لأعزائنا الصغار

رسامات

عيون بخديدا

Museum متحف

أرشيف الاخبار

فنانونا السريان أعلام

أرشيف الموضوعات

 

قالوا وقال ... ولا زلنا في قالوا وقال...!! وضاعت الحقيقة في قالوا وقال... وحتى ما!!

 

 المونسنيور بيوس قاشا

     قال غبطته          بالأمس القريب، وبالتحديد في السادس من شباط (فبراير) الماضي، أطلق غبطة أبينا البطريرك مار  لويس روفائيل الأول ساكو وفي احتفال تنصيبه بطريركاً لكنيسة المشرق الكلدانية كلمةً شاكراً فيها الحاضرين من رسميين وشعبيين والذين شاركوه هذه الفرحة الكنسية، ووجّه نداءً إلى المسيحيين بمختلف انتمـاءاتهم الكنسية وخاصة إلى البقية

الباقية بعدم الهجرة والثبات في أرضهم حرصاً منهم على قدسيتها وتاريخها، كما ناشد المهاجرين بالعودة إلى وطنهم ليشاركوا في بنائه. كذلك أعلن غبطته أنه سيعمل من أجل توطيد العيش المشترك الكريم، كما جدد عزمه بالتواصل مع الجميع لنشر ثقافة السلام والألفة والأخوّة والاحترام المتبادل والتعاون لتغدو الكنائس والجوامع والحسينيات مراكز إشعاع روحي وإنساني كما يريدها الرحمن، ونادى إلى رفع حاجز الخوف وعيش الواقع بإيمان ورجاء.

     وقال دولة رئيس الوزراء

          أما دولة رئيس الوزراء الأستاذ نوري كامل المالكي، والذي حضر حضوراً شخصياً مشرِّفاً، دعا في كلمته المهجرين المسيحيين بالعودة إلى مناطقهم وإلى بلدهم للتكاتف والعمل مع إخوتهم في الأديان الأخرى للعمل سوية، فلهم تاريخ زاهر في حضارة وادي الرافدين، فهم أصلاء هذا البلد. كما طلب من الباقين، البقاء والثبات في بلدهم، ووصف غياب المسيحيين بالوحشة على الجميع إذ يراهم يهاجرون بسبب تهديدات من ثلّة منحرفة. وأعلن بصوت عالي النبرة:"نحن لا نريد أن يخلو العراق والشرق من المسيحيين، كما لا نريد للغرب ان يخلو من المسلمين. فالهوية الوطنية هي التي تجمع المواطنين بمختلف انتماءاتهم الدينية والمذهبية والقومية"، وأردف قائلاً متسائلاً:"لماذا يخاف المسيحيون، فهم ليسوا طارئين على هذا البلد، هم أهل البلد الأصليون، هم أصحاب العقول الذين ساهموا وأسهموا كثيراً في بناء هذا البلد عبر محطات مختلفة من التاريخ".

      كلمات... وأمنيات

          كلمات في نصوص تؤكد على السلام والتسامح والمحبة وتعزيز العيش المشترك بين كل المكونات عبر الهوية الوطنية للعراقيين، وإذ نقدّر هذه الأصوات وهذه الكلمات والأمنيات وننحني إجلالاً لقائليها، شهادة لحقيقة القضية في مسيرة الحياة، دون تمييز في الوحدة الوطنية والمساواة وقول الحقيقة في أن المسيحيين ليسوا أقلية طارئة بل هم أصل البلاد، وعليهم أن لا يهاجروا ولا يخافوا بهدف المساهمة في بناء الوطن وعودة الموجودين منهم في المهجر إلى الوطن الأمّ كي لا يصبحوا جزءاً من الذاكرة، بل يكونوا دائمة حقيقة أصيلة... ما أجملها من كلمات... إنها أمنيات، معها نقدّم شكرنا لرؤوسائنا الزمنيين.

