لأعزائنا الصغار

رسامات

عيون بخديدا

Museum متحف

أرشيف بغديدا هذا اليوم

فنانونا السريان أعلام

أرشيف الموضوعات

 

 

ناجح المعموري

 

غابة العطر والنايات

الأسطورة والدنيوي

 

قراءة في تجربة شاكر مجيد سيفو

 

الفهرس

1-الاهداء

2-المقدمة

3-نص ريتسوس

4- الدراسة / غابة العطر والنايات

5- الهوامش

6-من نصوص الشاعر

  

لوحة الغلاف :للفنان العراقي :ماهر حربي

   

 

الاهداء

الى صديقي العزيز

الشاعر عادل الياسري اعتزازا وتقديرا
إبداع الآخر

ظل المنجز الإبداعي للقوميات والأقليات هامشاً بسبب الكثير من العوامل السياسية والثقافية ، كما كان للعزلة المفروضة بشكل وبآخر أكبر الانعكاسات على بقاء انجازاتهم بعيدة عن دائرة النقد أو حتى المتابعة البسيطة ، على الرغم من أن الأدباء الكرد يتمتعون بتاريخ ثقافي مهم وكان للشعر تحققات واضحة وأكثر الانجازات وضوحاً وإثارة للدهشة هي ما نشرته الشاعرات الكرديات المتمتعات بحرية اجتما ـ ثقافية ، وعوامل أخرى ، كلها ساعدت على مغادرة الماضي ومخاوفه حيث تبدى التعامل معه باعتباره ذاكرة ثقافية وتخيلات ، وعلى الرغم من وجود أسماء شعرية مهمة في الأدب الكردي لكني أعتقد بأن الشاعرات أكثر إثارة للجدل واختراق المحرم واستهداف المعيش . أما الأدب السرياني فهو الآخر ظل معزولاً بتأثيرات التمركز الثقافي العربي الذي حاول تذويب الأدب السرياني وسط الثقافة العربية . وظلت هذه الأقلية فاعلة منذ تشكلات الحضارة العراقية القديمة وحتى فترة تأسيس الدولة العراقية الحديثة ، ولا يستطيع واحد منا نكران دورهم الفاعل في المجالات الثقافية والتأسيسية . وواجه الأدباء السريان ما عرفه الأدباء الكرد والتركمان حيث ظل التعامل معهم بعيداً عن هويتهم القومية وجرى تذويب تدريجي لهم وسط الثقافة العراقية والكتابة باللغة العربية وهذا ما حصل للكثير منهم .

ما أريد قوله في هذه العجالة أن الأدب السرياني بحاجة الى حركة توجه نحو المتلقي / الآخر للاطلاع عليه واكتشاف قيمته الأدبية وقادتني الصدفة للاطلاع على ما نشره الصديق د. سعدي المالح الذي حفزني على انجاز دراستين حول رواية له ومجموعتين وصدر الكتاب " الفأر يأكل الشوكلاته " عن دار الحوار في اللاذقية ، والصدفة نفسها قادتني أيضاً لقراءة المجاميع الشعرية للشاعر شاكر مجيد سيفو وأنجزت هذا الكتاب ، تعبيراً عن ضرورة التشارك مع أطياف أخرى لعبت دوراً بارزاً في خلق التنوع وتعميق الخصائص المتباينة لكل هوية .

لابد لي من الإشارة إلا أنني مازلت أعمل من أجل انجاز كتاب نقدي عن سركون بولص قاصاً وأتمنى الانتهاء من الكتاب شتاء هذا العام .

تحية للأصدقاء الكرد والسريان وبهما معاً تنوعت هويتنا الوطنية وحتماً ستفضي هذه القراءات نحو تبادل للحوار الثقافي لمعرفة بعضنا البعض الآخر .

أتوجه بالشكر والتقدير للصديق العزيز نبيل الحسيني على صبره معي وهو ينضد لي الكتاب وللأخ الشاعر شكر الصالحي لتصويب المخطوطة من الأخطاء .

 

هذه الارض التي كانت تعطّر شروقات الشمس ،

هذه الارض التي كانت لعم ولنا

-       هذه الارض التي هي دمهم –

  لروحي هذه الارض نا اكى اريجها ؟

فكيف اغلقت عرائشنا ابوابها ؟

كيف خبا النور على السطوح والشجر ؟

ومن يصدّق ان نصفهم صار تحت الارض

والنصف الاخر في الاغلال يرسف ؟

عبّر الاوراق المتكوّمة ، تصبّحك الشمس

عبّر الرايات المتكردسة ، تزهو السماء

وها انب عظهم في الاغلال يرسف

والبعض الاخر صار تحت الامة الارض .

صه ؟ قريبا ستقرع الاجراس .

وهذه الارض التي هي لهم ؟

هذه الارض التي هي

لنا

وهُم

تحت الارض

يمسكون بحبل الجرس بين اذرعتهم المتصالبه ،

ساهرين ليقرعوا اعلان القيامة .

وهذه الارض التي هي لهم ، هذه الارض التي هي

لنا

لن يستطيع احد ان يسلبنا اياها

 

 

 

 

                                                         يانيس ريتسوس

                                                        من ديوان اغريقيات             

 

 

يجد القارئ للشعر السرياني مجاورته للأسطورة واستثمارها بآلية متباينة بين شاعر وآخر ولفت انتباهي الشاعر شاكر مجيد سيفو الذي يتماهى مع أساطيره برقياً ، هو لا يتخندق فيها وإنما يلمّح لها ويحقق اختزالاً شعرياً عالياً . أسطورته التي استقرت دينياً وتمركزت جزءاً حياً في الثقافة اليومية والمزاولات الشعائرية لا يدنو من الأسطورة كلها ، فهو غير معني بإعادة تدوين الأسطورة شعرياً ، بل يستل منها شذرة بسيطة ، ملتمعة ويطلقها في النص ، وهذا يكفيه ، لأنه يريد من النص التماعته الخاطفة التي تترك في روح المتلقي تنسيم الأسطورة وليس عصفها الذي يعيدها إلينا مرة ثانية وبثوب ملون . ويدرك شاكر مجيد سيفو بأن للشاعر أسطورته الخاصة التي يفتح لها الشعر نوافذه ، وتدخل ملمحة بشفرات تتفاعل لتؤسس فضاءً قريباً من الروح وكأنه صياد للطقوس أو منقب عنها ، كاشف لها ومكتشف وظائف جديدة ليحقق وظيفة الشعر بعلاقته مع الأسطورة ، علاقة قائمة منذ البدء من خلال عناصرها التي حازها الشعر وتحول من خلالها الى أسطورة تنزاح وتتحول كلما تجاورت مع غيرها من اليومي / الوقائعي ، فيتداخل الاثنان ويتزاوجان معاً ويذوب اليومي في الطقس ، بحيث يصير طقساً مضافاً لما هو مستعاد في النص ويدنو الطقس من مساحة  أكبر ، هي مساحة الخارجي المنجذب نحو البؤرة الأسطورية التي دائما ما يعلو فيها الصوفي المنفلت من كثير المشاهد التي يرصدها النص ويلاحقها بشباك لا يفلت منها الجمال .

أتوهم بالتغريد

ومن شدة ولعي بالصمت والتغاريد

والنفخ في الناي

تنبت في حلقي ندبة سوداء

ومن شدة ولعي بالصراخ والتغريدات

تنبت في سقف فمي ندبة بيضاء

لكنني أظل اصرخ وأجهش بالزبيب

أريد الزبيب كله ، لأجل أبنائي

وأريد شامتيك ، تتوجان تفاحتيك

وأريد عيني اليمنى بدموعها

وأريد باء البلاد وباء بغديدا وبعشيقة

ولا أريد باء البلطة والبلوى

وأريد باء الرب ولا أريد باء الحرب

وأريد تفاحتيك كاملتين

يا بائي .....   (1)

يلفت الشاعر انتباهنا تدريجياً لما يريده  في النص ، بؤرته ، ويكرر أكثر من مرة ما هو شاغل له يجعله إيقاعا من كثرة تكراره ، ويحيله الى مفردة متمركزة أو حرفاَ يتناغم مع ما هو ذهني لدى الشاعر ، والحروف التي اشتغل عليها ، ربما الكثير منها اعتباطي ، وجزء من لعبة شاكر مجيد سيفو يهوى اللعب وخرق التقليدي أو المألوف ، لكني لم أجد في تكرارات الاستثمار الحروفي دلالة غنوصية ، مثلما في تجربة أديب كمال الدين وأنا اعتقد استعادة تجربة معروفة في الأدب الصوفي وكانت لها  أصول فلسفية وعرفانية لابد وان يحررها من النمط التكراري ، وإضافة بعد أو أبعاد ثقافية / جمالية / فكرية عليها . وأن لا نكتفي بترميز لما هو في الذهن عبر حرف واحد ، هو الصوت أو الفونيم الاختزالي لكنية الكائن والتشويش عليه قصدياً هو غرض الشاعر وهذا ما تأكد لي في نصين كانت البؤرة فيهما حرفي " س " و " ب "  .

يبدو مثلاً " عزف آخر ... قمح في ناياتنا " الحرف في النص بسبب تكرر كلمتي الروح والريح مراراً ، وكان الراء بديلاً لحضورهما الكامل :

أرسلت لها كل مديحي

لكنّها لا تزال تلوب وتتأوه

بين لوعة الروح

وأعمدة الريح 

****

تسأل روحي ، الريح

عن سر الراء الرابضة

بين سماح الروح

وبين شطوط الأرض

وعن اللثغة لحظة ميلاد الروح

فتجيب الريح :

الراء صديقتنا ، أيتها الروح

لا أحد 

يستطيع

أن يجعل زاي ،

فكلانا ينفخ أنفاسه

من قمحه في النّاي

*******

لا شيء يحملني

الى روحي

غير الريح (2)                    

يعرف الشاعر جيداً بأن اليومي / الروحي / الديني مختزن للأسطورة ، ومدرك موقعه في الاتصال بين الجماعة ، بحيث تتحول اليوميات الى بؤر في التراتب الاتصالي بين الجماعة التي تجد وظيفتها في الطقوس ورمزيتها المألوفة والمعروفة ، لكنها تنطوي على طبقات من الزمن والتوظيف ، وتبدو هذه اليوميات رتيبة لكثرة مألوفيتها . لكن القارئ يصطاد منها القليل أو الكثير، فتشع الرمزية في الطقوس لتقدم لنا ما يشبه الأحلام ، وكلاهما الرموز / الأحلام كامنان في عمق الأسطورة وهي رحمية لهما ، ومن هذه العلاقة المتشاكلة مع بعضها تتبلور في النص يقظته المتمردة والفياضة بما تريده الشعرية من مندثرات الطقوس المستيقظة بشكل مفاجئ وهي تستعيد البعيد في الذاكرة الفردية والجمعية بشكل واعٍ أو غير واع . وهنا تبرز من نصوص شاكر مجيد سيفو ظاهرة الاستعادة لما هو غائب / وحاضر ، غائب في مكمنه البعيد وطبقاته ، وحاضر في الآن ولحظته المفاجئة ، كي يتحول من مجهول الى معلوم / معروف عندما يستعيد المختفي ويكرسه في نص له وظيفة خاصة تتحين عبر الانزياح ومن خلال التشكيل بمعناه الفني ، حيث الصورة المجسدة لما هو فردي ، أو جمعي ، ولأن سيفو متخندق بالأسطورة ، فإنه من خلالها يستحضر الروحي / الديني . وأنا أعتقد بأن المسيحية أكثر الديانات تشبعاً بالأسطورة والشعائر . أسطورة الخصب والقربانية وتكاد تكون هذه الديانة تشكيل ثنائي ، لا تبتعد عنه كثيراً ، وتتجاذب معه ولكن بأطياف لونية متباتينة ، لكنها معاً تفضي نحو أسطورة ، هي لنا ، لأنها جزء من ذاكرة ومخيال جمعي صاغ رموزه أو استدعاها للحضور والمثول مرة أخرى ، لتومئ لمزاولة جديدة ليست طقسية / بل هي مدوّنة . ولا فرق بين الطقس والتدوين ، كلاهما يسجلان المخبوء / المدفون عميقاً في ذاكرة لم يستطع الزمن التحكم بها والانغلاق عليها . هنا ينكشف الرمز وتستيقظ طاقته وتتفعل قوته ولا يقوى المبدع على مقاومتها ويسجلها ويمنح هذا الفضاء وجوداً وحياة . أنا أعتقد بأن العلاقة الموجودة بين المبدع والأسطورة بكل عناصرها ، هي من نوع خاص ، فيها غرابة وسحرية جذب ، متأتية عبر التداخل الحاصل بين الرموز وتشاكلها مع بعضها البعض وامتدادها عبر فضاء واسع ، هذا الاتساع هو ما يميز الرموز الجمعية التي صاغتها الجماعات المتخيلة عبر أزمنة قديمة كي تكتسب حياة وبقاء أزلياً ، لأن الرموز هي وسائل الجماعات للبقاء ومقاومة الاندثار والترميد ولكن من خلال الممارسات الدينية وتمظهراتها بواسطة الطقوس ومدوناتها الأسطورية وهي عديدة وكثيرة ، لكن التعدد يدنو من بعضه ويصير واحداً لا يلغي ما كان ، بل يحفظه ويرمزه ويشير إليه . هذا التحرك الرمزي هو مانح الحياة للجماعة لأنها أدركته وتعاملت معه ومنحته حرية يكون بها وعبرها متنوعاً بدلالته . وليس لأن الأسطورة والدين هما اللذان أنتجا الرمز بل لأن الجماعة هي المانحة لها أنظمتها الخاصة والمشتركة ، لأنها موجودة في حياة الجماعة وداخل المجتمع ، ضاغطة للدور المميز لها . لأن الرمز يكتسب حيويته عبر تجدده في الممارسات الطقسية وفي التجارب الفنية والأدبية وكأن الإنسان يؤشر عبر تلك التنوعات والممارسات الى كينونته الرمزية باعتبارها إنساناً مرمّزاً كما قال ميشال مسلان ، لأن الإنسان يفهم عبر ذلك ـ الرمز ـ أو الرموز ـ ويبحث عن معناه ودلالة أي شيء بواسطتها ، لأن وظيفة الرمز ليست متمثلة فقط في إرساء رابطة بين بعض المجموعات البشرية ولكن بصورة أوسع في التعبير عن علاقات بين الإنسان والكون . فالرمز يوقظ أشكال استبصار مختلفة بما يمنحه من معان متشابهة ، مكونة بطريقة شبه عفوية في العقل الإنساني وحاملة لمدلولات فنية ، مباشرة وغير مباشرة ، فهو لغة ذات تأثير مزدوج ، بواسطته يحس الإنسان قبل أن يفهم أو يفسر تجربته الحالية . وقد قدم القديس أوغسطين وتوما الاكويني مفهوماً للرمز ما زال حاضراً بقوة ـ الرمز هو معطى ، فضلا عن الظاهر الذي يجلبه أمام حواسنا يجلب للفكر أمراً مغايرا كأثر الحافر الذي يعلمنا بمرور الحيوان . والرمز عند القديس أوغسطين دائماً يظهر بمثابة التقاء شيء مادي محسوس مع العقل الإنساني ، يشحنه فيه بدلالة لا مرئية مكسبا إياه بعداً متعالياً . والرمزية هي المقدرة التي يمتلكها الإنسان لتجاوز الظاهر المادي للأشياء . وانشغال الجماعة برمزها دائماً تعبير عن محاولاتها المستمرة للإعلان عن حقائقها الحياتية وتصوراتها الروحية والدينية . وتطرفت بعض الدراسات في علاقتها من الرموز كثيراً ، حيث ذهب كروز الى التعامل مع الرمز بطريقة غربية وأكثر تطرفا عندما وجد قدرة الرمز الهائلة على المساعدة في رؤية الإله أو جعله مرئيا للآخرين لأنه يأخذ الإنسان إليه ويسحبه بقوة فائقة كي يعاينه الإنسان ويستولي على روحه وكأنه أمر مرير .

في نص ـ صداقة الوردة ـ انفتاح على الرمزية لدرجة غابت وسط مألوف الورد اليومي وتحوله الى مفردة اختزلت البشري والمادي ، لكن شاكر امتد معها وصعد الرمز متجاوراً مع شفافية كأنها آتية له من الورد .

أثقلني الورد بعطره

هذا ما تفوّه به الصباح

ووشوشنني به الرياح (3)

هذا النص حكاية مكونة من سرديات قصيرة ، طافحة بغنائية هادئة وحكاية الورد راويها الصباح وليس الشاعر ، هو مستمع فقط  لمرويات جاءت له من الغير ، ووصلت إليه ، حاملة رسالة اليوم الآخر ولكنه جديد حكاية الورد وراويها الصباح المشتغل بكل ما له علاقة مع الورد أو بكل ما يتوالد منه ، الألوان الجميلة والباذخة ، الاكتناز / الرهافة ، علاقتها ـ الوردة ـ مع الأحاسيس ومركزها العين ومن هنا تتكون مركزية هذا الرمز الذي بالإمكان اعتباره معلوما ومعروفاً وأكثر علاقة للإنسان به ، يسعى إليه غرساً ومداراة ، مائل في ديمومته ومرسل لعطريته ، مثلما هو يؤشر الى أصل أسطوري بعيد جداً ، يومئ لنا بأسطورة نرجس وأول صورة قادت الى ثنائية العقل والعين في فلسفة ميرلوبولتي الخاصة بالعين والحواس . نرجس هو الجذر الأول لمفهوم الصورة في التاريخ . والوردة هي الاستراحة التي استيقظ فيها الإله الجميل . والوردة هي مختبر الحواس كلها وأكثر حضوراً وتمركزاً في الفلسفة العين واليد التي اعتبرها ميرلوبولتي من أدوات العقل وتعامل الشاعر معها بتخيّل واضح انحرف كل ما هو معروف الى زحزحة الصامت الى ناطق ببلاغة محسوبة للورد والصاخب هامس وكأنه يفشي سراً ، هذا ما حصل مع الريح . والصباح راو والريح هامسة والتفوه ألصبحي نور وإضاءة ، وابتكار زمن جديد والهمس أكثر خرقا لنسق الريح الصاخبة المعقلنة بخطاب الورد ، وبين التفوه والوشوشة حضرت الوردة لا كاسم أو صورة وإنما كمتخيل استحضر مساحة واسعة للوردة التي قلنا عنها بتعددية الرمز ودلالته من خلال الواحدية وهذا النص هو الأنموذج لناظم التعدد الرمزي وصعود الواحد ، معبراً عنه ، فالعطر أثقل لحظة جديدة ، يفترضها النص يقظة جمال جديد ، هو الصباح تتسع فيه  الوردة رمزيا وتفيض بشعريتها الصوفية

للوردة أشغال في السّر وفي الغيب

لا تفهمها إلا الروح

للعطر مراكب

لا تعرف موعدها إلا الريح (4)

قلنا في البداية بوظيفة الرمز والمجاز في الأسطورة يعلن عنهما الشاعر في هذا المقطع ، ويقولها صريحة وظائفية الرمز / الوردة ، وظائفيات سرية / وعلنية ، مخفية وغائبة تماما ، هي حاضرة في السر ومعرفته صعبة ومعقدة . الاكتشاف استمرار الحضور الدلالي ، وللشعر هذه المهمة ، والغنوص المسيحي معلن عن السر والكتمان ، وكل ما غير معلن معروف له . الغنوص هو الصاعد نحو الغيب والميتا  الازلي . هذه انشغالات الوردة الصعبة والعصيبة هي مكشوفة / مفضوحة للغنوصي / الروح الداخلي العميقة ، وكلما تتكتم الوردة ، يصعد إليها التجلي والتصوف للإعلان عن العرفان الخاص بالروح . ومثلما للسر روح كاشفة ، منورة له ، فاضحة أسراره وتكتمات الوردة ، فان للعطر سفائنه / مراكبه ، الصغيرة والكبيرة ، هي بصورتها المألوفة وان حضرت تخيلاتها الرمزية الأنثوية التي ازدحمت بها نصوص ديوان " اطراس البنفسج " ولان الشعر يحفر وراء شعريته فان تلويح الرمزية العميق في رمز المراكب كما ذكرنا ، وهذا يطوعه النص بشعرية رمز أكثر عمقاً هو الريح المرموز الذكوري في أساطير العراق القديم ، لأن الإله انليل وريحه طاقة جنسية مخصبة ، ومساعدة على أنتاج الانبعاث والخصوبة . يضيء هذا المقطع القصير وظيفة الوردة الجنسية الملتمة على بذرتها الأنثوية الداخلية  وان كانت الوردة في هذا المقطع مرمزة جنسيا ، فأنها في النص نفسه يصيرها عطرها ذكراً ، وكان الشاعر اوجد من مذكر العطر وظيفة نوع ويؤدي دورها الفحولي .

العطر وحده سيد المخلوقات ، ومنها

 النساء

لأنه يطير إليهنّ دون جواز

ويختار أيّ قوس من أجسادهن للإقامة

كل ما يشاء (5)

الوردة في هذا النص بثقلها الرمزي التنوعي تنزاح في المقاطع التالية نحو التجريد الكامل ، العطر هو مركز الرمزية المجاور للوردة والتي تتخندق فيها ، هو منتج اللون أو التاج السري ، غير المرئي ، العطر لا لون له مثل الوردة ، لا صورة له ، تتعطل الحواس كلها معه وتتفاعل حاسة واحدة ، هي الكاشفة عن حضوره والمكتشفة له " العطر في نص للشاعر مالا رميه زبد وهنا حصلت بلاغة التلاشي وكل شيء يحصل كأن شاعرية العطور والطيوب تخيل تصورها بصيغة لا نهائية من اجل تحقيق تأثير سلطتها على قانون آخر قريب من الكون المعطر ، ولكنه أكثر قابلية للامساك ، واقل اضطراباً، أي الى شاعرية تماثلية ، ويذوب العطر ، بطبيعته ، ما هو قابل للامساك والتملك .........حركة العطر هي سر الاضطراب الشهواني ودورانه ، وحركة العطر قاسية وعنيفة (6) في نص الشاعر شاكر مجيد سيفو العطر ذكر / فحولة ، تحضر أمامها الأنثى لا بل المخلوقات كلها ، فهو سيدها ومنها النساء ، ليست واحدة ، بل كلهن ، لأنه سحري ، وبه جنون من نوع غريب ، ليس جنون الشاعر الذي أشار له أكثر من مرة ، جنون مخترق الحاسة الوحيدة ، الراضية به والقابلة باستيطانه ، انه قوة مستعمرة للأنثى ، لجسدها ، كل مكان فيه ، يجثو عليها وفيها ويستدعي باسمها أو بخصائصها اللحظة اللذية التي يكون هو فارسها ، انه رمز . شعري وتقريري ، هو كناية عن الدعوة السرية التي دائما ما تكون الأنثى إجابة لها ، والفحل نداء عليها ، يخترق بتجريده الأنثى . العطر ذكر وفحولة ، وحركة العطر قاسية وعنيفة . وهي سر الاضطراب الشهواني كما قال عبد الكريم الخطيبي .

عطر الوردة في نص شاكر مجيد سيفو خفيف ، سريع الانتشار والوصول الى الآخر / الأنثى ، هو رسالة حاملها الهواء لمتلق في مكان قريب وممكن أن يكون بعيدا ، العطر شفرة معلنة عن تحضيرات الأنثى بعد صحوة شهوتها الصاعدة بالتجريد / العطر ولأنه خفيف جداً ، هو الهواء ، فمسموح له الانتشار والتوسع ، الهواء صديقه ، ومعلن عنه ، يخترق كل ما هو مادي ثقيل ، ويتهاوى بعطريته اللافحة ، يخترق ويصل الى حيث توجب عليه أن يكون ، حاملا رسالة الأنثى / التراب / الأرض ، حتى يصل بدون جواز على الرغم من ذكريته . ولأنه احد أسرار الوردة ، يطوف متخفيا ، ومعلنا عن نفسه ، يتسلل " يختار أي قوس من أجسادهن للإقامة " ( قارن هويسمان العطر باللغة ، هي مقارنة استعارية ، فهل يخضع العطر الى التحليل الصوتي ؟ الى النحو التعليمي ؟ ...... لقد تخلصت العطور مبكراً من وحشيتها الجليلة ، على الرغم من أنها ترتبط أساسا بالطبيعة ، ويظهر أن استعمالها التصق ، منذ المرحلة البدائية تقسيم العمل بين الرجال والنساء ، فالرجال يتوجهون الى الصيد ، والنساء الى القطاف ......وهذه المرحلة تثبت الوظيفة النسوية للعطور ....مع ذلك فان للعطر خصيصة أقوى من المحرم كما في أسطورة أدونيس " في النص الشعري فضاء للوردة وسحرية للعطر وشعرية للعلاقة مع الهواء ، وللعطر ينبوع أسطوري أعاده الخطيبي " (7) الى أسطورة أدونيس وهي أصل أكثر قدماً من أسطورة نرجس التي أشرت لها لأنها تحيل للحظة تشكل الصورة وسيادة النرجسية في العالم ، بحيث صار العالم نرجسيا وانشغل بنفسه كما قال باشلار في كتابه الماء والأحلام ، لكني قصدت في أسطورة نرجس الانبعاث المعروف وصعود زهر النرجس بديلاً انبعاثياً .

العطر في نص شاكر فحولة خطيرة / اقتحامية ، تفيض الجسد وتكتب عليه وفيه بسرية تامة . وللعطر " قوة السم القاتل كما قال الخطيبي . ولأنه اقتحامي ـ كما قلنا ـ يختار أي قوس من أجسادهن للإقامة / كل ما يشاء " أقامته اتصال جنسي مع القوس ، رمزيته الجديدة الان سهميته ، هذا هو التحول الشعري للرمز ، وهذا ما لم يقله الشاعر ولا نصه ، لكن السهم الرمز القضيبي لابد وان يحضر مع القوس وتوظيف الشاعر فيه ذكاء وللسهم " كل ما يشاء " لان جسد الأنثى كله يستدعي المقتحم ويرضي بالمستوطن ويقتنع به اعترافا له بالنوع اليومي ، المعروف والمتفق عليه .

