الاخ ميسر بهنام المخلصي
متى هو احد الانجيليين الذين يقدمون لنا بشارة الله بصيغة قد لاتختلف في عمقها ومعناها عن باقي الانجيليين لكننا لا نستطيع أن ننكر بأن لها طعما خاصا وذات مدلولات خاصة مرتبطة بكنيسته والجماعة التي يوجه لها كتابه ,اليهود المؤمنين بيسوع المشيح الداودي الآتي. فالايرادات التي يقدمها ليست منتخبة عشوائيا وإنما هي مرتبطة بنبؤات التناخ (الكتاب المقدس العبري ) ربما لايورد النص بكامله ولكنه يكتبفي ببعض الآيات المؤثرة او الاكثر دلالة وقوة في صياغتها وتعبيرها. وهذا مانجده من بداية كتابه " هذا نسب يسوع المسيح ابن داود ابن إبراهيم " (متى1 : 1 ).
لم يشأ الكاتب في انجيل الطفولة أن يقدم لنا تقريرا مفصلا حول ميلاد المسيح كي يشبع فضولنا, بل إنه ينقل لنا ايمان كنيسته من خلال نظرة لاهوتية. الجماعة الاولى تؤمن بان المولود الاتي هو من سلالة داود التي لن تزول الى الأبد (2صم 7 :12 ــ 13 ) . ودوامها مرهون بعهد الله الملك من جهة واستعداد الانسان للمشاركة بهذه الديمومة من جهة اخرى. فليس غريبا على متى ان ينطلق من البشارة ليوسف ليظهر هذا المشيح الداودي القادم, انه ينطلق من الانسان المدعو لاحتضان الخلاص الالهي رغم الشك والقلق الذي انتاب يوسف حالما تبين له إن مريم حبلى . لكنها بشارة الملاك ...الدعوة الى رسالة, وهذه البشارة لاتقل شيئاً عن بشار الملاك للعذراء في انجيل لوقا (لو1 :28 ـــ 38 ). فبينما يقدم لوقا خبرالميلاد من زاوية مريم نجد متى يقدمها من جهة يوسف, الذي يكون دوره قبول العذراء واعطاء الاسم للطفل المولود(متى 1 : 21 ). هذا الاسم ليس غريبا عن ذهنية متى الكتابية كونه غير بعيد عن البيئة اليهودية , فهو متوغل في التاريخ, انه يعود بنا الى بدايات مسيرة الله مع شعبه, يعود بنا الى البرية, الى يشوع بن نون الذي يخلص الشعب ويعبر به الى الارض التي وعد الله لهم بها (يش 1 : 2 ), الخلاص المرهون بالابتعاد عن الخطيئة والثقة بيهوه للوصول الى الارض التي تدرُّ لبنا ً وعسلاً, يوؤل الى تحقيق الملكوت المُعد بيسوع المشيح الداودي, حيث لاتعود الارض تشكل غاية الخلاص بل يصبح الحضور هو النتيجة. الله حاضر وسط شعبه كملك, ليس هناك من بعد اي سلطة اخرى غيره, وهذا ما قاد الى الاصطدام الدائم بين يسوع والفريسيين المتدينين, ففي تلك الايام كان تصور مشيح يقيم ملكوت الله بخدمة متواضعة للفقير والخاطئ يختلف عن التصورات والانتظارات اليهودية السائدة انذاك. ومثلما لم يكن مقبولا هكذا مسيح عند الفريسيين, لم يكن هذا سهلاً على كنيسة متى الذين أتوا من اليهودية, فلم يغب من قلوبهم تماما الترقب إن مشيحا مجيدا ينفذ الحكم الأواخري على الوثنيين والخاطئين, البعض منهم مازال مشتاق الى المشيح الذي كان المعمدان يترقب هو الآخر مجيئه (متى 3 : 7 ـــ 12 ), كانوا مثل يوحنا يسألون " هل انت الآتي" ( متى 11 : 11 ). يريد متى مساعدة المؤمنين المترددين لكي لايبقوا متمسكين بآمال بشرية مائتة, بل ليكتشفوا بواسطة التناخ إتمام نيات الله الأغنى وان كان اكثر متواضعا وخفيا في يسوع . حقا كان يسوع يغاير المشيح المنتظر ولكنه هو الاتي, كان يتصرف مع الفقراء والمعوزين كما سبق فأنبأ به إشعيا (اش 8 :23 ـــ 9 : 1 , 53 : 4 ) .
