Museum

متحف

فنانونا السريان

فن

رياضة

أدب

أعلام

أرشيف الاخبار

منتديات السريان

منتديات بخديدا

موارد السريان

السريان

البشرى عبر اللون والفرشاة    لقاء مع لوحة الفنان رامبرنت

 

الاخ ميسر بهنام المخلصي

 

الجزء الثاني

  لقد أوقفتنا الخبرة الايمانية التي أسمتدها رامبرنت من مثل الأبن الضال في الجزء الأول من حديثنا. سنحاول اليوم أن نقف أمام النص ذاته كيما نستطيع فك رموز بعض الخطوط الفنية التي كثفتها فرشاة رامبرنت في ذات اللحظة المصورة, معتمداً على فرشاته, الوانه وخبرته الايمانية الخاصة والحياتية المفعمة بالالم والمعاناة .

 قبل الولوج في المثل علينا ان نبين بنية الفصل (15) من انجيل القديس لوقا. بصورة عامة الفصل مكون من ثلاثة أمثال ذات النمط الواحد, والتي تحمل نفس المغزى, هي في حقيقتها جواب يسوع على الفريسيين ومعلمي الشريعة(لو15 :2 ), وهذا يمكننا من فهم عمق المثل. إذن بادئ ذي بدء علينا أن ندرك بأن هذا الكلام موجه الى الفريسيون ومعلمو الشريعة الذين ينتقدون يسوع كونه يجالس جباة الضرائب والخاطئون. ثم بتأملنا الشخصية المركزية في الأمثال الثلاثة لذات الفصل تضعنا أكثر في الطريق الى فهم من هو الله في الكتاب المقدس. منطق لوقا هنا ليس بعيداً عن منطق نصوص العهد القديم في تقديمها لصورة الله الأب, كما نجدها عند اشعيا ارميا, هوشع وغيرهم. ليس الخروف الضال في المثل الأول هو المركز بل هو الراعي الذي يبحث عن الخروف(15:4_7), وهكذا في المثل الثاني إنها قصة الامرأة التي أضاعت الدرهم (15:8_10), أما في المثل الثالث المركز هو الاب المنتظر وليس الابن الضال.

 ينطلق لوقا من الاب, "كان لرجل ابنان " (لو15 :11), هكذا يمكنا تقسيم هذا المثل الى قسمين الاول (آ 11_24 ) فيه نجد رد فعل الأب تجاه الأبن الصغير, والقسم الثاني (آ 25_32 ) وفيه نجد رد فعل الأب تجاه الأبن الكبير. وينتهي كل من القسمين بدعوة من الأب الى الفرح والنعيم (آ 23 , آ32 ), هكذا هو الله دائما يدعونا الى الفرح والنعيم. وكل من الابنين يجعلان الأب يعبر عن مشاعره بكل تلقائية. بينما نجد فيهما التناقض الضاهري الواضح, وهذا مايفعله دائما يسوع في أمثاله إنه يضعنا أمام النقائض, ( لو18 الفريسي والعشار , لوقا 10 مريم ومرتا , لوقا 7 المستدينان, لو16:19 الغني ولعازر, متى 21:28 مثل الابنين , متى 25 العذارى الحكيمات والجاهلات ), إذن القصة لا تنتهي مع الأبن الصغير فحسب بل إنها تذهب أبعد من ذلك لتصل الى مايريد يسوع أن يقوله فعلاً للفريسين ومعلمين الشريعة فيقدم الابن الأكبر وإحتجاجه في هكذا موقف, وهذه هي عبر المثل وغايته. هذا الاحتجاج لايفرق كثيرا عن إحتجاجات أُخرى كثيرة للفريسيون والكتبة ومعلمو الشريعة كونهم اولاد ابراهيم والمختارين والمختونين الذين حفضوا الوصايا عن ظهر قلوبهم, إنهم يميزون أنفسهم ( كم من سنين وانا اخدمك ......), مثلهم مثل عمال الساعة الاولى الذين يتذمرون على صاعب العمل(متى20:10). المثل موجه للذين يعتبرون انفسهم صالحين " هذا الرجل يرحب بالخاطئين وياكل معهم" (15:2). المشكلة هي إزدرائهم للخاطئين وليس الخطيئة ذاتها, فماذا تراه يفعل يسوع انه يستفزهم بالصورة التي يقدمها للابن الصغير  ,اليهودي الذي يصل الى هذا الوضع السيء في العيش درجة أن يشتهي الخروب الذي تاكله الخنازير ولايستطيع( 15:16), حيث تتعارض هذه الصورة ومافي ذهنيتهم من الطهارة الطقسية المطلوبة من كل يهودي أو بالاحرى الواجب الذي قد أهملوا هم في إيدائه تجاه اولائك الذين ينظرون اليهم نظرة ازدراء.

