تاريخ بخديدا

 متي بابا / منقب اثار

جريدة (صوت بخديدا) العدد الرابع - تشرين الثاني - 2003

 

القسم الأول

بخديدا: الموقع والتسمية

 

إلى الشرق من مدينة الموصل وعلى بعد 28كم منها ، هناك نشأت بخديدا والمسماة بـ (قره قوش) من قبل سكان القرى المجاورة لها ، وهي حالياً مركز قضاء الحمدانية .

تقع بخديدا وسط سهل واسع يشبه المثلث قاعته إلى الشمال ، وهي مكونة من بيئة جبلية هي طية عين الصفره وجبل مقلوب ، وضلعاه الشرقي نهر الخازر والغربي نهر دجلة ، ورأسه إلى الجنوب ، حيث يلتقي النهرين عند قرية المخلط . في هذا السهل نمت وازدهرت حضارات  متعددة امتدت آلاف السنين ، ابتداءاً منذ الألف الثامن ق.م وحتى العصور الحديثة مارة بمعظم الادوار التاريخية وسط هذا الخضم والسيل العارم من تعاقبت الحضارات ترعرعت بخديدا .

 

تاريخ بخديدا غامض ، فليس هناك من أخبارها قبل القرن الثاني عشر للميلاد . فقد ذكرها ياقوت الحموي عندما قال: (باخديدا في شرقي الموصل واللفظة خففت عند أهل القرى المجاورة إلى بغديدا) . كما وردت ايضاً :(قره قوش قرية عامرة كالمدينة شرقي الموصل واسمها التركي معناه الطائر الأسود) ، ومن المحتمل بان هذه التسمية أطلقت عليها في غضون القرن الخامس عشر الميلادي، في زمن الدولة التركمانية الاقيونلية . وكانت تعرف باسم بخديدا ، فقال بعضهم إن هذه الكلمة حرفت من لفظها الآرامي باديتا (بيث ديتا) ومعناه (بيت الحداة) أو (بيت الطائر الأسود) إلى التركمانية قره قوش ، فغلب عليها هذا الاسم . كما يفسرها آخرون (بيث ديتا) بيت الكنيسة ، بمعنى بيت الله وهذا هو الأرجح .

 

 

 

وقيل ايضاً إن باخديدا لفظة فارسية معناه بيت الإله ، وهذه التسمية ترتقي إلي زمن الساسانيين ، حيث وردت : (بلدة في ناحية الحمدانية يسكنها 8000 نسمة من النصارى السريان ولغتهم السورث ، واسمها القديم بخديدا) . ولعل التسمية تتألف من الآرامية بمعنى (بيث وخديدا وهي لفظة فارسية معناه الإله ، فيكون مؤدي الفظ (بيت الإله) . وقيل ايضاً بان تسمية خديدا الفارسية مركبة من مقطعين : الأول (خدي) بمعنى الإله و(دا) بمعنى عطية أو هبة ، وبذلك يكون المعنى بيت عطية الله أو بيت هبة الإله . وارى لما كان اصل كلمة خديدا الفارسي آرامي بذلك يمكن إرجاعها إلى مصدرها الآرامي (ايل) الذي يعني الإله ، وبذلك تكون بيت ايل- وهذه اللفظة تتماشى مع اللغة الآشورية ايضاً وبنفس المعنى ، وبذلك تكون جذور التسمية تعود إلى الفترات الآشورية ، ويعزز هذا الرأي وجود تل شموني الأثرى ، الذي يتوسط البلدة في الوقت الحاضر ، وهو من التلول المهمة والكبيرة في المنطقة ويبطن اثاراً تعود إلي الأدوار الآشورية.

 

من هنا يمكن القول بان بخديدا كانت مركزاً حضارياً له شأن كبير أيام الامبراطورية الآشورية ، حيث كانت مركزاً لعبادة الإله الآشورية الذي نجهل اسمه في الوقت الحاضر . وبذا يمكن ان يكون معبد هذا الإله أحد المباني الأثرية التي يبطنها التل المذكور . كما ان اتخاذ بعض الملوك الآشوريين موضع بلاوات ، الذي يبعد 4كم إلى الجنوب من بخديدا منتجعاً ريفياً لهم دون غيره من المواضع لاسباب عديدة منها على سبيل المثال ، ما كانت تتمتع فيه بخديدا من شان أيام الدولة الآشورية ، فضلاً عن كونها كانت تضم مركزاً لعبادة أحد آلهتهم والطبيعة الخلابة التي كانت تتمتع بها المنطقة ، وقربها من عاصمتهم النمرود . كل تلك الأسباب جعلت من موقع بلاوات موضعاً يقضون فيه بعض الأيام للراحة والاستجمام ، بعيداً عن ضوضاء العاصمة ومشاغل الحكم . وقد يكون على اثر انتشار المسيحية في هذه الأطراف ، ومنها بخديدا ، وإنشاء بناية كنيسة بشموني على أنقاض معبد الإله امتداداً واستمراراً بهذا الاتجاه.