"ستحمل العذراء فتلد إبنا يدعى عمانوئيل, اي الله معنا " (متى 1 :23 )
عمانوئيل (الله معنا) هذا اللقب له اهميته في حياتنا كونه ارتباط وثيق مابين الخالق والمخلوق ــ عهد ابدي, الله يربط نفسه بنا من البدء. انه يحمل نفس المعنى الذي حمله اسم الله بين شعبه في سيناء . " فقال موسى لله : اذا ذهبت الى بني اسرائيل وقلت لهم: إله آبائكم ارسلني اليكم فإن سألوني ما اسمه ؟ فماذا اجيبهم؟. فقال الله لموسى: أنا هو الذي هو ". إسم الله ( يهوه) لا يعود من بعد إسماً, انه فعل رباعي يعني أنا اكون معكم دائماً, وهذا يتجاوب وماورد على لسان يسوع القائم من الموت :"ها أنا معكم كلَّ الايام حتى انقضاء العالم " (متى 28 : 20 ), اشعاعات القيامة تنعكس على احداث الميلاد والطفولة, القائم من بين الاموات يدخل سلالة داود من خلال يوسف ومريم, من خلال التجرد والتواضع والقبول . يوسف و مريم نماذج من الاباء وثقو بالله رباً ومخلصاً, وكما تجيب مريم " انا خادمة الرب فليكن لي حسب قولك " (لو 1 : 38 ), يقبل يوسف بالمهمة التي اوكلت اليه من قبل الله (عن طريق الملاك),هذا القبول يكشف معنى رحلة الايمان للاباء والانبياء جيل بعد جيل ... إبراهيم, يعقوب, داود, وإشعيا..... يوسف ومريم يقدمون ايمانهم هذا من خلال ثقتهم الواحد بالاخر, الرجاء بان المولود هو من عند الرب لخلاص الشعوب, من الخطيئة, المرض, العوز, الجهل ........
والآن مايعنينا كل هذا ؟ ولماذا نقف امام يوسف ذلك النجار الناصري الذي يختفي فجأة بعد عودته من مصر دون رجعة, مثلما تختفي مريم كأم بين النسوة اللواتي يتبعن يسوع في طريقه وتعليمه كتلاميذ حتى الصليب, ماذا يهمنا من هذا الصمت العميق اكثر من ان نتعلم كيف نؤمن وكيف نرجو وكيف نثق . أمام اضطراب مريم "كيف يكون لي هذا " (لوقا 1: 34 ) , واضطراب يوسف " فعزم ان يتركها سراً " (متى 1: 19 ). يولد اضطرابنا ايضاً ,نحن لسنا اقل خوفاً وقلقاً منهم, ولكن لنتبصر قليلا. ففي جوابهما , وصمتهما, يجيء الجواب, لمريم " الروح القدس يحل عليكِ " (لو1: 36 ), وليوسف " ...... فهي حبلى من الروح القدس " (متى 1 : 20 ).
لنطرح نحن ايضا أسئلتنا في جو من الايمان ( وانا يارب كيف يكون لي هذا ) مثل يوسف ومريم . في هذا الهدوء العميق يجيبنا الله , الهدوء الذي يسمح لنا ان نصغي الى صوته .لقد ادركت مريم رسالتها كونها مدعوة من الله ويوسف ايضا هو الاخر .. فهل لنا ان نتأمل في هذه الايام قليلا في دعوتنا ... كي تكون رسالتنا بحق رسالة الله, منقادين بالروح القدس, تجاه عوائلنا ... بلداننا والعالم باسره ,رُسل سلام وأمان ... حينها يستطيع طفل المغارة ان يكبر وينمو فينا.
