تعقيب من الفنان قارئ المقام المبدع حسين الاعظمي
اخي الكريم الاستاذ باسم حنا بطرس رعاك الله والعائلة الكريمة بمناسبة حديثك عن الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري ، اهديك القصيدة كاملة ً اقتطعتها من كتابي الموسوم ، (الطريقة القندرجية – نسبة إلى شيخ المقام العراقي رشيد القندرجي) في المقام العراقي واتباعها الصادر في بيروت شباط عام 2007 عن طريق المؤسسة العربية للدراسات والنشر .. عدد الابيات بالكامل 165 بيتا في صيف عام 1961 اقام الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري وعائلته في مغتربه جيكوسلوفاكيا مضطراً حيث كان يمرُّ بأزمة نفسية ، ونظم قصيدته الشهيرة (يادجلة الخير) في شتاء عام 1962 وذاع صيتها في الآفاق ..
يا دجلة الخير حيّيتُ سفحَكِ عن بُعــــدٍ فحيـِّيني يا دجلةَ الخيرِ يا امَّ البســــــاتينِ حييَّتُ سفحكِ ظمآنا ألــــــوذُ به لـــــوذَ الحمائمِ بين الماء والطين يا دجلةَ الخيرِ يا نبعاً افـــــارقُهُ على الكـــــراهةِ بين الحينِ ولبحين إنِّي وردتُ عيونَ الــــماء صافيةً نبْعا فنبْعا فما كــــــانت لترْويني وانتَ يا قاربا تلْوي الريــــاحُ به لَيَّ النســــــــائمِ اطرافَ الافانين ودِدتُ ذاك الشِراعَ الـرخص لو كفني يُحاكُ منه غداةَ البين يطــــــويني يا دجلةَ الخيرِ قد هانت مطـــامحُنا حتى لأدنى طمـــــاحٍ غيرُ مضمون اتظْمنينَ مَقيلاً لي سواســـــيةً بين الحشائشِ او بين الريــــــاحين؟ خلْواً من الهمِّ إلا همَّ خـــــافقةٍ بين الجـــــــوانحِ اعنيها وتعنيني تهُزُّني فأُجــــــاريها فتدفعُني كالريح تُعجِل في دفع الطـــــواحين يا دجلةَ الخيرِ يا اطيـــافَ ساحرةٍ يا خمرَ خابيةٍ في ظلِّ عُــــــرْجون يا سكتةَ الموتِ يا إعصــارَ زوبعةٍ يا خنجرَ الغدرِ , يا اغصــــانَ زيتون يا أُم بغداد من ظرفٍ ومن غـــنَجٍ مشى التبغددُ حتى في الدهــــــاقين يا امَّ تلك التي من (ألـــفِ ليلتِها) للآنَ يعبِق عِطرٌ في التـــــــلاحين يا مُستَجم (النُّواسيِّ) الذي لــبِستْ به الحضارةُ ثوبـــــا وشيَ(هارون) الغاسلِ الهمَّ في ثغرٍ وفي حَـــببٍ والمُلبسِ العقلَ ازيــــــاءَ المجانين والساحبِ يأباه الزِّقَّ ويُكــــرِهُه والمنفِقِ اليومَ يُفــــــدى بالثلاثين والراهنِ السابِريَّ الخزَّفي قـــدحٍ والملهِمِ الفنَّ من لهوٍ افـــــــانين والمُسمعِ الدهرَ والدنيا وســاكنَها قرْعَ النواقيسِ في عيد الشعـــــانين يا دجلةَ الخيرِ ما يُغليــكِ من حنَقٍ يُغلي فؤادي ومــــا يُشجيكِ يشجيني ما ان تزالَ سيــــاطُ البغي ناقعةً في مـــائك الطُهرِ بين الحين والحين ووالغاتٌ خيولُ البغي مُصــــبِحةً على القُرى آمنــــــاتٍ والدهاقين يا دجلة الخير ادري بالذي طفــحت به مجــــــاريك من فوقٍ الى دون ادري على ايِّ قيثارٍ قد انفـــجرت اتغامُكِ السُمر عن أنَّـــــات محزون