العطر يلبس جسد الأنثى بالاستدعاء والإعلان ويصير متصلا ويختار صفة النوع ويتسلل التجريدي بعد تحولاته الرمزية ـ السهم مثلما قال بول كلي عن المشكل الذي هو مكمن الحياة / الخصوبة / الموت / الاندثار / والترميد تفضي هذه الثنائية عن القوس الحامل لدلالة ثنائية ، التجدد أو الانطفاء وسر هذه  الثنائية هو السهم الصغير المنزاح عن عطرية النص وتحوله قضيبا ، تكمن في وظائفه الادخالية والاتصالية ثنائية بول كلي الحياة / الموت ، أنها ثنائية الفكر الأسطوري وتمظهره الطقوسي الذي لم يغادر مطلقا فضاء هذه الثنائية المتجذرة عميقا في نص صداقة الوردة " والنصوص العديدة التي تضمنتها ديوان " اطراس البنفسج " للشاعر شاكر مجيد سيفو والتي سنشير لها لاحقا تضمن نص " صداقة الوردة " احد عشر مقطعا او نصاً أخضعها الشاعر لسياق الانتظام تحت العنوان الذي أشرنا له ، لكن المتلقي يتوصل بسهولة بأن أربعة نصوص محكومة للعنونة ومكسورة التراتب ولم أستطع التوصل الى التفكير الذي قصده الشاعر من هذا الخرق وربما أغواه تاريخ كتابة هذه النصوص التي تخندقت مع بعضها بشكل عشوائي ، لكني لا أستطيع تفكيك رمز الوردة عن النصوص الأربعة ، لأنها ممتدة وحاضرة ولكن حصل قلب أو خلخلة لدلالة العطر الرمزية مثلما سنرى بعد قليل :

            العطر وحده سيد المخلوقات ، ومنها

            النساء (8)

أضفى الشاعر على العطر سيادة مطلقة بالإضافة الى قداسة غير مسبوقة أو مألوفة من قبل . عرفنا بأن الديانة العراقية القديمة فيها آلهة خالقة وحازت صفة الملك أو الأمير والسيد وعلى الرغم من ذكورية كل الآلهة / أنكي / شمش / آنو ، فإنهم حازوا وظيفة التخليق وصار كل منهم سيداً لمخلوقاته وعباده ، تدعمهم طاقة سحرية هائلة ، تساعد الإله في لحظة ما . ووظيفة التخليق للآلهة الذكور خاصية في الديانة العراقية القديمة ، تحوطاً من احتمال تعطل أو موت الآلهة الأم السومرية مامي / ماما / ننماخ / ننخرساك ، أو الأكدية أورورو وازدواجية هذه الخاصية صار الإله سيداً للمخلوقات . وهذا ما يعرفه الشاعر شاكر مجيد سيفو بشكل واضح ، لكنه فتح نصه " صداقة الوردة " نحو  فضاء رمزي سنتناوله لاحقاً وهو الموسيقى ، لأن هذا الديوان " أطراس البنفسج " توزع بين رمزين تجريديين هما العطر والموسيقى .

العطر اسم للوردة . العطر مذكر والوردة مؤنث ، ويخرق الشعر هذه الكنية وتغادر الوردة صفتها ويتعالى العطر المشتغل بأصوله الأولى ويحوز صفة طيرية ، يحلق طائراً نحوهن ، متسللاً ، يختار ما يريد من أقواس الأنثى أو كل ما يشاء وربما كل الجسد ، لأن العطر فحل ، افتضاضي ومعربد وأجد ضرورة التذكير بطقوس الإلوهة المؤنثة في فجر الحضارة الزراعية التي ألمح لها الأستاذ عبد الكريم الخطيبي ، حيث الدور الأمومي في اختراع العطر والمخدر ، إنه من وظائف الإلوهة المؤنثة إلا أنها تحتاجهما ـ العطر والمخدرـ في أداء طقوسها الدينية ومركزها الجنس المقدس وظل سراً من أسرارها ، وهي متباهية به ومعلنه عنه ، وطقس الجنس الإلهي / المقدس حضور للعطر والذكورة مفعلة له . ونلاحظ تداخل الإلهي والبشري من خلال رمزية العطر ، قال الخطيبي ( أن العطر مشهور بأصله الإلهي ، هو الحمية المثيرة للشهوة ، وهو بجفافه وسخونته ، وعدم قابلية اختصاره في الطبيعة واللغة ، القناع المتلاشي ، للعنف الناكح الذي لا يمسك ، ولان السلسة العطرية ( كما تسميها الكيميائية ) تدخل ضمن الشهوة لا استمرارية ثملة . فهي دوار المعنى والحواس الخمس في معناها الكامل وفي مقابل هذه اللا استمرارية العنيفة يكتب العطر ، وهو يتلاشى ، في جوف الجسد دليلاً مصطنعا لفناء مصطنع . فالفناء المعطر هو فن للحياة ، تحريف لتمثيل الفناء الحقيقي ، فناء عذب ملتصق بارتعاشه اللحم ، هل هناك ما يرعب أكثر من هذا ؟ وما هو الأكثر ابتهاجا كهذا القانون المتلاشي الذي يمكن أن ننسفه ، نلقفه / نفسده ؟ )(9)

عطرك لا يؤجل رائحته أبداً

لا تزال غرفة نومي دائخة منه

وأثوابي تثرثر بناياته

العطر يؤجل رائحة الموت (10)

الفناء والذوبان بالجسد / الأقواس ، عذب كالماء ، لذيذ كاللحظة الفحولية ، هذا ما فضح سريته النص ، فالعطر طوفان ، عربدة الرائحة هو مجنون بالمداهمة والتغلغل والاختراق والتدمير ، فطاقة العطر وسحريته لعبت بالمكان ودوخته ، فكيف كان الفحل ؟ كان حجاب الجسد الفحولي منشدها ومدوخا بالثرثرة . ولكن أية ثرثرة : أنها تصوّت بالموسيقى وتوظف النايات . وفي هذا النص حضور للموسيقى التي اشرها ألخطيبي مقترنة معاً بالعطر الذي لا يميت في اللحظة وإنما يؤجله ويعطل رائحة الموت ويلاحظ بان شاكر مجيد سيفو على وعي بالعطر وما يعنيه وأشار الى رائحته في هذا المقطع المنقول عن الشاعر أدونيس . واعتقد بان اسم الشاعر أدونيس غير حيادي في نص استعاد العطر ثانية ودلالة الاسم الأسطورية لها اقتران مع الزهر / يعاود استحضار الأصل الأسطوري وما تعنيه رمزيته المعروفة ، صاغ نص " صداقة الوردة " شبكة دلالية غزيرة ، منها ما هو يومي / معروف ، لكنه يفضي نحو فضاء طقسي ورمزي كذلك الأسطورة حاضرة في هذه الشبكة غير المرئية ، او ليست طاغية بحضورها الواضح .

.... وحينما امتلأت بعطرها

داخ منّي المسك

فامتلأت بالجنون ،

تلك هي رقيتي 

وكلّ ما تضمره الظنون (11)

عاود الشاعر مرة أخرى تكرار العطر ، لكنه مقترن بالأنثى ـ عطرها ـ وقد امتلأ به واحتشد لها ، وتاه منه المسك ، عطر آخر على الرغم من أن النص لم يحدد عطراً ، لان النص متمركز حول ما هو عام وتجريدي ، لكنه أسمى عطره وربما هو ماؤه ، لذا احتشد بالجنون / الفوران ونلاحظ تكرار الإشارة للاكتناز ـ امتلأت ـ والمثير للغرابة والدهشة هو ان جنون الرجل هو رقيته السرية ، وهذا ما اشرنا ـ السحر ـ له سابقا

زهرتك خادمتي ، مثل عيني

ـ دائما ـ تتبجّح بعطر جسدها

وحنّاء كفيها

أرسلت لها كلّ مديحي

لكنها لا تزال تلوب وتتأوّه

بين لوعة الروح

وأعمدة الريح .. (12)

 الأنا صاعدة في هذا النص والاعتراف فيه تباه والزهرة ليست وردة الزهرة هي بؤرة الجسد الأنثوي ، موقدها ومع كل هذا الاعتراف بها ومديحها فهي باقية بقلقها وحزنها ، تكرر تأوها بين الروح والريح والروح ترمز للزهرة واختصار لها ، لا بل بديلا شعريا .

" س " اسم الوردة التي تجوهر بصداقته لها وتميز على العالمين وسينسى صداقته مع الآس  ، ويبحث عن صديقه الآس . اعتراف آخر باسم الوردة الدال عليه بحرف واحد ، إنه رمز أيضاً ، استعان به لنسيان تاريخه من الحزن والخسارة . واختزال الأنثى / المعشوقة الى زهرة / فرج وحده خادم للفحل ، كذلك اختصارها بحرف واحد " س " .

لم يكتف الشاعر بذوبان أسطورة الإله الشاب أدونيس كما قال الخطيبي أو نرجس في الأسطورة الإغريقية وكلاهما انبعثا زهراً في فصل التجدد الحياتي ، لكنه أشار للنرجس كنوع من الزهور ، والإشارة ليست بعيدة عن المحيط الميثولوجي الذي صاغ شخصية الإله الإغريقي الشاب :

أُنبئُّك أنا ذاهب الى الزرقة

اصطاد النرجس

دموعي كريستال

ومياهي لآلئ ! (13)

                     ×××××××××

ولأجل كل هذي الدموع ، نمجد المياه

تنوع اللون الى التضاد بين الزرقة والنرجس ، صفاء الزرقة وما تفيض عنه قدسية ونقاوة النرجس الذي يذكرنا بأنه بديل الإله الجميل ، إله أخذ منه الصوت في النص أنوية واضحة ، تماهت مع الأصل الميثي عالي الصوت ومفرط والتنوع / كريستال واللآلئ ليست جواهر ، بل هي دلالة على مباهاة الفحل بذكورته وماء القلب حسب التعبير السومري . لعل المقطع الأخير والمكتفي بواحديته استجمع كل ما شعر به الصوت / الذات في تمركزات عندما أعلن بأنه يمجد المياه بسبب دموعه ، التي لا علاقة لها بالبكاء ، بل هي مياهه / اللآلئ ، وبؤرة هذا النص الصغير ماء القلب / دفق الذكورة ، لأن الشاعر سيفو لا يقول ولا يعلن اعترافه صريحاً ، بل يختار له الرمز المستل من يومياته ، لكنه يحورها ضمن السياق النصي ويغادر المألوف لتصير رمزاً ، ويكرس هذا الموقف في نص " أطراس المعنى " ويقول :

في غفلة من العالم دخلت الفردوس

احمل معي مياه الأزل وورد الجنان (14)

لا يعني إلا أنوية طاغية وطيوف الأسطورة الأولى حاضرة في هذه النصوص . هذا هو حال صوت الفحل في نصوص شاكر مجيد سيفو وبؤرة الذكورة كافية لإيضاح مجال الأنوثة التي لم تكن غير متعية ولذّية وزهرة الأنثى خادمة للفحل :

الوقت نرجس يشاكس

الأصيص

ويفلت منه القمر (15)

هذا نص آخر ، تكرر فيه النرجس بوصفه نوعاً من الزهور ، وما يهم أكثر هو التماهي الأنوي بين صوت الفحل والأصل الأسطوري وهذا ما أكدت عليه عديد من النصوص . وتشظي الدلالة لتومئ نحو ترميز آخر وجديد للذكورة وادخال القمر رمزاً لها والتعامل النصي معه ـ القمر ـ ظل مثلما هو معروف عنه في بعض مراحل الديانة العراقية القديمة ، باعتباره دالاً على الإلوهة عبر القرون ، كثير الشبه بالهلال / القمر . وفي هذا التمظهر تعبير أنوي جديد ، اتسعت فيه تنوعات الفحل .

تصير الزهرة أنثى / معشوقة تمتعت بسلطان وقوة ، لها هيمنة على الفحل الذي لا يقوى على صدها ، أنثى مثل زهرة النيلوفر ، لها عطر سحري ، جاذب :

عطر زهرة النيلوفر

ـ يجرني من ياقة قميصي الوردي

ـ دائماً ـ احتفي بها ؛

وأسأل ـ أيها الاحتفاء ،

بمن تحتفي أنت ؟

ومن يحتفي بك ؟ (16) 

زهرة غير مألوفة ، استدعتها مخيلة الشاعر وعطرها مشاكس بمحبته المجنونة كالشاعر أو صوت الفحل : يجرني من ياقة قميصي الوردي " أخضع الشاعر لون قميصه للورد وارتضى الوردي لوناً لقميصه . ويعيدنا هذا اللون الى أدونيس ونرجس وتصعد رمزيته بوضوح الى الديانة المسيحية وتمركز الوردي / الأحمر فيها تعبيراً عن دلالة عميقة للخصب والتجدد للحياة وتكرر انبعاثها والأحمر لون الخصوبة في اليسوعية . ويا لهذا العطر من مشاكس / شقاوة ، لكن الفحل يعلن صراحة بالاحتفاء بعطر زهرة النيلوفر ويرتضيه ويستفسر من الاحتفاء الشخصي بمن تحتفي أنت ؟ ومن يحتفي بك ؟

عمق البساطة وشعرية التلميح وبرقيته البينة في مفردة الاحتفاء الذي هو أرقى تعبيرات الاحتفال والسعادة وهذه من الذي يبتهج لها أو يحتفي بها ؟ ان الاثنين يبتهجان بالاحتفاء . الانثى والفحل ، يتمتعان ليعلنا عن سعادتهما في هذا الطقس وذكرني هذا بمقطع شعري للشاعر :

رجل وامرأة

يمتعان العراء

صعد الشاعر نحو الماضي / الحضارة الآشورية / ثقافة وديانة ، ووظف زهرتها والأغلب دلالة على قوة وعظمة ، هذا كشاف آخر على الأنوية . وزهرة البيبون شمالية / آشورية ، هي رمز ارتباط بالديانة الآشورية ، مثلما هي علامة للإلهة عشتار نينوى ، وهذه الآلهة قريبة كثيراً من الإشارات التي أفضت لها نصوص [ أطراس البنفسج ] عشتار في أدوارها السومرية / الأكدية ، إلهة الحب والجنس والإفراط بممارسة اللذائذ والرغبات وعلاقة عشتار بطقوس الجنس الإلهي المقدس واحتفالات رأس السنة الجديدة ، لحظة صعود زهرة البيبون كساءً لسطح الأرض والجبال . المشترك واضح بين زهرة نينوى وألهتها . المشترك الأكثر بروزاً الذي أشار له الفنان بول كلي ، الحياة الموت ، ثنائية شهر نيسان ليس في نينوى وإنما كان قبلاً .

في الممالك السومرية وبابل ، نيسان بداية السنة البابلية والآشورية الجديدة ، بداية تحرير الإله القومي البابلي مردوخ والآشوري آشور وإنقاذهما تجديد للحياة والفوز بخصب يحضر مجاوراً له الإله نابو في بابل وننورتا في نينوى ، احتفال رأس السنة الجديدة منح شهر نيسان دلالة ظلت الى الآن متواترة . وطقس الجنس الإلهي مكمل حيوي لإنقاذ الإله القومي وتدوين المصائر العامة في المملكة أو الامبراطورية ، وظلت الآلهة عشتار محوراً مستمراً لهذا الطقس . والبيبون زهر نيسان في آشور ، وينتسب هذا النوع من الزهور لشهر نيسان وكأنه متناظر بالانبعاث مع الملك /، الامبراطور في زمن منتظر ، يشطب على أزمنة ماضية ويحين تاريخاً جديداً ، حافلاً بالانتصارات واتساع جغرافية الاستيطان . وللروح ترجيع مموسق في أعماق الإنسان وتأشيرات الجغرافية بالجهات . التي كأنها هم ، وصوت الفحل من بينهم ، لكن الصدى يتسع هنا وتصير الجماعة / الجماعات هي الجهات التي لا مثيل لها في العالم والأنوية العرقية أكثر تضخماً :

نحن الجهات التي لا تتكرر

نتمدد في سهونا ونومئُ

الى غيمة تموء في سرير المساء .(17)

تورمت الأنوية الفردية الى أخرى جماعية / قومية ، وتفردت بجغرافية لا مثيل لها في الحياة كلها ، إنهم جهات خاصة بهم ، مميزة لهم هي جهاتهم فقط . هؤلاء البشر يسهون لحظة الاستلقاء والجهات حاضرة في الذاكرة ويكتفون بذلك ويومئون

الى غيمة تموء في سرير المساء

النص مكون من ثلاثة مقاطع . وهو فاعل في تحرير القراءة . نحن دائماً ـ نحتمي بميتافيزيقيا / العشب والمياه .

لا يكتفي الشاعر بالمكتشف الرمزي المصاغ شعراً في واحد من النصوص ، بل يعاود الاشتغال عليه ويكرره متناظراً أو منحرفاً كما في رامزية الجهات وإحالتها الأنوية من الذات الى الجماعة :

نحن الجهة الخامسة التي تسرد تاريخ الجهات كلها

كل الجهات التي تنحني لنا 

هم الجهات التي لا تتكرر في نص سابق وهم الجهة الخامسة التي ابتكر لها وظيفة شعرية عالية ، مهمتها رواية وقائع / وأحداث ، جهة امتلكت لساناً لاستعادة تاريخ الجهات الأربع كلها . ولا نستغرب من ذلك في شعر شاكر مجيد سيفو فكل الجهات التي تنحني لهم هي المعنية بالحكايات وزهوها . ونلاحظ التأكيد الجغرافي المتسع ، حيث تكرر ـ كلها / كل ـ مرتين في مقطعين فقط . وكل ـ قصدية في وجودها البنائي المعبر عن ذاتوية ومغالاة مفضوحة مثل : وأنا كلي الحدقة الأزلية (18) 

أو : كلّنا يشربُ الجّن ص114 مع بروز رغبة الحيازة على حساب الآخر :

أريد الزبيب كلّه ، لأجل أبنائي (19)

تراجع الشاعر عن جهته المتباهي بها والساردة لتواريخ الجهات ، فيكتشف في نص " ملائكة العجين " ص125 بأن التاريخ لغو وصوت الفحل كريم ، باذل ويعلن نداءه :

تعالي ، خُذي السّماء كلّها ، خُذي المحابرَ كلّها

واتركي لي آخر البابليين الآشوريين (20)

كنا قد قلنا بولع الشاعر بأسطورة أدونيس ونرجس ووظفها في نصوصه ، حتى عنوان الديوان " أطراس البنفسج " يؤشر الانشغال بالأصل الأسطوري للالوهة الشابة المذكرة / القتيلة ، التي أسست نوعاً رثائياً مشحوناً بالحزن والبكاء ، وأخذ العنوان رمزيته من ذاك الأصل . والأنا المتمركزة متكررة في الديوان ، ولا يضجر منها الشاعر :

دموعي كريستال

ومياهي لآلئ

طوبى لأصابعي الملائكيّة (21)

أو: الأرض كلّها في قميصه (22)

أو: نحن أحفاد الورد (23)

أو: البحر والريح تطيعاني (24)

أو: أنا ، حينما أنام / تحرسني عيناي (25)

في هذا المقطع حاز صوت الذكورة خاصية غرائبية / ولا معقولة ، تأسطرت الشخصية وغادرت حقيقتها البشرية وتماهى مع الذئب الذي يغمض عيناً واحدة عندما ينام ، لكن الرجل في النص لا يغمض عيناً والشاعر ميال للإيغال في التخيلات كثيراً وتبرز الأنا متورمة ، ويرشح عن بعض نصوصه تمركز قومي ، هو السبب في كل تلك التصورات المكبوتة منذ زمن قديم كما في :

السماء لمن ،

ولمَ ؟

نحن سنمّد قامات وهامات أعلى منها ؟ (26)

يتضح التمركز ويتضح التمركز الانوي وتعالي الذات في نصوص أخرى ، لعل ما اشرنا له عن الجغرافية والجهات التي اختزلت الآخر وتحولت الذات الى ما يشبه الطموح الإمبراطوري زمن سرجون وفي تكرر ما المحنا له محاولة لتطمين رغبة ذاتيه أو جمعية . وتبدو المغالاة الانوية واضحة الأثر في نص :

انتم لكم أربع جهات

لكنني الخامسة

التي تحرسها عيناي

وعيون أقماري الثمانية (27)

حلم مماثل لأحلام سابقة والتكرر كاشف عن الذات التي لم تكف عن ذلك وقال هذا في ديوانه " مثلي تشهق النايات "

طريق الفرح اقصر ،

سيدي ، خذ الأطلسي كله واختر لك جهة خامسة (28)

يوزع الشاعر الجهات له ولصديقه ، ربما لتخفيف صوت الذات الطاغية فيؤمى بجهة خامسة / مبتكرة / وحلمية لشخص آخر ، لا يختلف عنه في الموقف والرؤية وصديقه أكثر مغالاة ، لان الشاعر استرضاه بالأطلس كله وعليه ابتكار جهة جديدة ، هي الخامسة ، اعتقد بان مثل هذه التخيلات تنطوي على أحساس بالخبية والإحباط مثلما قد يتبادر للذهن وهذا لا يلغي شفرات متكررة وأخرى صارخة باندثارها وفشلها المتكرر في كثير وكثير من نصوص دواوينه :

.......كل هذا

من اجل أصابعي التي اشتهت

أن تلعب مع الفراغ (29)  

وما يؤمى لتكرر الخيبة وتصورات العزلة هذا النص :

....... وحينما لم أجد أحدا في الفردوس

عدت الى نخلة تشهق أمام بوابة عشتار (30)

لا يتجاوز الشعر مع المكشوف بل هو معني بالخفي واللامرئي وينحرف النص بشكل مفاجئ ، يعاود حركته متماثلا مع النصوص التي اشرنا لها قبلا ، الجنس يأخذ المخيلة الى محيط في العتبة الأخيرة ، ومثلما في هذا النص المهيمن عليه الايدلوجيا لكن الشاعر حرر فضاء الدلالة من الواحدية نحو التنوع وكان الجنس هو المغاير ، ألاختلافي فيه ، وبالعودة إليه ضبط الشاعر نسق الرغبات اللذائذ وكأنه ارتضى البقاء في فضاء الاكيتو ، احتفال رأس السنة وطقس الجنس الإلهي المقدسي  .

"غيمة تموء في سرير الماء "

الأنثى حاضرة ، متهيئة ، ممتلئة توقاً ، مشحونة باللذة والمواء تعبير عنها . ولا حل لإسكات المواء إلا بتساقط المطر . اعتقد بان أجمل ما في نصوص شاكر مجيد سيفو قلب المعروف ، ومعاكسته : هو يشتغل على التضاد ، الغيمة مؤنث ، لكن مطرها فعل منسوب للإله انو وانليل . ينزل المطر وتخصب الأم الكبرى / الأرض ، لكن سيفو انحرف بأصل الرمز وحوله الى أنثى تموء في اللحظة التي :

استيقظت الطواويس في

سراويلنا  

عودة اخرى الى نص " صداقة الوردة " وهذا النص المتماهي تقريبا مع نص غيمة تموء :

ـ دائما ـ تطلب الأرض

من السماء

أن تغفر لها خطاياها

وتطمع أكثر

حين تجلس أمامها

وتستجدي أسرار الغيمة والماء .....(31)

الخصوبة بؤرة النص ومهيمنته ، أعادة أنتاج للأسطورة السومرية القديمة التي كانت من نصوص الجنس الإلهي ، كانت وظلت هذه الأسطورة متمركزة ، ليس في الثقافة والدين العراقي القديم ، وإنما في الشرق ، وتماهت معها الكثير من الأساطير في سوريا / كنعان / مصر / قبرص / أسيا الصغرى / بلاد الإغريق / التوراة . لكن البنية الذهنية الهندية الأكثر تركيزاً من كل أساطير الشرق ولم تفارقها بل تناظرت معها . وبشكل عام النصوص الطويلة أو القصيرة مشتركة بالبنية مع الأخرى . وسيتفتح التوظيف التناظري في النص السومري  "كلمة انليل هي حياة البلاد " (32)

أن هي مست السماء : فهذا هو البياض

إذ تسكب من الأعالي الأمطار الغزيرة !

ولئن مست الأرض : فهذا هو الرخاء

فمن الأسفل تطفح الثروات ! كلمتك هي النباتات ! كلمتك هي الحب

كلمتك هي الفيض : حياة البلاد جمعاء

وفي الأسطورة الهندية يقول العريس : أنا السماء وأنت الأرض

وظف شاكر مجيد سيفو طقس الزواج المقدس ومستثمرا أسطورة الخطيئة التوراتية . ولان الشاعر انحرف قليلا عن حواء واتجه الى الرمز ـ الأرض ـ التي أرادت من السماء ـ دائما ـ تطلب الأرض / من السماء / أن تغفر لها خطاياها / ومع سعيها للغفران ، تستجدي الأرض أسرار الجنس ـ الغيمة والماء ـ ماء القلب السومري ـلا حظنا كيف اشتغلت الأسطورة عبر رموزها التي أخذها الشعر نحو رهان الدلالة وتخليق شعرية جديدة تومىء لأصل العناصر الأولى ، وكما قال ميشال مسلان " الرمز كونه لغة الإنسان بإمكانه كأي لغة أخرى أن يكون متعدد الدلالات وان يكتسي العديد من المعاني " (33) .

زواج الأرض مع السماء رمزيا شكل من أشكال القران المقدس وسيوضح لنا هذا النص السومري " التشابه والتماثل للرموز عبر الزمان والمكان سوى في الأساطير كما شان التجربة اليومية للحالمين والمجهولة من جانبهم ، تبني وجود حالات مشتركة بين كل الناس ، لا واعية وجماعية . من ذلك النماذج الأصلية : إمكانات تصور مشترك بين الإنسانية ، نوع من الاستعداد الدائم لإنتاج نفس التصورات الأسطورية ....المقصود بين كونية متماثلة للروح الإنسانية وليس مجرد هذيان " (34) :

زينت السماء رأسها بأوراق الشجر

وظهرت ، كأنها الأميرة ،

الأرض المقدسة العذراء تبرّجت

من أجل السماء المقدسة

السماء ، الإله الرائع الجمال ، غرس

في الأرض العريضة ركبتيه

وسكب في رحمها ، بذرة الأبطال

الأشجار والمقاصب .