 

     صرخات وتصاريح

          وإزاء هذه الكلمات والأمنيات تنطلق صرخات استغاثة وتُسمَع كل صباح ومساء، بل أحياناً على مدار النهار تطلع علينا أنباء مختلفة ومن جهات عدة ومن شرقنا المتعدد البلدان بتهجير أو قتل عبر أوامر مجحفة وقرارات أنانية بغيضة، إضافة إلى أخبار هدم الكنائس وتكفير المؤمنين أتباع المسيح عيسى الحي ومحاسبتهم وترتيب منزلتهم ودرجتهم كما يحلو لهم أو كما يقول اجتهادهم، وفي الأخير اقتيادهم نحو مسيرة الموت المفاجئ والمنتقى. نعم، كما إننا نسمع كل يوم تصاريح وبيانات واستنكارات، وكل هذا ضمن مجال الدفاع عن حقوق الإنسان وحقوق الأقليات في العيش والمواطنة، ولكن في الجانب المتنفّذ، ولا أحد يسمع تلك، حتى القائلين ربما لا يسمعون أصواتهم ، وهذا ما يجعلنا أن نكون الرحّالة بإقامة مؤقتة، ونازحين بنزيف دائم، ومهاجرين من بلداننا شئنا أم أبينا، فالمهم أن نكون باعاً وأكيداً (بصوت خافت) لِمَن يسوقنا، وخاضعين لمن يرسم لنا مخططنا. فما أعلمه أنه لم يكن ذلك لا في الحسبان إطلاقاً ولا في العيان تحديداً، فما يحصل مخيف ومخيف جداً.

     الحقيقة والقيامة

          مهما قلنا ومهما وصفنا مسيرة حياتنا عبر بسيطة الزمن، فالحقيقة هي هي، إنه يُرتَكب بحقنا وإنْ كان في النيات ما يهين وجودنا وما يُفقد كرامتنا، وهذا ما يجعلنا نتساءل: هل سيبقى الوطن وطننا؟... وهل سيبقى لنا وطن؟... هل نحن الأصلاء، فعلاً أصلاء، أم أن التاريخ قد غيّر إشارته أم غيّروه ليسجلوا تاريخاً كما يشاؤون، تاريخاً من جديد، تاريخاً مزيَّفاً، عبر آليات مختلفة وسياقات متعددة ومنابر عديدة، كما عمل السابقون؟... فهناك أناس، بل هيئات، بل مجتمعات، بل دول، تفتش عن دفن التاريخ ليس في بطون الأرض ليكون يوماً شاهداً على قبورهم الجماعية أو يحرقوه في محرقة التزييف التي فيها تعشعش مصالحهم وشرورهم وحتى مكائدهم قائلين:"سنبيدهم عن بكرة أبيهم" (متى 28:21)، وسنقلع جذورهم الرافدينية، وسنسجل ما يملكون بأسمائنا، فنحن آلهة الزمن، وينصّبون الله شاهداً على صنيعهم ليبرروا أنفسهم ويتبرءوا من مسؤولياتهم كما فعل بيلاطس (متى 24:27)، بل وأكثر من بيلاطس الجبان الذي خاف أن يقول كلمة الحقيقة في وجه الطواغيت الذين أمكروا بقصة مزيفة لقتل المسيح يسوع، الحَمَل البريء، وما أكثر الأبرياء الذين يقتلهم الحاقدون بسبب الغيرة والأنانية، بل ما أكثر الذين يمثلون دور بيلاطس في مسيرة هذه الحياة الزائلة، ولكن مهما طال أمد الزيف يُكشَف يوماً بقيامة الحياة وبالقبر الفارغ.

