تأمل في آلام يسوع

 

اليوم نريد أن نتأمل في كلمات يسوع التي وجهها إلى أبيه السماوي وهو معلق فوق الصليب قائلاً: "إلهي، الهي، لماذا تركتني" هذه هي الجملة الرابعة التي قالها يسوع فوق الصليب قبل أن يُفارق هذه الحياة. وفيها نريد أن نتمعق اليوم لنتقدم ونتهيء للوصول إلى القيامة المجيدة. لقد سمعنا وقرأنا عن هذا الموضوع ولكننا الأن وبصورة خاصة نقف أمام المصلوب لنتأمل في كلماته الأخيرة هذه.

المسيحية بأكملها هي سر مكون من المحبة والألم، وفي غالب الأحيان نجد بأن المحبة تتغلب على الألم كما أن الحياة تنتصر على الموت. المحبة هي عظيمة لأنها تنبع من الله وفيه نحياها.

في أحد الأيام سأل كاهن بعض الشباب عن أكبر ألم قاساه الرب يسوع خلال حياته الأرضية، فأجابوا قائلين: في بستان الزيتون! قال: لا، أجابوا: خلال الجلد، أجاب كلا، ردوا قائلين: متى إذاً، أجاب الكاهن قائلاً: إن اللحظة التي تألم فيها يسوع بشدة أعظم كانت فوق الصليب عندما صرخ قائلاً: "إلهي، إلهي، لماذا تركتني؟ (مت 27: 46)، هنا يطلب من الآب أن يساعده في آلامه ولا يتركه وحده. إنه إبن الله ويجمع في شخصه كل أبناء الله، مبعداً عنهم العزلة الأليمة.

إذا فهمنا حقيقة يسوع المتروك في حياتنا وتفكيرنا حينئذٍ لا أحد ولا شيء يمكنه أن يوقفنا من التقدم في طريق القداسة. من يعرف ويحب يسوع المتروك يشبه البيت المشهور الذي عنه يتكلم الكتاب المقدس، المبني على الصخرة والتي تداهمه الزوابع والفيضانات ولم يتزعزع. هذا لا يعني ان يسوع المتروك يبعد عنا الصعوبات التي نلاقيها في الحياة، لكنه يُحولها إلى محبة حميمة لله لتدخلنا في دائرته المقدسة.

"الهي، الهي، لماذا تركتني"؟ إنها صرخة محيّرة وسرية. إننا نستطيع أن نكتشف فيها محبة الله العظمى. لقد تعلمنا من إنجيل يوحنا وخاصة من رسالته الأولى بأن الله هو محبة، هذا هو اسمه الخاص في العهد الجديد. وهنا في لحظة الترك هذه يتضح تماماً ماذا يعني أن يكون الله محبة. والمحبة الكاملة التي هي عطاء، إنه اعطى لنا كل شيء فعلينا ان نعطي له كل شيء، واذا ما تركنا لنفسنا أيّ شيء فهذا يعني أننا لا نحب. فالمحبة تُقاس بقدر العطاء.

والأن لنتساءل ماذا أعطانا يسوع خلال حياته؟ أعطانا تعاليمه خلال ثلاث سنوات ثم اعطانا جسده في الطعام وفي الالام، وأخيراً أباه كهبة عظمى. فهو يُعلمنا درساً قيماً بأننا لا نستطيع أن نعطي شيئاً مالم نتخلى عنه. ولهذا فإنه يتخلى عن الآب ليعطينا إياه. هذا هو سر يسوع المتروك العميق والعظيم. ولهذا نسمعه يصرخ: "إلهي، إلهي، لماذا تركتني؟".