ادري بأنكِ من ألفٍ مضـــتْ هدَرا للآن تَهْزينَ من حكم الســــــلاطين تهزين ان لم تزلْ في الشرق شاردةً من النواويس ارواحُ الفــــــراعين تهزين من خصْبِ جنَّات مــنشَّرةٍ على الضفاف ومن بؤس المـــــلايين تهزين من عُتقاءٍ يوم ملــــحمةٍ اضفوا دروعَ مطاعيمٍ مطـــــاعين الضارعين لأقدارٍ تحِـــــلُّ بهم كما تلوَّى ببطن الحـــــوتِ ذو النون يرون سودَ الرزايا في حقيقـــتها ويفــــــزعون الى حدْسٍ وتخمين والخـــائفينَ اجتداعَ الفقرِ ما لهمُ والمُفضلينَ عليه جــــــدْعَ عِرنين واللائذينَ بدعوى الصـــبر مَجْبنَةً مُستعْصِمينَ بحبلٍ مـــــنه موهون والصبرُ مـــا انفكَّ مرداةً لمحترِبٍ ومستميتٍ ومنجـــــــاةٌ لمِسكين يا دجلة الخير والدنيــــا مُفارَقةٌ وايُّ شرٍّ بخيرٍ غـــــــيرُ مقرون وايُّ خيرٍ بلا شرٍّ يلقِّــــــحُهُ طهرُ المــــلائك من رجس الشياطين يا دجلة الخير كم من كنز موهـبةٍ لديك في (القُمقُم)المسحــــورِ مخزون لعلَّ تلك العفاريتَ التي احتُجِــزتْ مُحمَّلاتٌ على اكتـــــــاف (دُلفين) لعلَّ يوما عصوفا جارفـــا عرِما آتٍ فتُرضيك عقبـــــــاه وترضيني يا دجلة الخير ان الشعرَ هــدْهدةٌ للسمع مـــــــا بين ترخيمٍ وتنوين عفوا يردِّد في رَفهٍ وفي عــــلَلٍ لحن الحيــــــاة رخيِّا غيرَ مَلحون يا دجلة الخير كان الشعرُ مُذْ رسمتْ كف الطبيعةِ لوحـــــا (سِفرَ تكوين) (مزمارُ داودَ) اقوى من نبـــوَّتهِ فحوىً وابلغُ منهــــــا في التضامين يادجلة الخير لم نَصحب لمــسكنةٍ لكن لنلمِسُ اوجــــــــاعَ المساكين هذي الخلائقُ اسفارٌ مجــــسَّدةٌ المُلهمون عليهــــــــا كالعناوين اذا دجا الخطبُ شعَّت في ضمائرهم اضواء حرفٍ بليل البـــــؤس مرهون دينٌ لِزامٌ ومحســــودٌ بنعمته من راح منهم خليصــــــا غيرَ مديون يا دجلة الخير مــــا ابقيتُ جازيةً لم اقضِ عنديَ منهــــا دَيْنَ مديون ما كنتُ في مشهدٍ يَعنيك مُتَّهــــما خبَّا وما كنتُ في غـــــيبٍ بظِنِّين وكان جُرحُكِ إلهـــــامي مُشاركةً وكان يأخذُ من جُرحي ويُــــعطيني وكان ساحُكِ من ســـاحي اذا نزلت به الشدائـــــــد اقريه ويَقريني حتى الضفادعُ في سفحيـــكِ سارية عاطيتُها فاتنــــــاتٍ حبَّ مفتون غازلتُهنَّ خليعـــــاتٍ وان لبست من الطحــــــالب مزهوَّ الفساتين يا دجلة الخير هلاَّ بعــــضُ عارفَةٍ تُسدي إليَّ عـــــلى بُعدٍ فتَجزيني يا دجلة الخير مَنِّيني بعــــــاطفةٍ وألهمينيَ سُلـــــــوانا يُسلِّيني يا دجلة الخير من كل الأُلى خبَـــروا بلوايَ لم ألفِ حتى من يـــواسيني يا دجلة الخير خلِّي المـــوجَ مُرتفعا طيفـــــا يمرُّ وإن بعضَ الاحايين وحمِّلــــــيه بحيثُ الثلجُ يغمرني دفءَ(الكـوانين) او عطر (التشارين) يا دجلة الخير يـــا من ظلَّ طائفُها عن كل مـــــا جَلَتِ الاحلام يُلهيني لو تعلمين باطيـــــافي ووحشتِها ودِدتِ مثــــلي لو انَّ النومَ يجفوني اجسُ يقظـــــانَ اطرافي اعالجها ممـــــا تحرَّقت في نومي بآتوني واستريح الى كــــــوبٍ يُطمئننُي ان لبيس مـــا فيه من ماءٍ بغِسلين والمِسُ الجُدُرَ الدَكنـــــاءَ تخبرني ان لســـتُ في مَهْمَهٍ بالغِيل مسكون يا دجلة الخير خلِّينـــي وما قَسَمتْ لي المقــــــاديرُ من لدغ الثعابين الطالحاتُ فما يبعثْنَ صــــــالحةً ولا يُبعْثرنَ إلا كلَّ مــــــــأفون والراهنـــــاتُ بجسمي يَنْتَبشْنَ به نبشَ الهوامِ ضريحــــا كلَّ مدفون واهاً لنفسيَ من جمـــعِ النقيضِ بها نقيضَه جمــــــعَ تحريكٍ وتسكين جنبا الى جنب آلامٍ اقطِّـــــــفُها قطفَ الجياعِ جنى اللـــذات يزهوني واركبُ الهــــولَ في ريعانِ مأمنةٍ حبُّ الحيـــــاِةِ بحبِّ الموتِ يُغريني ما إن ابــــالي أصاباً درَّ ام عسلاً مريٌ اراه عــــلى العلاَّتِ يرضيني غولاً تسنَّمتُ لم أســـــأل اكارعَه الى الهوى ام على الواحــات ترميني وما البطــــولاتُ اعجازٌ وان قنِعت نفس الجبــــانِ عن العلياء بالهُون وانَّمــــــا هي صفوٌ من ممارسةٍ للطرئات وإمعـــــــانٍ وتمرين لا يولدُ المرءُ لا هِـــــرَّاً ولا سَبُعاً لكن عصــــــارةَ تجريبٍ وتلقين يا دجلة الخير كــ،م معنىً مزجتُ له دمي بلــــحمي في احلى المواعين ألفيته فرطَ ما ألـــــوي اللواة به يشكو الامرَّينِ من عـسْفٍ ومن هُون أجرَّه الشوكَ ألفــــــاظٌ مُرصَّفةٌ أجرَّها الشـــوكَ سجعٌ شِبهُ موزون سهِرتُ ليلَ (اخي ذبيان) احضُـــنه حَضنَ الرواضـــعِ بين العتِّ واللين اعيدُ من خلقهِ نحتــــا وخَضْخضَةً والنجمُ يَعجَب من تلك التمــــارين حتى اذا آض ريَّان الصِبـــا غَضِرا مهوى قـــلوبِ الحسانِ الخرَّدِ العين اتاح لي سُمَّ حيَّاتٍ مُرقَـــــــطةٍ تَدبُّ في حمـــــأ بالحقد مسنون فهل بحسبِ الليــالي من صدى ألمي أني مَضِيغَةُ أنيــــــابِ السراحين الآكـــــــلين بلحمي سُمَّ أغرِبةٍ وغصَّةً في حـــــلاقين الشواهين والســـاترين بشتمي عُرْيَ سوأتِهم كخَصفِ حـــوَّاءَ دوحَ التوتِ والتين والعــــائشين على الاهواء مُنزلةً على بيـــــــانٍ بلا هَديٍ وتبيين والميِّتين وقد هيضت ضمــــائرهم بواخـــــزٍ معهم في القبر مدفون صنَّـــــاجةَ الادبِ الغالي وكم حقبٍ بها المــواهبُ سيمَت سَوْمَ مغبون ومُنْزلَ السِوَرِ البــــــتراء لاعِنةً مَن لم يكن قبــــلها يوما بملعون جوزيتَ عنها بــــما انت الصليُّ به هذا لَعمري عطـــاءٌ غيرُ ممنون !! ماذا سوى مثل ما لاقيتَ تـــــأمُلُهُ شمُ العـــرانين من جُدْع العرانين حامي الظغـــــائن لا حمدٌ ولا مِقةٌ وقد يكون عــــزاءً حمدُ مظعون لمن؟وفيمَ؟ وعمَّـــــن انت محتملٌ ثِقْلَ الدَّيــــات من الابكار والعُون ويا زعيمــــــا بأن لم يأته خبرٌ عمَّـــــا يُنشَّرُ من تلك الدواوين لك العمى ومتى احتجَّتْ بـــأن قَعَدتْ عن المــــوازينِ اربابُ الموازين بل قد مَشتْ لكَ كالاصبــــاحِ عابقةً وانت تحذرهــــا حذرَ الطواعين كفرتُ بالعلم صِفرَ القلب تحمـــــله للبيع في السوق اشباهُ الـــبراذين كانت عبـــــــاقرةُ الدنيا وقادتُها تأتي المورِّقَ في اقـــصى الدكاكين تلمُ ما قـــــد عسى ان فات شارِدُهُ عنها ولـــو كان في غيَّابة الصين لهفي على امَّةٍ غــــاض الضميرُ بها من مدَّعي العلـــمِ والاداب والدين موتى الضـــمائرِ تُعطي الميْتَ دمعتَها وتستعينُ عــــــلى حيٍّ بسكِّين لابُدَّ معجِلةلإ كفُّ الخـــــــرابِ به بيتٌ يقوم على هذي الاســـاطين جُبْ اربُعَ النقد واسأل عن مـــلاحمها فهل ترى من نبيغٍ غــيرِ مطعون وقِفْ بحــــيثُ ذوو النَّزعِ الاخير بها وزُرْ قُبورَ الضحـــايا والقرابين ترَ الفطاحلَ في قتــــــلٍ على عمدٍ همُ الفطـــاحلُ في صوغ التآبين مِن ناكرٍ عَلَمــــــاً تُهدى الغواة به حتى كأن لم يكن في الكاف والنون او قــــــارنٍ بإسمهِ خُبثاً وملأمةٌ مَن ليس يوما بضبْعيهِ بمقـــرون تشفيَّاً إنَّ لمحَ الفكر منطـــــــلقا قذىً بعــــين دعيِّ الفكر مأفون عادى المعـــــاجمَ وغْدٌ يستهين بها يُحصي بـــها(ابجدياتٍ) ويعدوني شلَّت يداك وخاست ريشةٌ غفلــــت عن البـــلابل في رسم السعادين يا دجلة الخير ردَّتني صـــــنيعتَها خوالـــجٌ هُنَّ من صنعي وتكويني ان المصائبَ طوعا او كراهـــــيةً أعدْنَ نَحْتي كمــــا أبدَعْنَ تلويني أرينني أنَّ عندي من شوافِعِهـــــا اذا تــــــباهى زكيٌ ما يزكِّيني وجَبَّ شتى مقـــــاييسٍ اخذتُ بها مقيـــاسُ صبرٍ على ضُرٍّ وتوطين وراح فضلُ الذي يبغي مبـــــاهلتي نعمــــى تعنِّيه من بؤسي تعنيني يا دجلة الخير شكـــوى امرُها عجبٌ إنَّ الذي جئت اشكــو منه يشكوني ماذا صنعتُ بنفسي قــــد أحقْتُ بها ما لم يُحقْهُ بـ(روما)عسفُ (نيرون) ألزمتهــــا الجِدَّ حيثُ الناسُ هازلةٌ والهـــزلَ في موقفٍ بالجدِّ مقرون وسُمْتـُها الخسفَ اعدى ما تكــونُ له وامنعُ الخسفَ حتى من يعـــاديني ورحتُ اضمي واسقي من دمــي زُمرا راحت تُسقي أخــــا لؤمٍ وتُظميني وقلتُ بالــــــزهدِ ادري انَّه عنَتٌ لا الزهدُ دأبي ولا الإمساك من ديني خَرطَ القتــــــاد امنِّيها وقد خُلقتْ كيمــــا تنامَ على وردٍ ونِسرين حراجةٌ لو يُرى حمدٌ يــــــرافقها هــــانتْ وقد يُدرَّى خطبٌ بتهوين لكنْ رأيتُ سِمـــــاتِ الخيرِ ضائعةً في الشرِّ كاللثغِ بين السينِ والشين ما أضيعَ المـــاسَ مصنوعا ومنطَبِعا حتى لـــــدى اهلِ تمييزٍ وتثمين يا دجلة الخير هــــل ابصرتِ بارقةً ألقت بلمحٍ على شطَّيــــكِ مظنون تلكمْ هي العمــرُ ومضٌ من سنى عدمٍ ينصبُ في عـــدَمٍ في الغيبِ مكنون يا دجلة الخيـــر هل في الشكِّ منجلياً حقيقةٌ دون تلـــــميحٍ وتخمين؟ ام خولطت فيــــــه اوهامٌ واخيلةٌ كما تخــــالطت الالوانُ في الجُون أكاد اخـــرج من جلدي اذا اضطربت هواجسٌ بين ايقــــــانٍ وتظنين اقول لم كنزُ قارونٍ وقد عَـــــلِمتْ كفَّايَ أن ليس يُـــجدي كنزُ قارون اقول ما كنزُ قارونٍ فيــــــدمَغُني أنَّ الخَصــاصةَ من بعض السراطين اقول ليت كفافا والكفـــــــافُ يه رُحبُ الحيـــاةِ وأقواتُ المساجين أقولُهنَّ وعندي علــــــمُ ذي ثِقةٍ أنْ ليس يُؤخـــــذَ علمٌ بالاظانين وإنما هي نفسٌ همُّ صــــــاحبها أنْ لا تُصدِّق مــــدحوضَ البراهين لم يوهب الفكرُ قـــــانونا يُحصِّنه من الظنونِ ومن سُخف القـــوانين يا نـــــازحَ الدارِ ناغِ العودَ ثانيةً وجُسَّ أوتــــــارُه بالرِفقِ واللين لعلَّ نجوى تــــــُداوي حرَّ افئدة فيهـــــا الحزازاتُ تَغلي كالبراكين وعلَّ عقبى منـــــــاغاةٍ مُخفَّفةً حمَّى عنــــاتر (صفينِ) و(حطين) ويا صدى ذكريــــاتٍ يستثرن دمي بِهزَّةٍ جمةِ الالــــــوان تعروني اشكو المرارةَ من إعنــــاتِ جامحةٍ منها الى سمحةٍ بــــرّ فتُشكيني مثلَ الضرائــــرِ هذي لا تطاوعني فأستريحُ الى هــــــذي فتُؤويني ويا مَقيلا على غربيِّها أبــــــداً ذكراهُ تعطِـــفُ من عودي وتلويني عُشُّ الاهازيجِ من سَجــــعي يُردِّدها سجعُ الحمـــامِ وترجيعُ الطواحين وسِدرةٌ نبعُها خضدٌ وســــــاقيةٌ وبــــاسقُ النخلِ معقوفُ العراجين ومُسْتَدقُّ صخورٍ من مـــــآبرها رؤىً تظلُّ على الحــــالينِ تُشجيني من انمل الغيد في حســــن تُتمِّمه فإنْ تعـــــــرَّتْ قمن انياب تنِّين يا مجمعَ الشملِ من صـحبٍ فُجعتُ به وآخـــــــرٍ رُحتُ أبلوه ويبلوني يا نسائمَ إصبــــــاحٍ تصفِّقُ لي ندى الغصـــــون بليلاتٍ وتسقيني ويا رؤى أُصُلٍ نــــشوى تراوحني ويا سنى شفقٍ حلــــــوٍ يُغاديني ويا مَداحةَ رملٍ في مخـــــاضتها راحت أُصيبِيةٌ تلــــــهو فتُلهيني وضجَّةٌ من عصـــــافيرٍ بها فَزعٌ على أكِنَّتها بين الافــــــــانين ومنطقٌ ليس بالفصحى فتــــفهمُه يوما وما هو من حسٍ بملحــــون وانت يا دجلة الخيـــــرات سِعْليةٌ قرعــــاء نافجةُ الحضنينِ تعلوني لا ضيرَ كـــــلٌّ اخي عُشٍّ مفارقُه وايُّ عُشٍّ من البـــــازي بمامون ويا ضجيعَي كرىً اعمى يلفُّهمــــا لفَّ الحبيبين في مطـــــمورةٍ دون حسبي وحسبُكمـــا من فرقةٍ وجوىً بلاعجٍ ضَرِمٍ كالجمــــــر يكويني لم أعْدُ ابوابَ ستـــــينٍ وأحسبني هِمَّاً وقفتُ على ابـــــواب تسعين يا صاحبيَّ اذا ابصرت طيفَكمـــــا يمشي إليَّ على مهـــــلٍ يحييني اطبقتُ جفنــــاً على جفنٍ لابصُرَه حتى كـــــأنَّ بريقَ الموتِ يُعشيني إني شممتُ ثرىً عنفـــــاً يضمُّكما وفي لُهاثيَ منــــه عِطرُ (دارين) بنوةً وإخاءً حـــــــلفَ ذي ولعٍ بتربةٍ في الغد الـــــداني تغطيني لقد ودِدتُ وأســــرابُ المنى خُدعٌ لم تَسلمـــــان وان الموت يطويني قد مِتُّ سبعينَ موتاً بعد يومِكمــــا يا ذلَّ من يشتري موتـــــا بسبعين لم أقوَ صبرا على شجوٍ يُـــرمِّضُني حرَّانَ في قفصِ الاضـــلاعِ مسجون تصعدتْ آهِ من تلقــــــاء فطرتها واردفت آهةٌ اخــــــرى بآمين ودبَّ في القلبِ من تــــامورِه ضرمٌ ما انفكَّ يثلــج صدري حين يُصليني