 

 

هذا وذهب البحاثة (اوبرت) إلى ان قره قوش تقوم حيث كانت مدينة (راسن) الآشورية المنوه عنها في التوراة في سفر التكوين ، والتي كانت تقع بين نينوى والنمرود . إلا انه لا يوجد دليل يؤيد هذا الرأي ، والمرجح من ان موضع السلامية هي مدينة راسن ، كونها موقعاً اثرياً واسعاً  يحيط به سور تتخلله بوابات فضلاً عن وقوعه بين نينوى والنمرود ايضاً.

 

 القسم الثاني

جريدة (صوت بخديدا) العدد الخامس كانون الأول 2003

 

لقد جبلت الأمم والشعوب على حب الماضي ، لما فيه من نكهة وما يكشفه في أعماق التاريخ ، ولان الأريكة الباسقة لا ترتفع وتستمر بالحياة لولا ثبات جذورها واصولها ، وخصوبة الأرض التي تنمو عليها . وهكذا نجد أنها تتباهى بهذا التاريخ . وإذا كان الأمر هكذا فما بالنا نحن الخديديون نجهل الكثير عن ماضينا ، ولا نحاول الغوص في أعماق الزمن بحثاً عنه . إن المصادر التاريخية وكتابات المؤرخين والرحالة لم تدون من تاريخها إلا النزر اليسير للقرون المتأخرة وكلما ورد عنها لا يتعدى بعض الإشارات المتفرقة بين طيات الكتب أو الإشارة إلى الهوامش التي لا يمكن الاستدلال منها عن ماضيها البعيد . وللوصول إلي ذلك أو إلى شيء قريب منه لابد من دراسة المعالم الاثارية المنتشرة في المنطقة التي تشكل المادة الرئيسة  لذلك مع مقارنة تلك المعالم مع غيرها في أماكن أخرى قريبة منها ، وقد تكون بعيدة ، وربط ذلك مع تلك الإشارات التي تخصها بالذكر.

 

ان هذه الارض الطيبة تحتضن في رحمها حضارة الأجداد ، التي نشأت منذ عصور ما قبل التاريخ وبالتحديد الألف الخامس ق.م ، واستمرت حتى العصور الحديثة لتحكي لنا قصة هذا الإنسان وقدرته على العطاء وأصالته في الوجود . ومن هنا كان لابد لنا ان نعيش مع الذاهبين الأولين في بيوتهم ومعابدهم وحقولهم ونتجول في طرقات وأزقة قراهم المندثرة في هذا السهل الواسع والتي كانت وان يوم كثيفة السكان تعج بالحركة وتزدهر فيها مثل تل بشموني والصوان ومقرتايه وتلولياثه وخرائب جمكياثه وزكريا وتلولثا منصور وخربة بستان دنحا وغيرها .

 

 

تعتبر دراسة المخلفات المادية لحضارة المنطقة من الامور الأساسية لتكوين صورة مبسطة عن تاريخها والتي تشمل بقايا الأوراق والأواني المتنوعة التي استخدمها إنسان تلك الفترة ، وتضم عموم اللقى والملتقطات السطحية المنتشرة على تلك المواقع ، والتي لها علاقة مباشرة او غير مباشرة بحياته اليومية والمتمثلة أولاً الأواني الحجرية . إن استخدام الحجر مادة أولية لصناعة الأدوات ووسيلة وحيدة للقطع قبل اكتشاف المعدن يعني انه متوفر وثمة أهمية للمصدر الذي يأتي منه لانه يؤثر على نمط التجارة والمسالك التي كان يطرقها أولئك الأجداد في الأزمنة المبكرة . إن وجود حجر ألاوبسيدي وهو زجاج بركاني نادر في بعض تلك المواقع يدل على همة أولئك الأوائل في الحصول عليه وجلبه إلى مناطق سكناهم ومقدار ما كانوا يعانوه من المشقات والأهوال والمخاطر وما يكابدوه من الانفعال في تلك الرحلات الشاقة الطويلة للوصول إلى أماكن تواجده في منطقة بحيرة فان جنوب شرق تركيا والسواحل الشرقية للبحر المتوسط لاستعماله في صناعة السكاكين والمقاشط ذات الحافات الحادة والمسننة ، فضلاً  عن وجود أنواع أخرى من الحجر كالصوان الذي كان من اكثر المواد شيوعاً واستعمالاً لكثرة تواجده في المنطقة ، فقد استعملت أدوات مختلفة منه كالفؤوس ورؤوس النبال وأدوات القطع المختلفة .كما صنعت الأدوات الحجرية الكبيرة المستخدمة للدق والسحق والطحن كالهواوين والمدقات من أنواع أخرى من الحجر المتوفر في المنطقة . وثانياً : الأواني الفخارية ، تعتبر صناعة الفخار طفرة حضارية توصل إليها الإنسان منذ بواكير الألف الخامس ق.م .