اليوم ونحن نتأمل في يسوع المسيح المتروك بين السماء والأرض هو المحبة الكاملة والعطاء الكلي، نريد ان نعاهده لنعيش هذه الالام ونقبلها في حياتنا اليومية لنوّحد الامنا مع الامه ونطلب عونه الإلهي. نريد أن نسلم له شبابنا وشاباتنا ليكون معهم أينما كانوا ويحفظهم من كل الأخطار، نسلم له شيوخنا ليسندهم في هذه الظروف الصعبة، نسلم له مرضانا ليشفيهم، نسلم له اطفالنا ليباركهم فينموا بعيدين عن كل الأنحرافات الممكنة في هذه المرحلة من حياتهم، نسلم له كل فاعلي الشر ليُرجعهم إلى صوابهم ويُنير عقولهم لكي ينقلبوا إلى فاعلي خير للبشرية. نسلم له العائلة ليوحدها ويُسعدها ويقويها لتثبت أمام كل الأخطار التي تقاومها وتريد تفكيكها. نسلم له الكنيسة الجامعة ليحرسها ويدبرها ويوحدها. نسلم له وطننا ليرجع فيه الأستقرار ويستتب فيه السلام ويعيش سكانه في الحرية والتآخي والتعاون.

وأخيراً نصرخ معاً قائلين: إلهنا إلهنا لا تتركنا وإذا كنا بعيدين عنك فأرجعنا عاجلاً وبقوة آمين.

 

....................................

 

الأنسان ووجوده مع الآخر

 

في عصرنا هذا وإنطلاقاً من واقعنا هذا نرى ونسمع عن أحداث تقع ضمن البيئة والمجتمع الذي نعيش فيه عن مئات من الأشخاص يموتون لأسباب قد نعرفها او لا، ونسمع عن أشخاص يرفضون العيش مع بعضهم ( أي ان الأنسان يرفض الآخر)، وربما يؤدي به إلى القتل ( الآخر) . نقول هنا إن كان (الآخر) ولد للرفض والموت فهذا ليس صحيحاً وهنا سوف يمتلكه (الآخر) الخوف وسوف يحتل مكاناً في حياته. حيث أن الأنسان سوف لا يقدر أن يُظهر حريته في العيش وسوف يخاف من الآخر لأنه قيد حريته والعكس صحيح.

وإذا قلنا أن الأنسان هو مجرد (بقعة للتجمع) وجدت في مسار يتجاوزها من كل جانب. لكن "كيف يمكن للأنسان ان يكوّن هذه الحياة التي تتجاوز جداً شبكتها وضرباتها وقوتها الدفينة عالم التجربة التي يتلقاها بشأنها؟

 كيف يمكن للأنسان هو نفسه ان يكون ذلك العمل الذي تفرض متطلباته وقوانينه عليه كما لو كانت تمثل وجوداً غريباً عنه كل الغرابة؟ كيف يمكن له ان يكون (ذاتاً) للغة التي أخذت منذ ملايين السنيين تكون بعيداً عنه، وإتخذت لها نسقاً تجاوز حدوده...؟ وان يتخذ لكلامه ولتفكيره مسكناً، كما لو كان الكلام والفكر لا يفعلان شيئاً آخر إلا أن يحركا بعض الوقت بقعة واحدة على هذا الشريط من الممكنات التي لا تحصى؟" وإنطلاقاً من هذه البداية سوف أدخل في صلب الموضوع والواقع الذي نعيشه أنا والآخر في وقتنا المعاصر .

 

إشكاليّة وجود الآخرين...

 

مشكلة ألآخر عند جان بول سارتر (1905 ـ 1980م) إذا ما تعمقنا في مضمون كتاب سارتر "الوجود والعدم" نلاحظ أنه قد وضع فيه قيدين هامين تجاه الحرية. أما القيد الأول فهو واقعة وجودي نفسها، على إعتبار أن وجودي لا يتوقف علي، وأنني لست حراً في ألا أكون حراً. وأما القيد الثاني فهو واقعة وجود الآخر، على إعتبار أن من شأن الآخر أن يحدَّ من درجة حريتي.

ثمة في العالم الخارج عني كائنات تتمتع مثلي بالوعي، وهي تؤلف صنفاً فريداً بين اصناف الموجودات. فما هي علاقاتي الوجودية بها؟ أرى اول وهلة ان هذه الكائنات الواعية، ان هؤلاء الناس، ليسوا إلا اشياء كالأشياء الأخرى. كهذه الطاولة، او هذا هذا التمثال، فهم يبلغون الوجود الحقيقي، في نظري، حين يوجودن لأجلي. فوجودهم إذن متوقف علي، رهين بوعي، وهم مدينون لي بالوجود في عالم أراه عالمي الحقيقي.

          ولكن سارتر يعود فيمجد الأنسان. إذ الأنسان يوجد دائماً خارج ذاته، بأن يصمم ويحقق خارج نفسه إمكانيات وغايات. وليس ثم عالم غير العالم الإنساني، عالم الذاتية الأنسانية. وعلو النسان على نفسه بخروجه عن ذاته لتحقيق إمكانيات خارج نطاقها، هذا ما يسميه سارتر بأسم النزعة الأنسانية.

            وهنا نقطة هامة في مذهب سارتر هي الصلة بين الذات وبين الغير. والغير هو أولاً إنسان، وليس شيئاً؛ والأنسان كائن تنتظم حوله الأشياء التي في العالم. وهذا النسان الآخر ينظر إليّ؛ ولهذا كانت الرابطة الأساسية بيني

 

 سارتر، جان، بول (1905 ـ 1980م)، فيلسوف وأديب فرنسي، أطلق كلمة الوجودية على فلسفته هو دون سائر الفلسفات، وفي عام 1946م مُنح جائزة نوبل ولكنه رفضها، وله أعمال أديبة وفلسفية عديدية منها (الوجود والعدم) و(دروب الحرية) و(موتى بلا قبور) و(الوجودية إنسانية) و(الحظ الخير ... إلخ)

 د. مصطفى غالب، سارتر (في سبيل موسوعة جديدة) منشورات دار وكتبة الهلال، بيروت 1980، ص69.

 بول فولكييه، ت: محمد عيتاني، هذه هي الوجودية، دار بيروت للطابعة والنشر، 1953، ص99-100.

 عبد الرحمن بدوي، درسات في الفلسفة الوجودية، ط3، دار الثقافة لبنان، بيروت، 1973، ص219-220. 

 

وبينه هي في إمكانه أن ينظر إليّ؛ بإستمرار، أي في إمكان أن أكون بالنسبة إليه موضوعاً، فأصبح "موجوداً للغير". وبهذا تفضى نظرة الغير إليّ- إلى أن تجعلني أعلو على علوي، أي تستلب مني العالم الذي أنظمه. فكل ما انا عليه يتحجر تحت نظرة الغير. فالغير بوصفه نظرة هو علو فوق علوي ومن هنا ينشأ جزعي وقلقي على نفسي، إذ أشعر تلقائياً ولفوري أن إمكانياتيمهددة من جانب الغير. إنه بنظره إليّ يشلني، وأنا بدوري بنظري أليه أشله. ومن هنا قال سارتر في مسرحيته "الجلسة السرية" Huis Clos "إن الجحيم هو الغير".فنقول أن العاشق مثلاً يطمح إلى ان يرى ذات المحبوب تتلاشى في ذاته هو. ولكن يوم يتحقق هذا الأندماج، يفقد العاشق شخصية من كان يحب، ويستعيد عزلة "الأنا". ثم أن كان الحب يعني رغبتنا في ان نحب، فهو يعني أيضاً أن يريد الآخر حبنا له. أي أن يكون في حاجة إليَّ؛ إذن فوجود العاشقين هو في تنازع دائم، كأي وجود آخر. وهكذا فالوجود الذي بدأ لنا كأنه النعيم المقيم لو لم يكن ثمة إلا وعي فردي هو أنا، يتحول غلى جحيم وشر، بسبب وجود الآخرين. و "وجودي علة على الآخر" والآخر عالة علي. هذا التعدد في الفرديات الواعية يؤلف الخطأ الطبيعي الذي يبهظ كواهل الناس جميعاً: "سقوطي الأصلي هو وجود الأشخاص الآخرين." "خطيئتي الأصلية هي مجيء إلى وجود يشغله مثلي آخرون."  