     الخوف والمخططات

نقولها: إن ما اضطرّ المسيحيين إلى ترك أوطانهم وإلى الهجرة والرحيل إلى حيث البعيد هو الخوف والذعر من الذي حصل وحلّ فيهم عبر القتل والتهجير وبأوامر مميتة، ولا زالت المسيرة مؤلمة والهدف الطائفي يتحقق ويوصل عمقه في أصول الوطن، وربما قادم الأيام سيكون مخيفاً أكثر من الماضي، فلا علم لي في ذلك، وأقرّ أن رب السماء، الرحمن الرحيم، عالمٌ بذلك. فما نشهده اليوم على ساحات حياتنا من توترات طائفية ومصالح أنانية وغايات خفيّة ومخططات سرية ربما سيؤدي بنا إلى أن تُكتَب أسماؤنا في سجلات تاريخ صُحفَت أوراقه لهذه المأساة ولهذه الفاجعة، وربما من على مستوى الدرجات الصغرى فالكبرى وحسب تسلسلاتهم ومصالحهم ومآربهم ليس إلا!.

            نعم، لستُ رسول شؤم أو فاقد الرجاء أو نبي الآتي المخيف، والعكس صحيح، ولا يمكن أن أكون، بل أنا شاهد للحقيقة، والحقيقة لا يعلنها إلا المؤمنون بالرب القائم. ولكن ربما هناك مَن يدّعون أنه بيدهم الحلّ والربط وإصدار قرارات العيش والطرد والتهجير ويعملوا كي يُسكتوا أصوات أهل الحق عن الباطل، فيجعلون من كلام أهل الباطل أنهم على حق... وهنا الكارثة بل هنا المصيبة. فالواقع مهما كان قاسياً يجب أن نعلنه، ومهما كان صافياً يجب أن نذيعه.فنحن لا نجد في الآخر عدواً بل أخاً نعانقه، ومع هذا فالكراهية في تزايد مستمر، والبغض والغيرة والحقد في نمو مضطرد، وما نراه على خارطة الزمن مخيفاً حتى الموت، وهنا يصحّ قول المسيح الرب:"إنْ كان مستطاع فلتعبر عني هذه الكأس" (متى 38:26)... فأمام عيوننا تزداد الاختراعات العسكرية المدمِّرة، وتتضاعف ميزانيات التسليح، فتجوع شعوب كي ينتج الحكّام سلاحاً فتّاكاً مدمِّراً للبشرية، ويعملون جهدهم كي يضعوا الأيادي على الزنّاد متأملين أنّ مَن يطلق الأول يكون هو المنتصر. ولكن الحقيقة هي بئس مَن يستعمل السلاح لتدمير الآخر... وما انتصار هذا إلا مزيف. كذلك أُدرجت مراحل مسيرتنا عبر عولمة سلبية جعلت من الإنسان وسيلة لقتله ولتدميره فرداً كان أم جماعة، عائلة أم مجتمعاً وحتى أوطاناً، فكل شيء يباع في سوق العولمة كي يكون الإنسان رقماً في بضاعةٍ سيئة الطالع ومدمرة الواقع.