الاخ ميسر بهنام المخلصي روما 17 | 12 | 2005
مريم عند أليصابات
ألاخ ميسر بهنام المخلصي
فقالت مريم "أنا خادمة الرب: ليكن لي حسب قولك "(لو1 :38 ). نستشف من جواب مريم هذا معنى الايمان, انطلاقا من الاباء مرة بعد اخرى نقف أمام هكذا اجوبة , ومثلها مثل نساء اخريات من الجليل واليهودية , شأنها شأن نسيبتها اليصابات . هي من هؤلاء الوضعاء " مساكين الله " حملهم رجاءهم الى رؤية خلاص اسرائيل (شعب الله) . هذا الايمان يجعلنا نحن اليوم ايضا نصرخ مع اليصابات " طوبى لتلك التي آمنت " (لو1 :45 ) .أليست مريم مثل واحدة من امهاتنا التي تقبل طوعا رسالتها في الحياة ..هل كانت مريم واعية الى انها ستلد عمانؤيل ؟ هل نسبت لنفسها اكثر من دور الخادمة " انا خادمة للرب " .هكذا هو الله منذ البدء يختار مرسليه من المتواضعين البسطاء المساكين ...اليس هذا رجاءٌ لنا أن نقف موقف مريم من كل هذا. وهنا يذكرنا لوقا كيف كيف يبتهج يسوع بالروح القدس قائلا:" اشكرك أبتي, رب السماء والارض لانك اخفيت هذه الامور عن الحكماء والفهماء واظهرتها للاطفال. نعم, ايها الاب هكذا كانت مشيئتك " (لو10 : 21 ) . مريم امنا من هؤلاء الصغار الذين انفتحوا لكلام الله وقبلو نعمته . فجاءت كلمة " نعم " قبولا للحياة التي ولَدت فيها . الولادة ...الاجبار على الهرب من مصر للنجاة مع المضطهدين ... النمو في الناصرة ...تدريجيا بدأت تعي رسالتها وهذا كونها قد تشربت من رجاء الانبياء فهي ليست بعيدة عن التوراة .انها وريثة ايمان جميع الذين رافقهم الله في حياتهم , اولائك الذين استسلموا لكلمته ,انها مع ابراهيم ,يعقوب ..وموسى ,حلقة في سلسلة طويلة من الرجال والنساء كلمهم الله, قاطعا بهم صحراء عبوديتهم عبر الحياة ..فوثقوا به ثقة لاحد لها , فما كانت لهم إلا ارض الميعاد حضوراً فعليا لله من خلال علامات ورموز واخيرا حضورا فعليا في شخص المسيح .
هذه الثقة انما هي الحب الذي يمكننا أن نعبّرَ عنه بالنار المحترقة ... يحملنا عبر لهيبه المتصاعد الى الاسراع مع مريم الى جبال اليهودية والدخول الى بيت زكريا واليصابات لنعاين الآية التي اعلنها الملاك "ها قريبتك اليصابات حُبلى بابن في شيخوختها ". مريم متلهفة للتحقق, مسرعة , وفي لهفتها هذه وسرعتها يكمن الجواب على هذا الحب الامتناهي . يحاول لوقا هنا ان يضعنا امام مقارنة متفوقة للطفل يسوع مع المعمذان من خلا حركة الاخير في بطن امه من جهة , ومجيء الاول بحركة انحاء نحو يوحنا من جهة اخرى , وكأن لوقا يستبق الاحداث في هذه الرؤية المكثفة التي ستنجلي حالما يبدأ يوحنا كرازته فيختفي أمام حضور يسوع . "الصوت الصارخ في البريَّة" سيؤول صوتاً "ينادي للاسرى بالحرية وللعميان بعودة البصر والانصاف للمظلومين. معلنا الوقت الذي فيه يقبل الربُّ شعبهُ" .