          والواقع أنه لما كان الآخر موجوداً، فعلي أن أعيش وجوده، أي أن أقاسم مشاعره وغايته. أن الذي يحس بوجود الآخرين يحس أيضاً بشبه وجود مؤلم. وذلك حين يريد معيشة حياته الخاصة وسط الآخرين. ونحن، باحتباس كل منا في وجوده الخاص، لا نستطيع ان نفهم الآخرين ولا أن يفهمنا الآخرون. ومن هنا نشأت المنازعات والأحكام الخاطئة "وهي لعنة كوننا آخرين".

في مواجهة الأنسان عند الفيلسوف مارتن هيدغر (1889 _ 1976)، لم يعد هناك إله يهديه، ولم يعد هناك قيم ثابته وإختلفت الحقيقة، وأصبح العالم بالنسبة إليه عالماً غريباً لا سبيل إلى معرفته. أصبح الأنسان يواجه لا شيء. يواجه العدم. وفي هذا فأن الوجود سيصبح كل ما يعوز الأنسان كل ما يتطلع إليه ليكون ذاته. وهيدغر يفضل لحظة المستقبل من بين لحظات الزمان في جريانه. وذلك لأننا نتجاوز دائماً نطاقنا لنتجه نحو مستقبلنا. أننا في سباق مع أنفسنا ونخلفها دائماً وراءنا، ونعيش وجودنا بصفة خاصة كمستقبل. ونقدر ان نلخص الفكرة الرئيسية في كتاب هيدغر "الوجود والزمان" في عبارة أخاذة ونقول: "الأنسان هو مستقبل الأنسان".عالم الأنسان عالم بشري يجد فيه المرء نفسه جنباً الى جنب مع موجودات أخرى بشرية مثله. ولا يعني هيدغر نفسه بإثبات وجود "الأخر"، بل هو يمضي مباشرة إلى وصف ذلك النسيج الأجتماعي للموجود البشري بوصفه موجوداً يحيا دائماً مع الآخرين Mitsein "والآخرون" أو "الغير" إنما هم أولئك الذين "أوجد" معهم، و"يوجدون" معي سواء بسواء. وكما أن "الوجود في العالم" هو من مقومات الوجود الأنساني، فكذلك "الوجود في العالم" هو ايضاً من هذا الوجود. ومعنى هذا أن الذات لا تجد نفسها مهجورة قد خلى بينها وبين وجودها الخاص فحسب، وإنما هي تجد نفسها ايضاً في عالم الآخر الذي لا بد لها من أن تتعامل معه وتعيش إلى جواره. وهنا نرى ان نظرية هيدغر التي قد تبدو لأول وهلة ذات نزعة فردية خالصة إنما هي في الحقيقة عيدة كل البعد عن الفلسفات الذاتية المتطرفة، نظراً لأنها تؤكد علاقتنا الجوهرية بالغير فلا تجعل من الوجود البشري مجرد "انطواء على الذات"، بل تجعل منه "وجوداً مع الآخرين"، بل إن هيدغر ليذهب إلى ان شعورنا الفردي نفسه ـ وهو ذلك الشعور الذي قد يوهمنا بأننا موجودون وحدنا دون الآخرين ـ إنما يبرز فوق "أرضية" من الشعور الجماعي. وهذا ما يعبر عنه هيدغر بقوله: "إن (الوجود بدون الآخرين) هو نفسه صورة من صور (الوجود مع الآخرين)"

فالكائن البشري، كما يقول هيدغر، "لا يمكن تعريفه إلا إبتداء من وجوده، أي إبتداء من إمكانيته في أن يكون أو لا يكون ما هو عليه". والوجود الحقيقي للأنسان ليس واقعة، بل هو "الهم" الذي يسيطر عليه في وجوده.

 

المشاركة بين الذوات والتلاقي بين الأنا و"الأنت" من وجهة نظرغبرييل مرسيل ...