الأرض الطرية ، البقرة الخصبة تشبّعت

بمنّي السماء الغني ،

وبالفرح ولدت الأرض نباتات الحياة ،

وبغزارة حملت الأرض هذا التاج الرائع

وجعلت الخمر والعسل يسيلان " (35)

هذا من أجمل النصوص الشعرية السومرية ، وأعتقد بأنه من نصوص الجنس الإلهي المقدس الذي دائما ما يشارك فيه الإله والإلهة وينوب عنهما الملك والكاهنة العليا . وفي هذا النص مشاركة اثنين من الإلهة هما انو/ السماء ، ماما / ماجي / ننماخ / ننخرساك / الأم الكبرى السومرية / الأرض والانزياح شفاف يوقظ بقوته الصورة الرمزية للعلاقة الثنائية ، ونجح شاكر مجيد سيفو في استثمار هذه الثنائية :

ـ دائما ـ تطلب الأرض

من السماء

أن تغفر لها خطاياها

وتطمع أكثر ،

حين تجلس أمامها

ونستجدي أسرار الغيمة والماء...(36)  

مثلما قلنا أكثر من مرة حول الحاحات الشاعر على الصورة الرمزية والانحرافات الدلالية الحاصلة في نسق اللغة ، وكأنه يريد تركيز الأسطورة وإعلاء رموزها وصورها كما في هذا النص :

وعقدنا

زواج الأرض بالسماء

والقمر والشمس

والتراب بالمطر

ـ والحدائق والأسماء ـ

************

.....كل هذا من اجل يدي

إذ

لا قمح في راحتي ولا رماد .......لكننا

.....لأجل كل هذا الحزن حزن القمح ، نمجد المطر ..(37)

إعادة صوغ الأحلام واللامعقول والأسطورة واضح في نص الخيبة السابق ، من فشل في ألفة مع الآخر في الفردوس ، ولأنه مكرس في هذا النص للاهوت المسيحي لم يذهب باتجاه مريم مباشرة ، بل استثمر أسطورة عشتار العذراء والبتولية التي كانت مريم من تبديانها والنخلة لها وليس للإلهة عشتار . لم تعرف النخلة رمزاً للعذراء ، بل هي للام الأولى وحازت عليها مريم العذراء وظللتها لحظة ولادة يسوع . وبسبب الفشل ، عاد الصوت من فردوس حلمي ، حيث لا احد فيه واختار ما هو حقيقي ورمزي ـ النخلة ." أطراس البنفسج " أطراس الأسطورة التي استعادت يقظتها في هذه التجربة وتجربة شعرية أخرى للشاعر زهير بردى تعاملا مع أسطورة الشرق غير البعيدة عن أسطورة الخصب المسيحية . وتستحضر الأسطورة عناصر نظرية الخيال والأنماط الرمزية العليا ، وتصوغ روحا شعرية متحركة بدلالاتها ، نامية بفيوضها المانحة للحياة استمرار انبعاثها ، وتجدد طاقتها من خلال ثنائية الذكر / الأنثى ، حيث كانت الأنثى هي الحياة والضابط لروحها عبر وظائفها ، التي ظلت مستدعاة في تجربة شاكر مجيد سيفو ، يقظة المخيالي وقدرته الغور في الحقيقي والتماهي معه رمزيا ومن بعد طوفان طاقة الشعر ( فالشعب الذي لا أسطورة له يموت من البرد ، خصوصاً برد التقنية ) ومثلما قال الشاعر أدونيس ( إذ يرتبط الأدب ، والشعر بخاصة ، بالخيالي الأسطوري ، يصبح أكثر قابلية لان يكون بناء يشمل برؤيته الجمالية المجتمع ـ علما وفلسفة ، قيما وعلاقات فيعيد على طريقته وبخصوصيته ، النظر في العالم ، بحيث يكون نقداً شاملا انطلاقاً من تلك الرؤية .....يظل الوجود ، تبعاً لذلك ، أكثر بهاء ، ودفئاً (38) 

المخيال في نصوص شاكر مجيد سيفو  متحرك ، وتتحكم به الحكاية / القصيدة ، السرد سريع جداً وكأن الشعر لديه ركض للاختزال / والتركيز من أجل المعنى عبر أقصر السياقات اللسانية ، إنه يوقع ويرفع صوته صارخاً وعالياً لاصطياد غنائية لابد وأن تكون كامنة في القص / واعتماد الحكاية القصيرة . نصوص الشاعر هي سرديات سريعة ، متعجلة من أجل الشعرية . فالغيمة مثلاً هي سوداء ، لكنها تفضي نحو الانبعاث والخصوبة ،  وبين الاثنين تضاد واضح ، لكن الشاعر قادر على ابتكار طاقة جديدة من خلال كسر المألوف الرمزي . لأن الغيمة السوداء ممتلئة ماء . هذا ما تريده نصوص الشاعر ، الماء والجنون والحب هي مخصبات اليومي / والحياة / والفصول . السواد ينطوي على قران مع الأرض / التراب / الأم الأسطورية الكبرى ، والتراب كما سنرى هو السيد المطلق بين عناصر نظرية الخيال التي سجلها الشاعر ، وهو بذلك يعني هذا السيد الترابي / الرمزي ، التراب الذي هو الأب في نص للشاعر .

التراب أكثر عناصر نظرية الخيال والأنماط الأسطورية العليا حضوراً في نصوص الشاعر . وحتماً له رمزية متنوعة أمسك بها الشاعر ، أو ببعضها ، وهذا ما سنتحدث عنه ، لكن التراب لديه ـ أيضاً ـ هو مكونات الذات الفردية والجمعية ، وباعتباره مرآة للهوية القومية ، وعاملاً حيوياً في تصورات الجماعات المتخيلة كما قال بندكت أندرسن وصورة هذا أكثر وضوحاً في " قامة الهواء " مرثية عن الشاعر سركون بولص .

متماهية مع آدمي ، ولحظة غيابه ، يعني ذبولها وهي في الكراسات ، وهذا تمثيل لتصورات سحرية عرفها العقل الشعبي عندما يؤسس تناظرياً تآخياً بين رمز وشخص ، سقوط أحدهما يستدعي بالضرورة فناء الآخر . وشعرية الشجرة متبدّية ككائن حي " ذبلت بين السطور "

الغروب زمن تضاؤل الضوء  وتراجع حضور الشمس ، هو عتبة تلويحة السواد القادم والفناء له حضور في الغروب ، والاقتران بيّن في الثنائية المشتركة ، الغروب / الغياب والتناظر دلالي بين الثنائية والتماهي مسموع من خلال التشاكل المورفولوجي وكأن الغياب يفضي للغروب أو الغروب مدوّنة في كتاب الغياب . للغياب اقتران مع السراب ، ولم يكتف به الشاعر ، بل اختار مكانه منه ، إنه الفرج ، الأصغر مكاناً أو بؤرة فيه وكم هي صاعدة هذه الشعرية ، حيث الخسارة الحاضرة منذ زمن بعيد ، وفشل متكرر في عديد من المدن ، بيروت / المانيا / الحبانية / سان فرانسيسكو / بغداد / كركوك ، ويطلق سؤاله صرخة لم يصلها الجواب :

ـ أين تنام الليلة ؟

نص " تعالوا الى مرايا حبيباتكم بالحناء " هو عن أربعة شهداء أصدقاء للشاعر . الأنوية أكثر وضوحاً في تمجيدها للغائب وتقرنه بتاريخها الطويل والمجيد . إنه شكل من الصراع الثقافي بين ذات وأخرى .

ولأن الهوية ملاحقة وتتعرض للطرد دائماً ، فإنها تتحرك في فضاءات عديدة ، مناسبة للم هذا التشتت الحلمي وتدوينه ، والمباكي أكثر الممارسات  قدرة على ذلك وتفجيرها في كل حين

هنا المفخخات يضيفن أجساد الطفولات

ويعلبّن الورد الأسود للأعياد

الأشجار التي رسمناها في كراسات الرسم

ذبلت في السطور ،

ورحل الأصدقاء .

تعال اعطهم عظمة أخرى

لهؤلاء الذين لازالوا ي.... !!!!

ـ ملحق بالإهداء الأبيض ـ

وحينما انكسرت قامة الفراغ

انطش عسل البرية على وسادة الشاعر

فراح يلتهم أصابعه وشفتيه

ويفترض الورود المنقوشة بها وجه الوسادة (39)

الورد في المراثي ، مع الأشجار والعسل . وتشكل لي رأي حول استثمارات الشاعر الكثيرة جداً للورود والأشجار بأنه يتعامل معها بوصفها انطولوجيا . ولأن أشجار الورود والشجر الآخر ، هو ميتا ـ نص فإنه قادر على استدعاء ذاكرات قديمة ويوظف باعتباره عنصراً مستقلاً وخاصاً ووجوده مع آخريات يفتح مجالاً للتعامل معه كشيء له وجود خاص ، وتتعالى الأشجار وتتسامى في نصوص شاكر مجيد سيفو . ولم يملّ الشاعر من رفقة الورد والشجر في نصوصه ، لأن الشعرية لا تكون إلا من خلالهما ، هكذا أظن تصورات الشاعر الرمزية لهما ، يجددهما ويكشط سطوحهما ويكشف عن طبقة رمزية جديدة ، ويفاجئ بوجودها وتستهويه ويتصادق معها حتى لحظة المغادرة التي تعني الانجذاب الى طبقة ، أو بريق جديد ، لابد وأن يأخذه . والورد / الزهور مزدحمات النصوص وحاولت ضبط تكررها في دواوينه كلها ولم أفلح ، على الرغم من أنني وثقت ذلك . للورد بلاغة في نصوص سيفو وأكثر البلاغات التي صفعنا بها الورد هو لونه الأسود . من الممكن أن يكون السواد فاضياً الى رمز مغاير ومختلف ، مثل الغيمة ، لكن الورد لا يوفر مثل هذه الفرصة ، بل يكتفي بتصعيد الدراما الإنسانية ويحرك فجائع البشر . واستثمر الشاعر السواد مع الورد في رثائية سركون بولص لأجل تحريك تراجيديا الغياب المفاجئ واختيار العيد مناسبة للتباهي بالأسود وبلاغته المصاغة بواسطة التضاد الظاهري والمكشوف :

يعلبّن الورد الأسود للأعياد

الأشجار التي رسمناها في كراسات الرسم

ذبلت في السطور ،

ورحل الأصدقاء . (40)

الورد ثمين / نفيس ونادر لأنه اسود ، فالنساء يحتفظن به كنزاً ويعلبنه ، حتى يتباهى به حزن الأعياد ، لكن الأشجار ذبلت لارتباطها الانطولوجي مع الكائن ، يتماثل بين الاثنين يومى لكينونتهما ،  والوجود مرتبط بحقيقة كل منهما فغياب الشخص يعني غياب رموزه الشجرية ، هذا ما تحقق في رسومات الأطفال . لقد ذبلت الأشجار لأنها فقدت نظيرها السحري .

ها أنت تحاور دمك والحداثات الشعرية

العواصم التي تحتاج ضوء قميصك البنفسجي

يخضر في ظلماتها الضوء

مثقلة بأفنان الجميلات

تعال ، نطيح بكآبة الغيمة

من اجل دموعهن

وقبلاتهن

استفق ؟

ها أنت تجرح بموتك ارض الجسد (41) .

الاختراق في نظام اللسان التقليدي واضح ، والحكاية بدون تفاصيل ، بل اهتمام بشفرات عالية ، تمسك تراجيديا الفقدان والفجع ، فالغائب مكتف بقميصه البنفسجي المغاير تماماً ، لأنه متميز بما امتلكه من ضوء .  هو الذي جعل العواصم تجارف لاجتياحه ، تحوزه لتغتني به من اجل استعادة تجددها ، اخضرارها وسط الظلمات / حيث يكون الضوء هو الانبعاث وهنا انبعاث جديد ، هذا الذي اشرنا له من قدرة الشاعر في التلاعب بالرمز وكشطه ، وكشفت بؤر غير معروفة أو مكتشفة في طيات النص . ولان النص مرئية ـ كما قلنا ـ فلابد وان يكون معجم التراجيديا منتظم بسياق المأساة . الغروب / الغياب لا يوقف الحياة ، بل تزداد حضوراً عبر استمرار قانون الحياة

ـ يخضر في ظلماتها الضوء

مثقلة بأفنان الجميلات

وخبز الارملات

في نص ( قامة الهواء ) تمجيد لحضور دائم ومثول في العواصم والأمكنة المجهولة وغير المعروفة ، حضور نوعي ، لا معقول كي يرسم حدود المرثي ويكون توصيفا فيه ابتكار الشعر وتمركز الشعرية . في النص شحنات عالية من الحزن ، ويمد ميسما مع السرديات الكبرى في التاريخ ، مثل ملحمة جلجامش أو مرثية أخيل وبكائية داود التوراتي وحضور الملحمة واضح في بكائية الغروب والغياب وتوصيف خاطف لطقوس الفتيات أو النساء ، في حضور  الندب والبكائيات .

تحولت الغيمة في هذا النص على وفق المفهوم الاتصالي اليومي البسيط . وصار السواد تعبيراً عن كآبة الغيمة ولذا دعاه للحضور ثانية ومرة جديدة من غيابه كي يطيحان بكآبة الغيمة / سوادها ، كل هذه المغامرة ، من اجل دموع الأرامل وقبلاتهن ، من بعد يطلق به صرخة ، استجمعت وجع الفراق وقوة المأساة :

استفق !

الصرخة مماثلة لصرخات الملك جلجامش وهو يرى صديقه جثة هامدة . رأى جلجامش المشهد الأخير والصوت في " قامة الهواء " تصور موت سركون المختلف كليا عن موت الأصدقاء الأربعة ولكل من الطرفين . غياب البعيد وغروب الأصدقاء . سركون اجتاح العواصم بضوء قميصه البنفسجي ، والدعوة موجهة الى الأصدقاء الأربعة للحضور الى حبيباتهم بالحناء . والحناء تعبير انزياحي عن دم الاستشهداء . ويكرر الشاعر شاكر مجيد سيفو نداء الدعوة لهم مثلما طلب من صديقه :

استفق .قال لأصدقائه :

تعالوا الى مرايا حبيباتكم بالحناء

حقق الشاعر تنوعا في توظيف رموز أسطورية غير معروفة على نطاق واسع ومنها " لماسو " .

الغيمة في ( قامة الهواء ) لونها معروف . وما فيها لم يكن ماءً مثلما هو في نص " صداقة الوردة " بل هو سواد الحزن والدمع . والغيمة السابقة سوداء / داكنة بامتلاء الماء الذي تستجديه الأرض / المرأة وترجو أسرار الغيمة والماء .

في نصوصه استثمارات أسطورية كثيرة واستعادة لطقوس وشعائر بالإضافة الى وقائع حضارية آشورية . حماس الشاعر لإعادة الاشتغال على الرموز العليا باعتبارها اختصاراً تشف عبره الأساطير وهي دائماً ما تكون أساطير معروفة . وقد أعاد الشاعر صياغة الأسطورة خضوعاً للثقافة البطرياركية ، هل كان هذا قصدياً أم عشوائياً ؟

كنا قد تحدثنا عن الاسطورة الخصبية المتماهية مع نصوص سومرية ، وكان الزواج في نص الشاعر بين الأرض والسماء . بينما حافظ النسق الأسطوري في المقطع الثاني وأعاد خرق النظام القديم :

وعقدنا

زواج الأرض والسماء

والقمر والشمس

والتراب والمطر (42)

درس د. الطيب تزيني قران القمر بالشمس باعتبار الأول مذكراً والشمس أنثى . ويمجد الشاعر الحياة ، هي ممتلئة بسعادتها والعالم أيضاً ، لأنهما يحلقان عالياً بعشبة جلجامش التي حاز عليها برحلته وسرقتها الأفعى بعد نزوله للاستحمام في البئر :

نحن سعداء برفّة جناح ملاك

حين يرى العالم سعيداً

يحلق بعشبة جلجامش (43)

يبدو الفعل الجنسي قد  تم على النحو الذي يتم فيه الفعل الجنسي الإنساني . فالطبيعة تنتج نفسها وتعيد عملية الإنتاج هذه بدافع جنسي مخصب . وفي مثل هذا الحال ، لابد وأن يتم ذلك الفعل بسبب من وجود عنصرين ، هما الذكورة والأنوثة . إن تلك الصورة الطبيعية الجنسية ، هي في المحصلة النهائية ، صورة اجتماعية ، فما يتم على صعيد العلاقات الاجتماعية الإنسانية ، يكتسب بعداً طبيعياً جنسياً . أي أن الخصوصية الاجتماعية الإنسانية ( الجنسية ) تغدو خصوصية العلاقات القائمة بين الظواهر الطبيعية . (44)

التراب أكثر الأنماط الرمزية العليا تكرراً في التجربة الشعرية للشاعر شاكر مجيد سيفو . وتنوع هذا الرمز دلالياً . كذلك استبدل الرمز برمز ينطوي على الدلالة نفسها ، مثل الأرض والتراب . القران واضح بين الاثنين . وأجد ضرورة الإشارة مرة أخرى الى ولع الشاعر بقلب الثنائيات التي عرفتها الطقوس وحصراً في القران بين " السماء والأرض " لكن الشاعر قلب الثنائية كما ذكرنا سابقاً . وفي هذا المقطع :

نتنزه في ليل الذئاب ،

حاملين فانوس العذاب والذهب الذي أمسى تراباً

سركون " نحن أبونا التراب "

ولأجل كلّ هذا التراب نمجد قامة الهواء (45)

التناص واضح مع تجربة سركون بولص الشعرية والرمز المتعالي ـ التراب ـ بحضوره اليومي المألوف والكثيف . وقصيدة الشاعر تفضي لمركزية هذا الرمز وتكرسه في تجربة شاكر . فتحت هذه المرثية نافذة للوجع الآدمي والبوح به ، فما عادت الحياة مثلما كانت ممتلئة بالمتع والسعادات ، ولا مكان للترفية عن النفس فالأرض كلها خراب ودمار ، وفرصة التنزه الوحيدة ليست مكانية بل زمانية " التنزه في ليل الذئاب " ولأن الزمنية ليل ، فلابد من أمل طفيف ، وقليل من النور " حاملين فانوس العذاب والذهب الذي أمسى تراباً " والمشاكسة حاضرة في نصوص سيفو . فالفانوس الذي كشف وجوه في ليل الذئاب تحول الى نور للعذاب والضياع المتحقق عند تحول الذهب الى تراب . الخسارة طوفان الإحساس فيها عال والحياة حقل خسارات . ويكرر الشاعر فيه صرخته ويؤكد له :

سركون نحن " أبونا التراب "

تم اختراق النمط الرمزي المتسامي ، وربما أراد سيفو من هذا الانحراف الإشارة لأبوة المسيح ، لان التراب ينطوي على دلالة المقدس . وكأنهما تقاسما هذه الصفة . فالتراب مقدس وله توسعات المعنى المرتبط بالجغرافيات وتخيلات الجماعة ، وقداسة التراب معروفة لأنه صورة الهوية الوطنية والقومية ، ويرويه البشر بدمائهم صونا له ودفاعاً عنه وهو مطهر الجسد من دنسه التراب أم / ورحم يولد الآدمي ويستعيده ثانية بعد الموت . والعودة الثانية فيها أشارة على الانبعاث والموت " أبونا التراب " من الحماية التي يوفرها للانسان ، كذلك ينطوي هذا القول على ما يشبه المثل المتداول ، أشارة للفقراء والمهمشين / المظلومين ، المطرودين من الحياة المقبولة .

تحول الذهب كله تراب ، معكوس لدور السيمياء وعلاقتها بالمعادن النفسية وكميته كبيرة ، ولأنه وفير ، فان الفقراء / المظلومين يقدسون قامة الهواء ، العنصر الرمزي المتسامي الثاني ضمن الأنماط الأربعة العليا ، والعلاقة تشاكلية بين التراب / الهواء الذي يجعل من تبديات التراب ضرورة حياتية ووظيفية يحتاجها الإنسان .

نحن أبناء التراب

نسكر من رائحته

من دون انيسون (46)

الاختلاف بين المقطع السابق والجديد في الصياغة . والمعنى واحد في المقطع الأول الإعلان عن انتساب مباشر للأبوة ، وفي هذا المقطع استمرار لذلك القلب ، ويضع الشاعر الثنائية ، الحياة / الموت في نص قصير ، معاوداً اشتغاله عليها مرة جديدة وفكرة الثنائية هي مركز انشغالات الشاعر ، ودائما ما يكون مركزها هو العشق والعلاقة مع الأنثى .

الأحياء يفرحون بالمطر

هل يفرح الموتى بالتراب ؟

ولان مرئية سركون فجيعة والخسارة فيها ليست فردية وإنما جماعية . غيابه / غروبه ، فقدان لا يطاق فراقه ، وهو ـ سركون ـ معادل موضوعي للذهب الذي صاغته الخيمياء ، لكنه بعد الموت عاد الى عنصره الأول قبل التحول والذهب في التحصيل النفسي ـ كما قال د. علي زيعور ـ يعني التحول باتجاه الأعلى روحيا أو رمزيا أو اجتماعيا واقتصاديا . كان ذلك هدف علماء الطبيعة في التراث الوسيطي ، المسلم منهم أو المسيحي ، ثم حتى في " فاوست " عند جوتة وهو أيضا هدف الإنسان منذ خلق .

ويحيل الذهب الى الزعفران النادر / الثمين والحصول على احدهما يعني الحصول على الآخر .

أنتج الانسياق وراء الرمز هذا النص القصير جدا والبسيط للغاية ، وكأنه نقل لمقولات حياتية بالنسبة للمقطع الأول .

كلنا نكتب

نلتم عند شفتي النهار

نكذب حكايا الليل

فيصدقنا التراب

ويجمعنا عند قدميه السحاب (47)

التراب متوافق مع أبنائه وهو يصدقهم على كل ما يقولون . تحول هذا العنصر الى خاصية للإنسان ، وهما معا في محيط واحد . لأنه ـ الإنسان ـ ترابي ، والعودة للأصل / الأب في مرثية سركون ، تذكير بان الاثنين واحد ، وهو التراب السيد والمتسامي ، هو عنصر أزلي أكدته كل الديانات الوثنية والوضعية والسماوية وأشارت له النصوص المقدسة ، انه مادة خلق الإنسان ومن هنا أهميته ودوره الثقافي / والفني . وانتباهه الشاعر شاكر مجيد سيفو لعنصر التراب مهمة ملفته للانتباه ، خصوصاً في نصوص المراثي التي اشرنا لها وفي " نص " كلنا نتغرغر بالتراب ونجوع الى عيون القديسين " في ديوان حمى انو . لماذا تستدعي المراثي التراب ؟ قلنا بان التراب مادة الخلق الأول ، وهو محيط الخصوبة النباتي والحيواني واقتران الانبعاث معه ، جعل منه ـ التراب ـ مركز الخلائق كلها ، كما يمثل رمزيا الرحم الحاضن أول مرة وأخيراً بعد موت  الكائن . موت من هذه الثنائية تشكلت الأهمية القصوى للتراب ، كذلك تنوعت وظائفه وتعددت . يستدعي الموت مادة الخلق الأولى / التراب ، لتأكيد حضور هذا العنصر مرة أخرى ، وحضور حياة ، وانبعاث وكأن الشاعر شاكر سيفو يقاوم الاندثار والموت باستدعاء مادة الخلق / التراب ، كخصوبة حاضرة ومستمرة.

 من أين لي أن أكون واسعاً والعالم من حولي أضيق من ثقب الإبرة

هكذا دائما تضيق عليَّ الحيطان بتغريد بلابلها

وصاج أبوابها .

لكنني حينما أجوع أكل من الدملوك وأزيل الصدأ والثقوب

فيأكلني التراب واشبع منه وبه .

تقطنين في لحظة وارى عينيك زقورتين لا يصلهما الغبار

شوشت السوداوية على الأنا . والعالم صغير والذات اصغر تذوي الأنا كليا في اللحظة التي يموت فيها الآخر وهذا التلاشي تفتت كلي وحنين التراب إليه يلتهمه / يأكله ، رمزيا ، بمعنى يستعيده (31) . يعود مرة ثانية الى مكونه الأول ، لكن الأنا تشع منه الخيمياء وتحول ذهبا لا يمكن نسيان أصله الكامن في الوعي أو اللاوعي الفردي أو الجمعي من اجل من يا نوارة يحتفل عيد النور بعطلة النور ؟ امن اجل فانوسه الناحل ومرآته الملطخة بالسخام أم لأجل الجسد الذي ابتكر ضوءه وهو في رحيله :

يتغرغر بالتراب ... ؟

هل يطيب لك المكوث في النرجس أيها الجسد (48)

يكرر الشاعر طرح الأسئلة أو الصراخ بالعزيز المفقود ، الموجود ، أو البعيد عنه واختيارات الشاعر دقيقة ، وليست اعتباطية ، خصوصاً ما له علاقة بثنائية الحياة / الموت وتوظيف ما يدل عليها رمزياً . يولد الفقدان شعوراً بالألم والفجيعة والإحساس بالمرارة .  ويقترح الشاعر مصدّاً للموت عبر الرموز المضادة له أو التي لا يقدر الموت على تعطيلها وفي هذا المقطع سؤال حول النرجس وهل يحلو للجسد الغارب البقاء في النرجس ؟ ويثير هذا انفتاحاً على التشاكل الرمزي والتداخل واتساع القراءة .

ذكرت في بداية الدراسة أكثر من إشارة للإله الشاب نرجس والإله الكنعاني أدونيس المقتول . وكيف تحول الاثنان بعد زهر النرجس وشقائق النعمان في فصل الربيع ؟  ويعني هذا بأن نرجس متجدد الانبعاث دائماً وانبعاثه مقاوم للموت وزاول الشاعر لعبة تعميم التجدد الأسطوري ولم تكن خاصة بالإله الشاب القتيل ، وإنما هي مستوعبة للأنثى ، ولا أدري هل كانت هذه الأساطير المبكرة تعبيراً عن سلطة الثقافة الذكرية ؟ هذا واضح في تفاصيلهما . ولأن نواره مخلقة من التراب ، تناولها وشعت به وفيه ، هذا الجسد الذي كان يغرغر بالتراب وهو يواجه لحظات الموت الأخيرة . ويلاحقها الشاعر ، من خلال جسدها :

هل يطيب لك المكوث في النرجس أيها الجسد ؟

لم يستفق سركون في نص " قامة الهواء " ولم يعلن الجسد في هذا النص عن رضائه للمكوث وسط النرجس .

تقول الأسطورة بأن الجسد سيمكث وسط النرجس ليبقى نائماً فيه ستة أشهر وفي الثانية يستيقظ ليعاود حياته مرة ثانية . هذا ما أراده الشاعر ومن خلاله يمنح عزيزه مثولاً وبقاء ، والأسطورة وحدها قادرة على ذلك . لأن [ الميت كلام له طاقته الغامضة السحرية ]. ( الميت ) لا يخلع المعاني على الأشياء فحسب وإنما يخلع عليها الوجود أيضاً . ليس الكلام الاساطيري مجرد علامات وإشارات معتقدية . إنما الكلمة فيه هي عين الشيء الذي نطلق عليه ، والشيء بالمقابل هو عين الكلمة . ما يتحقق بواسطة الكلام الأساطيري ، هو حقيقة مطلقة ، وفي خضم هذه المقولة يرتفع التجاذب بين العلاقة والمعنى . وتقوم مكانه علاقة تواجد جوهري محض (49)

تنطوي الأسطورة ورموزها على طاقة قابلة للتوظيف وتفجير الإحالات  التي يريد المبدع  الاشتغال عليها .

من اجل من يا نوارة يحتفل عيد النور بعيد ميلاد النور المطل على أجنحة التمثال ليلة هروب الروح الى العاصي ؟

كان عسل الكتابة يسيل من شفتيه

وتحلبه نوارة وترضع منه

وكان يجوع ...

وحينما يجف حلقه

يعود الى التراب ويتغرغر ...

الى تراب كان دائما يجوع

والى عيون القديسين

ويرش ماء الورد على أسرتهم

ويدوخ من لعلعة نداءاتهم عند باب الفردوس

.........................................

وحين نبلغ ثمالة الجنون

ننزع نجومنا ونلصقها فوق أكتافهن

وأحيانا فوق حلمات أثدائهن

وأذاك هن يطيرن الضوء منهن / وتشع جباهنا بالتراب (50)

الجسد بؤرة مرئية في هذا النص ، لان الشاعر يرمز للكائن بجسده ، والطاقة الكامنة فيه ، والجمال والشعر ودائما ما يكون غروب الجسد متعاليا ، صاعداً الى الأعلى ، مانحاً له صفة القديس . فعيد ميلاد النور يطل على أجنحة التمثال ليلة هروب الروح . وعندما امتلك سركون تذكرة الغياب حل ضيفا على الغيمة التي ستمطره ماء يخصب التراب الأرض والعودة الى التراب مرة أخرى ضمنيا .