     إذا كان هناك فعلاً

          نعم، لقد كان لكبار الزمن بعض المجالات أو الحمايات التي جعلت نوعاً ما شعبنا يطمأن وأغلب هذه الحمايات ما كانت إلا إلى التنسيب إلى حيث سكناهم في هنا وهناك من أرض الوطن الواسعة والتي كانت يوماً عقاراً باسم وأجدادنا وباسم محاريثهم ومناجلهم، واليوم كُسرت، وأصبحنا عندهم نازحين مؤقتاً ولاجئين دوماً. ولكن الحقيقة الأكيدة أن شعبنا تُرك يعاني مصيره وحيداً ويقاسي المصاعب والويلات والمحن والظلم والتهجير من دون أية حماية قانونية أو ربما بعض الإجراءات الفعلية التي تطمئنهم، لأن مستقبلهم حسب مفهومهم وفي وطنهم ما هو إلا على كفّ عفريت أو أدنى من ذلك، ومهدد بالانقراض والزوال. والسؤال هنا واجب بل ضرورة قصوى بل حقيقة يجب أن تعلن من على المنابر: إذا كان فعلاً لنا أصدقاء، إذا كان هناك مَن يؤمن بأصالتنا ورسالتنا، إذا كان هناك مَن يؤمن بحضاراتنا ولا يريد تغييبنا، إذا كان هناك فعلاً مَن يريد ثباتنا، فلنعلن ذلك على الأثير، إذا كان هناك مَن يعتبرنا أصلاء البلاد وأصليي المسكن، إذا كان هناك مَن يؤمن بأن الأرض أرضنا فَلنُدَستِر ذلك... فلماذا نُعامَل في الدرجة الرابعة أو أدنى منها، ونُعتَبَر في الدرجة نفسها في قوميتنا ولغتنا وحتى حقوقنا؟... هل نحن ديانة سماوية يجب الإقرار بها _ فالمسيح سلامٌ عليه في ولادته وموته وانبعاثه حياً (القرآن الكريم) _ أليس ذلك ما تقوله الكتب؟... ألا يجب الإقرار بهذا الإيمان؟... نحن لا نقبل أن نكون حملاناً لإبراهيم، يسوقوننا كما يشاؤون وحيث يشاؤون ومتى يشاؤون، ويقدّموننا على مذابح الزمن لغايات وحقائق هم من أجلها ولسنا نحن إلا حطبها. وهكذا هم يفكرون فينا، وهذه هي صورتهم عنا، وهذا هو استحقاقنا في حساباتهم، وهذه هي مساحتنا في مزاميرهم.

     أمّات ولا جواب...!!

            نعم، إننا نواجه أزمة حضور مصيري بل اقتلاع الجذور وأزمة كيان، فعددنا في تناقص مستمر بسبب ما ذكرتُه من الانتهاكات التي تُرتَكَب بحقنا، إضافة إلى التهميش والإهمال والاستعطاء وما إلى ذلك من خطط سوداء في تاريخ الزمن القاسي. لقد عُرف شعبنا بحضارته وقبوله الآخر وبتراثه العميق وتعايشه المسالم، واليوم تُصوَّر شعوب الشرق بشعوب إرهابية، دموية، عنصرية، طائفية، عشائرية، لا تحب إلا القتل والتدمير وسفك الدماء وتهميش الآخر، ولعلّه مخطط لابدّ من أن يكتمل بحرق الأبرياء بمسلميه ومسيحييه ولمصلحة مَن!، هل هي دولية أم إقليمية أم جيراينة أو مصلحية أم، أم...؟، وأمّات كثيرة وعديدة ولا جواب وفياً لذلك.

            فالقلق لا زال يدغدغ مسيرتنا، والخوف يتربع في عقولنا، والمأساة تسير في طرقنا معلنةً أن المفاهيم ما هي إلا للدين الواحد، وإنْ كانت الأبواب والفقرات لا تحترم حقوق الإنسان ولا تتوافق في أحكامها، فذلك ما يخيف المصير كونه يخلق درجات احترام مختلفة للمجتمع، ونقاط فشل أكثر منها نجاحاً. وأقولها: إذا ما كانت الكرامة مصانة والحقوق في بداية الدستور، والواجبات في صميمه، فلماذا القتل والتهجير والدمار ومآسي لا حصر لها وغايات سيئة المنال وشريرة الأهداف في غيرة حاقدة، وطلبات كاذبة وقرارات مليئة بالحقد والكراهية، فتُثمر بدورها دماءً ودموعاً وتخريباً وتعطيلاً لمسيرة الحياة، وهذا هو الصميم في مسيرة المسيحية في بلدان الشرق أوسطية عامة وخاصة بعد أن تركنا قضيتنا الأساسية المصيرية بسبب ما ألهتنا به مآربنا _ وإنْ كانت شريرة الهدف _ عبر إفراغ البلد وطرد العقول وتكفير الأصحاء وفرض الضرائب وما شابه ذلك.