 

ثمة مفاهيم أخرى تحتل مكانة كبرى في فلسفة المشاركة عند الفيلسوف غبرييل مرسيل (1898 ـ 1373م)، ألا وهي مفاهيم : الأتصال، والتلاقي، والتفاعل بين الذوات. ونحن نجد مرسيل في الجزء الثاني من كتابه " سر الوجود" يحاول الأستعاضة عن ميتافيزيقا ديكارت القائمة على مبدأ " انا أفكر" بميتافيزيقا أخرى جديدة تقوم على مبدأ "نحن موجودون". يحاول مرسيل أن يحرر نفسه من كل نزعة ذاتية متطرفة أو كل إتجاه إنطوائي محض، مما قد يؤدي إلى القول بذات إبستمولوجية منعزلة أو بـ"أنا" متعالية منفردة. والواقع ان "الآنا ـ فيما يقول مرسيل ـ لا يوجد إلا بقدر ما ينظر إلى نفسه على أنه موجود للآخرين، وبالتالي بقدر ما يعترف بأنه قد أصبح يند عن ذأته أو يفلت من إساره الخاص". ومعنى هذا أن وجود الذات لا ينكشف إلا في إطار من "التواصل الحي" مع غيرها من الذوات. "وكلما نجحت في تحرير نفسي من سجن التمركز الذاتي، تزايد وجودي في الواقع الفعلي". وكل التأملات الميتافيزيقية التي قامت عليها فلسفة مرسيل إنما تستند في الحقيقة إلى هذا الوعي الأولي (السابق لكل معرفة) بوجود "أفق مشترك" يجمع بين ذاتي وذوات الآخرين في وحدة أصيلة لا تقبل الأنفصام. "وأنا لا أشغل نفسي حقاً بالوجود.

إن الأتصال الحقيقي بين الذوات لا يكاد يحدث إلا في لحظات "التلاقي"، بمعنى تفاعل الحياة البشرية يتحقق فيما بين الذوات من خلال أفعال (أو حركات) اللقاء الشخصي وليس من شك في أن ظاهرة التلاقي الشخصي تعبر عن علاقة تختلف إختلافاً كيفياً عن أية علاقة أخرى قد تتم بين الموضوعات الفيزيائية على المستوى الشيئي. ولما كانت "الشخصية" و"الشيئية" ضربين مختلفين تماماً من ضروب الوجود، فإن من الطبيعي أن يقابلهما ضربان مختلفان تماماً من ضروب المعرفة والأدراك. وآية ذلك أنك لا تستطيع مثلاً أن تلتقي بذات بشرية أخرى وكانك تصطدم بشيء او تلتقي بموضوع! ولو أنك إقتصرت على النظر إلى "الآخر" على أنه مجرد "شيء"، لكنت بذلك كمن يحاول التعرف على الشخص في البشرى بالوسائط المجعولة لمعرفة الأشياء. والواقع أن المرء حينما يفكر في "الآخر" بضمير الغائب، أعني بإعتباره مجرد "هو"، فأنه عندئذ إنما يجعل منه "موضوعاً" يحاول ان يتعقله كما يتعقل الطبيعة او غيرها من الموضوعات. وأنا مثلاً حينما أجد أو ألتقي في عربة القطار شخص غريب لا أعرفه، فإنني أنظر إليه، واتأمله من الخارج، وأحكم عليه عن بعد وكان "حضوره" هو نفسه ضرب من "الغياب". ولكن بمجرد ما تنشأ بيني وبين هذا الغريب بعض الأتصالات الشخصية (كأن أعلم مثلاً أنه نازح من بلدتي، أو أننا أشتركنا معاً في معركة واحدة، او أننا إتفقنا معاً على الأعجاب بمؤلف معين أو فنان معروف...إلخ). فهنالك لا يصبح هذا "الآخر" مجرد "هو" أتصرف بإزائه كما لو كان "غائباً" تماماً، بل يستحيل إلى "أنت" أخاطبه بضمير المخاطب، وافكر فيه بإعتباره "حاضراً". ومعنى هذا ان التلاقي الحقيقي هو ذلك الذي تنكشف لنا فيه "ذات" أخرى بوصفها "أنت"، أعني بإعتبارها مركزاً شخصياً للذاتية. ونحن حين نكون بإزاء الشخص المحبوب، فإننا لا نملك أن نجعل منه مجرد "هو" ـ حتى ولو كان غائباً ـ لأننا نفكر فيه دائماً بإعتباره "انت"، أعني أن "غيابه" نفسه هو في صميمه "حضور"! وصفوة القول اننا لا نعرف أية ذات أخرى، إللهم إلا على مستوى "التلاقي" الوجودي.      