ها أنت تجرح بموتك ارض الجسد

وتغني لمياه ملائكة من قمح يشهقون في العجين يتصل سركون بالأرض ، واتخذ دور الإله انو النازل من السماء ماء . جسده يجرح جسد الأرض ، يفتضه اتصاليا ، ويرتل أناشيده لمياهه الملائكية / القدسية وينتج أقراص العجين . والعجين حالة من تحولات القمح ، هو اله مملوء شبوبة ، لكنه قتيل ، مثل إلهة الشرق الشباب ، وتحولاته اللاحقة خبزاً وطعاماً مقدساً ليسوع . سركون صورة رمزية لآدم

تصدعت الأضلاع

حينما اخترت ضلعا لسركون

لأصلح في جنبه ضلعا آخر (50)

أنها أسطورة جديدة تتماهى مع أصل أزلي ، ولكن من هي المخلقة ؟ والعلاقة بين الأرض / التراب والقمح متآزرة ولولا التراب ما ظهر القمح / الإله الشاب الهابط الى التراب بعد حصاده ويعاود انبعاثه ثانية . وقد أدرك الشاعر شاكر مجيد سيفو الثنائية المتلازمة بين الأرض / الانبعاث . ( يختلف الفضاء الأسطوري عن الفضاء المحسوس الذي يدركه الفرد من خلال تجربته الحسية ويتلون المكان فيه بألوان ذاتية عاطفية حسية ، التجربة الجماعية لدى الشعوب القديمة تضفي على الأجزاء من المكان معاني خاصة بالتراب احد العناصر الأربعة ـ التي اشرنا لها ـ الهواء / التراب / الماء / الشمس ، وهو احد الأضلاع الأربعة للصليب المسيحي ، رمز القوة / الاكتمال / الخصب . والصليب شكل الوردة ، ومعاودة الشاعر لدلالتها كثيرا استحضار للصليب بدلالته اللاهوتية وإشارة لتحولاته الغفيرة في الحضارة العراقية . والصليب ( الجهات الأربع ) أفضاء نحو حياة ، حلم الإنسان فيها أن يظل حاضراً . ويبدو بان الصليب ( الجهات الأربع ) له معنى لا هوتي ورمزي ، يمتد بعيداً في الذاكرة الأزلية . وللرموز أهمية ـ كما قال الأستاذ حكمت بشير الأسود ـ وقدسية بالغة في حضارة بلاد الرافدين . فقد ارتبطت تلك الرموز مع الإلهة والأشخاص والعبادات فترسخت في نفوس العراقيين وتغلغلت في تفاصيل حياتهم آنذاك (51)

المربع رمز للبقاء والقوة والتجدد ، من هنا كان سبب توظيفه مراراً ، وهذه الدلالة هي احد مكونات الإحساس بالأنوثة التي ذكرناها " كن ادميا يهز نخلته ـ دائما ـ من الشرق والغرب ، ومن الشمال والجنوب (52).

منشؤها عدم تجانس المكان وان لكل مكان ولكل اتجاه مثل الأمام والخلف واليمين والشمال وأعلى الشيء وأسفله ومركزه ، قيمته في ذاته يستمدها من صلته بالمقدس أو غير المقدس ، بل وله دلالة خاصة وحياة أسطورية . لذا فان الفضاء منقسم الى مناطق ذات " قيمة رمزية من قبيل القداسة والسعد والنحس والشقاء والنعيم وما إليها من الدلالات ذات الصلة بشبكة من العلاقات والروابط الرمزية بين الكائنات على اختلافها (53) .

اتضحت صورة المكان في نصوص شاكر مجيد وما ينطوي عليه من تنوع المعنى واغلب الإحالات تؤشر للفضاء الأسطوري الممتد في نصوصه .لذا فانا اعتقد وجود الخيط الموحد بين الصليب اليسوعي بأصوله السومرية وصعوداً للحضارات المتأخرة ، فتناظر مع تنوع الجهات التي تكرر استثمارها في النصوص وعنصر التراب واحد من العناصر المتماهية مع المربع / الصليب / الوردة

يولدون من رائحة التراب

وفي نهاية المطاف

يسكنون السماء (54)

يرفض الشاعر قبول الموت غيابا كليا ، بل هو تحول آخر / وجديد صعود الى السماء ، عروج إليها وتقديسا له أصبح الموت في نصوص سيفو " ينبوعا لحياة جديدة "

كان ـ دائما ـ يسافر الى السموات

ويسكن القمر (55).

قلنا في مقدمة الدراسة برأي د. عبد الكريم ألخطيبي عن العطر وأرجأنا الإشارة الى رأيه عن  الموسيقى ، التي يجب أن تكون حاضرة مع الموسيقى وسأحاول في هذا المجال الإشارة الى هذه الثنائية العطر / الموسيقى ودور الموسيقى عبر الناي / النايات ، وهي من الآلات النفخية المعروفة وسنرى كيفية توظيف هذا الرمز ؟ وهل ظل نمطيا ؟ أم تمكن من إنقاذه عبر التنوع الدلالي .

قال فرويد أن كل واحد يحلم داخل لغته . وتمنحنا الأسطورة فرصة استعادة أو تذكر أحلامنا القديمة . وأسطورة برومثيوس حلم أنساني عن لحظة تحقق طفرة كبيرة في التصور البشري لوجود عتبة جديدة في حياة الإنسان . برومثيوس رسول ابتكر رسالته الإنسانية ولم يفوضه بها رئيس الإلهة في البانثيون الإغريقي ، الإله زيوس . بمعنى بإمكان الإلهة أن يعرف بارتهان كل شيء بالإلهة ولان قرار الإله برومثيوس ذاتي يعني تمرده على البانثيون ورئيسه ، تلك واحدة من اخطر المراحل في تاريخ الحياة البشرية ، وهي عتبة باتجاه حضارة أكثر تطوراً وهذا ما حصل وأرعب الإله زيوس الذي عاقب برومثيوس ولم يحرره إلا هرقل البطل الحديد . تشير أسطورة هذا الإله الى انه بقرار ذاتي سرق النار وخبئها بقصبة المزمار / الناي وهبط بالنار الى الأرض وكان المزمار موقدها المجوف . منح الإنسان ناراً وموسيقى وكلاهما احدثا تحولا كبيراً في حياة البشر.

الأبجدية / الحروف العربية الثمانية والعشرون هي التجسيد الإلهي في جسم الإنسان واعتماد فونيم الحرف محاولة لإعلاء وحدته واستقلاله.

من يقرا دواوين الشاعر كلها ، يتشكل لديه انطباع بوجود قاموس خاص بالشاعر من الرموز / الأساطير / والملفوظات وهي ليست قليلة وإنما كثيرة والمثير للدهشة ، أنها تتكرس باستمرار ، وتكرر بعض المفردات ، حتى صارت شائعة جداً مثل الشحعقة / تشهق / الأصابع / العجين / الرياح / الريح / سبع عيون / العسل / الشجرة / الزهر / الورد / التراب / الأرض / الجهات الأربع / البنفسج / أسماء الأدباء والفلاسفة / النخلة / .....الخ وهذه المفردات تحيل لفضاءات أسطورية وغيرها لمرحلة حضارية . والأسطورة متمركزة في تجربة الشاعر وكذلك الطقوس والشعائر . ويكرر الشاعر في أحيان أخرى صوراً رمزية لها أصول قديمة جداً مثل التفاح / الزيتون

وعناية الشاعر بالرموز متبدّية وعبرها يعيد حضور الثقافة والدين في أشور ، مثل زهرة البيبون / شما قورات / شميرام / حدائق نينوى . ارتبط القاموس اللساني مع الشاعر ارتباطا مهما وهو كاشف عن ثقافة ومكوناتها ولا توجد كلمة واحدة / لفظة على سبيل المثال سائبة خارج فضاء ثقافي فردي / عام هو المكون لها . وحتما يرتبط تكررها بمعرفة الشاعر لإحالاتها وما يمكن أن تنتجه من سياق شعري . وهل للسياق تحفيزات للدلالة التي تشف عنها الكلمة ؟ نعم الكلمة وحدها مجردة من كل شيء باستثناء معناها ، لكن الدلالة تتشكل من وجودها ضمن السياق الذي انتظمت فيه وهنا الأهمية الاستثنائية للشعر حصراً وللتكرار وظائف فنية ، منها إيقاعية مثلما هو معروف عن الشعر العراقي القديم وفيها تنشيط لذاكرة الراوي ، لان النصوص شفاهية ، واعني في هذه التجربة منح المفردة هيمنة في النص / النصوص لأسباب اجتماعية / نفسيه / ثقافية  .....الخ والشاعر شاكر سيفو يعرف أيضا بان للمكرورات اللفظية شعرية موزعة بين المعرفي والفخ الشعري والتكرر صحوة لحظية ـ ربما ـ للمفردة وصعودها من أعماق الذاكرة الغائية الى الذاكرة الصاحية / اليقظة وتجد طريقها للتوظيف يعني الحضور الكثيف جداً لكلمات ومكونات جميلة كاملة متقاربة مع بعضها بان الشاعر لا يقوى على التنازل عنها بحيث صارت مفتاحا يتدخل في صوغ النصوص وخصوصاً الايقونية . وكثيراً ما تعامل سيفو مع المكرر من الكلمات بوصفها رموزاً تنطوي على قدرة التحريك في السياق اللساني وتفجير دلالته ، لذا اعتبر الشاعر هذه الرموز / الألفاظ محفزات ، مساعدة على التفجر / والتدفق ، موظفا إمكانات الحكاية في منح الإيقونات طاقة غنائية ، شفافة وقريبة من روح المتلقي . السرد احد عناصر التجربة الفنية للشاعر ومنه الانفتاح على التشكيل / الصورة التي هي حاضرة ببهاء وفتنة . التكرر ذاكرة خاصة للموضوع الشعري . نصوص الحب والعشق ومكررات مفردات الورد / وأنواع الزهور ، القمصان ، أجزاء الجسد وأكثرها حضوراً الرابية اللذية وبانزياحات عديدة ، السرير/ الوسائد ، الضوء إما المراثي فالحضور فيها للون الأسود ، الغيمة ، النايات ، القمح ، العجين ، تصوغ كلها نسقا للتراجيديا

من جبين الأفق ، ونخبئها في عبنا

الجدل مستمر في الثنائية التي قالها بها بول كلي وأكد عليها الشاعر والجدل ، نحو الأمام والى الخلف ، موت / حياة ، نزول / صعود . كل هذا الجدل والفضاء هو القاسم الثقافي / الأسطوري / والشعري لذا فان الشاعر يتناس عنصر الانبعاث ويعود إليه ليستقر وسط بؤرة نصوصه الحياتية ، المجمدة للحضور وليس للبقاء ، والأول معنوي / اعتباري وهو ممكن جداً ، لكن الثاني فزيائي وغير قابل للمثول المكاني . الرثاء جزء من نصوص الحياة والحب وهو رثاء الذات / الأنا بسبب استدعاء الخيبات من عمق تاريخها والخسارات الكثيرة المتكررة . الإنسان حاضر في نصوص سيفو وأكثر حضوراً في " أطراس البنفسج " حيث الحياة / الإنسان المحيط . كلها هي مكونات النصوص ولا يمكن قراءة النص بعيداً عن عناصر النص الفنية ومرجعياته وموجهاته وفي أحيان عديد تتداخل الألوان في نصوص العشق والندب الأرجواني / البنفسج / والمراثي في شعر سيفو ليست بكائيات ، بل هي تعيد صياغة الغروب الى انبعاث وصعود نحو السماء أو النزول الى عمق التراب ، من اجل معاودة التجدد مرة أخرى ، بمعنى استمرار حضور الغائب . لان نص " قامة الهواء " مهداة الى سركون بولص حياً ، بمعنى استمرار حضور الشاعر في الحياة عبر منجزه الفني القصصي المغفل عن الدراسة ، والشعري واسع الصدى ، على الرغم من أني اعتقد بمنجز سركون بولص السردي مهم جداً .

لم يرد الشاعر الاقتناع بغياب الشاعر ، لان ما يشير الى الحضور كثير ومتوفر.  فيض النص يحكم مثول الشاعر في الحياة / والذاكرة وحضور الشاعر أقوى من غيابه .

               سوف ننزف عمارات من السنوات

              كي نحلق بأنفاسك أو نطأ بابك

              سوف نمضي بلا هواء

              لنمسك بأرجوحتك

               *********

          من اجل أنفاس ملائكتك الشعرية

          نجمع قامات الريح....

          نرحل معك في قارب نوح

         كما ترحل الذكريات

        في ياقات قمصاننا ....

        نقطف حدقات العصافير . (56)          

  

يعيش الشباب الحياة والموت معاً ، وقلنا بثنائية واضحة . والشاعر يعيد أسطورة الإله الشاب القتيل النازل إلى العالم الأسفل ، ويظل الناس بانتظاره مرة ثانية في موسم الصعود والتجدد ، توظيف هذه الأسطورة كثيراً وبتنوع ، فيه تمجيد للحياة والإصرار على عيشها والقبول بها . ويأخذ الشاعر من الأسطورة المعروفة ثيمة ويتعامل معها شعرياً ، وفي أحيان يجاور بين الحقيقي والأسطوري ، بين التخيّلي والواقعي . ووجدت في هذا النص أجمل توظيف لأسطورة الإله الشاب المزدوج مع الإنسان العادي ، ولكنه شهيد في إحدى الحروب التي عشناها .

ذات مرة

رأيت شهيداً يحمل تابوت

وحينما طلبوا منه أن يفتحه

خرجت منه عائلات من شقائق النعمان (57)

النص واقعي ويوميته معروفة ، لكن الفضاء الحلمي / التخيلي فتح النص على مميزات أسطورية ، وغرائبية ، لن تكون لأي إنسان ، وهذه الطاقة اللامعقولة ، أضفاها الشاعر على الشهيد الذي رآه ذات مرة حاملاً نعشه ، لكن الجماعة هي التي طلبت منه أن يفتح تابوته ، وليس الشخص الذي رأى . وحكاية النص قصيرة كالحكايات الأخرى وتنفتح على المعنى والفحص . والصفة السردية في النص شاخصة ، الذين رأوا الشهيد هم الجماعة ، الزمان فصل الربيع ، المكان فضاء خارجي ، هذه هي سمات النص الحكائي وأيقظ الشاعر شعرية الحكاية ، من خلال استمرار العلاقة بين الشهيد والجماعة التي استجاب لها عندما طلبوا منه فتح تابوته . الحوار بين الفرد الذي أنتج البطولة باستشهاده وبين الجماعة التي انتظرت البطل . حوار الجماعة معه فيه تمجيد له ولخصائصه الاستثنائية . للجماعة دور إيجابي ، تمثل بالحوار مع الذي حمل تابوته ، وهذا أمر غير ممكن ، لكنه يسير وسهل في الأسطورة والحلم . نجح الشاعر في إعادة كتابة الحكاية شعرياً من خلال المعنى . والحكاية مفتوحة على الرغم من انغلاق الأسطورة [ إن كتابة قصة أو روايتها ليست إلا إنتاج لذة تكرار ، ومادام التكرار المطلق مستحيلاً فأن كل تغير للحكاية هو دائماً حديث متعلق بهذه الاستجابة](61) وما يحيل للأسطورة الخاصة بالإله الشاب القتيل / أدونيس هو شتلات شقائق النعمان المعاودة ظهورها بلون دم أدونيس / الشهيد ، والنعمان دال على آدون / دموزي . والإعلاء للصفة له حضور أشبه بالرقابي من قبل الجماعة التي تمتلك حق الطلب بفتح التابوت لترى ما يدل على الاستشهاد وهو ظهور شقائق النعمان . والمثير في هذا التغير الحاصل تأصل أسطورة القتيل وعودة الزمن إلى أسطوريته ، أي اختزال ستة أشهر كاملة بلحظات . والانبعاث يتحقق بعد ستة أشهر على وجود الإله في العالم الأسفل / الجحيم أما الشهيد فإن زمن نزوله للعالم الأسفل منذ لحظة موته / استشهاده وحتى اللحظة التي طالبت الجماعة الشهيد بفتح نعشه حيث تبدّت له شقائق أدونيس / النعمان .

خرق هذا النص ثوابت عديدة أو ما تعارفت عليه الحكايات واللافت للانتباه في النص أن الجحيم / العالم الأسفل هو التابوت وليس القبر . لأن تمظهرات العالم الأسفل الدورية تبدّت بشكل مفاجئ وكأنها – شقائق النعمان- علامة على دمه واستشهاده . ويمكن قراءة شخصية الشهيد على أنها مستمرة بالحياة وهو الحامل لنعشه ، بمعنى ازدواجيته ، أو الشهيد له حضور من خلال الشقائق ، حضور داخلي / العالم الأسفل ، والتواجد الخارجي ماثل للآخرين وقد رآه الشخص ، إنه الحضور الفيزيقي ، وهنا الأهمية التي منحها الشاعر للشهيد . سمات النص الأسطورية الرمزية واضحة ، لكنه واقعي ، لأن الواقع رمزي وأسطوري كما قال كاسيرر . وانطوى هذا النص على صور حلمية ، وللأسطورة فيه مكانة على الرغم من قصر الحكاية ، لكنها مغتنية بصورها التي استطاعت أن تخلق واقعاً جديداً وليس متماهياً مع الواقع . وكما قال كاسيرر استطاعت هذه الرمزية الأسطورية أن تضفي الكلية والموضوعية على الواقع الذي استحضره الخيال الشعري .

بالإضافة لملاحظاتنا حول زمن الحكاية ، أعتقد في تحقيق الفعل شيء من السحرية تمنح الأسطورة حيوية الحضور في التصورات الجديدة ، و التحقق عبر طاقة السحرية ميزت أسطورة النص . الكلام الذي قالته الجماعة وطلبت به فتح النعش بأسطورية أذا أخضعنا النص لتأويل سحري ، لان الحكاية تشف عنه ، وما تعّدى تمظهر سحري لقوة الكلام وسحريته وأيضا ما ينطوي عليه الفعل الذي قام به الشهيد وظهور شقائق النعمان .

الموت تعطيل للحياة و إيقاف كامل لإمكانات الفرد العضوية كما أنه تعطيل ولو مؤقت لدور الأفراد / الجماعة ، لأن للفجيعة سطوتها وقسوتها . لذا كان جواب الحكاية / النص واضحا بخروج عائلات شقائق النعمان ، الأسطورة الخاصة بالغياب انتصرت للحياة و تمظهرت عن جماعة معوضة لفقدان الواحد .

ذات مرة

رأيت أبي حاملا تابوته

وحينما طلبت منه أن يفتحه

طار منه قوس قزح (58)

على الرغم من التماثل اللساني بين النصين و الاختلاف طفيف لكن فضاءه التأويلي متحرك وفيه تمجيد للأب واعتراف بدوره ومكانته في حياة الابن . ابتداء النص متماثل مع السابق

ذات مرة / رأيت " شهيداً " يحمل تابوته

ذات مرة / رأيت أبي حاملا تابوته

الأب بديل للشهيد وربما كان ذلك ولكن في نوع آخر، أنه شهيد التضحية من أجل العائلة و الابن المعترف بأبوته ، الموت خاتم الحياة .

الأب حاضر في ذاكرة الابن بعد وفاته ، لكن باق ، أضفى عليه قداسة متعالية أي متسام بعد موته ، وحده حامل تابوته ، الفعل في نص الشهيد حاضر ومستقبلي " يحمل"  وكأن الشاعر جعل من الاستشهاد دفاعاً عن الوطن مشروعاً إنسانياً . أما الفعل في نص الأب فإنه ماض ولم يمنحه مستقبلية والأرجح يتمثل حضور الأب ومستقبله عبر ابنه الذي طلب منه فتح نعشه ، طار منه قوس قزح . فعل ، الجماعة طلبت من الشهيد والابن طلب من الأب . خرجت عائلات من شقائق النعمان وفي نص الأب طار قوس قزح ، تحولت ألوان الطيف السبعة إلى طيور ملونة إن تميز الشهيد بلون واحد هو الأحمر ، فأن فرادة الأب بألوانه السبعة وهنا تكمن جلالة الأب المتميزة وكان الصوت أراد إعلاء شأن الأنا الممثلة امتداداً للراحل .

الانسجام بين وحدات النص متحقق وتوفر ضبط في الصورة وتحولات المشهد والعلاقة بين الاثنين في النص الأول المقترن مع الجماعة / الكثيرة ، خرجت عوائل للشقائق ، والعوائل متناظرة من حيث العدد مع الجماعة التي طلبت من الشهيد . وكان في النص الثاني قوس قزح هو الطافر بعد أن فتح الأب نعشه ولأن قوس قزح مكانه سماوي ، محلق ، فلابد وأن يضفي الشاعر عليه ما يحقق الانسجام بين قوس قزح ومكانه السماوي ، فقال عنه (طار) أضفى عليه وظيفة الطائر ليحقق تماهياً . وهنا منح الابن أباه صفة الطائر وهي من أهم الصفات التي تضفي خاصية على الطائر ، غير موجودة عند غيره ، وهي العلاقة مع السماوي باستمرار ، صحح له علاقة مع الأرض ، لكنها قليلة ، مقترن دائماً بالمرتفعات / الأشجار ، السماء ، بمعنى نظافته وطهارته بسبب علوه دائماً وابتعاده عن الدنس الأرضي .

أكثر ما يلفت الانتباه في هذا النص القصير ، تجاوره مع النص السابق وكان الشاعر أراد أن يعطينا أنموذجا في التماثل والاختلاف في الثيمة الشعرية ولكن كم هو غنى كل منهما.

تحول الأب إلى طيور ، غير معروفة الأسماء ، ومع ذلك فأنها ذات وظيفة سماوية ، وفي الأساطير العراقية القديمة كان الآلهة سماويين والمقترن مع السماء مقدس وهذا ما تمناه الابن لأبيه لأنه حرره من التابوت / القبر/ العالم الأسفل ، وفوّضه بفضاء أوسع ومفتوح وحقق له حلم الخلاص من الموت / والعالم الأرضي . لقد تحول الأب إلى أفضل من ابنه ، هذا ما حصل بعد الموت .

لم يحدد الشاعر اسم الطائر / الطيور ، لكننا عرفنا عددها من خلال عدد ألوان قوس قزح ، أي أن الأب تحول إلى سبعة ألوان / سبعة طيور وحتماً هي أهم الطيور المعروفة من قبل الإنسان ، وهي الأقرب إليه بالعلاقة والتصور وثقافياً أيضاً ، لأن الإنسان ذخيرة من الثقافة موزعة بين النبات والحيوان والطيور ، وستكون أكثر المخزونات في الذاكرة مقترنة مع الطيور . ومعروف بأن الذاكرة الفردية / الجمعية مختزنة بالأغاني / الحكايات / الأساطير / الحكايات الخاصة بالطيور وهذا كله أو بعضاً منه سيمنحه الابن لأبيه ، وإذا أردنا استعادة المخزون الثقافي الخاص بالطيور ، سنجدها معبرة عن رموز ، بعضها ديني وأخروي مما يجعلها أكثر قرباً من الإنسان في أحلامه وتصوراته ما بعد الحياتية .

واقترنت بعض الطيور مع أنبياء ونسجت حولهم قصص وأساطير . وقبل ذلك ، كان للطائر مكانة ، ساعدت سميراميس ، الملكة المتوجة بالحمام الذي تبناها بنتاً له وأطعمها فصارت ملكة مثل الحمام ، هو الآخر ، كان ملكاً محلقاً في السماوات والقران بين سميراميس / شامورامات وطائر الحمام تمظهر في حياة الملكة ألحالمة لفضاء مفتوح غير متناهي وحاولت هذا الحلم بتجاوز الخرائط والجغرافيات ، هو الصوت مرتبط بها ، هي حدته ألأشورية التي عاود الحوار معها ، لأنها أنموذج متسام بالعظمة الأشورية

جراحاتنا

نحن نضمدها

بنبوءة التراب

وعطر شمورامات

ورضاب الحبيبات

يا له من رضاب !!!(59)

في المقطع السابق انحرفت دلالة التراب التي تحدثنا عنها كثيراً والانزياح في معناه الجديد مختلف ، وكان ابتداء النص هو وراء الانزياح .

جراحاتنا / نحن نضمدها / بنبوءة التراب لم يكن جرحا ، بل هو جروح ، والجراح مستمرة وكثيرة مع التكتم على سببها لكن النص يومئ  لذلك . والعلاج تضميد وليس مداواة . ونبوءة التراب هي الضماد وعطر الجدة شمورامات التي لن تكون بمعزل عن زهر البيبون ، ويا له من عطر ، كم تكرر في ديوان أطراس البنفسج . وتبدو الجروح كثيرة ، مستمرة ، هي ندوب حكايات العشق والمحبة التي جعلت منه مجنونا  وكررها مرارا والجنون نيشان التباهي والفخار .

لم يبق التراب بنبوءاته الحافلة بها الأساطير وحَّل بديلا له العطر الذي تمركزت النصوص حوله ، واقترن هذا الرمز برمز آخر هو الزهور ، الورود وتجاور مثلما قال د. عبد الكريم ألخطيبي مع الموسيقى وهذا مجال حيوي في إفضاءاته الفنية والثقافية وهذا أمر في غاية الأهمية ، لان العطر لا يعني العلاقة مع الرائحة فقط وإنما حاولت الورود وأنواعها وعلاقتها بالكيمياء . إذن العطر رمز مركب له علاقة بالطبيعة منذ ابتداء الحضارة الزراعية وما قامت به المرأة في هذا المجال كذلك له علاقة أخرى مع العلم والتقنيات الحديثة لكنه – العطر – يتمركز في النهاية بوصفه تعبيراً عن إعلان الأنوثة لوظائفها من خلاله لكن عطر شمورامات هو الذي له أصول بالايروس الذي أشرنا له وتبرز الازدواجية بين الأصول المبكرة [شمورامات] وبين [رضاب] الحبيبات باعتباره إعلاناً للتبادل الفمي بين مزاولات الأيروسية ، والرضاب طعم الرغبة الأنثوية المهييجة بالاتصال المصي فمياً ! يا له من رضاب !!

والملفت للقراءة النقدية إن الشاعر شاكر سيفو معني بتنوع دلالة الرمز ، ولابد من اتضاح ثنائية الأصول بما تعنيه دلالياً بالنسبة للرمز وكذلك الاستثمار الآني له ، عندما يتبلور المعنى الجديد للرمز ضمن سياقات نصّيه .  الشاعر وحده هو المبتكر ، واتضح هذا الولع الفني في التكرر الذي يجئ بما هو جديد . الصورة الشعرية تخيلات الشاعر ، لكنها لا تحل بديلاً للحاضر فقط وإنما للماضي المستعاد من وعي الشاعر ولا وعيه ، لأن رموزه الغفيرة هي ميراث الوعي واللاوعي الجمعي . وأكرر بأن الصورة ليست بديلاً أو تعويضاً للواقع ، لأن الشعر يجب أن يكون كذلك ، هو ابتكار لما يشبه الواقع في سردياته المتصورة . ولو كان الشعر واقعاً لما كان شعراً .

في دواوينه زحام إيروتيكي ، مكشوف وآخر تحفر وراءه حتى تصل إليه . الايروتيكا الخفية هي في عمق الأسطورة . أي بمعنى تنطوي الأساطير كثيراً على ايروتيكا مكشوفة والقراءة تمتحن التعدد أنه من مكشوفات الايروتيكا .