  مايقوم به الأبن الصغير هو بعيد كل البعد عن المثالية. إنها عودة الحاجة (15:17), الحب الأبوي هو بقدر حاجته الحياتية, الخبز هو الذي يعيد هذا الصغير إلى المسكن الأبوي, إنها صورة  اسرائيل الزانية العائدة الى الزوج الحبيب (هو2 :9ب) "أذهب وأرجع الى رجلي الاول لأن حالي معه كانت خيراً مما هي عليه الان",  يقدم يسوع الابن الصغير كما يراه الفريسيون ومعلمو الشريعة ضالاً خاطئاً, وليس بصورة مثالية سامية, ولكن مع الاعتراف والاقرار بالذنب"يا أبي, أخطأت إلى السماءِ وإليك, ....." (15:18), وهذه ليست المرة الاولى, إنه ذات الموقف الذي يقفه العشار(لو18) في حضرة الله, ولكن لا يمكننا أن نعتبر الابن الصغير نموذج ومثال للتائب العائد. كل مايهمنا هنا هو الحب اللامتناهي للأب, فالغفران لا يؤسس على العودة بقدر ماهو مبني على حب الله, وهي ذات الصورة التي يقدمها ارميا عن الله المحب للخائنة اسرائيل وافرايم الحبيب "أنا أب لاسرائيل وأفرايم بكرٌ لي" (ار31: 9).

الصغير في هذا المثل هم الخطأة الذين يأكل يسوع معهم لكنهم منبوذين من الرؤساء كونهم لايخضعون للشريعة, أما من جهة يسوع نجد الترحيب, ترحيب الله ذاته وهذا الترحب ليس لما في قلبهم من إستعداد بقدر ما هو حنو الله نحوهم, إذاً المبادرة دائما تاتي من الله.

قد نخطاء عندما نفكر إن حب الأب للصغير هو أكبر من حبه للكبير, لانه في ذات الوقت الذي يسرع للقاء العائد يترك الحفل خارجا لتهدئة غضب الكبير المتذمر. "ياولدي ...."(15:31). كان على الابن أن يكون سعيدا بلقاء الاخ مثلما هو الاب, يطلب يسوع من الفريسين ومعلمو الشريعة أن يكون فرحين بلقاء يسوع مع الخطأة وليس الانتقاد والاعتراض. ولكن لا جواب فالمثل ينتهي دون أن يقول لنا يسوع موقف الأبن الكبير بعد حنو الأب عليه هو الآخر. في ظني يبقى يسوع ينتظر دخول هؤلاء ايضا الى الوليمة انه لايدينهم حتى هذه اللحظة فمازال هنالك وقت قليل للاستقبال والقبول .

لازال يسوع ينتظر الجواب ... جواب الفريسين ...جواب الأبن... جوابنا نحن. ماهي ردة فعلنا تجاه القبول الغير المشروط والرحمة الفائقة للآخرين المختلفين عنا. ماهو ردّنا تجاه زكا الذي دخل يسوع بيته بعدما كان هو قد حملنا هماً فوق هم, تجاه عمال الساعة الأخيرة أولائك الذين حصلوا على مانحن حصلنا عليه, تجاة المرأة التي غسلت في بيتنا بالطيب أقدام يسوع  فكان لها الشرف الذي منحه يسوع لنا بدخوله بيتنا, تجاه اللص الذي الدخل الى السماء مع يسوع بعدما كنا قد حكمنا عليه بالاعدام ثمن ما ارتكبه من إثم وجرم بحقنا. هل سنقف متذمرين مستائين ناقدين ؟ أليس الأجدر بنا أن نقول مع أبينا لنفرح فان أخي هذا كان ميتا فعاش.

