أمل بورتر *عبق من الأعماقاحتفالية الحضارة الاشورية
ارض مرمرية وجدران كونكريتية تباعد بينها أوتلمها احيانا مساحات من مرايا أ و زجاج نوافذ، مساحات واسعة وقاعات مملوءة بما يحكي عن ما تم وما مضى، منها قد نستخلص عبراً او نستشف ما حدث ، تبهرنا او تحيرنا ، تنغلق علينا مفاهيمها أو تبدو واضحة مفهومة لنا رغم إنها قد تكون عصيةً على غيرنا. كيف يكون لثور جناح وله خمس قوائم؟ وكيف كتبوا على الطين؟ ولِمَ جعلوا أبراجهم شاهقة عاليه تلامس النجوم؟ ومن يستطيع أن يقيم حواراً مع رافد لدجلة يستفسر منه عن مساره ومتى سيلتقى أرض وماء العراق؟ وأين هو كلكامش فعنده نبته الخلود و شوشان تريد نبته الحياة لطفلها المقتول، ولكن النبته عند الجد الكبير أتونبشتم؛ كيف لشوشان أن تجد أتونبشتم؟ وتصدح الموسيقى بعنفوان وصخب، وأحيانا تهفت وتتناغم بهدوء مع أنفاس الجمهور، تُعيد بالمستمع إلى أجواء خَلَت ومر عليها حقب واعوام ضاع حساب ايامها وشهورها وواعوامها و حتى قرونها، ولكن الحنين هو الحنين،يلتهب ويزيد من لوعة الفراق لكل من حضر امسية احتفالية الحضارة الاشورية في المتحف البريطاني، ولكل من لا يتسائل عن اجنحة وقوائم الثور ويحاور رافد دجلة ويطلب من كلكامش نبته الحياة وطفل مقتول. فكل من هؤلاء قد عاش واستنشق وتشبع بماء الفراتين، وتنسم ريح صبا نينوى، وتمرغ برحيق تراب ارض سندسية ملؤها السوسن ،وبنفس الوقت عانى وقاسى وكابد مكابدة العاشق الموله وما زال قتيل العشق اياه. أقضّى ساعات مملة في القطار اهفو فيها لحضور امسية احتفالية اشور، تعود بي نسمات هبَّت عند وقوف القطار في محطة، الى ايام الطفولة والصبا حينما كنا نترجم صوت عجلات قطارات السكك الحديدية العراقية الى جمل حسب اتجاه القطار، فقطار الناصرية تصدح عجلاته بكلمات جا شكو جا شكو،! وقطار البصرة يقول ِكضني كضني! وقطار الموصل يردد بقه زي بقه زي!، وقطار كركوك يحيرنا نحن الصبية والصبايا ترى كيف نترجم اصوات عجلاتة هل هي هي بشلاما بشينا بشلاما بشينا ام هي جوك اي جوك اي أو جوني كاكا جوني كاكا !؟، لو حدثت هذا القطار الانجليزي عن اصوات القطارات العراقية هل سيفهمني ام أضم حيرته الى حيرة المتسائل الانكليزي عن الثور المجنح وقوائمه الخمسة؟ اجلس في الصف الاخير لانني اريد ان احتوى الجميع بنظراتي، العود والطبلة والقانون وبقية الالات الموسيقة مستلقية على ارضية المسرح، تنتظر يداً ماهره لتعبث بها وتحييها لترسل نغمات وتترجم كلمات الى الحان، ويعتلي المسرح امين المتحف البريطاني الّذي يعرف العراق وقد خبره وعمل هناك، ويتحدث وانا اتطلع لينهي كلماته المقتضبة لاستمع الى صوت العراق ينبعث من تلك الالات الموسيقية الغافية بحنان على ارضية المسرح. ويعتلي المسرح زميل شارَكْنا انا واياه في احياء صوت السلام في العراق عبر ورش عمل ومؤتمرات، ويتحدث بصوت اشور ولغه عتيقة عتق العراق، ويتلفظ بكلمات اليفه على مسامعي ولكنني لا افهم اغلبها وتهرب منها كلمات مثل شلاما وعتيق ولبيي ودمي بلكنه ولهجة تبتعد عن لغتي العربية وتقترب منها بالصوت والروحية والمنبع،، ويعلن عن اسماء المشاركين من جمعيات وافراد مثل نغم ادور موسى ومنيرة ادي وجورج هومي وحبيب موسى ونعوم فائق، وبيث نهرين اسماء تستقر في ذهني بكل دعة وهدوء لأن مسامعي قد احتظنت مثيلاتها سابقا. تغني منيرة ترتيلة احادية بنغمة لا تبتعد عن المقام العراقي كثيرا بصوت يشدو واطرب له مثلما كنت اطرب لحسن خيوكة وليوسف عمر في المناقب النبوية او مقاماتهم العراقية.