 

 

القسم الثالث

جريدة (صوت بخديدا) العدد السادس - كانون الثاني 2004

 

صنعت معظم الأواني المكتشفة من طينة غير نقية تحتوي على الكثير من الشوائب السمجة ، ثم تطورت في فترات لاحقة إلى صناعة دقيقة متقنة ، حيث اصبح الفخار السمة المميزة لكل عصر واعتمد عليه في تحديد الفترات الزمنية لكل موقع وطبقة ، وخاصة في فترات ما قبل التاريخ (قبل اختراع الكتابة) . لقد وجدت كميات كبيرة وانواع متعددة من الكسر الفخارية على جميع المواقع المذكورة سابقاً ، واعتباراً من فترة الالف الخامس ق.م وحتى العصور الحديثة ، مروراً بالادوار الاشورية والفرثية والساسانية والاسلامية . لقد كان استخدم الاواني الفخارية في جميع مجالات الحياة ، فهناك الكبيرة لخزن الحبوب واخرى لخزن وحفظ الماء ثم المتوسطة والصغيرة للاستخدامات الاخرى كالصحون والكؤوس الخاصة بالطبخ ، كما استعمل الفخار ايضاً لصناعة أقراص المنازل واحجار المقلاع ، ومن ذلك نستطيع القول بان سكان المنطقة كانوا يشكلون مجتمعاً زراعياً رعوياً ، أي انهم كانوا يعتمدون في معيشتهم على الزراعة الديمية كالحنطة والشعير وبعض انواع البقول كالعدس ، كما كانوا يقومون بتربية بعض أنواع الحيوانات : كالأغنام والماعز والبقر والحمير والخيول الى جانب الزراعة ، فضلاً عن صيد الأرانب والغزلان وبعض انواع الطيور ، التي كانت تتواجد بكثرة في المنطقة ، أو تهاجر اليها في مواسم معينة ، ولا يزال قسماً من تلك الحرف تزاول من قبل أهالي المنطقة حتى الوقت الحاضر والقسم الاخر اضمحل والاخر اختفى ، كما سكنوا في بيوت من الطين متجاورة تتخللها أزقة ضيقة ، ويمكن تمثيل احدها بنموذج عثر عليه في مناطق متعددة منها : قرية حسونة القريبة من حمام العليل ، والذي يعتبر نموذجاً لبيوت السكن في القرى الزراعية الاولى ، مؤلفاً من فناء واسع في وسطه موقد وعلى جانبيه غرف إضافة إلى رواق مكشوف ، والغرف مسقفة بالخشب والقش والطين ومقسمة ، منها لايواء الحيوانات والآخر لخزن المواد الغذائية وعلف الحيوانات ، والاخرى لسكن أصحاب الدار

 

 

وفي فترات لاحقة ، وبعد ان تطور المجتمع بتطور الفكر الديني والسياسي والاجتماعي ، وظهور حرف جديدة ، تطور اسلوب بناء البيوت السكنية ،  فاضيفت غرف جديدة عليها ، كما ظهرت مباني أخرى اكثر أهمية وفخامة وريازة كالمعابد ، التي يقصدها الناس في أوقات معينة للصلات والتعبد وتقديم الهدايا والقرابين ، وتطورت مادة البناء ايضاً فدخل اللبن الحجر في بناء الاسس ثم الطابوق واخيراً الجص.

 

 

القسم الرابع

جريدة (صوت بخديدا) العدد السابع - شباط 2004

 

مما تبين - في الأقسام السابقة المنشورة - نجد أن مواطن الاستيطان في المنطقة موغلة في القدم ، واستمرت حتى الوقت الحاضر ، وتحتضن بخديدا ثلاثة منها :

 

 موقع تل بشموني

 

كنيسة مارتشموني: نوار نت

 