 8|4|2006 روما

 

الجزء الاول

لقد تعودنا أن نقراء مجريات الاحداث وتفاصيلها بلغات عدة لا تتداخل في مابينها لنقل الحقيقة بقدر ما تتجاور وتتعاضد لنقل المعنى الواحدة من خلال أوجه عديدة  فتأتي الصورة التي تجسد الكلمة, واللون الذي يعكس الحرف. هكذا كان للفن دورا كبيرا في ترجمة المعطيات والنصوص الكتابية الى صور انطباعية  ثم تدرجت الى مختلف انواع الفنون. ليس هذا حديث المنشاء إنما إستمد هيكليته وبنيته وتعابيره مع الكنيسة الناشئة فنرى على جدران الدياميز صورا وأشكلا تعبر عن النصوص الكتباية أو بالاحرى تنقل لنا البشارة من خلال رموز مكتوبة بشكل صورة وهكذا تاتي الأيقونة لتعكس من خلالها روحانية الفنان في تعامله مع المواد الفنية من اجل هدف يفوق مجرد كونه فن بقدر ماهو حدث ورمز. وهذا مادفعني الى أن أقف أمام عمل فني ليس بالمعاصر ولكنه يحمل في طياته بشارة الانجيل وقصة الأب الخالق المحب الرحوم مع شعبه انها لوحة "الاب الرحيم"  للفنان الهولندي رامبرنت Rembrandt ,الذي إنتهى من وضع اللمسات الأخيرة لهذه اللوحة سنة  1669 وربما تكون هي أخر أعماله الفنية قبل وفاته .

هي لوحة كبيرة نسبيا حيث يبلغ ارتفاعها 224 سم , وعرضها 183 سم , معروضة الان في متحف ايرميتاجي  Ermitage  في مدينة القديس بطرس في روسيا Pietroburgo .

تمثل اللوحة عودة الابن الضال التي أوردها القديس لوقا على لسان المسيح (لو 15 :11 _32 ), لانستغرب كثيرا حينما يُظهرُ لنا رامبرنت إيمانه الشخصي من خلال فرشاته والوانه وموضوعه العمومي خاصة بعدما أن ندرك حقيقة معانته الطويلة والخسائر الكبيرة التي مني بها في حياته  واكثرها ألماً ووقعاً في نفسه هي وفاة زوجته المحبوبة Saakia وإبنه الوحيد Titus البالغ من العمر سبعة وعشرون عاماً.

موضوع لوحة رامبرنت هي العودة الروحية للمشاركة الانسانية, متمثلة بالاستقبال الابوي للابن الضال العائد. بساطة الالوان التي يزين بها شخوصه تسرق ابصارنا نحو اللوحة الوان محدودة جداً, مثل الماروني, الاسود, الابيض ولون اوكسيد الحديد المائي الطبيعي (الاحمر الصدِء). الالوان تعبر عن شخوصها, إنعكاس الضوء وكسوفه يعبر عن الفكرة والمعنى هكذا يلاحق رامبرنت سر الضوء طوال حياته, وبتداخل لوني منسجم تندمج فيه الالوان تارة  لتقتحم تارتة خرى صرختها الانفرادية هدوء اللون معبرة عن ما يجول في ذهن الفنان مبرزا نقاط القوة في لوحته كاستخدامه للون الابيض والاسود, مزيج من الضوء والظلمة اشارة الى بزوغ الفجر كلهيب لنور الشمس. بل يذهب الى اعمق من ذلك مشيرا الى نور القيامة الذي يقتحم عالم الموت الاظلم, هكذا ينعكس من مركز اللوح حيث الابن في حضن الاب نوراً, بينما تكاد تكون الخلفية غامقة يصعب علينا تميز شخوصها وانفعالاتهم عدا دهشة الترقب المقصودة التي ستشرحها لنا مواقفنا الحياتية حينما نكون جزءاً من لوحته هذه.