كان دائماً يدحس أصابعه ولسانه

في حّمالة الرمان

ينثر وينقر حباته 

ممارسة الجنس ، مظهر ارتباط مع الحياة وتعبير عنها ، بالإضافة إلى ما يوفره من متعة عالية وتشارك . أنه يديم الحياة ويجعلها أكثر جمالاً وقبولاً . والجنس دنو من الآخر وقبول الذوبان فيه والفناء ، لكن الصحو أقوى وأشد . وفي الجنس إعلان عن امتلاك الآخر مؤقتاً لكن لحظة الامتلاك تظل معيوشة ، وباقية

أووووووو !!!

نسيت جسدي في سريرها يرتعش

جراحاتنا

نحن نضمدها

بنبوءة التراب

وعطر شمورامات

ورضاب الجيبات

يا له من رضاب !!!              

أو : لم يستطع أن يفرق بين وجه حبيبته

ووجه القمر

إلاّ عندما صعد على سطحه (60)

تحول العاشق إلى طير وبعض الطيور وخصوصاً العصفوريات رموز جنسية ، لأنها خفاقة وكثيرة الرفرفة وسريعة الزوغان والطيران والعاشق نقار كما في النص ، ينثر وينقر هما صفتان للشاطر والذكي القادر على نول ما يريد بسرعة وخفة وبدون أن يراه أحد . النهدان ، رمانتان وسط حمالتهما مستوران ، لأنهما يفضحان الأنثى ولا فرق بينهما وبين عضوها الأنثوي والحمالة سترها وغطاءهما ، والتسلل إليهما من وراء الحجاب أكثر إثارة للمتعة والفوران والتشارك ، لأن الحجاب معبد الأنثى ضد الغزو الذكوري وفيه شيء من تمنع ودلال [النهد الأنثى التي تنقذ معنى الإنزال من الفوضى . ليس الذكر مكافئاً للفرج الذي هو الفضاء الكوني ، حيث تدور لعبة العناصر [الهواء ، الماء] فالتقبيل والمص ، والإنزال ، هي جميعها كتابة مقدسة على جسم المرأة] (61)

هو يكتب على نهديّ الأنثى وكثيراً ما تضمنت دواوينه مثل هذه الكتابة مرة يقولها صريحاً وأحياناً ينزاح النهد كله إلى جزء صغير منه ، الشامة المتوله بها وبأسطورة الرمان ، الفاكهة المقدسة في سفر نشيد الإنشاد استعادها الشاعر بوصفها مركزاً للجسد وفيضاً من العطاء السخي للماء ونبع الارتواء ، يمصها الطفل يتغذى منها ، والرجل مستجدياً الممكن الخفي ويصعد توتره ، هو يغذيه بماء لسانه / ذكورته فاللسان قضيب كما قال الخطيبي ، إذن هو يزاول اتصالا جنسياً مباشراً مع التكور المقدس ، الرمانة انزياح للنهد ، لأنها مدّورة / مكسورة مثله والحلمة شبيهة بوردة الرمان .

وكانت الآلهة الإغريقية ديمتر تظهر دائماً مع الرمان أو الخشخاش كما قال الأستاذ علي الشوك وكلاهما أحمر بلون الدم وظهرت أثينا عند انتصارها حاملة رمانة وأضاف الأستاذ الشوك :

لن أقول أكثر من هذا عن الرمانة ويضيف بوزانياس " لن أقول أكثر من هذا عن الرمانة ، لأن حكايتها تندرج في باب الأسرار " أي أنها كانت أسطورة تروى في أيام الطقوس الدينية ، وهناك تماثيل للآلهة هيرا تظهر فيها حاملة سلالاً من الرمان . وحمرة الرمان أرجوانية مثل الدم ويطلق على الأرجوان باليونانية كوكوس ويقال لعضو المرأة كما ذكر ذلك الأستاذ علي الشوك .

كثيراً ما استثمر الشاعر مفردات شائعة جداً في التداول اليومي وتقترب من العامية وهي كذلك ومنها (مرهدنة / قندرته / طابوكة / معجانة / يافوخ / قريولة) وفي نصه الايروتيكي وظف مفردة : " يدحس " المعبرة بوضوح واكتمال عن فعل الاتصال الثنائي ، لكنه اتصال بواسطة قضيب بديل للذكورة " أصابعه ولسانه" وتجاوزت "التفاحة" رمزاً حوائياً في أسطورة الخطيئة ، ولشيوعه جداً ركزت على رمز "الرمان" .

النار كما قلنا وكررنا سابقاً أحد العناصر الرمزية العليا مع التراب / الهواء / الماء . أنزلها برومثيوس الى الأرض ومعها المزمار / الناي الذي هو رفعة الفن ، والموسيقى هي التي استدعت ابتكارات الرقص والغناء والمزمار وسيلة الرعاة ، مثلما هو العصا الرعوية والأخرى الرمزية الدالة على السلطة ، بمعناها الاجتماعي / الديني / السياسي . وقال د. عبد الكريم الخطيبي : أن للعصى خصيصة أقوى من المحرم ، كما في أسطورة أدونيس ، أما الموسيقى فهي فرح ديونيسيس أقوى في الحياة والموت . (62)

والنار مقدسة في الزرادشتية وهي العنصر الثالث مع التراب والماء . اتضحت أهمية الموسيقى / النايات التي نحن يصدد المرور عليها بشكل سريع وقد اغتنت بها تجربة شاكر مجيد سيفو الشعرية ، ليس في ديوانه الأخير " أطراس البنفسج " وإنما وردت لها إشارات في تجارب سابقة وحينما كان لكل من هذه الإشارات موقعها الخاص في التجربة وعلاقتها بالزمان وأيضا لها دلالة أو دلالات يصوغها السياق الموجود فيه الرمز وما تشكله الإشارة للرمز ضمن التجربة الشعرية ووجدت في تجربة سيفو تنوعاً بالاستثمار الرمزي / الأسطوري / الحضاري ، وهو مهووس بذلك وقد تكرر كما ذكرنا من قبل ، لكن هذا التكرر مشحون بما يبحث عنه الشعر الحديث ، تكرر ممتلئ ، يستحضر الماضي / الذاكرة ، ويعيد التاريخ القديم بآلية خاصة به ، ويكاد ينفرد بها . وتجربة التكرر نامية في نصوصه وهي ضرورة فنية وفكرية استحضرها الشعر واستدعاها المخيال فوجدها مرآة التخّيل ، ويعاد رجرجتها وتفيض عليه ، وأعتقد بأن التكرر الشعري للرمز أو الأسطورة هي حاجة فنية وثقافية ، خزنة الذاكرة بالماضي الأسطوري / المكان / التاريخ هو الذي يديم العلاقة وتكون حاضرة بفيض لا ينضب ، بل يظل مستمراً ومتدفقاً . وتفلت في أحيان من تجربة الشاعر تكرارات منسوخة تماماً ولكن الاسم الشعري استمرار قوة التكرر وتصاعد نبضه واعني بالتكرر القاموسي والدلالي ، أو الرمزي ، الأسطورة ذاتها مع تفضيل ثيمة أو شعيرة طقسية وكل ما يكون حاضراً ، بجزئيته كاف للإشارة لما هو كلّي مثل الأسطورة / العقائد / الشعائر . وأجمل ما في هذه الظاهرة الفنية ، العلاقة بالمكان ، وهو مكان أثير مفضل لدى الشاعر . أشور التي تتحول الى مرآة للأمكنة كلها وتمجيد المكان والإشارة لجمالياته المتظمهرة  انعكاساً يكرر انشغاله بالإلهة الأشورية شمورامات التي تستدعي معها كل أماكنها وقوتها وما يثيره هذا المكان من تداعيات في ذهن المتلقي ، هذا بالإضافة الى دلالة الاسم وأساطيره العديدة وتحولاتها الرمزية . واعتقد بان التكرر ، عودة وحضور جديد ، له شبكية دلالية .

لم يعد بإمكاننا أن نجلس في الفراغ

الكراسي تثرثر

عن أصدقاء في المجاز ، في القمح ، في الجاز

في قصائد الهايكو  ..... عن الملوك

في غاز الأعصاب

في التفكير الأولي لخطاب الحياة الساقط

من فم ميشيل فوكو

في الفكرة الاولى ؟؟؟ شمورامات (63)

التكرر نوعي ، لا يشبه الاسم الأول شمورامات لكنه يتطابق معه في المعنى ، الكنية ثانية ولها ذات الأسطورة . الدلالة لها ارتباط بالمكان المعروف والمحدد ، ورحمها يومئ لحضارة وأسطورة ، وإذا أردنا فيض شبكات المجاورة لتحدثنا طويلاً عن نظام سياسي / حروب / طيور / ملوك / ملكات ... الخ كل هذا ينطوي تحت قبضة التكرار .

ذات صباح سرقت أجنحة لماسو وتركتها عند كتفيك

لتطير إليك القبرات

وتأتي إليك شميرام حاملة

مطر الخلود

أيها المطر البنفسجي

يهرب العميان أمام سوناتا نعاسك

للطيور التي تربك نعاس الأشجار

لن نقول وداعاً

العاطلون لا يقرأون الكلام

نحن ـ أيها الماضي ـ عرفنا الوطن في دمانا

وعرفناه بالحنين (64)

هذا تكرر لا يعرفه المتلقي البسيط . لأنه ينطوي على أشارة ، قلنا عنها قبل قليل بأنها تكرر غير قاموسي ، بل دلالي وهي الإلهة شمورامات المتحولة الى شميرام ، وهذا اسمها الأخر كذلك سميرا ميس والكنى الأشورية هي الأقرب لذاكرة الشاعر وماضيه وهما معاً ـ الذاكرة / الماضي / من مراكزه الثقافية الموظفة في نصوصه الشعرية . وفي هذا النص قلب وتغيرات لا تتعارض دلاليا مع فضاء الشعر وعلاقته بالمكان . إنها ابتكارات الشعر وحساسية التعامل مع الذاكرة وتحفيزات المخيلة ، على قول ارتجاجات قوية تخلق دائرتها الضوئية حول الرمز / والأسطورة ، أيهما الأقوى في الهزة والجذب ، لا فرق لدى الشاعر ، لان رموزه غفيرة وهو الموظف لها متنوعاً باللعب وكأنه ممتلك لطاقة سحرية لماسو/ القبرات / سميرام / شميرام / المطر البنفسجي / سوناتا/ الطيور / هذه ألفاظ متنوعة ، مختلفة بمعناها القاموسي ودلالتها الرمزية وحضورها السحري والأسطوري  .وفعلا هذه المفردات هي بعض من قاموس عام خاص بالشاعر . قاموسه الذاكراتي / الحضاري / الأسطوري / الموضوعي / يتعامل معه بمعرفة وإدراك لما يمكن أن تؤديه المفردة ضمن سياقها النصي والى الذي تومئ إليه ؟ وتستحضره من التاريخ / الماضي . وهذا بالإضافة الى انه لا يتركها سابحة في هذه الفضاءات وإنما يسحبها وسط اللاهوت ، سحباً عنيفاً وفي أحيان يأخذها هادئة الى حيث الأمان والسلام الروحي في المسيحية . وفي أحيان يحرك رموزه الدينية القديمة ليومئ الى مرحلة تاريخية تشبع حلما وتذكر بالماضي الذي يملؤه بالسعادة والمجد

أيها الباذخ بالحساسية الأشورية

وحداثتها وما بعد الحداثة

الحرية تخجل من بريدك السريع

هذه العودة للماضي والانوية الصاعدة هي واحدة من هموم الشاعر التي تصير أحيانا أشبه بالهلوسات من كثرة تكررها وأعادتها وتكرر الاشتغال عليها على الرغم من الخرق الذي يكون فيها أحيانا ، لكنها تظل محملة بوظيفة سياسية ، توقعه بتناقض لم يره ، لأنه يتعامل مع التاريخ / الماضي باعتباره صفحات نقية وبيضاء مع العلم بان المرحلة الأشورية أكثر الفترات عتمة وسواداً واستيطاناً للأخر ، لكن الشاعر يرى جانبا من الهوية والتناقض يزحف إليه .

تمشي الحرية الى حائها ، دائما

تسرد لنا قصص الحكّة الربيعية

والحساسية والحيف العراقي

وأنت كل يوم تحّبرها بحاء = الحيف

والحزن والحندقوق والحور والحول

والحصة التموينية ، والحدائق الشعرية

والحروب كلها

تف على كلّ الحروب 

مرجعيات النص واضحة وموجهاته تعبد الذاكرة الى ماضٍ كولنياني

كانت منه الحكة الربيعية / الحساسية الآشورية علامة على تاريخ الدم والحروب " تف على كل الحروب " وهو لا يدري بان حروب الماضي القديم أكثر دماراً

وعودة لهذا النص " لا قمح في يدي ولا رماد " سنجد حرف الحاء مهيمنة صوتية ومركز استحضر تكرراً مهما في الحاضر من اجل استدعاء الماضي / الذاكرة ، واستطاع توحيد المتناقضات ، ليكونا وسط فضاء الصراع والشّد مثل الحرية / حائها / الحكة ،/ الحساسية / الحيف / الحزن / الحندقوق / الحور / الحول / الحصة / الحدائق / الحروب / الحاء سيد الحروف لديه ، هو ثالوث الأبجدية ويعني شيئا في الغنوصية المسيحية والديانات الوثنية . هذا نموذج للتكرر القصدي في شعر سيفو ، ومثل هذا كثير في نصوصه الفياضة بالسخرية والممجدة بتكررها الحنين . الشاعر ينشط تخيلاته لاستعادة أصول سحرية وأسطورية ويشحن رموزها بالقدرة على التضايف مع الآن . إنها ذاكرة التناص الحية ، شفيعته الشعرية ومداره النصّي . حتى بلغ لديه التناص نقلاً تدوينياً كاملاً ، لأنه يدرك بأن بعض النصوص الشعرية الشهيرة جداً تشكلاً له ، ولغيره يضعها في نسق النص الرمزي الخاص به ، مثلما هو حاصل على سبيل المثال مع مفردة المطر كثيرة التكرر وفي نص [ لا قمح في يدي ولا رماد ] للمطر حضور انطولوجي متعالي جداً ... يلعب بمفردته وكأنها ملكيّة خاصة به ، مفردة فياضة التولد والتحرك نحو أربع جهات وربما خامسة هو يكتشفها .

أبهذا المطر الذي يجمع السماوات في قطرة ؟

مطر مطر مطر ... ويسافر السياب دون مظلة ...

مطر مطر حلبي عبّر بنات الجلبي

عشرون سنة في انتظار القمر

على حائط المنفى

عشرون سنة على أصابع الماضي

وهي تسيل خرافات وحكايات

عشرون سنة وأنت تجلد الحائط بسياط الصبر

وتدهن جبين الكواكب بالدم ... (65)

من لُعب الشاعر المهارتية الوحدة الصوتية للفظ ، فالمطر والقمر وحدة إيقاعية متآخية ، لكن " الدم ، لوك " ليست له وإنما هي للشاعر سلمان داود محمد واستثمارها ممكن ولكن بشرط في سياق يخترق تكوّن النص الأول .

ومن تكررات المطر في النص نفسه :

موسيقى المطر/ مواء الشجر / الأصابع كمطر رسوماتها العصور / النسوة يتعثرن بأمطارنا / مطر الخلود / أيها المطر البنفسجي / كما يضج المطر بمخلوقاته / يا أيها المسافر في الدمع / هذا يوم دامع آخر / كلما هطل المطر / تذكرنا برائحة المطر في تراب الجدود / قبل المطر وبعد الشمس / والتراب والمطر / لأجل كلّ هذا الحزن ، حزن القمح ، نمجد المطر . (66)

صوت الفجيعة مرتفع في النص ومعادلها الرمزي هو المطر لكنه ينزاح علامة على الحزن ، ودلالته الايجابية أوسع والشاعر يختبر قدرته الفنية في تنوعات التشكيل وتعميق التصورات المخيالية . ولم ينس الشاعر بأن المطر هو مني السماء ، مثلما هو ماء الرجال ، يوظفه كالطوفان وسط فجيعة وتراجيديا آدمية حيث :

يحلم القمر بغيومنا

والنسوة يتعثرن بأمطارنا (67).

مطر الفجيعة والانبعاث / مطر الخلود الذي استدعى حضور جلجامش في النص وليس ضرورياً أن تكون العشبة معه باستمرار ، بل استبدلها الشاعر بالمطر ، القادر على تطهير الجسد الباحث عن خلوده وأبديته ، ماء المطر وليس ماء الآبار في الدلالة التي يريدها الشاعر من رمز جلجامش غير المحايد ، هو تراجيديا الإنسان الذي ظل يضرب الحائط بسوط الصبر خلال عمر كامل . جلجامش المعاصر مطرود من حياتنا المتسعة للجنون والخيبات :

على مائدة الأنبياء

هجرنا عشرين ألف سعادة من الخراب

ذهبنا الى عشرين ألف نبي

نبحث عن موتين بين شفتي وطن

وأخرجنا الحياة عشرين ألف مرة من نافذة الموت

وهزمنا الظلام ، عشرين ألف مرة

وعقدنا

زواج الأرض بالسماء

والقمر بالشمس

والتراب والمطر

والحدائق والأسماء  (68)

عشرون ألف ، عدد كبير للغاية ، اختاره رقماً له وتوج به الشعر والمبالغة . والحياة موزعة بين السعادة والخرابات ومشاكسة الأنبياء ، فالحياة فائزة ، والظلام منهزم والعلامة الأخيرة على الفوز هو التتويج بقران السماء والأرض ، والقمر والشمس . إلا أن الشاعر يصحو فجأة على القتامة والخسارات وخزنها في ذاكرة مزدحمة بسردياتها التي لم تجد صاغياً لها أو مجاورا قادراً على استلام شفراتها وبسبب غياب الآخر لتكتمل ثنائية الحياة بالكلام ، والاستماع صارت خزانة السرديات وذاكرة الفرد هلوسة وإحباطاً قاسياً مع كون الشاعر يأسف على ما حصل

أووووووه !!

نسيت قامتي

في بدلتي المعلقة في خزانة الملابس

تهذي !  (69)

ويظل ملاحقاً بالنسيان ومطروداً من فضاء الصحوة ، نسيان محبب ، مقصود ، هو حلم العاشق في اتصاله الادخالي كي يتناظر مع اتصال الإله الهندي سيفا مع الإلهة أوما في أسطورتهما المعروفة :

أووووووه !!!

نسيت جسدي في سريرها يرتعش ().70

من يستطيع مقاومة انطولوجيا الزمن وانعكاساته ، تحولات الجسد وعبوره المستمر للعتبات الجوهرية ، والانتقال من عتبة لأخرى له تبدّيات على الجسد / والهيئة والإنسان المتعايش مع الزمن لا يتلمس تأثيراته ، بل الآخر هو الذي يكتشف ذلك ، الصورة الفوتوغرافية هي الوثيقة الماسكة بآثار الانطولوجية الزمنية . وقد قال رولان بارت : أن تكتب الجسد ، فذلك لا يعني كتابة الجلد ، ولا العظام ، ولا الأعصاب ، إنما كتابة ما تبقى : أي كتابة شيء غير مناسب وهذا الذي تبدّى عنه نص للشاعر الكاشف عن كينونة الأنا وتأثير الزمن وتمظهراته على الوجه

نسيت تجاعيدي تلوب في ألبومها

وحينما كنت أتلصص عليها

كانت تتجعد أكثر

كنت أريد أن اعطيها أسماءها كي لا تنسى

تاريخ شيخوختها

ولأنني تعودت أن أحدق فيها

كل يوم

كي أصدق موتي

كلما حدقت في مرآتي  (71)

شكل من الزوال والدنو من المحطة الأخيرة ، والصورة هي القوة الضاغطة غير الشفيعة له ، عندما كان في زمن ما شاباً قوياً نسى جسده يرتعش في فراشها ، فيه حسرة طاغية على التلاشي التدريجي للجسد وذبوله بعدما كان متباهياً ، ومتغطرساً ، فيه نزوع لاهوتي فاضح للذات المتعالية والمصابة بالتسامي على الكل . لم يشبهه أحد من القديم أو الآن هو مقدس

لا أحد يأخذني إليه

وأنا لا أروح الى أحد

أنا الأحد المقدس الذي لا يتكرر

في لوح الأبد  (72)

انحدر كل هذا المجد والتأريخ المجيد نحو الزوال ، ولم تبق له غير علامات هي المشكّلة لذاكرته وعاد مضطراً لذاكرته وتاريخ علاقته ودائماً ما يكون الموقف من العلامات الثنائية ، رجل / امرأة ضد المسيحية ، التي تؤمن بشكل قاطع بأن الحب الإلهي هو الحب الأمثل ولابد من خلاص حاسم من الدنيوي . لأن الإلهي مراقِب ، متابع ، له تجسدات هي تمثيل لفيوض الإلهي والتي هي شكل من أشكال تحققات بين اللا متناهي والمتناهي كما قال زكريا إبراهيم . والزوغان على الغنوص المسيحي واضح في نصوص الشاعر ولعل النص السابق هو الأكثر صراخاً بالازدواج الوظيفي بين الإلهي والبشري ، وسعى الإنسان الى حيازة ما هو للإنسان وليس ما هو للرب . ففي النصوص شطحات تذكرنا بالفكر الغنوصي المسيحي مثل الرب المجهول ، غير المعروف . والشاعر يومئ في نصوصه الى رب دنيوي ، المرأة معبودته المجيدة والمقدسة .

 

الإشارة للاتحاد الثنائي الأسطوري المكرر في النصوص هو إعادة إنتاج للاسطورة أو النظام الاتصالي وما انطوى عليه من رمزية واضحة . وأعتقد بأن للعلاقة التي تتمظهر بين الرجل والمرأة بالإضافة الى أصلها الأسطوري ، أنها تغور في عمق الأفكار الغنوصية التي عرفتها المسيحية في القرون الميلادية الأولى ، والعلاقة الثنائية المتحققة والمتجددة نماذجها هي وسيلة الشاعر لخرق السلطة القاهرة عندما يعلن زواج الاثنين ، فإنه يبشر بالحرية والسعادة والغبطة .

...... وحينما أطبقت شفتي على شفتيك

ذهلت ... صعقت بجمرة الشهد

أأظل أرشف عسلهما ،

أم أضمهما ـ تماما ـ الى شفتي الى الأبد ؟

* * *

وحينما دخلت معبدك

رأيت نقشات القداسة تطفرُ من ثيابي

لذا أدركت بأنك كنت تحفظين

في روحك القدوس نبض شبابي !!  (73)           

طوفان المشاعر بين اثنين ، قائم على تبادل الشوق بين طرفين الأنا / الأنت وكأنهما تمظهران عن الرب الذي دائماً ما يمجد الحب من خلال محبته للبشر وجوهر الإله حاضر في الحب ، [ وحينما وصف الكتاب المقدس بأنه ( محبة ) فإنه لم يكن يعني بذلك أن الله يحب البشر فحسب ، بل كان يعني أيضاً أن ماهية الله بأكملها منحصرة في فعل الحب ، فليس الله مجرد " إله " للحب كما هو الحال بالنسبة للايروسي ، وإنما هو ذلك المطلق الذي تنحصر كل فاعليته في فيض مستمر الخيرية . وليس المطلق جوهر أو شيئاً أو حالة ، بل هو بأكمله خيرية محبة ، وعلاقة حية بالآخر ، وانتشار مستمر للقيم . (74)

في النص الشعري أعلاه ، إفضاء نحو الحب الأفلاطوني / الإيروسي ، علاقة الأنا / الأنت ، وعدم الاكتفاء بها / بل الذوبان مع الآخر والاندماج به كلياً . الاندماج أو الذوبان صفة العاشق والولهان الذي لا يود مفارقة معشوقته ، مثلما كشفت لنا نصوص الجنس المقدس الشرقية القديمة ، وأكثرها حضوراً الشعر السومري في ديوان سومر وأكد ج1 " أعطني . أعطني ماء القلب " ] .

وربما كان " الايروسي " أحد الأسباب وراء شيوع التمركز حول الذات في نصوص سيفو . والايروسي هو رغبة أو شوق ، واشتهاء ، لذا دائماًُ ما تكون الذات صاعدة ، متماهية مع نموذج متعالي ، وهي دائماً ما تستحضر علاقات وحكايات عشقية سابقة ، وينطوي هذا الاستحضار على افتخار بالأنا التي نجحت باصطياد الفتاة / المرأة واستعادة هذه الحكاية الايروسية يعني إصعاد جديد للذات وتمجيد لها . هذا واحد من الأسباب التي دائماً ما نرى الشاعر مغالياً في تمركزاته حول الذات ، حتى المراثي التي يكتب تفلت منه إشارات للتمركز متناسياً وظيفة النص النادبة / والرثائية .

للعاشق سجل فوتوغرافي يوثق حياته ولحظاته الايروسية مع المعشوقة . تعطلت العلاقة ولم تنته . العمر وزحف الزمن على الطاقة الايروسية المتوقفة ولم يبق غير التجاعيد ، موثقة بالفوتوغراف " نسيت تجاعيدي تلوب في ألبومها " .

لم ينكر حتى المحطة الأخيرة بين الاثنين ، والتجاعيد متروكات الزمن وهو لم يتنكر لذلك بل اعترف بها ، لأنه يراها كل لحظة ويتحسسها ، مجبر على التحديق بها يتلصص عليها فتتضاعف تجاعيده وكأنها تضعه أمام حقيقة انطولوجية ، انتبه لها مؤخراً . هذا الموقف من ثنائية الحياة والموت ثيمة شعرية يقظة وحاضرة باستمرار وبتعبيرات متباينة ، الموت ، الخوف منه والانشغال به باستمرار وربما في كل لحظة يرى فيها تجاعيده [ لأني تعودت أن أحدق فيها / كل يوم / كي أصدق موتي / كلما حدقت في مرآتي ] هو مواجه للحقيقة الخائف منها ، لأنه غير قادر على التخلي تماماً عن رؤية تجاعيده المتضاعفة كلما حدق بها ورآها . إنها ملاحقة له ، والموت يومئ بحضوره ، بعدما تعطل الايروس تماماً . الصورة الشعرية مرسومة بفنية وضعت عتبة الشيخوخة المعطلة أمام عنف الشيخوخة . الزمن وزحفه السريع هاجس مقلق ومثير للمخاوف والأسى في كل لحظة ، لأنه مستمر بمعاينة تجاعيده واعتاد على ذلك . ربما يراه في روحه وليس في مرآته .. يحس بالشيخوخة عبر التعطلات الكثيرة المصاب بها الجسد وأكثر التعطلات حضوراً هو الايروس.

قال رولان بارت في كتابه الغرفة المضيئة : تقدم الصورة على مستوى تخيّلي هذه اللحظة شديدة الغموض ، حيث للحق أقول لا أكون ذاتاً ولا موضوعاً . ولكن بالأخرى ذاتاً تشعر بأنها تصير موضوعاً : أعيش من ثم تجربة مصغرة للموت . الموت تعطل كلي للحب واللذائذ ، والموت معنوي وعضوي . وهذا الملاحق والمطارد للكائن ، فالكينونة الآدمية بوظائفها وتمظهراتها الدالة على إنسانيتها . هو الشاغل وما يثيره من قلق وخوف ، ورعب مستمر أفقده توازنه وتحولت شيخوخته الى محطة متعبة وليست استراحة أخيرة . لذا لم يعد قادراً على التوازن والتكيف مع تجاعيده / شيخوخته .