يقع موقع (تل بشموني) في منطقة منبسطة من الأرض تقع جنوب بخديدا القديمة ، تحيط به الدور من جميع الجهات . ينحدر تدريجياً في الوقت الحاضر نحو الجنوب ، ارتفاعه 10 م ، وكان يبلغ طوله 150 م وعرضه 100 م ، وقبل حصول التجاوزات عليه كان يعتبر من التلول الكبيرة المهمة في المنطقة ، كونه يبطن ادواراً سكنية متعددة ، وطبقات مختلفة ، حيث تعرض إلى العديد من التجاوزات غي فترات سابقة من قبل الأهالي ، فقد تم استقطاع أجزاء واسعة منه من جهاته الشرقية والشمالية والغربية ، وانشئت عليها دوراً سكنية ، كما أقيمت دور أخرى على أجزائه الجنوبية التي أصابها التخريب ايضاً ، نتيجة حفر الأسس والسرداب فيها ، وبذلك فقد التل أجزاء مهمة منه وبضياعها فقدت صفحات مشرقة من تاريخ بخديدا ، كونه يعتبر السجل الوحيد لتاريخ البلدة القديم ، الذي لم يبق منه إلا جزء صغير محاط بطريق مبلط من جهاته الثلاثة المذكورة اولاً ، وسيج من جهتيه الشمالية والغربية ، حيث شيدت فوقه كنيسة صغيرة تعرف بكنيسة (مارت شموني) ، التي تعتبر من المعالم الحضارية في المنطقة ، لقدمها ، ولما لها من مكانة دينية في نفوس المؤمنين ، حيث يؤمها الزوار من مناطق مختلفة يوم عيدها المصادف 15 تشرين الأول من كل عام .

 

وحسب الروايات واثناء التجاوزات المذكرة ، تم العثور على أواني فخارية بشكل جرار وكؤوس وصحون كسرت جميعها ، أما بفعل آلات الحفر أو بأيدي العمال ، ظناً منهم بأنها تحتوي على مخشلات أو نقود ذهبية . من الجهة الشرقية للتل ونتيجة التجاوزات ، يظهر من خلال هذا المقطع عدة طبقات سكنية ، تعود إلى الفترة الآشورية ، من خلال الكسر الفخارية المنتشرة فيها ، لا نعلم بالتحديد عدد طبقات الموقع ، ولا بداية أدواره التاريخية لعدم استطاعتنا الوقوف على الأرض البكر ، التي نشأت أول طبقة فوقها والتي تعتبر أول استيطان للإنسان في هذا التل ، الذي يمكن اعتباره النواة الأولى لبخديدا ، واستمر السكن فيه حتى الفترة الآشورية المتأخرة . بعد ذلك نجد السكن ينقطع في هذا الموقع ويتحول إلى المنطقة المجاورة له إلى الشمال منه والممتدة حتى الشارع العام المار أمام المركز الصحي وعموم الأرض المشيدة عليها كنيسة الشهيدين سركيس وباكوس والدور المجاوره لها ، وارض مدرسة متوسطة تغلب ومحكمة بداءة الحمدانية واجزاءً من السوق العصري ، فقد ظهر ذلك أثناء عملية حفر الأسس لبناء قاعة المناسبات الحالية في فناء الكنيسة المذكورة أسس لجدران مشيدة بالآجر مع بعض الكسر الفخارية تعود إلى الفترة الفرثية أو الساسانية ، ونتيجة حفر الأسس والسرداب في المنطقة الكائنة إلى الشمال من الشارع العام المار أمام مبنى المركز الصحي ، عثر على أواني فخارية مع كسر عديدة تعود إلي الفترة الإسلامية ، كما نلاحظ بان السكن لا يزال مستمراً حتى هذا اليوم في هذه المنطقة ممتداً في جميع الاتجاهات . من هذا نستنتج وجود تواصل حضاري دون انقطاع في هذه البقعة من الأرض .

 

القسم الخامس

جريدة (صوت بخديدا) العدد الثامن اذار - نيسان 2004

 

موقع خربة بستان دنحا

 

خربة واسعة تقع جنوب شرق بخديدا ، تبلغ مساحتها 8 دونم متدرجة الارتفاع يحدها من الشمال والغرب طريق قره قوش - كهريس القديم ومن الشمال والشرق طريق قره قوش الحضر . تنتشر على سطحها كسر فخارية مختلفة الأشكال والأحجام تعود إلى الفترة الفرثية في الغالب مع بعض القطع القليلة المزججة التي تعود إلى الفترة الإسلامية ، كما وجدت قطع أخرى قليلة ايضاً تعود إلى فترة الخابور ، التي تتزامن مع الفترة الآشورية الوسيطة . من ذلك يظهر بأن الخربة كانت مستوطناً صغيراً من الفترة الآشورية ثم توسعت حتى أصبحت قرية كبيرة في الفترة الفرثية ومن المحتمل بان الموقع ترك بعد هذا التاريخ وامتزج سكانه مع سكان الموقع الأول الكائن إلى الشمال من تل بشموني ، ولم يبق فيه إلا نفر قليل حيث هجر الموقع نهائياً بعد ذلك وحتى الوقت الحاضر. استغل الموقع بستان لزراعة الخضراوات ، كما حفرت بئر جوفي فيه ونتيجة لذلك فقد ذكر بأنه عثر على هياكل عظيمة بشرية على عمق لا يزيد عن مترين ، لا يمكن معرفة وضعية دفنها أو الأدوات التي كانت معها ولا تاريخها فقد تم تخريبها في حينه .