محمد مهدي الجواهري، صعد قمَّة المجد بمَلَكَته الفكرية والأدبية والشعرية، ليُصبح أيقونة أسطورية في الشعر العربي. عرفتُه لأول مرَّة حين صعد سلَّماً في مدخل جسر الملك فيصل الثاني، جسر الأحرار، ليؤَبِن شقيقه جعفر الذي سقط شهيداً أيام (وثبة كانون) سنة 1948. ثم قرأنا عنه الكثير. ورأيتُه آخر مرَّة في أواسط الثمانينات في مقهى (صوفيا) في العاصمة الجيكية براغ، يقرا الشعر وقد تحلَّق حوله جمهرة من الشابات والشباب الجيكي، وإن كانوا لا يعرفون ماذا يقول. وكان من أواخر أعماله قصيدة (يا أيّها الملك الذي) موجَّهة إلى ملك الأردن الحسين بن طلال، وقام الملحن المصري (عمّار الشريعي) بتلحينه وتم إنشاده من قبل جوقات الكورال)، فحصل على تكريم الأردن له. إليكم هذه المتابعة عن حياة وعطاء الجواهري للكاتب الأديب فاروق شوشة، منقولاً بإذن من مجلة (العربي) في عددها المرقم 522 الصادر في مايو (أيار) 2002.
جمال العربية الجواهري ودجلة الخير يمثل الجواهري في ديوان الشعر العربي الحديث, أكبر عاصفة شعرية حملتها القصيدة العمودية طوال قرن كامل من الزمان, وعلى امتداد عمر الجواهري (1899-1997). أكثر من ثلاثة أرباع القرن العشرين وشعر الجواهري سجل حافل بكل الفورات السياسية والتقلبات الثورية في العراق, وفي الوطن العربي. والتحم شعر الجواهري بهذه الأحداث العنيفة مدّاً وجزراً ثباتا وتقلّبا, وأصبحت قصائده المواكبة لها منارات تضيء لعشاق الشعر والوطنية والقومية معا, الشعر في نموذجه العالي الذي تتردد من خلاله أصداء شعراء العربية الكبار: المعري والمتنبي وأبي تمام والبحتري والشريف الرضي وغيرهم من أصحاب القامات الكبرى, يحاذيهم الجواهري ولا يتخلّف عنهم, ويجاوزهم بمذاق العصر وفتنة المغايرة والقدرة الفذة على إبداع الصورة الشعرية في منمنماتها, وتنويعاتها الإيقاعية, ونَفَس شعري هو الأبعد مدى وغاية, بالنسبة لأقرانه الكبار من شعراء العصر: الزهاوي والرصافي في العراق, بدوي الجبل وعمر أبي ريشة في سوريا, الأخطل الصغير بشارة الخوري وأمين نخلة وسعيد عقل في لبنان وشوقي وحافظ ومطران في مصر. وبقدر ما تغير بحر الشعر العربي, وتدفقت فيه موجات شعرية جديدة بدءا برواد الحداثة الشعرية في العراق: السياب ونازك والبياتي وبلند الحيدري, وحركات المد الرومانسي التي برزت منها في مصر جماعة الديوان وجماعة أبوللو ثم جاءت حركة الحداثة الشعرية في مصر مساوقة ومؤازرة لنظيرتها في العراق, تغير المشهد الشعري كله تغيرات قاطعة وحادة, ظل الجواهري صوت القصيدة العمودية الأكبر, خاصة بعد اختفاء بدوي الجبل وعمر أبي ريشة والأخطل الصغير والبردوني من هذا المشهد, وامتلائه بشعراء التفعيلة جيلا بعد جيل, وصولاً إلى قصيدة النثر. هل