تضمنت نصوص الشاعر إشارات واضحة لما هو فيه نفسياً بسبب ضغط الزمن وفواجعه :

في لمعان الباء في إجانة العجين ، وأجنّ

وآخذ الجنون ، والجنّ والجان والجينات اليَّ

كلنا يشرب الجنّ

أنا والجان والجنّ والجنيات

وما تزال شامتا تفاحتيك تلمعان

في أحداق كائنات شرابي

ويتوجهنّ لساني ، وتلمعُ (75)  

 

 إشارة واضحة في النص لمصاحبات فتوته وشبابه ويقظة الجسد ، اللذائذ الحسية المعروفة في هذا التصعيد المتعي كشف للفرق في ما توفره اللحظة له . من هنا كان حنينه للفوتوغراغف / للزمن الهارب منه عالياً وتراجيدياً . فبعد كل الذي يزاوله شاباً ، لم يجد أمامه غير الشيخوخة والعطل ، ولأن مزاولته عالية للغاية ، حتماً أفضى به نحو الماضي / الذاكرة ، حيث لم يبق له إلا الترقب ، ترقب الغروب ورثائية الذات الساخنة . في النص حركة للملفوظة ( ج ) وهو لعب مهاراتي عرفناه في نصوص سابقة . وكأنه يعيد التصرف بنوع معين من الكتابة الشعرية العامية . والشاعر صوت آني ، فتي وقوي ، ممتلئ بالشبوبة مفتوح على كل شيء ، لأنه يحلم بحسيات صاعدة ولا يتغافل عنها بل يستدعيها معاً وكأنه يؤسطرها متجاورة مع بعضها ، لفظ ( ج ) هو الرابط الإيقاعي والصوت الفونيمي في المفردة التي يهيمن مع مجاورها لتخلق دهشة الشعر وكان ابتداء هذا النص بالحرف الثاني من الثالوث الذي أشرنا له قبلاً ، الباء ، صورة جسد بطرفين ، حرف متحول بيسر وتشكله الأول في لحظته التدوينية الأولى كان أشبه بالصامت ، بلا نقاط وبالإمكان  ترسيمه ومعرفة تنوعه الصوري والصوتي وأعتقد بأن تحولات الباء عديدة ولا تقل عن خمس صور وأهم ما فيه ثنائية النوع ، المذكر والمؤنث وهو المنسجم مع قيم النصوص ورؤاها ورمزيتها العالية وما يهيمن في ثنائية النوع بالنسبة للاستهلال هو المؤنث الذي لم يكتف الشاعر بالترميز له عبر تحولاته ( ن ) ، لأن النص سيأتي على الطرف المذكر في نهاية النص من خلال رمز يؤدي وظيفة المذكر في مهمته الإدخالية التي أشار لها الشاعر في نص سابق وتحدثنا عنه ، حيث اللحس والمص ، وهما مظهران حسيان للاتصال كما قال عبد الكريم الخطيبي ، إنهما استهلال إغواء الجسد الآخر والدنو من احتلاله بعد غزوه . ولأن الباء في تحوله الأقرب رمزيا هو ( ن ) نلاحظ الشاعر وقد راصف مع الباء ، الصورة حصراً " الإجانة " ، المدورة ، الرامزة هي القبة الصغيرة ، أو الرابية الحاضنة لعمل تداخل الطحين والماء المهم في هذا الطقس الحياتي والرمزي هو الذي يقوم به المذكر في التحضير . ولأن هذه الصور حسية / ايروسية تتشكل البؤرة أكثر بالإشارة الى :

واخذ الجنون والجّن والجان والجنيات اليّ كلنا يشرب الجن

الجنون كشاف عن الذات والايروسية النابضة والمفردة الأخيرة " الجنيات " هي وسيلة الايروس وما بين الاثنين هو الجن / الشراب الحسي ، والجان الذي تلبس الصوت الذكري وفيهما الجنون الرمزي الذي يتوازن من خلاله ويبدو لائقا به ، ومثل هذا الجنون والجنّ يتكرران في نصوص وهما يمثلان لعبة الشاعر في توصيف قوة سحرية لحروفه منحها وظائفيات نصّية مخلقة للشعرية ومساعدة على بقائها . لا بد من ملاحظة مهمة لها علاقة بالأنا التي اشرنا لها وقوة تمركز الذات عبر الايروسيات وأن الانوية المتبدّية في نصوص الشاعر لا تنغلق أمام التعدد والتنوع ، لأنه يبتكر ذلك كي يكون التمركز أكثر تسامياً . والتعدد / الاختلاف أكثر وضوحاً في مرائي الشاعر مثلما هي شفافة في نصوص الحب والايروسيات . أقفال النص باستفحال الجسد كله ، لكن سلطة الفوران اللساني هو الحاضر ويمنحه دوراً بالوظائف ذاتها .

ما تزال شامتا تفاحتيك تلمعان / في أحداق كائنات شرابي / ويتوجهن لساني ، وتلمع .

اللمعان إنزال وترطيب مركز التفاحتين ، هو أيضاً جنيات مجازية . والنص معني ومنشغل بالاتصال مع بؤرة التفاحتين لأنه ـ النص ـ أكد على هذا النوع المنشغل بجزء حي في ربوتي صدر الأنثى ، لأنهما يلتمعان باتصال اللسان معهما ، ونهاية النص ضمنياً نهاية لحكاية الثنائية ، التي دائماً تترك فيضها الملتمع في عمق أعماق الأنثى وموقدها المشتعل . وبعد أن تحدثنا عن هذا النص تبرز الآن صورة الفوتوغراف والتجاعيد كم هي تراجيدية المطاردة للكائن ومعطلة للكينونة واستفادة من هايدجر فإن العلاقة الايروسية هي كتابة على جسد الآخر بمعنى القبول به والذوبان فيه ، واللغة وسيلة الكتابة ولأن اللغة بيت الوجود والكينونة ، فإن نص التجاعيد تعطلت فيه الكتابة والكائن في طريقه للاندثار / الزوال المراقب مع تعطل للكينونة . الصورة الفوتوغرافية هي مثل مسرح بدائي ، مثل لوحة حيّة ، مثل مجازية الوجه الساكن كما قال رولان بارت .

تنوعت الصورة في البوم السيدة ، صور عن الصحراء آخر الزمان وتخيلاته الراكضة نحو المعروف / والمعلوم .

الجسد في الصورة نصيّة كما قال سارتر وهي حكاية أيضاً في النص الشعري / حكاية تُقرأ من قبل الجميع والفرق بينه وبين النص المكتوب ، أن الفوتوغراف يُرى / عياني ويقرأ من خلال تقاطيعه وملامح وجهه وتجاعيده .

[ نصيّة مرئية ] . وقال رولان بارت عن الصورة : أنها كتابة ما تبقى : أي كتابة شيء غير مناسب ، شيء ليفيّ / خشن / مهلهل ، إنه كساء مهرّج ] .(76)

التجاعيد / الغضون هي رمادات الوجه وتحولات الجسد المعلن لافتة التجاعيد والشاعر يعرف بأن الجسد شجرة وثمرها العالي هو الرأس ، العقل ، الحواس الأكثر حضوراً ولذا تتضح الفجيعة الانطولوجية بتعطل الرأس المعبر مجازاً عن تعطله بالتجاعيد التي هي قادرة على قول ما لا يقوله اللسان . ومثل هذه الصورة كافية لتقص علينا حكاية مثل هذا النوع ، إنها سردية سير ذاتية ، وهي اعتراف كاف عن الترميد . أعتقد بأن توظيف الفوتوغراف هو وسيلة الشعر لأن هايدجر قال [ بأن الشعر يجسد الفنون الأخرى لأنه يمحضها المعنى ] نصيّات 91  ويلزمنا نص التجاعيد أن نسجل الاعتراف بالصورة / الصور التي هي وسيلة الجماعة للتعامل مع الجسد . وهذا يعني ضمناً العلاقة مع الطاقة والقوة . وأعلنت الصور ضعف الجسد وترديه المادي ، لكن المخفي ظل غائباً وغير معروف ، لكن نهاية النص شفّت عن انحلال المجال الروحي في اللحظة التي انتهى فيها بمراقبة تجاعيده ، ومعاينة موته . وكما قال ميشيل بربار [ المجتمع ، دائماً وتقريباً ، هو الذي ينظر الى نفسه ويتفعل من ذاته ، ويفعل فيها بواسطة الجسد الذي يقدم له ، ويسمح هو بولادته ونموه وثقافته وبقائه وتفتحه](77). وبالإمكان الإشارة أيضاً الى النصين السابقين ، بأنهما كلام وإثبات له وتفاصيل ذلك كاشف عنها كل من النصيّن ، قالت الصورة كلاماً وأثبته النص في نهايته ويمكن اعتباره نصاً عن اقتراب تعطل الكائن . أما النص الثاني الأكثر أهمية في تحفيز قراءة نص التجاعيد ، قال لنا كلاماً اعترافياً وسيرياً ذاتياً نهايته واضحة ، بمعنى توفر الجسد على فحولة طاغية بسطوتها المهيمنة بحضور بطرياركي . نجح الشاعر شاكر مجيد سيفو في نصيّة وشحنهما بالتراجيديات ـ المجازية والأصداء الرمزية والدلالية ـ . وتبدو مهارة الشاعر في خلق مجازاته منسجمة مع بؤرة حكايته الشعرية الغنائية ، ويتلاعب في تحولات الرمز ويأخذه من أحالة معروفة ، ومعينة الى أحالة أخرى تشير إليه ، ويخفق الانتقال من مكان الى آخر وبدلالة جديدة . أفضى إليها التخيّل والانشغال بابتكار التصورات عن حياة غير التي رأيناها وتعايشنا معها ، بل هي الحياة التي ابتدعتها مخيلة الشاعر التي كثيراً ما تكون لا معقولة ، مستدعاة من الأسطورة  أو من وراء محيط العالم المدرك والمفهوم . أنها حياة التخيّيل ، لا نستطيع الإمساك بها كاملة ، بل نلتقط منها التعليل والخفيف المتمكن حمله في ذاكرتنا  . لكن تلك الحياة النصيّة ممتلئة بممكنات توصيف حيوات تستحضرها القراءة وطاقة المتلقي على ابتكار التأويل .

أخيرا أجد ضرورة استحضار ما قاله برادلي ونقله عنه بورخس: أن واحدة من مؤثرات الشعر هي أن يمنحنا الإحساس ، ليس باكتشاف شيء ما جديد ، بل بتذكر شيء ما كنا قد نسيناه ]. (78)

وضعتنا انطولوجية الزمان أمام محنة الكائن الحقيقية ، وهو يرى الكائن يتضاءل شيئا فشيئاً ، ملاحقاً بمتروكات الزمن على محياه وقوة جسده . أنها رسالة الكائن لذاته عن ذاته والذوات الأخرى . التي عبّر عنها تقرير من خلال الشعر ، وإفصاح مطارد للانا / الذات حتى لا يهرب من لحظة لا بد وان تكون آتية / حاضرة .  لم تعد للجسد قيمة تحول الى جلد وألياف كما قال رولان بارت . فاضت طاقته قبلا وتسربت بالتدريج ، وظلت مجموعة من الألياف والجلد المجعد ، الناتئ . الشيخوخة طرح التاريخ وبقايا الماضي في الآن ، الحاضر الذي لم يعد بالمفهوم الانطولوجي للآن مثلما كان بقوة الجسد وحيوية الكائن المشغول بالآلية التي يجدد فيها افتتاح لحظة الجسد وتدفقاته المؤثرة لبسالته ، وحماية الجسد للذات الآدمية . لكنها وللأسف الشديد عاشت لحظة مغادرة التاريخ ، وهذه اللحظة هي التي يكون فيها الجسد عاطلاً بالكامل . هي لحظة خروجه من الفضاء التداولي وصار بمعزل عن التمظهرات الحية والمتجددة . جسد باق من خلال صورتنا في التجاعيد ، وصورته المتروكة في حافظة للفوتغراف . هل هي لعنة الاستعداد للمغادرة وترك فضاء الجسد لمن يستحقه من أجساد آتية / زاحفة ، راكضة ، انه القانون الأساسي للكينونة . وقد امسك به الشعر القادم ألينا من قره قوش " نحن نصور الأشياء لكي نطردها من أذهاننا " كما قال كافكا .

تستحق تجربة اليومي لدى الشاعر المرور عليها بوصفها تجربة متميزة في ما حققه من نصوص . اليومي هو المعيوش من قبل الجميع والتكرري ضمن المكان الواحد ، المعروف في جماعة ارتبطت به واقترنت وإياه . اليومي المختزن سابقاً في الذاكرة والمعاد لحظة بلحظة ، من هنا تتشكل لليومي قوته المتأتية له من خلال المألوف والمتطابق وكان اليومي منسوخ في كل شيء ، البيوت نفسها ، المقاهي / المحلات / الأسواق / الوجوه / مواقيت مغادرتها وعودتها . لكن اليومي لا يعني النمطية بل هي حاضنة للغرائبي المتشكل من هذا المعروف .

في ليلة ما

حمل جسده من جمعية آشور بانيبال في حي الرياض

الى ساحة التحريات مروراً بساحة الواثق

الى ساحة 52 الى ساحة الأندلس

الى ساحة النصر ، الى البتاوين

وصل باسمال الملوك ... وهناك عثر على [ جان دمو ]

يخطط لموت الملوك

كي ينقر جماجمهم

لعله يعثر على مزّته .. (79)

يستوعب اليومي الأمكنة المرتبطة مع الإنسان وذاكرته المشكلة في مثل هذا الفضاء المتعالي بتفاصيله والمفتخر بحواراته مع غيره من الأمكنة . وفي النص السابق حركة الأماكن / الأحياء التي لابد أن تكون حاضرة في استدعاءات المخيلة . الحركة في النص تنطوي على قبول للمكان وتاريخه والحنين إليه ، والتحرك تحفيز لخزانة الذاكرة . تبدو نصوص شاكر اليومية نثرية في سردها ، ويبالغ في موضوعيتها مع تعريفات ليست ضرورية ، النص مفتوح ، وفي نهاية الصعود نتفاعل معه بعد نثر الحكاية بطريقة تقليدية والحركة للجسد وليست للمخيلة ، الجسد هو الطاقة الممتحنة للإنسان وكأنه محكوم بالتراتبية والتتالي ، مثل نظام ثابت ... قال الراوي تفاصيل كثيرة ، لكنها موجزة ، تفاصيل حتمية ، العام فيها هو الثابت المحلات والأمكنة وما  يرصده الراوي من متابعات وأشياء منها مكرر وبعضها جديد ، يفاجئ الراوي المتحدث الغائب ، وربما كانت هذه الحكاية عن الراوي نفسه وبلسانه . نلاحظ في هذا النص أن الجسد محمول والشخص الغائب حامله متثاقلاً ، بعد مغادرته جمعية آشور بانيبال . ابتداء استهلال الأماكن بأشور المرتحل من نينوى الى بغداد وفي حي الرياض والجموع ينطوي على دلالة الحدائق والروض ، لذا هي المكان الأول الذي ابتداءت به الرحلة باتجاه ساحة  التحريات اجتيازا  لساحة الواثق وحتى شارع 52 والوصول الى ساحة الأندلس . جغرافية أماكن وشوارع لم ينس الشاعر منها ساحة النصر وهي البتاوين . هذه الأسماء حمالة معنى معروف وهو جزء من بنية اليومي المتعارف عليه ، أسماء تنطوي على تواريخ مثل الأندلس هما ذاكرة الماضي البعيد والقريب مثل ـ  52 ـ  تنوع بالأمكنة ـ شوارع وساحات ـ لكل منها علاقة بشكل من الإشكال مع مرويات وذاكرة ، بمعنى أن نصوصه في نص الهروب من مجد الطفولة أو رائحة الحقول السعيدة وهي : في ليلة ما / سوگ " سوق الغزل " عگد النصارى ، السنك : الباب الشرقي ، ساحة التحرير ، البتاوين ، شارع السعدون ، بغداد الجديدة ، كرادة مريم ، المسبح ـ القناة ـ الشارع العريض ، نعيرية وگيارة ، المشتل ، شارع الرشيد ، باب المعظم ، العلوية ـ كراج الأمانة ، ست عشرة نصاً استعادت الماضي الذي كان مجداً للطفولة ، الزمن القديم وما اختزنته الذاكرة من صور وتصورات ، العودة للتاريخ وحكاياته توظيف الشعر في تدوين جديد له ، لكنه محافظ على ما استقر منه في الوجدان ، وظل ممتداً حتى ألان ، فالذاكرة تاريخ الفرد والجماعة كما قال ميري ورنوك في كتابه الذاكرة في الفلسفة والأدب . وترتبط هذه الأسماء بوقائع وأحداث متنوعة ، اجتماعية ، سياسية . وهي وحدات سردية ، حكائية تضاءلت الغنائية فيها والمسميات . الكنى أحدى ملامح اليومي في الشعر ونلاحظ المروي / الشفاهي في بعض النصوص ، وسيادة الشفاهي من خلال العامية ، شاكر مجيد سيفو يمارس هذا الولع أحيانا في استثمار الشفاهي ومزاوجة اللغة السريانية والعربية في النص وقد وظف ازدواجية اللغة في نص واحد ، لكنه كما قلنا سابقا استثمر مفردات شفاهية ، منحت النص روحاً وحققت خرقاً في الانسجام ، لكنها رصنت النص بالسخرية والدعابة مثل : تفرهدها / شخابيطها / إنطشي / قندرتة / طابوگة / البلاعيم / فارگونات / معجانة / يافوخ / قريولة / هذه العامية حمالة لقيم خاصة يعرفها المتحدث بها والمتكررة في خطابه اليومي هي أيضا من مكونات الأدب الشفوي الذي هو الآخر حفريات للمعرفة الأصلية كما قال الخطيبي .

الشاعر وحده المسؤول عن هذا القاموس الموظف باهتمام وكأن الشاعر ينتمي الى [ قبيلة كلمات ] حسب توصيف ما لارمية اعتقد بان ادخال مثل هذه المفردات في النص الشعري الحديث ، يشير لطواعية هذا النوع وانفتاحه أمام الغريب من المفردات والملفوظات التي تبدو ناشزة  .

بقاء عاميات في التداول تعبير عن صورتها أو ضرورة بقائها أو ابتكار جديد آخر ، يكشف هذا عن بقاء سطوة العقل الشفاهي وتجاوره مع الكتابي . وحاول الأستاذ محمد أركون الفصل بين [ العقل الكتابي والمخيال كإشارة منه الى التنافر الموجود في كل الثقافة العامة التي ينتجها العلماء والأدباء وفقهائهم ومتكلميهم وشعرائهم وتتميز بدقة وإستراتيجية محكمة للخطاب ، أما الشفوي فهو ينتمي الى الثقافة العامية [ الوحشية ] التي تنتجها العوام وتتميز ببداهتها وتلقائيتها . وذلك فمجال الشفوي هو المخيال الذي تطوقه الرغبة المكبوتة اللا واعية ويحاصره الحلم ، أما المكتوب فمجاله العقل المنظم والحكيم الذي يقوده الواقع ويوجهه التاريخ ] .

تحافظ المفردة الشعبية على روحها التداولية المألوفة وتقاوم محاولات تفصيحها لذا احتفظ المعجم الشفاهي بمفردات مثل : سوگ / عگد  /  گراج / نعيرية وگيارة ـ وتمركزت كشكل من أشكال الثقافة الشعبية التي فتحت إمامها وسائل التعبير خصوصاً في " ما بعد الحداثة " وما آلت إليه الثقافة الشعبية من هيمنة في التفاعل الثقافي / والاجتماعي .

اعتقد بان استمرار هذا المعجم ، وهو خاص لكل شاعر تعبير عن سيادة ثقافية الجماعة وقبول التداول بها ، يعني حفاظهما على دورها الاجتماعي .  وقد اهتمت مدرسة فرانكفوت الفلسفية بالثقافة الشعبية وتعاملت معها على اعتبارها وسيلة الجماعات لمقاومة الهيمنة والسلطة ، لان تلك المفردات مرايا عاكسة للمفاهيم والأفكار والتعبيرات الثقافية .

اجتاز المروي عنه / الغائب خرائط الإحياء والأماكن كلها أنيقا ، مرتدياً أسمال الملوك وواجهته المفارقة الحادة لصعلكته ضد هيمنة السلطة وسيادة خطابها عبر تخطيطه لموت الملوك المجازي ، عله يفوز بشيء من المازة الموجودة في جماجمهم . حكاية هذا النص وجان الغائب ، الحاضر في الذاكرة وتاريخ التمرد الاجتماعي حضور جان دمو في النص خدش للانسجام المكاني الظاهر فيه ولا يذهب النص بعيداً في روح الشعر ويكتفي بالمكانية والتاريخ باعتبارهما مجد الطفولة المحتفظة به الذاكرة تعبيراً عن الآس لفقدان تلك الأماكن وتشويش على الحياة فيها بعد سقوط النظام ووقائع العنف التي ساهمت بشحوب العلاقة معها وتعريفها لما يشبه المحو أو التعطل عن حيويتها السابقة واستعادتها في النص استحضار لتاريخها الاجتماعي / الثقافي  والحنين لها .

يصعد السياسي الوطني في نص " ساحة التحرير " بمزاوجة اليومي والتخّيلي عند حضور الحقول السعيدة برائحة الرجال وصوت الأنين الذي امسك به جواد سليم الأجساد السعيدة تركض صوب الحقول السعيدة هناك الأبطال يصنعون جمهورية الروح .

حينما يصغون الى أنين أبطال جواد سليم

تكرار مفردات لأسباب وظيفية شعرية ، ومسحوب من عنوان النص الأساسي ، ولأن العنوان هو ساحة التحرير فإن الأجساد الغائبة بسبب موقفها السياسي الوطني ، وهي سعيدة بتاريخها المشكل لتاريخ جديد مقترن مع مكان حاز كنية التحرير . الأجساد السعيدة مختلفة عن غيرها تاريخياً ووطنياً وبسبب هذا التميز اتجهت صوب الحقول السعيدة التي ارتفع فيها نصب الحرية / الحقول التي تنطوي على إشارة ألمح لها الناقد ياسين النصير في دراسته عن ساحة التحرير المعبرة عن أفكار التحديث في العاصمة وتجاورها لمناطق زراعية مشهورة في بغداد . والانزياح كاشف عن تاريخ الأفراد في الماضي وهم يلوحون لمرحلة جديدة هي عتبة الروح ويتجاور الأبطال ، أبطال الحاضر والماضي في نصب جواد سليم ، هذا الفنان السعيد وقوة النص في اشتراك الضحايا السعداء مع رجال خلقهم جواد سليم وهي أيضاً سعداء. وعودة لنماذج التمرد الاجتماعي والاحتجاجي من خلال الصعلكة في نص " شارع السعدون"  :

هناك ، الصعاليك ليست لهم هويات

هم الملوك يتربعون عرش الكلمة

كلامهم خمر

وسكوتهم ذهب ....

التلميح الشعري لضمير التاريخ وذاتيته كامنة في هذه النصوص معتمدة على المكان وذاكرته المتنوعة . لكل مكان في النصوص الست عشرة ذاكرة وسرديات شفاهية ، هي جزء من تبادل حياتي وتواصل تراكمي ، يمنح المكان هويته المميزة له فساحة التحرير على سبيل المثال ، ليست مثل كرادة مريم ، أو شارع السعدون الحالم فوق وسادة ساحة التحرير ، لكل منهما تاريخه ومروياته ومدوناته ، لكل مكان هوية خاصة وخالصة منقاة من زحف ما هو لغيره . وهذا ما يتضح تماماً في هذه النصوص وكأن لكل منها رائحته الخاصة والمعبرة عنه والمميزة له عن غيره من الهويات التي هي جزء من حكايات الراوي أو المروي عنه ، وهنا تتمركز الهويات وسط تاريخ المكان وتلوح للذاكرة بالمثول . ويعاود الشاعر اشتغاله على الصعاليك ، ملوك جغرافياتهم وسيادتهم في مرويات خاصة ، لا يمكن تجاوزها أو المساس بها .

لم يذكر لنا الشاعر صعاليك شارع السعدون وهم كثر جداً ، لكنه كرّس العلاقة بين الصعلوك / الملك والمكان ، لكن النص تجاوز التكتم وفضح انتماءهم الثقافي / الأدبي [ هناك الصعاليك ليست لهم هويات ] لكنه يعرف بهم ملوكاً يتربعون على عرش الكلمة ، ولكثرة ثرثرتهم ، نهاراً وليلاً فإن كلامهم خمر وسكوتهم من ذهب كما في المقبول التداولي لهذه الحكمة .

 

الهوامش

1.     شاكر مجيد سيفو / اطراس البنفسج / دار الينابيع / دمشق / 2010 ص115.

2.     ن .م / ص85/86.

3.     ن .م / ص96 .

4.     ن .م / ص 97.

5.     ن .م / ص97 .

6.     عبد الكريم الخطيبي /الاسم العربي الجريح / دار الجمل / بغداد ـ بيروت / / 2009 / ص135.

7.     ن .م / ص 135.

8.     شاكر مجيد  سيفو / ن .م / ص 97 .

9.     عبد الكريم الخطيبي / ن .م / ص 131 .

10. شاكر مجيد سيفو / ن .م / ص 89.

11. ن .م / ص84.

12. ن .م / ص 85.

13. ن .م / ص 72 .

14. ن .م / ص 77.

15. ن .م / ص 92.

16. ن .م / ص 83.

17. ن .م / ص 107.

18. ن .م / ص 112.

19. ن .م / ص  ن .م / ص15.

20. ن .م / ص 125.

21. ن .م / ص 127.

22. ن .م / ص 5.

23. ن .م / ص 5.

24. شاكر مجيد سيفو / نصوص عيني الثالثة / سلسة خاصة بمهرجان كلاوينر الثالث 2009 / ص7.

25. ن .م / ص 61.

26. ن .م / ص 22.

27. ن .م / ص 107 .

28. شاكر مجيد سيفو / مثلي تشهق النايات / 2009 / ب .ت جهات الإصدار غير معروفة .

29. ن .م / ص 63 .

30. شاكر مجيد سيفو  / اطراس البنفسج /ص22.

31. شاكر مجيد سيفو / حمى أنو / المركز الثقافي الأشوري / دهوك / 2004 ص24.

32. قاسم الشواف / ديوان شعر سومر وأكد / ط1/ دار الساقي / بيروت /1996/ص75.

33. ميشال مسلان / علم الاديان /مساهمة في التأسيس / ت: عز الدين عناد المركز الثقافي العربي ومشروع كلمة /2009 /ص215.

34.  ن .م / ص 259.

35. قاسم الشواف / سبق ذكره /ص50.

36. شاكر مجيد سيفو /اطراس البنفسج / ص100.

37. شاكر مجيد سيفو ن .م / ص 65.

38. قاسم الشواف / سبق ذكره / ص65.

39. شاكر مجيد سيفو /اطراس البنفسج / ص 34.

40. شاكر مجيد سيفو /اطراس البنفسج / ص34.

41. شاكر مجيد سيفو /اطراس البنفسج / ص43.

42. شاكر مجيد سيفو /اطراس البنفسج / مثلي تشهق النايات / ص119.

43. شاكر مجيد سيفو /اطراس البنفسج / اطراس البنفسج /ص64.

44. شاكر مجيد سيفو /اطراس البنفسج / اطراس البنفسج ص59.