ثالثاُ : خربة بلا اسم

تمت تسميتها بالخربة الثالثة . تقع شمال بخديدا القديمة وجنوب ثانوية قره قوش للبنين حالياً . تحيط بها الدور من جميع جهاتها ، وهي صغيرة لا تزيد مساحتها عن  دونم واحد ، كما إنها مستوية تماماً مع الأرض المجاورة لها . تنشر على سطحها بعض الكسر الفخارية التي تعود إلى الفترة الفرثية ، أي القرن الثاني ق. م . من ذلك يظهر بأنها مستوطنة صغيرة ‘سكنت لفترة قصيرة جداً لا تتعدى عن دور واحد ،حيث ترك الموقع نهائياً وتحول سكانه إلى منطقة أخرى ، ومن المحتمل بأن قاطنوه توجهوا جنوباً إلى الموقع الأول واندمجوا مع سكانه ، وبذلك تصبح المواقع المذكور موقعاً أو مستوطناً واحداً يمكن أن يقال عنه بأنه النواة الكبيرة لبخديدا الحالية .

 

 

القسم السادس

جريدة (صوت بخديدا) العدد التاسع - حزيران 2004

ساقية مقرتايا

 

وتسمى محلياً باسم (شقيثا) وهي عبارة عن مجرى يبلغ طوله بحدود 40 كم ، يضيق احياناً ويعرض أخرى ، عميقاً في بعض الأماكن ، وضحلاً في غيرها ، تصب فيه مياه الأمطار في موسمي الشتاء والربيع من عقارات قرى متعددة تمر خلاله . تبدأ الساقية من المنطقة الكائنة شمال شرق كرمليس مارة جنوب القرية  المذكورة ، ثم غرب بخديدا ، بعدها تتجه جنوباً مارة بين قريتي بلاوات وكهريز ثم شرق قره شور ، بعدها غرب قرية البسطلية وشرق آثار النمرود ، ثم شرق قرية السيد حمد لتصب في نهر دجلة جنوب القرية الأخيرة بمسافة قصيرة .

 

لو دققنا النظر في خارطة المنطقة التي تمر بها الساقية لوجدنا عدة مواقع أثرية تنشر على حافتها وبالقرب منها ، ومنها على سبيل المثال لا الحصر  : تل بربارة / تل مقرتاية / تلولياثة / تل بشموني / خربة بستان دنحا / تل بلاوات / خرائب جمكياثة / خربة طريق الخضر / خربة بساطلي كبير / خربة السيد حمد الأولى والثانية ، فلو علمنا بان تلك المواقع كانت في الماضي مدناً مزدهرة واحدى مقومات قيام تلك التجمعات السكانية وفرة مصادر المياه الصالحة للشرب ولسقي الحيوانات لامكننا القول بان الساقية التي نحن بصددها كانت في الماضي دائمة الجريان لطول أيام السنة ، ونضبت في فترات لاحقة اسوة بغيرها من الينابيع التي كانت تفيض بالمياه العذبة ونشأت بقربها نرى أديرة لا مجال لذكرها ذكرت في كتب التاريخ .

 

ومن خلال أعمال المسح الآثاري التي قمت بها لعموم المنطقة ، لاحظت وجود مجرى آخر يبدأ من منطقة مضاعة الكائنة إلى الشرق من بخديدا بمسافة 2 كم تقريباً ، ينحدر جنوباً حيث يلتقي مع ساقية مقرتاية غرب قرية البسطلية ليكون مجرى واحداً يسمى وادي الشور الذي يصب بنهر دجلة جنوب السيد حمد كما ذكرنا سابقاً .

 

