي قدمت بها كانت قريبة الى ان العراق اصبح على هذا الحال،هي كانت تحتاج الى علاج،الوضع في بغداد تأزم موضوع المستشفيات موضوع الحالة لذلك فضلنا اكمال العلاج في عمان،وهذه الفترة تأزمت الامور بالنسبة للعراق وبالنسبة الى حالتها والله اخذ امانته. · المقدمة:انت الان وحيد مع انس تعيش في الغربة،لربما قدرات الدنيا جعلتك تعيش بعيد عن بغداد التي عشقتها عشق قيس لليلى؟ · حداد:بالضبط،اصدقائي ومعارفي هم اكيد سيقدرون ظروفي عندما يسمعونني،اتمنى من الله ان يعطيني الصحة،كي اكمل رسالتي في الحياة،وانشاء الله تعم الموفقية لبلدنا العزيز وشكرا. · المقدمة:لك طوال العمر والصحة.
غانم إيليا حداد
حلاوة النغم، والمعشر أنس غانم حداد يكتب عن أبيه من موقع (http://www.anashaddad.com)
غانم حداد
تعليق لكل فنان من فنانينا الكبار، أمثال غانم حداد موضوع بحثنا اليوم، سِفر كبير يتطلب لملمَة تفرعاته الصغيرة في سبيل التوصل إلى إطار من الصيغة التكاملية للبحث. وعليه، فإني إذ أعرض هذه الصفحة وأضيفها إلى سابقتها، فمن أجل إستمرار البحث والتدقيق والإضافة النوعية. أشكر أنس على ورقته هذه، ونأمل الحصول على المزيد. باسم حنا بطرس أوكلند في 2 شباط/فبراير 2005.
إستهلال باسم حنا بطرس: أوكلند 12 كانون ثاني 2005
.. وأنا أشاهد وأستمع إلى خماسي الفنون الجميلة من على شاشة (كردسات) الفضائية، بتشكيلته التي ضمّت كلاً من غانم حداد (للكمان)، سالم حسين (للقانون)، روحي الخماش (للعود) حسين قدوري (للجلو) وإبراهم الخليل (للإيقاع)، سرحتُ بذاكرتي نحو كل فرد من هؤلاء، وكأني جالس معهم أترنَّم بترانيم التراث الموسيقي العراقي التي يؤدّون، وأتحسس الأنغام الصادرة عن آلاتهم بحلاوتها ووجدانيتها، فوجدتُها خير فرصة للشروع بالكتابة عن (أبي عطيل) غانم حداد.
إسترسال تمهيدي لن أتردد في الكتابة عن شخصية لامعة في ميادين الحياة كما في ميدان الموسيقى في العراق؛ ولن أتخوف من ذلك، لسبب بسيط إنَّ مَن أكتب فيه هو غانم حداد. غانم حداد إسمه الكامل غانم إيليا حداد، من عائلة بسيطة عشقت الموسيقى من حيث لا تدري، سوى أنها وجدت نفسها في بئرٍعميقةٍ مكتنزة بالصوت العذب والنغم الجميل. كلُّ " صوتٍ بابتهاج " ينتشر في جنبات الدار البغدادية البسيطة التي كانت تسكنها هذه العائلة بكامل أفرادها، وينتشر في أجوائها ملحة العيش الهادئ الحالم. لكن غانماً، كان الأكثر بين أشقائه بريقاً في لمَعانٍ هادئ. بريقه تمثَّل في أناقة الهندام، وسامة الوجه، رشاقة القَوام، ملاحة المعشر، عفوية البساطة والتواضع. إنه الإبتسامة الدائمة. ترجم كل هذه الملامح عبر النغمات الشفافة الواضحة التي تترنم بها أوتار كمانه، ودفق عوده، ووقع إيقاعه على الطبول. عرفتُه شخصياً من بين عددٍ من طلبة الموسيقى في المعهد الموسيقي المؤسَّس في بغداد عام 1936 (معهد الفنون الجميلة فيما بعد)، ، تلامذة درسوا الموسيقى على يد الوالد حنا بطرس.