 

الخاتمة

 

وأخيراً علينا ان نصل وان نفهم أن كل هؤلاء الفلاسفة كل منهم كان له رأيه ويجب علينا ان نفهم وان لا نقع في خطأ كما وقع الفيلسوف سارتر في قوله (الآخر هو الجحيم)، ويجب علينا أن نفهم أن دور الآخر مهم في حياتي حيث من خلال الآخر أنا اعترف بوجودي أي انا اعرف وجودي، وعلينا أن نفعل نحن الأثنين أي ( أنا والآخر)، فالفعل الأنساني معناه أن يضيف الأنسان أي (أنا وأنت)، إلى العالم شيئاً من ذاته وان يكون له هدف لكي يصل إلى مرحلة من مراحل هذا الفعل ربما تكون نياتنا العميقة ألتي تدفعنا إلى هذا الفعل لهدف معين أي نصل إلى الهدف أو النتيجة المحدودة التي نريدها وألتي حققناها من وراء هذا الفعل وذلك من أجل ان تظهر على ان الأرادة البشرية هي في سباق دائم مع نفسها. وعلى أن الأرادة الدافعة ألتي تدفعني إلى التوجه نحو الآخر هي التي تجعلني لا أهدأ أبداً وذلك من اجل الوصول إلى إتمام هذا الفعل او هذا الدافع الذي يجذبني. فكما أريد أن أشارك في الوجود فواجبٌ عليّ ان أشارك غيري أي (الآخر)، معي في هذا الوجود ويجب عليّ ان أتواصل مع الآخر وهذا التواصل يجب أن لايكون قائم أو مبني على العنف أو على المصلحة الشخصية بل يجب أن يكون قائم على التحاور والأصغاء واهم من ذلك يجب ان يكون قائم على المحبة ألتي أحبنا بها الله.

 

 

 الأخ يوسف يونو الراهب

الرهبانيّة الأنطونيّة الهرمزديّة الكلدانيّة

 

  المصدر نفسه، ص220.

 بول فولكييه، ت: محمد عيتاني، هذه هي الوجودية، دار بيروت للطابعة والنشر، 1953، ص103- 104. 

 المصدر نفسه، ص104.

 هيدغر مارتن (1889 ـ 1976م)، فيلسوف ألماني، يعد أبا للاوجودية الألحادية وله مؤلفات عدة منها:(الوجود والزمان)، (نظرية الحكم في النفسانية) (ما الميتافيزيقا) (ما الفلسفة) (مبدأ العقل) (مسائل أساسية في الميتافيزيقا... إلخ).

 روجيه جارودى، ت: د. يحيى هويدى، نظرات حول الإنسان، ص72.

  د. زكريا ابراهيم، دراسات في الفلسفة المعاصرة ج1، ص431-432.

 غبرييل مارسيل (1898 ـ 1973م)، فيلسوف فرنسي وكاتب مسرحي، وقد قدم عمله الفلسفي إلى العالم  أساساً عن طريق يومياته التي ظهرت في أجزاء ثلاثة (يوميات ميتافيزيقية، الكينونة والملك، الحضور والخلود).

  د. زكريا ابراهيم، دراسات في الفلسفة المعاصرة ج1، ص497_ 499.