      الأصالة والشهادة

            في ظل أوضاع سياسية وأمنية صعبة ومعقدة، إضافة إلى كونها مقلقة، يمرّ بها الوطن والشرق ويقاسيها شعبنا، ولا زلنا نتأثر نحن وبلدنا بتداعيات الاستقطابات الدولية كما هي الصراعات الإقليمية والغنائم الجيرانية الاستهلاكية، مما يجعلنا أن نكون جزءاً منها، بل أصبحنا جزءاً منها... عبر هذه المحطات وفي هذه الظروف الصعبة والمسارات الانتقالية القاسية تُمارَس ضدنا سياسات التمييز والإقصاء بطرق شرعية أو احترامية أو حتى انتقامية، وبالتالي تكون الهجرة هي الحل الوحيد، والذهاب نحو المجهول هو الهدف، فنُصاب بمرض عضال ألا وهو محو هويتنا في أرضنا، وقضية وجودنا لا تبقى إلا أسوةً بقضية العرب المستعصية، وينام أجدادنا في قبورهم وتبقى سِمَة رحيل آبائنا صفة بلا موصوف. فنحن عُرفنا بأصالتنا، والأصالة تدعونا إلى أن نشهد إلى عدم التهاون، لأن المسؤولية خطيرة. وما يحثنا إلى ذلك أن نثبت وجودنا كي لا نكون ورقة في أيدي أعادينا، وإنْ كنا نعلن أن لا عدو لنا، فسلامنا من المسيح يسوع ورثناه... هكذا عُرفت مسيحيتنا، وبهذا نعلن ونبشر، ولا يجوز أن نكون إلا هذا السلام وليس وقوداً لصراعات أرادوها لدمارنا أو لتدميرنا إن عرفوا بسبق إصرارهم أو لم يعرفوا. ولكن، ما هو الحقيقة أننا نعرف ذلك وفي علم الصميم.

            فالمحب للعيش المشترك، للمسلمين وللمسيحيين، عليه أن ينسى نفسه وأصحابه الذين أرادهم له أحجاراً كي يسند إليهم رأسه (لو 58:9)، فالحب والحوار هنا سينقلب أنانية وطائفية وإنْ كانوا غير مؤهلين للسير في طرق الجليل والشرق دون الحوار عبر رسالة الحب والخلاص بل رسالة حماية الآمر والناهي، وما ذلك إلا تدمير التعايش الواحد. بل محب الحوار عليه أن يذهب مفتشاً عن الحقيقة في الحَمَل المحب عبر قطيع الأكثرية، وقبول الآخر المختلف عنه وتصاميمه. فالإنسان لا يعمل لكي يبقى بل يعمل كي يبقى سلام المسيح رسالة الحوار هذه، ومن خلال المسيح يبقى هو كما يقول البابا السابق بندكتس السادس عشر:"إن الكنيسة ليست لبطرس بل للمسيح، ولكن بطرس من خلال الكنيسة يُعلن المسيح"... هكذا هي قضية وجودنا، فالوطن ليس للشعوب التي لا تتعايش بل للأصلاء فيه، ولكن مع الأصلاء ومن خلالهم يكون نشر العيش المشترك... إنها الحقيقة في الصميم ولا أجمل.