45. د  الطيب تيزيني / الفكر العربي في بواكيره وافاقه الأولى / دار دمشق /دمشق /1985/ ص242.

46. شاكر مجيد سيفو /اطراس البنفسج / ص45.

47. شاكر مجيد سيفو /مثلي تشهق النايات /ص92.

48. شاكر مجيد سيفو / حمى أنو / ص43.

49. د . الطيب تيزني / سبق ذكره / ص321.

50. شاكر مجيد سيفو / حمى أنو / ص44.

51. شاكر مجيد سيفو /اطراس البنفسج / ص 34.

52. شاكر مجيد سيفو / ن . م / ص133.

53.  

54. د . محمد رحيم عجينة / موسوعة اساطير العرب / عن الجاهلية ودلالتها / دار محمد علي ودار الفارابي / بيروت / 2005/ ص524.

55. شاكر مجيد سيفو /اطراس البنفسج / ص 13.

56. شاكر مجيد سيفو /اطراس البنفسج / ص 17.

57. شاكر مجيد سيفو /اطراس البنفسج / ص 44.

58. شاكر مجيد سيفو /اطراس البنفسج / ص60.

59. شاكر مجيد سيفو /اطراس البنفسج / ص58.

60. شاكر مجيد سيفو /حمى أنو / ص4.

61. شاكر مجيد سيفو /حمى أنو  ص 17.

62. عبد الكريم الخطيبي / الاسم العربي الجريح / دار الجمل ـ بغداد ـ بيروت / 2009 / ص133.

63. ن . م /ص134.

64. شاكر مجيد سيفو /اطراس البنفسج / ص52.

65. شاكر مجيد سيفو / ن .م / ص 78.

66. شاكر مجيد سيفو / ن .م  / ص48.

67. شاكر مجيد سيفو / ن . م  / ص 46ـ 65.

68. شاكر مجيد سيفو / ن . م  / ص54.

69. شاكر مجيد سيفو / ن . م  / ص 64.

70. شاكر مجيد سيفو / ن . م  / نصوص عيني الثالثة /ص30.

71. شاكر مجيد سيفو / ن . م  / ص29.

72. شاكر مجيد سيفو / ن . م  / ص30.

73. شاكر مجيد سيفو / ن . م  / ص26.

74. شاكر مجيد سيفو /  اصحاحات الإله نرام سين / اتحاد الأدباء والكتاب فرع نينوى / 2005 / ص42 .

75. د . زكريا إبراهيم / مشكلة الحب / دار مصر / القاهرة / ب . ت / ص163.

76. شاكر مجيد سيفو / اطراس البنفسج / ص114.

77. ج . هيو لكيفرمان / نصيبات / ت /: حسن ناظم وعلي حاكم صالح المركز الثقافي العربي / بيروت / 2002 / ص132.

78. إبراهيم محمود / تدوين التاريخ جسديا / مجلة كتابات معاصرة / العدد 26شباط / آذار 1996/ ص27.

79. بورخس / سبع ليال / ت : د : عايد إسماعيل / دار الينابيع / دمشق / 2009 / 108 .

80. شاكر مجيد سيفو / اصحاحات الإله نرام سين / ص46.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

من نصوص الشاعر

 

              

                       

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الأرض كلّها في قميصه           

                          ألى وليم وردا ووردته صوريا                                                

نحن أحفاد الورد

- دائما- نحتمي بعطره العجائبي ,                

طوبى لكل وردة يا ورود صوريا!!*

طوبى لشقائق السومريين و الأكديين

 والبابليين الاشوريين

الى الأبد .

  *****                                                   

كان حمورابي يفوّض في الصمت شرائعه

والصمت –دائما- أغلى من الذهب

يا روح بلادي

وآية التعب ..

*****

تعلّقت حدقتا النهار

في ثقب أبرة الغروب

"فـآنكسر خاطر" المدار.

*****

تتكرر أجنحة الطيور                                                

في سماء خضراء....

*****

كان يحتضن الأرض مثل بطّيخة

والسماء مثل شرشف

ولايشبع من سنواته....

*****

خرج من الحديقة

بباقة من النفانيف

بريقها يقدح في عينيه

ولسانه يلطع نقشاتها....

*****

حين هربت الشمس من يديه

دحس الأرض كلها في قميصه

فشعّت نقشاته على العالمين .

*****

يجلس في نهار الأحد

وتشع الشمس من تقويمه....

*****

الأحياء يسرحون في حاء الحياة

والموتى يحلمون بها....

*****

كلما كان يخطّ على جبين حفيده

عاشت الحياة،

كانت تلتمّ عند عينيه الجهات الأربع

لهذا خط بدمعه في بؤبؤ عينيه

اسم حفيده- نرامسين -

*****

نحن لم ننفصل عن ذؤابات جدّاتنا

لذا ذهبن بنا الى الطحين,

وإلى خيمتهنّ الزرقاءالتي كنّا نقسم بها

في طفولاتنا.

*****

وحين كنت أنسج من شعرات شيبي

بدلة لك

سقطت دمعة واحدة على النسيج

فثقبّت العمر كلّه.

*****

وحينما كنت ألهج باسم أمي

سقطت دمعة واحدة

فوق حرف الميم

حينها طار الألف والياء.

*****

من خرس الأبواق

خرجت حناجرنا

تهتف بنشيد الغبار....

*****

نريد خرسنا

ولا نريد هذي الأبواق.

*****

نريد حناجرنا والأبواق معا

ولا نريد الغبار....

*****

ياه!!!

كلهم يهتفون

نريد النهار ولا نريد الغبار

نريد النار ولا نريد الثلج

نريد النار والثلج والزيت والشمبانيا

نريد النهار والليل,

الليل كلّه والنهار كلّه !!!!

*****

أيتها البرية

إلى أين نذهب؟

وأنت جمهورية منفانا  الدبق؟؟؟

أيها الوقت ,ايها القلق.

الى أين نذهب؟

 أيتها الساعات السرمدية

 كيف نغفو؟

 وأنت عاصمة الجسد و الكلام والأرق.

*****

تصدير متأخر:

يوم بكت صوريا

غرق العالم كله بدموعها

فآنفلق الكون نصفين .

..ولأجل كل هذا أرسلنا ورود الرب ّ لصوريا .

*صوريا:هي القرية الشهيدة ,تقع بالقرب من فيشخابور.وتبعد 10كم عن زاخو.

                                                                                                

                                 صيف 2010

 

 

مقامة الورد

 

*الى الشاعر الغنائي الاشوري الكبير ادورموسى وابنته الفنانة الكبيرة نغم

يولدون من رائحة التراب                                              

وفي نهاية المطاف

يسكنون السماء..

*****

أدعوك إلى شجرة حواسي

وأفلت من مطرقة زمانين

تلك وحشة أساي و آسي!

*****

ماذا سأفعل بكل هذا التفاح ؟

وحواء

لازالت تقيم في سريره ؟

*****

بإسم وردة الكلام

أعلّي قدح الصمت وأدعوكم

أن تصمتوا ،

وأنا سأصمت إلى الأبد.

الصمت مفتاح الفرج .!!!.

*****

كل ما أملك في هذه الدنيا

تدّر لي سنوات من التجاعيد.

الى أين يا تجاعيدي الناقصة ؟

*****

من أجلك أيتها الباء فوق بردة البلاد

تبتسم البرية و تدخل الخلائق الأبدية كلّها..

*****

نخرج من مياه الأزل بلغة الملائكة

ونجهش بسعادة النجوم..

*****

سأقيمك على الكثير ،

ولكن, بعد أن تقيم الشمس

في حديقتيّ..

*****

بدّلتَ  الجنون بالعقل  حينما انطفأت

 مصابيح عقل الورد

في نهار مصحّ توّجته الحروب.

*****

كأنه ساحر يُخرج خضرة آبائه

من كُمِّ قميصه..

*****

إنه يجمع كلّ ما كتم الصباح

من قراءات وردية

في ضفيرة تلميذة سرقتها

سطور الخلدونية..

*****                          

في أربعاء الرماد

يغادره الصمت إلى عرش الكلام

ليحرس زهرة الخلود..

*****

 لا تأخُذ من الطير عشَّه

 و منقاره بعيدا عن حبة الحنطة

 لا تاخُذه من عائلته

ولا تقصَّ جناحيه..

حتى لو ضاقت بك السماء.اذ هو الذي سيحمل لك الطرود ,طرودها.

*****

كان طوال حياته يُطارد أشباح

الحكمة في المصحات..

,,,,,

وكان - دائما – يسافر إلى السموات

ويسكن القمر،

حينما يداهمه شبح الامبراطور وكلابه .

*****

الأمجاد تبحث عن زهرة سطوعها

بين الأنقاض..

*****

نحن أحفادك ايها الورد

 وأنت ايها الزرع

 طوبى" لحافظة الزروع" يا ربيع الاحفاد....                         

 

                                       

 

 

                                        صيف 2008

لأجل كلّ هذا

 

أين أصدقائي ؟؟؟؟؟؟؟؟

اوووووووووووووه!!!!!!!!!!

لقد ابتلعتهم الحرب!!

*****

ولأنّ الهواء لا يشبه أحدا

لذا لن يتكرّر

في ميلاده......

*****

.........وحينما كان المطر

يثرثر فوق صلعة استراليا

غدا قلبي أخضر

من فرط حسده

لذا سمّيت

استراليا قلبي الاخضر......

*****

شمس حامل تختبئ

في تجاعيد جباهنا

فتنكسر فيها ظلالنا.....

*****

نحن قعر يبتلعنا.........

ألامنا أخوات أنّ

تتكرر في فرن الكتابة

تمور وتشتعل........

*****

شيبي سبعة طوابق

فأين تسكن أسنان مشطك؟

*****

أنت التاءات كلّها

ملكات على العالم

أحسدك على تائك الطويلة المفتوحة- دائما-

  ألموكولة بلثم شفتي......

*****

أيهرم ظلك

وجسدك كلّه شامات سماوية؟؟؟؟؟؟

*****

من يقصّ شعر الحرب

الملوك ام الشعراء؟؟؟؟؟؟؟؟

*****

.......وحينما لم أجد أحدا في الفردوس

عدت الى نخلة تشهق أمام بوابة عشتار.....

*****

عندما تغيب الكهرباء

يجنّ الظلام ويجيّش علينا الحرمس,

حينها تحنّ دموع الشموع الى ثريّاتك.........

*****

عري من في يدي........؟؟

كلّما فركت راحتي ّ تذكّرتك........

*****

أنفخ من قمحي في جيم الجرجاني

فتنبت لهامات أجدادي آلاف الجبال.........

*****

لأجل كلّ هذا أمجد الصمغ في شجرتك......

*****

...ولأجل هذا كلنا نمجّد الصمغ في شجرتك.

*****

                                                            صيف 2009

 

 

إحتفاءاً بسوناتا المطر

                  الى العزيزين :فراس ووائل جتو              

ياروح الماء               

في أوردة الغيم

يا حدقات المطر السعيدة

يا مياه الأحد المبارك في لوح السماء الأول

يا قوة آشور الغامضة

يا بريد الأحبّة المطرّز بالأنواء

يا أرجوان الأزل

يا بنفسج الروح في يقظتها

نسألُ عن القمح،

يا طحين الأيام في سلال الأرملات،

يا بياض الكلم السعيد

يا شهقات البلاعيم في حَلْقِ

الروزنامة الناقصة من سنة الغياب

يا اسئلة الطير البعيدة

عن مائدة الربيع،

يا نيتشه العاقل بأسئلة التراب،

يا آدم المهووس بتفاحتي حواء،

يا خطأ آدم المسكوت عنه

في غابة حوّاء!

يا سارتر الجميل بالحَول

يا كتاب البخت المسروق

يا كتاب الدمع والسعادات

الراحلة في ورق اليانصيب

المُفخّخ بالغياب،

يا دموع شموع عيد ميلادي".."

يا مهرجان الثلج وانهيارات

قلوب عشّاق،

يا موسيقى "زرقة دجلة" في لحن

"عمانوئيل بت يونان"([1])،وآشور بيث سركيس"2"

يا برغل "العصملّي" الناقص

دهن الحر،

تعالوا الى لحيتي البيضاء

الى منخلٍ في زقاق كذوب

الى منتجع الحدقات الزرق

عبر بريد ملائكة الحراسات السماوية

هكذا كان الثلج يثرثر عن آنحناءةٍ

عنق استراليا،

عن نحيب ضائع من قلب أتلانتا،

هناك لم أعد أتذكر طفولتي،

وشخيراً لماكنة الخياطة

وهي تزرّرُ لي شفتيّ،

لكنني كلما مررتُ بماكنة

الطحين لـ "آل دديزا"*

تذكرّت طفولة البرغلِ

والتمعتْ أمام عيني

حبّات "البسُستا"([2])

او "الكشكي([3])"!،

كلّنا نرسلُ ضوءَ أحداقنا

الى حدقتيّ القمر،

هكذا،

لاصفرار وجه البطيخة الازلية

نجمعُ أحزان بابل ومردوخ

في كيس القمح من "نمرة 12"،

هكذا

نشمُ في الظلمة انحناءة البطيخة،

نزرع حنطة الجنون في مشفى

العقل  ..

 

هل نعود الى زرقة دجلة؟،

أخشى ألا تُسرق منا الألحان،

هل كتبتُ لك عن بئر العسل؟،

أنظرْ الى دجلة

كيف يحفظ مخلوقاته تحت

جنحيه،

هل نعود بالباء كي نشيّد

بغديدا([4]) ثانيةً بالصمت؟،

سنرسل لها ملوكاً صامتين من البنفسج

والأرجوان،

تسحُّ أمطارهم على موائدنا

لكن قد تأكلُ حساسيّة الخوخ

أصابعنا،

او قد نحملُ سعادة الأشباح والظلال،

لكننا سنظلّ نعرقُ في ضوء الرغيف

وندمعُ في ربيع التفاح

ونعلّي  أخطاءنا

فوق مائدة الغياب

او

قد نحملُ نظّارات القارات

عن سراب المياه،

وائل،

هناك على رابية آشورية    

وقفتْ ـ ريما([5]) ـ

فاصطادتْ حدقتيّ القمر،

حينها، شع ّنور العالم على العالمين.

آ ل دديزا :من العوائل الخوديدية العريقة

ريما:زوجة وائل

                                                      

                                            شتاء 2008 

 

 


قامة الهواء

 

الى سركون بولص حياّ

 

للقميص الممتليء بنقشات الألم

حلم راعش

يهرّب روحه الى " المدينة أين"

كفّاّه ترتعشان

والشوارع بين يديه مقصلة

كان يملك تذكرة للباص

الذي حلّ ضيفا على الغيمة,

فأخذته الريح الى جبل

ليجلس منتصرا ,

كأنه هيراقليطس

او هرقل

يقتحم بلادا تحكمها سعلاة الحرب

ينثر دمعه في مرآة حبيبته

تنكسر قطرات الدمع فيها

ترتحل الذكريات فيها

سركون! أيها الراحل في نقشات القميص

المستفيق في كآبة الفجروسعادته معا

تتشابك المدن الحجرية في كفيك

المدن الوباء , الخراب , المخاوف

الغصون , العصافير,المطاحن

برلين , سان فرانسيسكو

بيروت , بغداد , الحبانية.كركوك

اين تنام الليلة؟

ها أنت تحاور دمك و الحداثات الشعرية

العواصم التي تجتاح ضوء قميصك البنفسجي

يخضرّ في ظلماتها الضوء

مثقلة بأفنان الجميلات

وخبز الأرملات ,

تعال , نطيح بكآبة الغيمة

من أجل دموعهنّ

وقبلاتهنّ

استفق ,

ها أنت تجرح بموتك أرض الجسد

وتغنيّ لمياه ملائكة من قمح يشهقون في العجين!!

هل تصفّحت الغروب في كتاب الغياب؟

وفي مرج السراب

و حافة النص ,

( اذا كنت نائما في مركب نوح)

تصطاد عند النبع ذهبا وطيورا

وتنشغل   بألف آشور

وتحكي للاتين قصة التراب,

تعال الى صخب ساحة النصر,

حيث لانصر" ولاهم يفرحون.."

هنا المفخخات يضيفّن أجساد الطفولات

ويعلبّن الورد الأسود للاعياد

ألأشجار التي رسمناها في كراسات الرسم

ذبلت بين السطور ,

ورحل الاصدقاء .

.تعال اعطهم عظمة أخرى

لهولاء الذين لا زالوا  ي......!!!!!!!!!

 

-ملحق بالأهداء الأبيض-

 

وحينما انكسرت قامة الفراغ

انطشّ عسل البرية على وسادة الشاعر

فراح يلتهم اصابعه وشفتيه

ويقرض الورود المنقوشة بها وجه الوسادة

،،،،

وحينما شهقت البرية

وهامت على وجوه خلائقها

من فرط ضجيج عواء الذئاب

تهدّم جسر" المدينة أين"

وابتلع خلائقها

تصدّعت الأضلاع

حينما اخترت ضلعا لسركون

لأصلح في جنبه ضلعا اخر.

 

وحينما انكسرت قامة الهواء

تكومّت قامات الدمى

فوق هامة الفانوس

وحينما خبأت قامة الطفولة

في كراسة الرسم

لم أحسب دفاتري مقبرة

لكنني حينما كبرت

حسبتها غابة

وحينما رحل سركون

دفعت مسمارا في القلب

علّقت عليه صورته

تلك التي لم يصدأ فيها المسمار ..

 

نامت المدينة في مركب نوح

بينما أنا كنت أمضي الى مدرستي

ألمّ النجوم التي سقطت

من حقيبتي

وأخبئها في كتاب الوطنية.

ما الذي يقوله هذا الجوهر؟

الملك لا يحتاج الى أجذية بيضاء

العدم يطوي ذهب الحياة

الطيور لم تعد تحلّق عاليا

انها تستقلّ  التوابيت

او قل باصات مهدّمة

 

ايّها الزمان الزمن الزاني

سنحزم أضلعنا ونمضي

مع حامل الفانوس

في ليل الذئاب

الى الفردوس..

أنصت أليك

متى تستريح من الهمس

متى يجفّ لساني في سقف فمي .؟

سركون ........سركون ..

ها نحن استأجرنا شقة لأحزاننا

متى يتهدّم سقفها

كي نعود مراهقين ,

نكتب أسماءنا على حيطانها مرة

وأخرى نكتبها بماء ذكورتنا الادمية .!!!

ها نحن

آمتلأنا بالجنون

عاد الموتى من مقابرهم

متأبطين نيتشه..!

لو كنت يوما معنا في آشور

لأعطيناك أقراصا ضد الجوع

و قامة الباراسيتول

وهامة الشمس

وآبتلعنا نحن أقراص هوياتنا

وركلنا مؤخرة الحرب

ببساطيلنا..!!

،،

حين صرخنا: سركووووووووووووووون

عشقنا البنفسج

فانبجس من جنباتنا الحبق !!

هل نجمع قامة السراب

كي ننجو من بلاهة المياه؟

انت مسكنك الضوء

والحزن خطاه

في هذا البلد

ها نحن ننقل حياتنا من الغيم

الى مكان مؤجّل

في هواء الابد .!!

أنت نسيت حياتك في غابة بيضاء

هناك نسيت ذكورتك الهائجة

فرّ من عينيك النوم

الى الزبد ,         

الى حليب كثير

هارب من حبر النسيان

كانت الطيور تنظّف اسنانها

باسنان مشط السماء

وتبدل حبيباتنا

بأذيال الطائرات الورقية........

في المرة الاخيرة

ثقبّوا بريد الموتى

وقميص المدى

واستدانوا ثقبا في مركب نوح

كي يدقوا مسمار حياتهم لحياتهم

ويعلّقوا معطفك الوحيد فيه ...

فآستدعى الرماد 

يتامى الدورة والزعفرانية

وبغداد الجديدة

كي يزجّ بهم في هواء المطاحن

مطاحن اليرموك وموصل الجديدة

،،، سركوووووون

امسى الناس في بغداد ينسون أسماء ضحاياهم

معلّقة على أعناق الجسور

اذ يتصّدع جسر الجمهورية

ويتكئ جسر الرشيد

على أكتاف عابريه

وتنكسر قامة بغداد

وتسقط في حلق دجلة

ويصاب الفرات بالخرس...

سركون ,

العمى يخاف من مصابيحي

قامتي تتلوى وسط الريح...

يمرّ الغرو ب

و الشروق

ويشتبك الغسق والشفق

ولاتأبه الارض بهذا الافلاس ..

،،

علينا  اذن, أن نرزم هذا الحطب

لبقية البرد

او لريشة في المهب .

هاجت المباهج

في زركشات قميصك رغم العاصفة

،،،

أنني  أحتمي بالشهقات

في احثفالها .

 

أفتح صفحة من كتاب الرثاء

وأصوم عن الكلام ..

أنقّب في نقشات قميصك

عن سنة وردية

ترسل لحمها

لنهار يبرق في قدح الكونياك الاحمر

حينها تهرب الايام من تقاويمها

وتشع ّ الأعياد في نهار الحلوى

,,,

من من بعدك سيعجن الليل

ويلمّعه بأنصاف شموع ؟

الأمهات آدخرن أشلاء أبنائهنّ

الى حيث لا سعادة

ولا بطيخ ولا بطاطا ولا جبار أبو الشربت

ولا هم يفرحون !!

،،،

سركون : كان عليك

أن تستبدل أيامك

بحرير انثى !!

,,

سوف ننزف عمارات من السنوات

كي نحلق بانفاسك أو نطأ بابك ..

سوف نمضي بلا هواء

لنمسك بارجوحتك

,,,

من أجل أنفاس ملائكتك الشعرية

نجمع قامات الريح ..

,,نرحل معك في قارب نوح

كما ترحل الذكريات

في ياقات قمصاننا ..

نقطف حدقات العصافير

من جبين الافق, ونخبّئها في عبّنا

نتنزه في ليل الذئاب,

حاملين فانوس العذاب والذهب الذي أمسى ترابا

سركون ،،نحن" أبونا التراب."

ولأجلّ كل هذا التراب ,نمجّد قامة الهواء                                                                                                                               

                                      

                                        شتاء 2008                                    


لا قمح في يدي ولا رماد

 

تمشي الحرية الى حائها ,دائما

تسرد لنا قصص الحكّة الربيعية

والحساسية والحيف العراقي

وأنت كل يوم تحبّرها بحاءات الحيف

والحزن والحندقوق والحور والحول

والحصة التموينية , والحرائق النينوية

والحروب كلها

تف على كلّ الحروب

أيها الباذخ بالحساسية الأشورية

وحداثتها وما بعد الحداثة

الحرية تخجل من بريدك السريع

 

وتقرض حاءها في كلّ حين

السماء تجمع نجومها

أمام بلاجكتورات الدكتاتوريات الأرضية

وتخاف على ميماتها المغمضة العينين .

لا بل المفتوحة العينين

أنت قبل الربيع تزجّ تاء الشتاء في مداخن الأزل

ماذا- أيها السعيد بحريته- لو آبتلعتنا الحيطان ؟

و الحرية معا؟

وظل الرغيف يوبّخ ألسنتنا

عذرا , أيها الغصن السعيد بشجرة الألم

أيهذا الجرح الذي يجمع الوطن في ضماده ؟

أتريد مزيدا من التبغ ؟.

عذرا : انك لا تدخن

لا: انك كل يوم تدخن حياتك

وتشرق على ظلال الحائط

والأشجار

كل هذه الشجاعة, ويقولون بأن ظلك معتم

ايهذا المطر الذي يجمع السماوات في قطرة ؟

مطر مطر مطر.............ويسافر السياب دون مظلة

....

" مطر مطر حلبي عبّر بنات ألجلبي "

عشرون سنة في انتظار القمر

على حائط المنفى

عشرون سنة على أصابع الماضي

وهي تسيل خرافات وكآبات

عشرون سنة وأنت تجلد الحائط بسياط الصبر

وتدهن جبين الكواكب بالدم ........ لوك

عشرون سنة وأنت ترهن الضوء أمام شراهة الظلام

والظلام يجلد بسياطه شجرة الضوء

تهرب نحوك عشرون فاختة تقطع مواء الشجر

وموسيقى المطر

عشرون لسانا يصادق سقف فم الايام

 

ونواح الشمس وأسئلة السراب

من أين آتيك بقمر واحد – فقط- يفتح

عشرين ثقبا في حائط العتمة

وأنت على قيد نينوى ؟

وهي تسرّب أمضاءها الازرق على جبين السماء.

مرّت الآلهه ياصديقي من هنا

ومرّ الغبار امام نافذة العائلة

مرت الشمس امام خرس الظلام

مرّت الآلام في تجاويف الفكرة

والملوحة في السطور

نجونا , نجوت من سهام كذبة الشعر

كنت في آخر القصيدة

ترسل أسئلة الطين

وتطعم نهد السماء من طعام القمر

ثمة طير يحلّق فوق طاولتك

ويذكّر الأفق والزرقة

والبلورات والعصافير بالحجر  ومانفستو الغضب

كان الأفق عجوزا تغفو كما الحرية فوق الرصيف

كان الجنون مؤنثا يركض بين اوراقي

وبين دخان حياتي

و الرصيف تتوسّده الذكريات

وتطلّ النسوة الجميلات من شقّ في الذكرى

لتنزّ منه الطيور

تتكوّر السماء في مديح أحزانك

الأربعاء رماد والرماد أربعاؤه مديح

وجمر وقوس وعربات

الأصابع تمطر رسوماتها العصور

والعصور قاطرات داخنات

هذا ليس جرس آفتتان البدء

هذا برتقال سعيد بأبنائه

برتقال أسود من سخام شوارع بعقوبة

ياسيد القلق الاخير

الظل تأخذه الكواكب الى أجسادها

الزرقة تسافر في ظلام عيون بورخس

الماء يشوش في المرايا

خدوش في القصيدة تأكل أصابعي

أتجول في مرآتي ,

ومرايا ي تأخذني الى حائط الظلمة

قمرك نصفه يأكل نصفه

والذئاب تاكل أثمار الافكار

وأنت ترقبها تتنّزة في الجحيم

ترسم بالطبشور ماتبقى منها

في وليمة الشمس

بماذا تحدّثني أيها الماضي ؟

ألمذابح تثرثر سكاكينها

ألسماء أكثر جثثا

ألاجداث أكثر بياضا

ألدخان يثرثر

لم يعد بامكاننا أن نجلس في الفراغ

ألكراسي تثرثر

عن اصدقاء في المجاز , في القمح , في الجاز

في قصائد الهايكو  ...       عن الملوك

في غاز الأعصاب

في التفكير الاوّلي لحطّاب الحياة الساقط

من فم ميشيل فوكو

في الفكرة الاولى لجدتي شامورامات

لحكّة في الجلد

للأنسولين  عين تتّسع حاجب السكّر والثمالة

للغرف المظلمة التي تتذكّر موتاها

للنابالم وهو يوزع جرائد العدم

لمانفستو الحب الذي كنستة الدهشة

للساعات الواقفه في عقارب الازل

للربّ حين" يزعل علينا"     

للبياض الذي تنهض فيه صباحات الألم

للقصيدة حين تتسع للبرية

للبرية وهي تبتلع مخلوقاتها

للطيور وهي تهرب مذعورة من صفير الريح

للعصافير وهي تخطّ خط سيرها في الهواء

للغياب الذي يمجّدنا في سهيل الكتابة

عن أحبّة وخارج الكلام

قد تلعن حظوظنا

لكننا ملائكة في فناجيننا

يحلم الصحو بغيومنا

والنسوة يتعثرنّ بامطارنا

ومرايا نا... تتلبك بعتمتنا

وسجائرنا التي تشتاق دوما الى شفاهنا

لن نعود الى رائحة التكرار

المكرور فينا يأتينا من رائحة القهوة

كان اشتياقنا لآلامنا فكرة نستغيث بها

ودعاء نستنجد به لسماء أكثر صفاء

كانت قهوتنا تتحدث عن الوردة في منامنا

كانت أجسادنا تسافر في رائحة القهوة

كانت على بعد" سنتنساء"

انشغلنا باثدائهن ,

ننزع شفرات حلماتهنّ و صنف حليبهنّ

نهاتف أحلامهنّ وننقش ابتسامة الله

فوق   وسادتهنّ ..................