فلو أخذنا روايات الأقدمين على محمل الجد واليقين من أهل المنطقة فان (مضاعة) ، كانت في الماضي عين ماء وذلك واضح من تسميتها التي تعني (ماء ضاع ) أي الماء الضائع ، وكانت تسقي مساحات واسعة من الأراضي المحيطة بها وغرق أحد أبناء النبلاء فيها أثناء قيامه بالسباحة في مياهها ، فغضب والده فقام بردمها انتقاماً لموت ابنه . إلا ان المرجح في فترات لاحقة وقد لاحظت الى الجنوب من موقع مضاعة الحالي ومسافة 700 م تقريباً وفي منتصف المسافة بين قعر الوادي وحافته العليا موضعاً صخرياً تدل فتحته الظاهرة للعيان بانها تشبه إلى حد كبير عين ماء مندرسة ، لذلك يمكن القول بان موضع (مضاعة) الحالي ، حيث توجد ثلاث حفر فيه ، ليس هو الموقع الحقيقي لعين الماء ، وكما نعلم بان اتخاذ الآشوريين موضع بلاوات منتجعاً ريفياً لهم نظراً لوقوعها بين ساقيتين تفيضان بالمياه الأولى ساقية مقرتاية والثانية القادمة من موضع مضاعة وبذلك كانت تكثر في الأراضي المحصورة بين تلك الساقيتين الحيوانات البرية والطيور بأصنافها وذلك لوجود البساتين والأشجار الباسقة في هذه البقعة المستوية من الأرض ولولا ذلك لما قام الملوك الآشوريون بامتيازها دون غيرها لذلك الغرض .

 

 

القسم السابع

من هم أجدادنا؟

 

من هم الأقوام الذين عاشوا واستوطنوا وبنوا حضارة منطقة بخديدا ؟ من أين جاءوا ومتى ؟ هل هم خليط من أقوام متعددة ، أم قوم واحد استقر فيها واستمر حتى الوقت الحاضر ؟ سؤال لابد من طرحه والأصعب منه جوابه ، حيث لم تجر تنقيبات أثرية منظمة في تلك المواقع المذكورة لمعرفة المستوطنين الأوائل فيها .

 

إن القول بمبدأ قوم واحد صعب ، نتيجة الظروف السياسية التي مرت بالمنطقة وما صاحبها من حروب وغزوات وهجرات متتابعة من مناطق أخرى خارج بلاد وادي الرافدين ، من الجزيرة العربية والهضبة الأردنية والصحراء السورية ومناطق أخرى ، حيث كانت البلاد محط أنظار الأقوام المجاورة منذ القدم ، لما تتمتع به من وفرة المياه وخصوبة التربة والصيد الوفير ، الذي يعتبر من العوامل المشجعة لاستقرار الإنسان . لذا فالقول بأنهم خليط من أقوام متعددة عاشت وانصهرت في بودقة واحدة لأجيال طويلة هو المرجح . فالمستوطنون الأوائل الذين نجهل هويتهم للسبب المذكور أعلاه ، قد استقروا في موقع واحد أو أكثر من المواقع المذكورة قبل الآشوريين ، الذين تظهر حضارتهم واضحة في تل بشموني . فالآشوريون هم بدو ساميون هاجروا من الجزيرة العربية واستقروا في شمال بلاد الرافدين حول مدينة أشور في الألف الثالث قبل الميلاد ، وقبلوا بإلهها الحارس كإله خاص لهم واتخذوها أول عاصمة وبعدها  وفي فترات لاحقة توسعوا جنوباً إلى بابل وشرقاً إلى سوريا وفلسطين والمدن الفينيقية الساحلية ، لا بل وصلوا إلى مصر ايضاً ، وشمالاً إلى اورارتو والدول الحثية والآرامية الجديدة في جنوب شرق تركيا وشرقاً إلى إيران . وعموماً فان النشاط العسكري لهم تماشى مع نشاط البناء فضلاً عن النشاطات الأخرى .

 

وكما ذكرنا فانهم دخلوا في صراعات مستمرة مع جيرانهم ومنهم الآراميون الذين في بادئ الأمر كانوا يعيشون حياة البداوة بين الصحراء السورية وجنوب ما بين النهرين ، ثم وصلوا إلى بابل ، بعدها صعدوا إلى الشمال حتى وادي الخابور والبليخ ، كما استقر قسم منهم ضفاف دجلة من الزاب الأسفل وحتى نهر العظيم ، وفي السهل الجنوبي لجبل سنجار والسهول الواقعة شرق الموصل .

 

لقد وردت أول إشارة في النصوص الآشورية إلى الآراميين على شكل (اخلامو) ، ثم ( آرامو) ، حيث قام الملك الآشوري أشور ناصر بال الثاني بتحطيمهم بقسوة وشرع بتوطينهم على حدود مملكته ، وفي الحقيقة إن النمرود الحالية قد بنيت بمساعدة الألوف من الآراميين المرحلين .

لم يكن للآراميين دور سياسي بارز في المنطقة ، إلا أن أثرهم ما زال حياً ، فلغتهم كانت تكتب جنباً إلى جنب مع الآشورية اعتباراً من القرن الثامن قبل الميلاد ، وأصبحت اللغة الرسمية للإمبراطورية الفارسية . ولما كانت تسمية (بيث خديدة) ترجع باصولها إلى الآرامية ، لذا يمكن القول بان قسماً منهم سكن هذه البقعة إلى جانب السكان الأصليين على اقل تقدير ، حيث سادت لغتهم على المنطقة واستمرت حتى الوقت الحاضر بشكلها الحالي المسمى بـ (الفليحيه) ، ويعزى هذا الرأي إلى وجود مناطق مختلفة في عقار بخديدا لا تزال حتى الوقت الحاضر تحمل أسماء آرامية منها على سبيل المثال : بفرون _ بسلكاية ، بازيدو وغيرها ، كما نلاحظ ابتعادها عن اللغة الأصلية ألام لاسباب عديدة .

