فنان من السريان

لمحات من شخصية الفنان منير بشير

يقدمها  باسم حنا بطرس*

في الثامن والعشرين من أيلول / سبتمبر من العام 1997، نعت الأخبار منير بشير؛

وشاءت الصدف أن يكون رحيله في ذات التاريخ الذي رحل فيه شقيقه جميل في العام 1977

تعريف

منير، الإبن الثاني لعائلة (بشير القس عزيز)، بعد شقيقه الأكبر (جميل)، وقبل شقيقه الأصغر (فكري)، إلى جانب شقيقاته الثلاث. ولد في الموصل سنة 1928، في عائلة يعلو بين جنباتها صوت الموسيقى، آلياً على العود، حيث كان الوالد عازفاً قديراً وصانعاً لبعض آلات الوتر، التي من بينها العود. وغنائياً، على صوت حناجر الوالد أيضاً، الذي كان يتمتع بصوت رخيم شفاف ساعده كثيراً في أداء تراتيل كنيسته السريانية شماساً في خدمتها.

منذ نعومة أضفاره، إتجهت عناية منير نحو الموسيقى، وبخاصة حين كان شقيقه الأكبر جميل، يعزف على الكمان والعود في البيت، قبيل رحيله إلى بغداد للإلتحاق بدراسة الموسيقى في المعهد الموسيقي الذي عُرف فيما بعد بمعهد الفنون الجميلة. وانتقل (تأثير) أجواء البيت الموسيقية إلى كافة أفراد العائلة.

التأهيل الفني

إلتحق منير بمعهد الفنون الجميلة عام 1939، ليدرس (العود) على الشريف محي الدين حيدر (أستاذ وعازف بارع للعود والجلو) ويتخرج فيه عام 1946. تأثر كثيراً بأستاذه حيدر، وأخذ عنه أساليبه التقنية المتقدمة في العزف. كما كان الأمر عند شقيقه جميل. بينما تأثر زملاؤه سلمان شكر وغانم حداد وسركيس آروش بالروح الشرقية التقليدية.

مارس العمل الفني في إذاعة بغداد، وفي التلفزيون بعد تأسيسه عام 1956، عازفاً ورئيساً لفرقتها الموسيقية ومخرجاً موسيقياً، ومن بعد رئيساً لقسم الموسيقى. كما مارس التدريس في المعهد. وأسس له معهداً خاصاً باسم (المعهد الأهلي للموسيقى)، وصار رئيساً لجمعية الموسيقيين العراقيين.

سافر إلى هنكاريا في العام 1962، دارساً لعلوم الموسيقى المقارنة ( Comparative Musicology) حاصلاً على درجة الدكتوراه في ذلك.

شخصيته الفنية

حققت له جولاته العديدة والمتكررة في معظم أقطار العالم، إستزادةً في المعرفة وإتساعاً للخبرة، لترسو عنده بقناعة صميمة ضرورة الحفاظ على التقاليد الموسيقية بكل طقوسياتها، وتقديمها بما يتوافق مع روح العصر، دون الخروج من لبوس الموسيقى العربية هوية إنتماءٍ وإصالة مفاهيم وتعبير جمالي.

كان على خلافٍ مع أساليب ملحني القرن العشرين من العرب، المصريين واللبنانيين والعراقيين المتأثرين بها، الذين ابتعدوا عن الهوية القومية للموسيقى العربية، جراء استعارة أساليب الغير شكلاً وبنيةً وتعبيراً. وقد كان جريئاً للغاية في (تصدّيه) لتلك الأساليب عبر منابر الصحافة واللقاءات الإذاعية والتلفزيونية والمحاضرات.