      رجاء ... وحوار

          نعم، أمام هذه الحقائق _ وإنْ كانت مآسي بروح التشاؤم العالي _ ستبقى دعوة المسيح يسوع ربنا هي الأعلى التي ستنتشلنا من هذه الحالة الفقيرة البائسة إلى حالة الرجاء والأمل المنعشة والمحركة عبر روح السماء النازل مثل حمامة (يو32:1)، الذي يعمل فينا بكلمته "الذي به كان كل شيء" (يو3:1) و"فيه كانت الحياة" (يو4:1)... وهو الذي أعلن إذ سبق وأعلمنا في حوار مع تلاميذه:"ستُطرَدون وتقادون إلى المحاكم من أجل اسمي، ولكن بصبركم تقتنون نفوسكم" (لو 19:21). أقولها: لا نستطيع أن نكون مسيحيين دون فتح الحوار، والحوار ليس أن نؤمن بالآخر بل أن نسمع الآخر عبر حب الله. علينا أن نفتش عن الحقيقة بالحوار ومن أجل الحوار، ولا يمكن للحوار أن ينجح إذا لا يتجه نحو العقل.

     قالوا ... وقال

سيبقى وطننا بأرضه وسمائه ومياهه وجباله وسهوله ووديانه وأهله الطيبين ومن أطيافه المختلفة، سيبقى واحة خضراء، إليها يصبو القريبون والبعيدون. فنحن أخوة مع المسلمين ومنذ مئات السنين، وشركاء في الأساس والحقيقة في السرّاء والضرّاء، في عيش التآخي ومدّ يد التسامح والمحبة من أجل لقمة الحياة. ومهما فتكت بنا اليد الطولى، وما تعرضنا له ولا زلنا في المسيرة المؤلمة ذاتها في التهديد والتهجير وإكمال مخطط الرحيل وإفراغ دورنا وبيع ممتلكاتنا بوساطة أم بغيرها، فلا يمكن لهؤلاء التابعين لقائين وشروره أن يوقفوا حبنا للذي خلّصنا بدمه وفدانا وصالحنا، وهذا سندنا في عدم إيقاف عقارب الزمن والتاريخ لكي نكون للتاريخ حدثاً، وللزمن كلمةً، وللحياة رسالةً، ورسالتنا هي أن نفتخر بالضيقات... وفي هذا ندعو الذين قالوا أن يكونوا أمناء، وللذي قال أن يكون نوراً في ضلال الموت وصوتاً للتعايش المشترك، أن يكون قوله وأقوالهم حقيقةً في دستور الوطن، ونُنهي زمن الـ "قالوا" والـ "قال"، فتبقى الحقيقة هي القمة المنشودة، لأنه إذا ما سارت الأمور بهذه الصورة لن يُكتَب لنا الخلاص من بعد، بل سنواجه الهزيمة بترك أديرتنا وديرتنا، ويعلن الغرباء حينها أننا كنّا هنا يوماً ولا يعلموا أين رحلوا... وحتى ما، يبقى زمن "قالوا وقال".

            ولا يمكن أن نبقى شعوباً ترزح تحت نير العبودية، وتتغذى بالفتات الباقية، فنأكل خبزاً عفناً كما طحنّا سابقاً عرانيص ونواة تمر، وخَبَزْنا على جمرة نار سرقنا خشبه من غابات الله. فالعدو شرس ويتربص شراً بالمسيحيين في شرقنا ووطننا، والهدف معروف رجاءً، فلنعمل على تحليل نفسيته. إنهم يريدوننا أن نتناحر من أجل هجرتنا... فكفانا في مجال الدنيا والعولمة الشريرة... كفانا العمل على ملئ بطوننا وهؤلاء لا يخدمون ربنا يسوع المسيح بل بطونهم (رو18:16)، كي لا نكون فريسة للأمراض المهلِكَة وللصحة الفاسدة، ومن المعيب أن يكون حل قضيتنا في مضمار القتال والاضطهاد والاستقصاء وعدم القدرة على التعايش أو اتّهام الأبرياء بغيرة الكبرياء بدلاً من رسالة الحوار.فبقاؤنا شهادتنا وإن كان ذلك في استشهادنا، وخوفنا على عيالنا (أولادنا) أقل بكثير من خوف الرب عليهم "ألسنا أفضل من عصافير كثيرة" (متى 31:10). فالرب أعطانا إياهم أمانةً كي نكون لهم أوفياء في إيصال رسالة الخلاص إليهم، واشتراكنا في إفراغ شرقنا حدسٌ ايماني مقبور، وعبره تضيع رموز دماء الشهداء الذين تشهد لهم قبورهم ومزاراتهم وأديرتهم، ولندرك جيداً إننا لا نعيش لأنفسنا بل للرب وكذلك "إنْ متنا فللرب نموت" (رو 7:14)، "فلنزداد في الرجاء بقوة الروح" (رو 13:14).