 

 إن سعة الرقعة الجغرافية التي انتشرت فيها الآرامية والتأثيرات السياسية والانشقاقات الحاصلة في الكنيسة في القرن الخامس الميلادي ، أدت إلى فساد اللسان السرياني وظهور لهجات متعددة في معظم الأقاليم التي تكلمت بها ، وهنا ترد كلمة السريان اليونانية الأصل ، التي أصبحت تطلق على اللغة الآرامية على اثر انتشار المسيحية في بلاد الآراميين في القرن الثاني قبل الميلاد ، وجعل الذين يعتنقون الدين الجديد ينفرون من التسمية القديمة الآرامية ويعتبرونها مرادفة للوثنية والإلحاد ، ومن هنا يمكن الاستنتاج أيضاً بأن اعتزاز الخديديين بلهجتهم واستمرارها طيلة هذه الفترة الطويلة وحتى الوقت الحاضر ، ما هو إلا دليل واضح إلى أن جذورنا ترجح الآراميين والآشوريين فضلاً عن بعض العوائل القادمة من تكريت ومناطق أخرى ذات الأصول العربية في النصف الأول من القرن السابع الميلادي .

 

لقد اعتبرت اللغة في معظم الأوقات مرادفة للدين ، وهذا ما نشاهده ، فقد قام الخديديون بتدوين جميع الطقوس والرتب الدينية والاحتفالات في اللغة السريانية وتركها في اعتقادهم لدينهم الجديد الذي يفتخرون به .

 

 

القسم الثامن والأخير

بخديدا والمسيحية

 

الوسيم

 

بخديدا هذه العروس الجميلة ، التي عشقت عريسها يسوع حتى الفداء ، أبت إلا أن تكون له وحده مستلقية بانشراح تام بين ذراعيه مسدلة جفنها على منظر اللوحة السرمدية حيث تتوارى الشمس وراء الأفق مستيقظة فجراً على أصوات الأنغام الشجية ، التي كانت تصدح بها ولا تزال حناجر القسس والراهبات منطلقة من صوامع وقلايات أديرة وكنائس مار متى ومار دانيال وربان برعيتا ومار يوحنا الديلمي ومار بهنام وغيرها ، والتي كانت تسمو وتتزين بها هذه السهول والروابي ممزوجة بدقات الأجراس مع أريج البخور المنطلق نحو السماء ، لتلاقي تسبحة أوشعنا .. التي تترنم بها أجواق الملائكة ، فحقاً إن بيت  خديدة اسم على مسمى .

 

من اجل معرفة تاريخ دخول المسيحية إلى بخديدا لابد من دراسة انتشار المسيحية من الأقاليم المجاورة لها ، ومقارنة طراز بناء كنيسة مارت شموني مع غيرها من الكنائس شيدت في مناطق مختلفة ، واخيراً الإشارات التي وردت عنها في المخطوطات ، التي تركها لنا رجالها الخالدون .لقد كانت بداية انتشار المسيحية في المناطق المتاخمة لفلسطين مهد السيد المسيح له المجد ، في القرن الأول الميلادي وفي القرنين الثاني والثالث ، انتشرت في كل أرجاء الإمبراطورية الرومانية شرقاً وغرباً ، كما انتشرت في الأقاليم الخاضعة لنفوذ الإمبراطورية الفارسية . وقد لاقت الدعوة الجديدة ، أذناً صاغية من قبل القبائل الآرامية القاطنة في الأقاليم الشرقية من سوريا وبلاد ما بين النهرين ، والسبب كونهم أصحاب حضارة راقية  ولغتهم لغة الجديد ومما سهل تقبلهم لهذا الدين تقدمهم في النواحي الاجتماعية واقدم نص يشير إلى ذلك ما ورد في قصة فيضان نهر ديصان ، حيث يذكر فيه بأنه دير هيكل كنيسة للمسيحيين عام 310 م في الرها من ذلك يتضح بأن المسيحية كانت قد دخلت المدينة قبل هذا التاريخ ، أي في القرن الثالث ، ولما كانت هذه المدينة المهمة أقرب من بخديدا إلى مراكز وطرق الانطلاق الأولى للتبشير واكبر أهمية . لذا وجب أن يكون دخول المسيحية إلى الأخيرة بعد القرن الثالث .