لقد جاهد للخروج بالآلة الموسيقية العربية من محدودية استعمالاتها بشكل ثانوي في مصاحبة الغناء. مؤكداً قدراتها الواسعة غير المحدودة في الأداء والتعبير. إنطلاقاً من تطوير أسلوب التقسيم التقليدي إلى سياحة آفاقية من الإرتجالات الحرة المؤسسة على الإنتقالات المقامية العربية، بعيداً عن التطريب المفتعل. فصار بحق صاحب مدرسة متفردة في هذا المجال، إقتدى بها العديد من معاهد الموسيقى في العالم العربي، وصار أسلوبه واضحاً في أداءات معظم عازفي العود المحدثين العرب. إذ تحول أداؤه من شكل العزف المتوسِّل للإعجاب، إلى منطلقاتٍ تأملية وجدانية، لكأنك داخلٌ صومعة متعبد تستوجب الإنصات التام بكل خشوعٍ.

ملامح شخصية

بالقدر الذي حصل فيه منير على الإعجاب والتقدير لأداءاته الفنية الفريدة، وخدماته في نشر الموسيقى العربية في العالم، حصل على الكثير من النفور من الناس وحتى من زملاء العمل والأصدقاء. فهناك من يقول عنه متكبراً مغروراً صلفاً. فالمكابرة عنده نابعة من إخلاصه للقضية التي حمل لواءها التحول بالموسيقى العربية من أجواء الطرب الخانع إلى آفاق العلم والعقل ومخاطبة الفكر والوجدان. والغرور لديه صفة قد تفرز سماتٍ يراها البعض بهذا الشكل. لكنها ما كانت غروراً قدر ما استحق من تقديرٍ من لدن العالم، مؤسسات ومحافل ثقافية وإعلامية وفنية، ومن رؤساء وملوك وزعماء الدول: الذين لم يلمسوا عنده مثل هذا الغرور والتكابر، فمنحوه الأوسمة والمفاتيح والدروع والشهادات والجنسيات الفخرية. أما عن صلفه، فهو حاد الطباع عند الدفاع عن قضية الموسيقى العربية، وهو كالطفل الصغير في براءة التعبير للآخرين.

نستعرض فيما يلي بعض المناصب التي تبوأها في السنوات العشرين الأخيرة من حياته:

-                     مستشاراً فنياً في وزارة الثقافة والإعلام العراقية،

-                     مديراً عاماً لدائرة الفنون الموسيقية فيها،

-                     رئيساً للجنة الوطنية العراقية للموسيقى لليونسكو،

-                     أميناً عاماً للمجمع العربي للموسيقى بجامعة الدول العربية،

-                     نائباً للرئيس في المجلس الدولي للموسيقى التابع لليونسكو،

-                     عميداً فخريا لمعهد الموسيقى العربية في القاهرة،

-                     مؤسساً لمهرجان بابل الدولي.

 

 

الفنان منير بشير والفنان غانم حداد

خاتمة

في تشرين الثاني / نوفمبر من العام 1996، وبُعيد عودتنا سويةً من القاهرة، إلى عمان حيث كنا نعمل لدى مؤسسة نور الحسين (المعهد الوطني للموسيقى)، ودعتُه في داره في عمان للذهاب إلى بغداد بسيارتي الخاصة. قال لي وهو يحضنني: باسم، أخشى أن يكون هذا وداعنا الأخير؟

وترددت كثيرا على عمان، وشاءت الصدف أن لا أجده فيها. حتى جاءنا خبر وفاته في الثامن والعشرين من أيلول / سبتمبر من العام 1997؛ وشاءت الصدف أن يكون رحيله في ذات التاريخ الذي رحل فيه شقيقه جميل في العام 1981.

أجل هكذا كان وداعنا الأخير، كما تنبَّا

·         باسم حنا بطرس: فنان موسيقي، ناقد وباحث في العلوم الموسيقية، من مؤسسي الفرقة السمفونية الوطنية العراقية ومديراً لها، أمين سر اللجنة الوطنية العراقية للموسيقى، من مؤسسي دائرة الفنون الموسيقية بوزارة الثقافة والإعلام، عضو في: المجمع العربي للموسيقى (جامعة الدول العربية)، والمجلس الدولي للموسيقى (اليونسكو)، وغيرها من المحافل الموسيقية العربية والدولية. خبير في الموسيقى الكنسية، أستاذ التذوق الموسيقي في كلية بابل الحبرية.