إن المسيحية تدعونا إلى أن نفتخر في الضيقات، عالمين أن الضيق ينشئ صبراً، والصبر تزكيةً، والتزكية رجاءً، والرجاء لا يُخزى (روم 3:5). ففي المسيحية الحقيقية لا أحد يعيش لذاته ولا أحد يموت لذاته، لأننا إنْ عشنا فللرب نعيش وإنْ متنا فللرب نموت، فنحن رسالة مكتوبة في قلوب معروفة ومقروءة من جميع الناس، مكتوبة لا بحبر بل بروح الله الحي، لا في ألواح حجرية بل في ألواح قلب لحمية (2كو 2:3)، حاملين في الجسد كل حين إماتة الرب يسوع لكي تظهر حياة يسوع في جسدنا (2كو 8:4)، وهذا هو رجاؤنا، إنه الرجاء الذي رسمه لنا الرب، فهو ثابت وفيه كل سرور وسلام في الإيمان لنزداد فيه بقوة الروح القدس (روم 13:15)، وبه سنخلص مع علمنا أن الرجاء المنظور ليس رجاء لأن ما ينظره أحد كيف يرجوه أيضاً (رو 24:8)... لذلك فلنتشجع ولنعمل على أن نكون متحيرين ولكن غير يائسين، ومضطَهدين ولكن غير متروكين، ومطروحين ولكن غير هالكين (2كو 8:4).

     الختــــام

يقول البابا فرنسيس:"إن زمن الشهداء لم ينتهِ، وإن لدى الكنيسة شهداء تفوق أعدادهم أعداد الشهداء في القرون الأولى من تاريخها. وفي الكنيسة أعداد كبيرة من الرجال والنساء الذين يتعرضون للوشاية، ويُضطَهَدون، وتقتلهم الكراهية ليسوع، فمنهم مَن قُتِلَ لأنه كان يعلّم المبادئ المسيحية، ومنهم مَن قُتِلَ لأنه كان يحمل الصليب. وفي عدد كبير من البلدان، كانوا ضحايا الوشاية وتعرضوا للاضطهاد، وهم إخوتنا وأخواتنا الذين يتألمون في زمن الشهداء".

ما أجمل ما قاله وما قالوه، فليكن ذلك أفعالاً وليس أقوالاً. فقد قال البابا تواضروس الثاني: إن التعبير عن المشاعر الطيبة لا يكفي أبداً، ويُفتَرَض أن تكون هناك وقفة حاسمة. نحن نريد عملاً لا مجرد أقوال لمواجهة الاعتداء الصارخ. ففي شرقنا حيث يتعرّض المسيحيون  للاضطهاد بشتى الطرق المختلفة وبأساليب قهر متعددة ورغم ذاك فالمسيحية لا تخاف الاضطهاد ولا تخشى الموت ولا تيأس من المحن والصعوبات لأنها بحدّ ذاتها لم تلد إلا من رحم الضيق والألم والشدة والاضطهاد. ووجودنا في بلداننا، بلدان الشهادة علامة رجاء  تجسدت في المسيح الذي أحبّنا حتى الموت على الصليب. فلا نخف أن نحمل في أجسادنا ما احتمله المسيح يسوع (كولوسي 14:3)، رغم عمق الألم وضباب الكراهية، ولنعلم أن بقاءَنا ثابتين في بلداننا شهادة للمسيح الحي بيننا، ولا يجوز أبداً إفراغ البلد من حضورنا مهما كان المخطط قاسياً ومهما كان التصميم علامةً، فإنني أظن أننا كلنا نتحمل مسؤولية إفراغ البلد من مؤمنينا، فـ "أعداء الإنسان أهل بيته" (متى 36:10)... فالهجرة التي تنادي بها بلدان العالم لكي نخلص تعيدني إلى ما قاله الرئيس الفرنسي ساركوزي قبل عام لغبطة البطريرك الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي:"إذا ما ترك المسيحيون بلدانهم، فسنقوم باحتوائهم في بلدان أوروبا ونُنهي مشكلة اضطهادهم وتمييزهم".