ألان فقط ندرك مالذي يريده الانجيلي في هذه المقارنة المتفوقة , انه يُجلّي الطابع الكرستولوجي للملك الآتي بل اكثر من ذلك إنه يبرز الوجه الإلهي في شخص يسوع ...الله حاضر كملك وسط شعبه في يسوع . هنا يضع لوقا في فم اليصابات الكلمات نفسها التي نطق بها جدنا داود أمام تابوت العهد " كيف أتجرأ وأُنزل تابوت العهد عندي " (2صم 6 : 9 ) . اليصابات نفسها تُردّد "من أنا حتى تجيءَ إليَّ أُمُّ ربّي ؟" (لو 1 : 43 ) . إن لم ينجح داود في حمل تابوت العهد الذي يمثل حضور الله وسط شعبه في المرة الاولى كونه حَملهُ على مركبةٍ جديدة ( 2صم 6 :2 ) , فانه في المرة الثانية يتعرى راقصاً أمام التابوت ويأمُر بان يُحمل التابوت العهد من قبل اشخاص ," فيصعدون تابوت العهد بالهتاف وصوت البوق " (2صم 6 : 15 ) . هكذا تحمل مريم (اورشليم الجديدة ) تابوت العهد الجديد ( يسوع المخلص ), "العميان يبصرون, والعرج يمشون, والبرص يطهرون, والصمُّ يسمعون, والموتى يقومون , والمساكين يَتلقَّون البشارة , وهنيئا لِمن لا يفقد ايمانه بي " ( لو 7 :22ب ـــ 23 ) .
ولاجل كل هذا تعظم الكنيسة اليوم مريم وترفع اليها الصلوات كون الرب بها اعطى الخلاص للبشرية . وهذا الذي تحمله هو اكثر تجسيدا للحضور الإلهي . ليس المحمول من قبل اشخاص فحسب وإنما اعمق من ذلك الساكن في رحم الطهارة والنقاء, احشاء امنا مريمة حواء الجديدة .
والان كيف لنا أن نستقبل هذا الطفل الذي تحمله مريم ؟ لقد عرفنا من هو هذا الطفل من خلال كل حياته وقد تجلى ميلاده حقيقة في قيامته . ألان فقط نستطيع ان نسمي مريم كما سمتها اليصابات " مباركة بين النساء" . مباركة كونها آمنت بمُرسل الله وأجابته ليكن لي حسب قولك . تعلمت من البداية ان تقبل كل مايمنحه الله وكل مايريده .في قانا نجدها تتخلى مرة اخرى عن سلطتها كأم لتصبح اول التلاميذ " مهما يقل لكم فأفعلوه " (يو 2 : 5 ) , مثلما تخلت سابقا عن كل احلامها مثل اي فتاة بالترتيب للزواج ولوازمه والاطفال ..الخ من احلام مَن في عمرها, لتسير مع الله مسيرته مع شعبه فتكون رحلتها هذه المرة في صحراء التنقل والترحال وهي حبلى الى ان تصل الى ارض الميعاد مغارة بيت لحم هناك فقط تتجلى ابعاد هذه الرحلة في ان تضع ابنها مخلصا للعالم . ونحن ايضا اليوم ما علينا إلا ان نتحلى بها مطيعين, سالكين الطريق نفسه , ومثلما استعادت كلمة الشعب الذي أجاب موسى في جبل سيناء " كل ماقاله الرب نسمع له , ونعمل به " (خر 24 : 6 ). هكذا نحن ايضاً نستعيد حياة مريم ونقول معها عندما يزورنا الله في بيوتنا "نعم " "لو 1 : 26 ).
يارب إن كان ضجيج العالم قد اثقل سمعنا, فإمنحنا هدوء أمنا مريم. يارب إن كان كبرياءنا وغرورنا قد اعمى بصائرنا, فإمنحنا تواضع أمنا مريم. يارب إن كان مجيئك في صمت عائلة فقيرة في ضواحي نائية ,فما هو إلا صرخة حب في قلوبنا, فنكون بحق أبناء واخوة حقيقين .
روما 10 |12|2005
|