النعومة هي علامة رامبرنت المميزة والتي من الممكن أن تكون إشارة جيدة لفهم صورة الله. الله الذي دائما هو المبادر المنحني علينا بطيبة فائقة واعتناء شديد. وما علينا إلا العودة  للمسكن الابوي. تأملنا في هذه اللوحة يجعلنا نفكر في أيٍ من هذه الشخوص هو اقرب الى ذواتنا, اي شخصية هي أكثر قربا من مشاعرنا الان ؟

الباحث عن العائدين هو دائما اكثر وضوحا متمثلا بالحضور الهادئ لله الذي يخلقنا من جديد على مثال الحياة, مازجاً مع الحب الالوان, ومع فرشاته نعومة فائقة مع نشاط دائم كيما ينتشلنا من ظلمة الخوف الى نور الحب والقبول.

يعرف بانه سيعود قريبا

بالتحديق جيدا في اللوحة نلاحظ أكثر لتفاصيل تميزاً للمجموعة المركزية المتمثلة بالاب والابن الصغيرالذي هو في حالة من السلام التام, براحة وهدوء يلقي رأسه في حِضن ابيه, مثل سفينة وصلت الميناء بعد عاصفة هوجاء. أو مثل طفل نائم في حِضن امه, ملابس الابن عبارة عن خرق بالية ممزقة مثل أشرعة قارب تلاطمت عليه أمواج البحار الهوجاء, ملابس من اسمالٍ هرئة. الرأسٌ الغائص في حضن الأب حليق مثل المساجين أو المرضى. لحمه ممزق مجروح. نعلين مقطعين, دلالة على العبودية ( الاسياد فقط هم من ينتعلون الاحذية ).

في الوقت ذاته الاب المنحني بكل لطف ورقة على ابنه العائد, صورة الاب الشيخ, الأب الضال في البحث عن إبنه  منتظرا مترقبا عالماً انه سوف يعود, الحب الغير المشروط يعكسه رامبرنت في  الأب المتقدم في العمر, والحكمة المتجلية من الخبرة والمعاناة الشخصية  حفرت على وجه الاب اخاديد الانتظار والترقب. مغمض العينين حزين الملامح رغم فرح القلب الذي يشع نوره منعكسا على الوجه, والساقط بإتجاه الابن الصغير.

اليدان برقة ولطف على كتفي الابن ولكن ما الذي نلاحظه في هاتين اليدين؟

إختلاف واضح في البنية والنعومة والحجم إنها يد رجل واخرى يد امرأة , يخبرنا رمبررنت في الوقت ذاته يمثل هذا الاب الأم الحنونة, إنه يجمع بين رحمة الاب وحنان الأُم وهذا هو الله ذاته. فهل هنالك تشبيه أروع من هذا نقف أمامه متأملين.

الأخ الكبير

 في الخلفية نجد الابن الكبير مع مجموعة من الشخوص والذين يمثلوننا نحن المترقبين . مالذي يمكن أن نقوله نحن أمام هذا المشهد, هل سنقف مترقبين مندهشين مستغربين مرتابين لهذا الحب الكبير والرحمة الابوية الفائقة, متجبجبين داخل ثوبنا الفضفاض من جهة ومختبئين في ظلام قبورنا من جهة اخرى نخشى التقرب والوصول الى الضوء المنعكس من لقاء الحب هذا, عاكفين على التسائل ....ما الخبر , وكيف يمكن ان يكون هذا وبأي منطق ؟ متناسين حقيقة حب الله لنا كأبناء وليس كعبيد .

هكذا يريد رامبرنت ان يقدم لنا كل إنفعالاته وتاملاته من خلال الفرشة والون والظل والضوء. متسائل هو الآخر من أكون أنا بين هذه الشخصيات؟

 ساحاول في الجزء الثاني أن أبحر مع لوقا الانجيلي وعبر كلماته الملونة ربما استطيع أن أتقرب أكثر الى ما اراد ان يقوله لي يسوع في مثله هذا.

روما 31|3|2006