أقول ذلك راجياً كي لا نكون سلعة نُباع ونُشترى في سوق المصالح كما يباع البترول في أسواق التجارة العالمية، فنحن لسنا بضاعة مكدَّسة بل نحن شهود لشرقنا وشهداء لإيماننا وإخوة لمسلمي ديرتنا ، مهما كان الدرب قاسياً، فأنا متيقن وبإيمان ثابت أن الغلبة لن تكون إلا لدماء الشهداء، تلك الرموز التي ربما نمحوها برحيلنا أو بعولمتنا أو بمسيرة مآربنا. لذا فلننظر إلى البعيد البعيد وليس إلى القريب البعيد، فالحياة في العطاء أكثر منها في الأخذ (أع 35:20)، أليس هو الذي قال:"ثقوا لقد غلبتُ العالم" (يو33:16)... إنه زمن الشجاعة والشهادة للحقيقة وليس زمن الهزيمة والرحيل وإفراغ الكنائس، فإذا لا نشهد كي نُحيي كنائسنا فما هي الرسالة التي أوكلها إلينا الرب يوم عمادنا وتناولنا وتكريسنا له؟... هل هي أن نأكل ونشرب؟... أليس غذاءُنا مسيرة إيماننا!؟... فنحن رسالة المحبة بين المتخاصمين، ورسالة الغفران بين الحاقدين، ورسالة الحياة في ظلال الموت، ومشعل النور في دروب الحياة، وما علينا إلا أن نقود الشعوب حيث أوصانا الرب يسوع بأن نعلّمهم ونعمّدهم، ذلك ما قاله البابا فرنسيس في مقابلته العامة ليوم الأربعاء، 17 نيسان 2013: فلنكن واثقين إنه لن يتركنا، إنه باقٍ معنا ولن يتركنا، ومن سماء مجده يعضدنا ويقودنا ويشفع بنا. فالمسيح لن يغيب عنا، بل إنه حيّ بيننا وبشكل جديد، وهو قريب من كلّ واحد منا. فنحن لسنا أبداً وحيدين في حياتنا إذ لدينا ذلك المحامي الذي ينتظرنا ويدافع عنا، إنه الرب المصلوب والقائم من الموت. فأظن أن الزمن يدعونا اليوم أن نكون، لا أن يُقال عنا أو قالوا عنّا، بل إعلان الحقيقة من على المنابر والدساتير والقوانين، فنحن أُصلاء، وسنبقى في وطننا شهادة للمسيح الحي، وهذا ديدن أُمّنا الكنيسة ودعوة الإرشاد الرسولي، وفي ذلك سننشد للحياة بعد تغيير "قال وقالوا" إلى قوانين ودساتير وحقوق وواجبات، والكرامة للكلمة التي تشهد للحقيقة، وربنا يسوع يقول:"قولوا الحق والحق يحرركم" (يو32:8) ومهما كان من أمرٍ فنحن سنبقى أُمناء وأوفياء ، لمن قالوا ، ولمن قال ، بصلاتنا ومحبتنا وهذا إيماننا ... نعم وآمين.

 

اكبس هنا للأنتقال الى الصفحة الرئيسية للمونسنيور بيوس قاشا