نحن ابتكرنا موسيقى لخرير دم الغروب في شراييننا

لعشاء الأمير الذي تمشي في غروبه الوعول مذعورة

من ظلالها,

ننام في ثوب الأمير الذي تضحك فيه الازهار

نلوك نجمة ترشد العميان الى المطحنة

نحن ابتكرنا ضحكة العذراء ,

واشعلنا فيها نار الرغبة الاولى ,

واشعلنا في النار لغة الريح

وابتركنا أقفالا لها

وابتكروا اقفالا ليديك

حتى آلتمع الصباح في نظاريتك

ذات صباح سرقت أجنحة لماسو وتركتها

عند كتفيك

لتطير اليك القبّرات

وتأتي اليك شميرام حاملة

مطر الخلود

ايها المطرالبنفسجي!!

يهرب العميان امام سوناتا نعاسك

" للطيور التي تربك نعاس الاشجار

" لن نقول وداعا

العاطلون لا يقرأون الكلام

نحن- ايها الماضي- عرفنا الوطن في دمانا

وعرّفناه بالحنين

منذ أربعين , ونحن نقف أمام المرآ ة

وتخذلنا خدوشها

ونغادرها وتغادرنا دهشتنا

حيث لاوطن فيها  يلمع ولا أخاديد ولا آحاد

ذلك الوطن الذي رأيناه

نكاد الآن لا نراه

نكاد الان نراه في لعنة الضوء الاخير

وفي  الشيب لغة أخرى

وفي الحنين أنين

نكاد نراه مثل قرص الاسبرين

من منّا خذل الاخر في الأربعين

لقد كبرنا ياوطني

الان نبحث عن مخدات جداتنا في سورة الحنين

نخرج من بخار أفواههنّ

وننضج على مهل

وحين تنضج شفاههن

نضج بالأرض

وتنضج مثلنا مخلوقاتنا

كما يضج المطر بمخلوقاته

ويفرح حين تضجّ الارض بالعشب والأعاجيب

وحين تجمع دموعها بانتظار حبيبتنا الفكرة

يا ايها المسافر في الدمع

هذا يوم دامع اخر

في مرايانا يوزع خدوشها على جراحاتنا

كلما هطل المطر

نبتت احداقنا جنانا

وارتعشت الحدائق في أرحام جداتنا

ماذا تبقى للوحيد من حواس وأسئلة؟؟

صرنا نعود من الفراغ الى الحياة

ونمرّ على أسماء المدن

كما تمرّ القصائد في الدخان

كما يمرّ الوطن بالحنين والوجع والذكريات

لم تعد تكفينا أذرعنا

لنقيس بها مساحات العدم

كنا نمر ويسرد الصدى مرورنا

نمر والحرية امامنا تاكل راءها وتبلع حاءها

برق يضيء فيها وفينا

نحدق في اهه الجسر العتيق

ويكثر الغبار في جبين نينوى

وتكثرالخدوش في مراياها

يتشرد الاس والاصابع

والارض تمورفي شراييننا

لا لن نهاجر الى النوم

نحن سعداء برفّة جناح ملاك

حين يرى العالم سعيدا

يحلق بعشبة كلكامش

تخرج اليقظة من اغماضة السنوات

مليئة بالعجائب

والعجائب حولاء,

في اليقظة هروب نائم يوقف التراب

ماذا تريد مني احلامي ؟

عد الى الحياة

أعيد زوج الحياة الى النوم

اسهر معها        

وتعلّمني السباحة في النوم والحلم معا

الاصدقاء يخافون من النوم

"لا تصالح مع الكوابيس

حتى لو قلّدوك الذهب "

نحن جرّحنا الهواء

وجرحناه , طلعنا من هواء الجرح

نجمع المرايا والاغصان والجهات

جرحنا المرايا والشجر

تشابهنا في الفردوس

خرجنا من جمرة الحداثة

حينها غادر الغيم طاعة الماء

خرجنا من أرثنا

لنسافر في كل أرث وأبجدية

على وسادة الرعشة , ابيضّ الليل

جرّحنا البياض

فأبيضت أعيننا

" كنت تدمي اديم الارض "

بياضك يرخي حبل الغروب على حبالنا

أعيننا آبيضّت من الفرح

كنت تسلق الحرمل ونحن نثمل

شهقتك البيضاء فازت بك ........

جئنا فرحين بالسهر والحدائق الباذخه

وهي ترمي بثمارها في طرقنا

جئنا فرحين بالمخيله تطارد الجوع

والصرخات

تذكّرنا برائحة المطر في تراب الجدود

نميل مع الفراغ

وتقدح أحداقنا  فوق مائدة الكلام

نمشي الى أجسادنا . دائما .

وأنت تشرّدنا في هوائه

نملأ أرواحنا بالصهيل

ونجمعها في صرخة الحيطان

أو في رسوم لجدارية الحياة

بغموضها الباذخ

أيهّا الجرح الذي فركته الأغصان بأحلامها

وفرهدته المياه

في طوفانها الأميري المعطّر

باللذاذات

أيها البنفسجي المطرز بأعلام الرعد والبرق

والسحاب

نحن نتذكر – دائما –

قبل المطر وبعد الشمس

تنبت في دمنا

عشبة الازل

نجمع الارض كلها في راحاتنا

ونرفعها حين تميد

وتنعس فينا السماء

دعنا أيها البنفسجي

نرفع قامة البنفسج

حتى عناقيدها

الى حدائق النار

الى قيثارات تشعّ في الحنجرة

الى الدخان الأخير تتهاوى الحيطان

ونذهب في الطحين

نتشحّ بالبياض

خذ قامة الكتاب والجبل

الى ربيعك

وحدثنا عن البلد الحزين

عن الغموض في شجرة الجيم والميم

نحن اقتسمنا عشرين عاما من الغموض والخبز والحيف

على مائدة الانبياء

هجرنا عشرين الف سعادة من الخراب

ذهبنا الى عشرين ألف نبيّ

نبحث عن موتين بين شفتي وطن

وأخرجنا الحياة عشرين الف مرة من نافذة الموت

وهزمنا الظلام , عشرين ألف مرة

وعقدنا

زواج الارض بالسماء

والقمر والشمس

والتراب والمطر

-والحدائق والاسماء-

,,,,,,,,,,,,,,,,,,

.........كل هذا من أجل يدي ّ,أذ

لا قمح في راحتيّ ولا رماد ......لكننّا                                  

..... لأجل كلّ هذا الحزن  , حزن القمح ,نمجّد المطر...                                                                            

                                                                              شتاء 2008                                      


ميتافيزيقيا المياه

                  الى الراحل العزيز الفنان فائز وديع كجو*.

ما هذه الشمس الراحلة؟،

كلّما نفختُ في فمها

اسودّت شفتاي

واسودّت ضفائرها

ونام العالم كلّه في عباءة

سوداء!.

*****

 

متى سنهبط معاً؟،

ونستريح من كل هذا الريش

وهذي الأيقونات

والبالونات

أيها المعنى؟

*****

 

يوماً ما سنترك نسوَتنا

وراء الرغيف

ونمضي حاملين تنّور

راحاتهنَّ!.  أو ربما تنوراتهنّ

ولأنّ الهواء لا يُشبه أحداً

لذا لن يتكرر في ميلاده!.

*****

 

أكتبُ لك أيّها الصديق العزيز

وعيناك تمطران ذكرياتنا،

إنني أتوقُ الى حرائقِ نينوى!.

*****

 

انت لم ترحلْ

ولهذا أنا باقٍ هنا معك

لا أستطيع الرحيل!.

*****

 

لي القدرة الآن على أن أتهّم

جسدي بالحرية, هل تسمعني،

أجِبْ؟!.

*****

 

منذ سنة، وأنا لم أزُرْ مقبرةً ما،

لقد اصبح العالم كلّه مقابرا..

*****

 

ليس للعالم وقت كي يصبح

حديقة..

*****

 

جسدي حديقة

تحفّها مسامير تابوت الزمان..

*****

 

نحن -  دائما- نحتمي بميتافيزيقا

العشب والمياه.

*****

 

نخلعُ جبّة الذئب

ونرتدي جبّة الحَمَل..

*****

 

عذراً نخلع ونرتدي العري!.

*****

 

نحن طيور صحراء نتنزه

بأثواب الرمال،

عراة!.

*****

 

إننا نحسّ أصابع البرق تلمسُ

صلعاتنا،

ربّما أنت قادم مع المطر!.

*****

 

ربّما، لقد أزهرت هذه الـ رُبّما

ها هي الأعياد على الأبواب!.

*****

 

ها أنني أيقنتُ بأن الشجرة

شجرة الميلاد

قد حَلَقتْ أغصانَها

وعادت صلعاء..

*****

 

لا تخفْ،

إنك رحلتَ

ولكن رحل بعدكَ

تاريخُ الأرجوان!.

*****

 

صديقي العزيز

متى نستريح؟.

الأزمنةُ، الأرجوحات، القلق

القيامات تقف فوقَ سطوحِ

ديارنا!.

*****

 

أُنبِئُكَ أنا ذاهب الى الزرقة

أصطاد النرجس

دموعي كريستال

ومياهي لآلئ!.

*****

 

...ولأجل كل هذي الدموع,نمجد المياه.

 

****************                                        

 

                                                                    شتاء2005


بيان باخوس      

                       

مرةُ.. أخذت عائلة أشجاري                                            

بعيدا عن الصحراء

فآويت خضرة يدي..

****

 

بدلّوا له داء الشقيقة بداءِ

الملوك ،

فظلّ ينفخ في ثرائه من الصداع ! لا ثراء البنوك.!!

****

 

حين كتبوا بالدم على حائط الصيف

" يحيا الوطن "

 اشتعلت نار القصائد

وآستوى العرش في حرائقها.

****

 

وحينما خطّوا بالأزرق عليه

امتلأ الصف بالخضرةِ والمطر..

****

 

وحينما رسموا بالفحم عليه ,

آمتلأ الصف بحشود الزرارير..

****

 

نقلوا الحنّاء من كفّ

السماء الى كفيها

فارتعدت وحبلت بثلاث وثلاثين

 

أنثى ، تطارد الزهرة وعطارد

والميزان وتجلس في عين القمر .

****

 

يحتفي باخوسّ بخمرته

ويتذكر دنان جده........

من سيعيد الحياة إلى دارها

لو طاردها الموت

ونقلها إلى داره ؟

****

 

تساقط الرهبان بأثوابهم السوداء

على رغيف أبيض

فامتلأت أرواحهم بالبياض..

****

 

غدا سيترك أصابعه في حقيبته

لكنه لن ينسى أن يكتب

آسمه باليمنى فوق كتاب الطفولة

في عرس المطر....  عاشت السماء!!!

****

 

هذه لحظة هاربة من متحف العالم

السنابل ترتب له مائدة الذهب والقمح

وتطرد داء السكري وتطارده بالأنسولين

وينام مقدسا في سرير الماء .

*********

 

بهلوسات المطر يفقّّّهّّّ الجوع أقنومه

  وسط مائدة الفقراء....

                      

 

                                                             شتاء 2008

 

 

 

 

 


أجراس آلمعنى

 

ألانَ الانِ

آخذكِ وآخذني إلى اللامكان..

*** 

                                                                                                                                                      

في غفلةٍ من العالم دخلت الفردوس                                 

أحمل معي مياه الأزل  وورد الجنان.

***

من أين أتيك بالفجر الأبيض

والرغيف يئنّ في قلب التنّور

وقلبي في روح الرغيف يربُض

***

الأمهات يبكين انطفاء تنانيرهنّ

وآنكسار قامات الأرغفة فيها

***

 

من أين آتيك بصباح أخضر

كي تتورّد فيه تيجان ألديكه ،

, احمر الشفاه يبس في شفاه

الأرامل

وأبجدية الدروس الناقصة؟..

***

 

مَنْ مِنْ بعدِك سيعيدُ

للحرف هيبتهُ ،    

لو أنكسر ردفُ الرّاء

وفُقِئتُ عين الفاء.؟؟

***

 

مَنْ مِنْ بعدِكِ سيرتّبُ

قامةَ السّينِ ويجمِّلُ أسنانه

من هلع السراب

وفوبيا الماء

وأسئلة المارثون

والإقامة  الجبريةِ

للنجوم في السماء؟...

***

 

الحبرُ يدقُّ أجراسَه

في موكب الورقةٍ

لذا أراك- دائماً -تضجّينَ

في محبرتي ، وتأتين بالفجر والغيم إلى الجنون !..

***

يقول أدونيس :

" أمسِ ، رأيتُ للفجرِ ثديين

وأنا قلت: ذلك تأويلُ لأيامي

لكن تعقّلي أنتِ ، أيتها الغيوم 

في تأويلك

وأنا أقول للغيوم أن تعود إلى الصحراء

لأنها تبكي رحمة السماء،

هكذا هي : مجنونة ُ بالهواء

وترى الأيام كالطفولات

تركض بالبالونات ،

وترسم للفجر أثداءً جديدة..        

                     

                                     شتاء 2008

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

عزف آخر ........ قمح في ناياتنا              

                                 الى مملكتي الأرضية       

 

...... وحينما نفخنا في نايات أجدادنا

أرسلنا فيها روح الرغيف

وشمس العائلة وماء الحياة

كي تدوم أنفاسنا فيها

بالقمح والذكريات .

*****

لم نكن نجيد العزف والنفخ ,

لكننا حين نفخنا في ناياتنا

من قمح أجدادنا

امتلأت النايات بالزهر والحكايات .

*****

ذات غبار

كان أجدادنا ينفخون في ناياتهم

وحينما علا الغبار أفواههم

جفّت شفاههم وتشققّت

حينها امتلأت النايات بالأسى والأحجيات .

*****

 

مرة ,

سافرت الى "مدن لامرئية"

حملت على ظهري كل ّمتاحف أجدادي

وحينما وصلت ,انفرطت خرز ظهري

رغم أنيّ   ,دخلت دون جواز .

*****

من أجل حبري

سأخذ مزيدا من الأوراق

فأنّ كلماتي معقودة الى لساني

في عقدة وثاقي .

*****

عطر" زهرة النيلوفر"

يجرّني  من ياقة قميصي الوردي

-دائما –أحتفي بها ,

وأسأل –أيها الأحتفاء ,

بمن تحتفي أنت ؟

ومن يحتفي بك ؟

*****

في طفولتي ,

وحينما كنت ألعب كرة القدم

كسرت –صابونة- ركبتي

لهذا كلّما اغتسلت بكيت

وأجهشت بالهديل,

وانا ليس لي سوى ذاك السبيل .

*****

.....وحينما امتلأت بعطرها

داخ منيّ المسك

فامتلأت بالجنون,

تلك هي رقيتي

وكلّ ما تضمره الظنون .

*****

زهرتك خادمتي, مثل عيني

-دائما –تتبجّح بعطر جسدها

وحنّاء كفيها

أرسلت لها كلّ مديحي

لكنّها لاتزال تلوب وتتأوّه

بين لوعة الروح

وأعمدة والريح...

*****

تسأل روحي ,الريح

عن سرّالرّاءالرابضة

بين سماء الروح

وبين شطوط الارض

وعن اللثغة لحظة ميلاد الروح

فتجيب الريح :

الراء صديقتنا ,أيتها الروح

لا أحد

يسطيع

أن يجعلها زاي ,

فكلانا ينفخ أنفاسه

من قمحه في النّاي.

*****  

لا شيء يحملني

الى روحي

غير الريح .

*****

الروح منذ الأزل تتشكّى وتتلّوع

لأنّها لا تحبّ أن يتوسّطها

حرف العلة ,ألواو.

*****

ألريح –دائما – تسأل  وتقول ,

كم هي ثقيلة هذه الياء التي أجرّها خلفي ؟؟

لأنها تجر ّ خلفها كل ّ الأبجدية .!!!

*****

حين نسِيت وجهي في مرآتكِ

امتلأتْ وجنتاي بِحَبِّ الشبابْ..

*****

الى/ خضير ميري...

في ((صحراء بوذا)) لم نجدْ ما نأكلُ

كُنّا نبتلعُ سرابَها

وسرابُها يبتلعُنا...

*****

كلّ هذا الرماد لي

وانتم لستم معي

إنني ألثغُ بنوتاتِ نشيد موتي..

*****

عزف آخر...........قمح في نايات جداتنا ,

يا لها من نايات لتأريخ وأرشفة الحزن !!!!

*****

أعذرني أيّها الماء يا سيّدّ الحمّامْ

فأنا الان نظيفٌ للغاية

وممتلئٌ بالهديل

وبي رغبةٌ أن أطرد كلَّ هذه الفوضى

حينما أُبعثرني في الفضاءْ

وتهرع نحوي لتلمّنّي أسرابُ الحَمَامْ

يا سليل الأبدية والسماءْ...

*****

عطرُكِ لا يؤجّل رائحتَه أبداً..

لا تزال غرفة نومي دائخةً منه

وأثوابي تثرثر بياناتِهِ

[العطر يؤجّل رائحة الموت] أدونيس.

*****

كُلّما كنتُ أحمل خجلي

الى متاحف إناثٍ تسيل أيامهنّ فوق جبيني

مثل أقواس قزحٍ

كانت تسيل أيامي صفراءَ منهُ...

*****

من أين آتيكماَ يا ايتانا وأنت يا بيرتا* بذيلٍ لطيارتكما

وأنا حبال قلبي تقطّعت

وسط الغبار والريحْ

وأنت زهرة كل ذاك المديحْ.؟؟؟!!

******

من أجل ناياتنا القديمة

أرسلنا لأجدادنا

روح الرغيف

وشمس العائلة وماء الحياة...

*****

...ومن أجل أنفاسنا نمجد روح القمح في الرغيف..

******

بيرتا وايتانا :كلمتان سريانيتان. حفيدتا الشاعر

                                                                                      

                                                                                 صيف 2006


ما قالته الجدة لي

 

الفناء يدخن الدنيا

وأنا أبتلع الدخان والدنيا ,

والدقائق تبتلعنا كلنا ّ

*****

ذهب بورخس مع عماه إلى هتاف بابل.

****

نهرق الخرافات مع الدخان

والفضائح..

*****

انظروا ،

كيف يهرسون الفرائس مع

القناديل

ويفروّن من شهوة البهاء

والتهليل !

*****

وحالما لاح قرص الشمس

سرقه الأطفال ،

وهرعوا  به إلى معلمّة العلوم

الوقت نرجس يشاكس

الأصيص

ويفلت منه القمر..

*****

تابوت من هذا الذي تأكله

المسامير؟

*****

الشهداء يرتوون من شجاعة

التراب..

*****

يوما ما ، سأجعل رايتي

تهندس وتفردس الطبيعة..

*****

استيقظت الطواويس في

سراويلنا..

*****

خرجت الأيام النحيلة من

شراييننا جائعة..

*****

تقول لي جدتي : عليك ان ترفع

لي الدعاء

كل صباح ،

فالضباب شقيقي ..

*****

خرجت الأمطار من حدقاتنا

تتباهى بكشوفاتها السرمدية..

*****

يا لوقار هذه الأمطار!

هؤلاء هم الذين قضموا تمثال

الحرية

حينها بكت أصابع جواد

سليم..

*****

ندمع في الصيف

ويسرق دمعنا الخريف..

*****

سوادُ كل هذه الأيام

جعلني أعشق الباذنجان.

*****

الذين رحلوا في الاربعاء الدامي

أبوا الأقامة في مدافنهم

وعادوا لمهرجان الحياة

في أروقة المتحف الوطني الى الأبد !!!!!!!!!

                                                                          شتاء 2009

 

      


 صداقة الوردة (...)

                   

 

للوردة أشغال في السرّ وفي الغيب

لا تفهمها الا ّ الروح

للعطر مراكب ,

لا تعرف موعدها الا ّ الريح .

*****

أثقلني  الورد بعطره

هذا ما تفوّه به  الصباح

ووشوشتني به الرياح .

*****

العطر لوحده سيد المخلوقات ,ومنها

النساء,

ذلك لأنه يطير أليهن ّ دون جواز

ويختار أيّ قوس من أجسادهنّ للأقامة

كل ّ ما يشاء .

*****

لا أدري كيف ينام الورد عاريا

من يغّطيه بلحاف الهواء

ويتركه يتيما -كل ّ مساء- ؟

****

أجلسني حظّي لغراب نحس

فحين قرأت لي العرّافة فنجاني

قالت :

لك أن تختار :

بين هديل الماضي

ونحيب الحاضر

وجنون المستقبل  .

*****

في طفولتي

أجلستني أمي الى ثديها الأيمن

وحينما أرتشفت منه الحليب

كنت ,"وكان ياما كان " وما سيكون

 حينها اخترت الجهات كلّها و الجنون .

.***** 

سأشعّ بصداقة الوردة" س "على العالمين.

سأنسى صداقتي مع الأسى

وأبحث عن صديقي الآس .

*****

النافذة التي صادقتها

كانت تجلب لي نسمات الأبد

والباب التي تركتها مفتوحة خلفي

كانت تجلب لي الحسد

لذا بت ّ ,من تلك اللحظة ,

أعلّق فوق الباب ,

"أم سبع عيون  ".

*****

هذا المساء

أخبرتني شجرة  الزيتون الوحيدة  ,

أنها نسيت أصابعها

في كف ّ الريح

وأنا من فرط حبّي وعشقي للزيتون

أرسلت لها كل ّ نبض الروح .

*****

-دائما –تطلب الأرض

من السماء

أن تغفر لها خطاياها

وتطمع أكثر ,

حين تجلس أمامها

وتستجدي منها أسرار الغيمة والماء......

*****

-دائما –كنت أسأل نفسي

عن كفّ بعيدة تمتد أليّ

-أحيانا –

تعطيني قرص الخبز

وأحيانا أخرى

قرص الشمس .

...الذين رحلوا في الأحد الدامي, سيأتون بمعجزة الآحاد ويسكنون السماء.

                          

 

                                                                      صيف  2010                                                                   

                                         

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

دبييييييييييييب

 

أكانَ دبيبُ دمكِ في شراييني

يجمع مخلوقاتها؟

****

 

لماذا تفكرّين كثيراً

في سابع أيامي...؟ أمن أجل يدي؟؟؟

*****

 

لماذا تسألين عن الجنون في محبرتي؟

****

 

أأنتِ دبيب أهراء حنطتي

أم دبيب حنطتي

لا زال يسري في  دمِكِ..؟

*****

 

من حفريات ميشييل فوكَو،

أن ندبَّ كلَّنا في المهبّ

ونحلِّق بأجنحة المعرفة..؟

*****

 

مَنْ منّا يفكّر بالرمّل

ويعشق الصحراء

لأجل  سراب عينيهِ..؟

من بكاء الأرض على أبنائها

فَتَحنا بحاراً واكتشفنا الجبَّ..

*****

 

تسأل الحرّيةُ السجنَ

أين حائي التي آتكأت عليها الحياة...؟

*****

 

هل للسحابة أحذيةٌ بيضاء...

يسأل الماء؟

*****

 

حين حلَقَ بوذا شيبَه

سالت من لحيته الأنهار!!!

*****

 

خذيني الى الموت،

ولكن ـ مهلاً ـ

بعد أن أقضم تاء التفاحة.!!

*****

 

لو قلتُ لماسو

لنبتت لي أجنحة

بعدد سنين عمره الأرضسمائي...؟

*****

 

في شارع الحَمَامْ                                              

ابتلع الاسفلتُ السلامْ!!

                               

 

                                          شتاء 2008

 

 

ناجح المعموري:

قاص/روائي/وباحث في الأسطورة والتوراة.

صدر لـــه:

1- أغنية في قاع شيق/قصص/1969 .

2- الشمس في الجهة اليسرى/قصص بالاشتراك.

3- النهر/رواية عن وزارة الثقافة.

4- شرق السدة.. شرق البطرة/رواية عن وزارة الثقافة.

5- مدينة البحر/رواية عن وزارة الثقافة.

6- موسى وأساطير الشرق/الدار الأهلية/عمان.

7- الأسطورة والتوراة/المؤسسة العربية للدراسات والنشر.

8- التوراة السياسي/الدار الأهلية/عمان.

9- أقنعة التوراة/الدار الأهلية/عمان.

10- ملحمة جلجامش والتوراة/الدار الأهلية/عمان.

11- تأويل النص التوراتي / اسطورة نبات اللفاح / المدى دمشق /2008

12- ملحمة كلكامش والتوراة / المدى / دمشق 2009

13- التفاحة والناي الاسطورة في كتاب اليوم كتاب الساحر2009

14- خطوات المطر قراءة في نصوص كردية2009

15- فان ايروتك / اسطورة الثلوج الخضر دراسات عن الشعر الكردي 2009

16- الفأر يأكل الشكولاته / الموروث في سرديات سعدي المالح 2011

17- تأويل النص التوراتي م اسطورة نبات اللفاح / عقائد الانبعاث الكنعاني

18- الاطراس الاسطورية في الشعر العربي الحديث

19- تقشير الاسطورة / انانا عشتار وشجرة الخالوب

20- جغرافية الخراب م قراءات في (قميص النار / تحرير )

21-الفأر يأكل الشوكولاته / اللاذقية 2011

صدر عنه

1-الاسطورة والتوراة – محمد احمد العلي بغداد 2007

2-ناجح االمعموري – الاسطورة التي تبقى –شكر حاجم الصالحي 2009

جاهز للطبع:

1- الجنس في الأسطورة السومرية.

2- الجنس في أساطير وأديان الشرق.

3- تأويل التوراة/أسطورة الاتصال الرمزي.

4- تأويل التوراة/قميص يوسف انموذجاً.

5- الأصول الأسطورية لقصة يوسف التوراتي.

6- الأصول التاريخية لتايوت العهد.

7- الملك الذي سرق أناشيد الإله السومري/قراءة في نشيد الانشاد.

8- مواقد الأسطورة دفء للروح/دراسات في الاسطورة.

9- مرايا كنعان/قراءة في القصة والرواية.

 

 

 

 

 



(1)مطرب آشوري معروف. 2:مطرب اشوري كبير

(1) من الأكلات الشعبية المعروفة في قرى سهل نينوى.

(2) من الاكلات الشعبية  المعروفة في قرى سهل نينوى

(3) بغديدا ـ قره قوش ـ 36كم جنوب شرق نينوى.

                                                                                                                                            

* موسيقي وكاتب اشوري من ألقوش.