تمتلي الصفوف التي امامي بجمهور متعطش لسماع لغة والتمتع بلحن يعيده لارض الاجداد عبر ذكريات اليمة مرة علقمية ، ولكنها ذكريات ارض تشبعت بدماء الاحبة وتمرح في سماواتها ارواح الاجداد وترنو النفس اليها رغم كل شئ. وأحاول ان اجد من يمثل العراق في احتفالية العراق ويخيب ظني ولا استغرب فان من يمثل العراق هنا يعيش بعيدا بعيدا جدا في متاهات لا اعرفها*!. الفضول يدفعني لمعرفة مَن مَوَّل الاحتفالية ورفع اسم اشور وبابل وبغداد والعراق ودجلة والفرات ونينوى، فلا اجد ذكراً لمؤسسة رسمية او غير رسمية عراقية، بل اجد هيئات متواضعة بامكانيات محدودة مثل الجمعية الاشورية في المملكة المتحدة والمجلس الاشوري في شيكاغو ومؤسسة الدعم الاشوري في انكلترا، فقط ثلاث مؤسسات بالكاد مواردها تسد نفقاتها ، مولت امسية يحيها طيف مغمور بروح الانتماء للعراق، رغم ان الحكومة بكتاب رسمي تصف هذا الطيف بالجالية لا ادري ان كان الوصف نتيجة جهل او غباء او تعمد ، دعونا لا نطلق الاتهامات ونعامل الجميع بحسن نية ونقول انها غلطة وانْ كانت غلطة الشاطر بألف فماذا عن غلطة حكومة منتخَبة! تصدح الاصوات ، كورال من هولندا نساء ورجال بزي موحد وصوت واحد يردد نغمات تعود الى اعوام سحيقة مضت ولكنها مفعمة بحنان وخشية الرب تعقبهم نغم ادور موسى لتردد اغنية السلام واصمت يا قلبي واغنية في المتحف حيث تصف رجلاً من اشور العظيمة يدخل متحفا ليجد ان امبراطوريته التي اكتسحت العالم القديم اصبحت مادة متحفية، ويسترسل في احلامه وامنياته لعودة المجد لاشور وبابل ولكنه يصحو على واقع اخر، ويتذكر صوت جورج همي مأساة سميلي واعوام 1933 المرة ، ولكن اغنيتة الاخيرة تحكي عن الثور المجنح وكيف يحمى نينوى وكل الوطن، ويعزف جورج على الكمان الحاناً عربية وعراقية ويتحمس الجمهور ويشاركه التصفيق مراعياً الالتزام باللحن، ويعتلي المسرح حبيب موسى ليستفسر من رافد صغير عن مساره ومتى سيمر بارض العراق ويلتقى دجلة الخير، وهكذا تستمر المناجاة ما بين شوشان ليماسو وكلكامش واوتونبشتم والجرح الكبير لموت طفل كان املاً فخبَى. الامسية مشحونة بالعواطف والانفعالات قدمت لنا ما يستحق الثناء، ولكن كنت احلم بان اجد امامي صورة ملونة بازياء اشورية تسحر الناظر وتثير اهتمام المشاهد وتعيدني انا بالذات الى ايام المهرجانات الشعبية ايام الرابع عشر من تموز عام 1958، و الى ايام طفولتي في كركوك حيث كنت امرح واسرح بين الوان الازياء المثيرة والجميلة ، لا ان اجد امامي من يمثل عظمة اشور مرتديا زيا اوربيا ابعد ما يكون عن تراثي واحاسيسي. كنت اتمنى لو شاركت في الاحتفالية اطياف اخرى من العراق لتتنوع الخيارات وتبدو كباقة زهور جميلة، فأرض اشور احتوت الجميع وارض العراق ستبقى تحتوي الجميع، لانها مشبعة بعبق من الاعماق.