 

كما نعلم بان المبشرين الأوائل ركزوا أعمالهم على المدن المهمة الكبيرة والعواصم ، كونها تمثل مراكز الإدارة والسياسية والدينية ، فضلاً عن وجود طبقات المثقفين كالحكماء والفلاسفة والأدباء ورجال الفكر والدين ويعني ذلك إذ ما تمكنوا من إقناع تلك الفئات ، فمن السهولة إقناع طبقات الشعب البسيطة ، لما للأولى من تأثير على عموم طبقات المجتمع . والنقطة الأخرى لو أخذنا بنظر الاعتبار بناء كنيسة مارت شموني في بخديدا ومقارنتها بكنائس أخرى شمال شرق سوريا ، مثل كنيسة القديس ثيودورس في الاندرين ومع بناء كنيسة مصيفنة ، نرى ما لهذه الكنيسة من علاقة وثيقة بتلك الكنائس ، من حيث احتوائها على قاعة صغيرة مربعة الشكل تقريباً ، كما تحتوي على دعامتين وسطيتين ، كذلك احتواؤها على مدخل في جدارها الغربي وانتقال حنيتها بالغرف الجانبية تعتبر لصغر حجمها نموذجاً لكنائس القرى الصغيرة المعروف بازلئيات الكنائس الصغيرة . وقد حدد تاريخ تلك الكنائس بالقرن الخامس الميلادي ومن الجدير بالذكر وجود كنيسة أخرى من هذا الطراز تعود لنفس الفترة تسمى كنيسة قصر سريج .

 

إن وجود كتابة سريانية تنص على تجديد كنيسة مارت شموني في بخديدا عام 791 م ، وهذا دليل آخر على ان الكنيسة ، كانت قد بنيت قبل هذا التاريخ ، ونظراً لصغر حجمها وقلة ارتفاعها ونوعية مادة بنائها ووجودها فوق تل أثري يبلغ ارتفاعه 10 م مما يجعلها بعيدة كل البعد عن الرطوبة والأملاح ، التي تؤدي الى حدوث التآكل في أساساتها وبالتالي حدوث تصدعات فيها قد تجعلها قوية متماسكة ، لا تحتاج إلى أعمال الصيانة إلا بين فترات طويلة ، حيث نراها قائمة حتى اليوم  . وبذلك نستطيع القول بأن تاريخ هذه الكنيسة يعود إلي القرن الخامس الميلادي .كما وردت إشارة لها علاقة بدخول المسيحية إلي بخديدا ، مفادها ان الشخص المدعو شاور الخديدي نشر المذهب الأرثوذكسي بين رهبان أحد الأديرة ، لكنه لم يذكر اسم الدير ، وكانت قد زار المطران ايشوع سوران في سجنه عام 615 م ، حيث كان يملي عليه تعاليمه ، وكان المطران يسمعه بشغف ، وقد أطلقت على هذا الشخص الخديدي شاور كلمة مرتد . وهذا يعني بأن بخديدا كانت في القرن السادس نسطورية وفي السابع أرثوذكسية ، وكانت في الخامس مسيحية ، وكما نعلم بأن المذهب النسطوري حصل على اثر الانشقاق ، الذي حصل في مجمع افسس 431 م ، حيث ترك نسطوريوس المجلس غاضباً متوجهاً نحو الشرق حيث البلاد الفارسية ، وبدأ في نشر مذهبه الجديد واسس عدة مدارس لذلك . من كل ذلك لا يمكن أن نقول بأن المسيحية دخلت بخديدا من القرن الرابع الميلادي شأنها شأن القرى المنتشرة بجوارها ، فقرية برطلي وكرمليس قد دخلها الدين الجديد في القرن الرابع .إذن لماذا تبقى بخديدا على حالها من الوثنية . بعد هذا التاريخ حيث المسيحية تطرق ابوابها .

 

 

المصادر

1.       مديرية الآثار العامة دليل المواقع الأثرية .

2.       كلين دانيال ، موسوعة علم الآثار .

3.       طه باقر ، مقدمة في تاريخ الحضارات القديمة ، الجزء الاول .

4.       الأب هنري وهبة ، الآرامية السريانية .

5.       الأب منصور ، الكنيسة عبر التاريخ .

6.       مجلة سومر ، الأعداد (8) و(17) و (46).

7.        بحوث آثار حوض سد الموصل .

8.        زاد المسافر للكعبي .

9.       الكشاف الأثرى في العراق .

10.     ياقوت الحموي ، معجم البلدان .

11.    إضبارة موقع تل بشموني .

12.    أعمال التحري الأثرى لكاتب المقال في منطقة بخديدا وقضاء الحمدانية .