فقد إلتحق غانم كعازف طبلٍ في جوق موسيقى الفتوَّة للآلات الهوائية الذي كانت تشكيلته أول وجبة للدراسة في المعهد منذ 1937. حتى كان العام 1939 عند مجيء الأساتذة الأجانب والتحاقهم بالعمل في المعهد. لينتسب غانم لدراسة العود في المعهد على يد (الشريف محي الدين حيدر – الذي كان موسيقاراً بارعاً لآلتي العود والجلو، تركي الجنسية من أصل حجازي، ينتسب إلى العائلة المالكة الهاشمية).
الدورة الموسيقية الصيفية في السليمانية عام 1947 يظهر الفنان غانم حداد الى يسار الفنان حنا بطرس وكذلك درس آلة الكمان الغربي على يد (أنيس جميل سعيد – فرنسي الجنسية من أصل تركي، الذي كان عازفاً مجيداً وقائد أوركسترا سمفونية). وهكذا نمت عند غانم تداخلات مازجة بين التكنيك الغربي في العزف، والنغم الشرقي الذي برع فيه أيّما براعة. حتى كان تخرّجه في فرع العود بمعهد الفنون الجميلة بامتياز سنة 1946.في ذات العام إلتحق بقسم الموسيقى بـ (محطة إذاعة بغداد اللاسلكية – هكذا كان إسمها) عازفاً للكمان إلى جانب جميل ومنير بشير وجمال سرّي وحسين عبدالله وغيرهم من الموسيقيين. حصل بعدها على زمالة دراسية في براغ (جيكوسلوفاكيا) لدراسة إدارة وتنظيم الأقسام الموسيقية الإذاعية ونال الدبلوم فيها. عاد في العام 1955 لتدريس العود والكمان (الشرقي) في معهد الفنون الجميلة. كما أنه إستمر كعازف إيقاعات في الفرقة السمفونية العراقية في بدايات عهدها منذ الأربعينات. سافر كثيراً متجولاً في أنحاء العالم لتقديم حفلاته الفنية منفرداً أو بمصاحبة فنانين آخرين. ومن بين أبرز تلك الجولات المبكرة، سفرته المشترَكة أواسط الخمسينات، مع منير بشير إلى تركيا ومنها أوربا. هناك كان لقاؤه الأول مع محطة الإذاعة البريطانية (BBC) في مقابلة وعزف حي على الهواء لكل منهما.
الفنان منير بشير والفنان غانم حداد علاقاته المجتمعية وكما أسلفتُ سابقاً، فإن شفافية غانم جعلت منه شخصية أحبّها الجميع. فبالإضافة إلى الوسط الفني تشكلت له حلقات عاشقة للموسيقى، ضمت نخبة من المثقفين ومن مختلف الإختصاصات، بينهم الطبيب والمهدنس والمحامي والصحفي وغيرهم. فصارت له من هذه التشكيلات ملتقيات مجتمعية شبه منتظمة لتذوِّق الموسيقى. تزوج من عقيلته لوريس ميشيل، التي كانت إلى جانب أشقائها (موريس وشوقي ومانو، وشقيقتها باسمة) من ممارسي الموسيقى بمستوى الهواية. أثمر الزواج عن إنجاب بنتين وولدين، وهم عطيل وشهلاء (عازفا كمان متخرجان في مدرسة الموسيقى والبالية ببغداد)، وسُلافه (عازفة بيانو متخرجة من المدرسة المذكورة) من عازفي الفرقة السمفونية العراقية، وأنَس، الإبن الأصغر. قالوا في غانم حداد لعلّي هنا أورد أفضل ما قيل عن غانم (حسب تقديري) الذي ورد في كتاب (سيرة وذكريات) لمؤلفه المهندس والفنان والموسيقي فؤاد ميشو، حيث أفرد له فصلاً خاصاً بعنوان (مع غانم حداد – الصفحة 278 من الكتاب)، جاء فيه: (أعتقد أنني تعرفت بـ "غانم إيليا حداد" عام 1936 عندما دخل المعهد الموسيقي الذي كان عميده بالوكالة في ذلك العام المرحوم حنا بطرس. كنتُ في تلك السنة أتعلَّم العزف على آلة الكلارينيت في حين كان غانم حداد يدرس العزف على الطبل الصغير. ظهرت صورة غانم مع فرقة موسيقى الفتوّة التي كانت عائدة للمعهد الموسيقي. (التي تجدها مع هذا المقال). ثم يسترسل القول: كان غانم من الطلاب اللامعين في صف العود وذا موهبة فذّة في العزف. وكم كنتُ أتمنى أن يستغل غانم موهبته بصورة فعالة لأني أعتقد أنه لو تم ذلك – حسب إعتقادي – لكان غانم من الموسيقيين العالميين المرموقين. كانت قدرته فائقة في حفظ المقطوعة الموسيقية لدى سماعه إياها لأول مرة. إن قابلية غانم في الحفظ أخَّرته كثيراً في تعلّم قراءة النوتة الموسيقية بصورة جيدة، ذلك لأنه لم يكن يحتاج لقراءة النوتة طالما أنه يتمكن من عزف القطعة بعد سماعها إياها لأول مرة.