امل بورتر
* بريطانية الجنسية مولودة في العراق- بغداد من اب انجليزي من مدينة كارلايل -كمبريا وأم عراقية عربية · اختصاص في الفن وتاريخ الفن من بريطانيا بغداد وموسكو· حاليا منسقة بين عدد من الجامعات والكليات البريطانية وتجمعات دراسية وجامعات مختلفة لغرض الدعم الفني والتقني والمالي والتبادل الثقافي.· حاضرت عن تاريخ الفن والفنون التطبيقية في كلية التربية الفنية في جامعة السلطان قابوس مسقط عمان.· حاليا عضو الهيئة التدريسية قسم الفنون التشكيلية في الجامعة الحرة امستردام هولندة وأيضاً مستشارة حول العلاقات الفنية – الثقافية للأقليات العرقية وترويج الوعي الفني الثقافي. · شاركت في هيئة استشارية حول قضايا المرأة في لجنة وزارية بريطانية 2002 · عملت في المتحف العراقي ببغداد لمدة اربع عشرة سنة · باحثة في الفنون التشكيلية تنشر في الدوريات والصحف العربية بحوث ومقالات: ابواب، مزوبوتاميا، نزوى والمدى والاغتراب الادبي، طريق الشعب والصباح، بغداد والمؤتمر والفنون، الثقافة الجديدة الوطن وعمان الخ · ستصدر لها الكتب التالية قريبا عن دار فضاءات في الاردن / كتاب العراق ما بين حربين 1915- 1945(سيرة ورسائل سيرل بورتر) / رواية نوار ماتت. ورواية سوسن وعثمان ، على خلفية مذابح الاشوريين والارمن مطلع القرن الماضي والاميرة البابلية باللغتين العربية والانجليزية والطبعة الثانية من رواية دعبول البلاّم . · شهادة تقديرية من سلطنة عمان عن بحث عنوانه مساجد مسقط وتناغمها مع البيئة · اقامت عدة معارض تشكيلية في بغداد بيروت لندن فيينا مسقط نيوكاسل · فازت بالجائزة الالفية عن بحث حول دور المرأة وتاريخها في تخطِّي وحلِّ الازمات، الحرب الاهلية اللبنانية كدراسة ميدانية. · كتاب ترجمة وبحث لاشعار لاوتسه الحكيم الطاوي الصيني نُشر في الثقافة الاجنبية · شاركت في ورشة عمل فنية في مدينة مالمو السويدية حول المهاجر والعطاء الفني · شاركت في عدة مؤتمرات دولية منها مؤتمر الفن والجمال والقُبح جامعة نورثا مبريا ، مؤتمر الفن في خدمة البيئة نيوكاسل ، محكمة النساء بيروت ، مؤتمر المرأة المهاجرة والفن جامعة كراتز النمسا والمكسيك، مؤتمر الفنون الشرق اوسطية والفن الاوربي برشلونة ومؤتمر المثقفين العراقين في العراق . · تُلقى محاضرات عن الفن وتاريخ الفن بدعوة من جامعات ومؤسسات وجمعيات مختلفة عراقية واجنبية وعالمية عضو الهيئة الادارية لعدد من منظمات المجتمع المدني في بريطانيا. ملاحظة: تم دعوة السفارةالعراقية لحضور الاحتفالية ولكن كما متوقع تم تجاهل الدعوة من قبل السفارة.
|