جنت السياسة بتقلّباتها على الجواهري, حين تقلب معها - أحيانا من النقيض إلى النقيض - في داخل الوطن, وعبر المنافي: العربية والأوربية في باريس وبراغ ودمشق - التي دفن فيها في ختام اغترابه ومنفاه الطويل المرير -, أم أن ممارساته المتعاقبة للعمل الصحفي, وللنضال السياسي هي التي أكسبت شعره حرارته وتوتره ولغته الحادّة الواخزة, فجعلت منه شاعر الجماهير العراقية والعربية, يخرج من السجن ليدخله من جديد, وتصادر صحيفته ليصدر أخرى بعد قليل, وقدّر لشعره أن يتلوّن بنزف جراح النضال والحرية, وأن يتشكّل دوماً باحثاً عن فضاء أرحب, وأفق لا يُظل ظلما ولا طاغية. قصيدة الجواهري بنيان ضخم, أبهاؤه تتردد فيها أصوات تذكّرنا بهتفات الشعر العربي في تجلياته العظيمة, ذابت في صوت الشاعر, وحملت سمته وملامحه, وسكب فيها من عُرامه وعنفوانه وحُميّاه, من فتوّته وعناده الصخري وكبريائه, وجذور يقينه الضاربة في أديم (النجف الأشرف) في العراق, وثقته في قدرته على الوفاء بمطلب الجماهير في الشعر, حين تلتفت إليه الأعناق مع كلّ حادث يحدث, أو مهرجان يقام. في هذا البنيان الضخم, لن نفتقد النفس الشعري الممتد, تتقطع أنفاسنا - نحن قرّاءه ومستقبليه - وهو في كامل توهجه واقتداره. ولن نفتقد القافية المحكمة التي لا نشكّ في أنها خُلقت لتسكن هذا البيت من القصيدة. ولن نفتقد هجومه الكاسح على شاغل القصيدة ومفجّرها في وجدانه, ليعتصره من كل زواياه وأطرافه, وليستصفي أنضر ما يقذف به منجمه المتخمّر, وأفتك ما يتفجّر به بركانه الثوّار بحُمم الشعر وشظاياه الحارقة. وأشدّ ما يفجّر الأسى في قصة الجواهري التراجيدية, صوته بعيداً عن دوالّ عشقه ورموزه الباقية في العراق ودجلة والفرات وبغداد والنجف, والأهل والصحب, ورائحة الشوارع وظلال البيوت ومذاق الهجير والزمهرير. هذا العشق الذي تجسّده واحدة من روائعه وآثاره الشعرية الباقية, هي قصيدته (يا دجلة الخير) التي يقول ديوانه إنها نظمت في شتاء عام 1962, وكان الشاعر يمر بأزمة نفسية حادة, إثر اضطراره إلى مغادرة العراق هو وعائلته, والإقامة في مغتربه في تشيكوسلوفاكيا, وكان ذلك في صيف 1961. نشر قسم منها لأول مرة في جريدة المستقبل في فبراير 1963 بعنوان: رائعة جديدة للجواهري (يا دجلة الخير) وقالت الجريدة في تقديمها: (رائعة الجواهري الجديدة جاءت كمعظم روائعه الشعرية فريدة ممتازة شامخة الذرى, تلمس فيها الطبيعة الإنسانية في ثورتها وهدوئها, في آلامها وأفراحها, في تحرّقها وحنينها إلى ما تصبو وإلى ما حرمت منه بسبب من الأسباب.
إنك تلمس في هذه الأبيات المتلاحمة شوق الجواهري إلى
وطنه. إلى دجلته,
وإلى ضفافها واصطفاق أمواجها, وتحسّ خلال استعراضك
للقصيدة كيف يتصل الجواهري بألف
سبب وسبب بما في هذا الشعب العظيم وبحاضره ومستقبله) يقول الجواهري
* * *
* * *
* * *
-----------------
(1)
الأفانين
والأفنان: الأغصان.
فاروق شوشة
|