غانم اليوم خريف الحـياة إنها صروف الزمن وإرهاصات اليوم؛ ما شاء غانم ترك بغداد التي فاق عشقُه لها عشق "قيس لليلى"، إذ بقي فيها يعيش وحدانية راهبٍ؛ فأبناؤه في الخارج متوزعون بين الأردن وإنكلترا وبلجيكا وغيرها. وزوجته رافقت أبناءها في الخارج لتعود إليها حاملة مرضاً خبيثاً. لم يبق له في بغداد من الخلاّن مَن يسامره سوى بعض نادر منهم، أمثال سالم حسين، الذي هو الآخر يعيش بعض عزلة ذاتية. إني لأتصوَّر غانماً يعيش ذكرياته الثمانينية التي تسجِّل سِفراً ضخماً، فيها العديد من نشاطاته وخلاّنه ومعارفه الكثيرين من كل حدب وصوب الذين أحبهم وأحبّوه، وفيها سِفر مؤلفاته الفنية الموسيقية، وإرشيف جولاته في مختلف أرجاء العالم، وآلاته الموسيقية التي هي اليوم تحَف فنية نادرة. إنه يعيش همسات مناجاتِه لعوده وكمانه وموسيقاه، فتدغدغ أوتارها أنامل أصابعه وينتقل دفقها عاكساً ضربات قلبه. وهي تنساب فوقتها لتحيل صمتها إلى عنفوان النغم. خاتمة بقي أمامي أن أقول، كان هنالك ثلاثة عازفين أكاديميين للكمان الشرقي في بغداد فقط فترة النصف الأول من القرن العشرين المنصرم، وثلاثتهم مِمن درس الموسيقى بلونيها الشرقي والغربي في معهد الفنون الجميلة وتخرجوا فيه، ولكل منهم أسلوبه ولونه الخاص. فلقد كان جميل بشير طالباً في الكمان الغربي درس على يد كلٍّ من ساندو آلبو (أستاذ وعازف كمان بارع من رومانيا)، وأنيس جميل سعيد (أستاذ وعازف وقائد أوركسترا من فرنسا، تركي الأصل). إلى جانب دراسته للعود على الشريف محي الدين حيدر. ويأتي غانم حداد من بعده في هذا المجال، وكما أشرنا إلى ذلك آنفاً. وثالثهم هو فؤاد ميشو، الذي درس وتخرج في فروع الكلارينيت، والعود، والكمان الغربي. ومن هذا الواقع نشأت ظاهرة عزف الكمان بالأسلوب الشرقي ومن ثم صار تدريسها بشكل متخصص في معاهدنا ومدارسنا الموسيقية في العراق في ما بعد. إنه غانم حداد
باسم حنا بطرس
تنويه المعلومات مستقاة من وثيقة القسم الموسيقي لمعهد الفنون الجميلة الصادرة في نيسان 1979، من إعداد الموسيقار فريد الله ويردي. إضافة إلى الإرشيف الخاص بالكاتب.
|