لأعزائنا الصغار

رسامات

عيون بخديدا

Museum متحف

أرشيف الاخبار

فنانونا السريان أعلام

أرشيف الموضوعات

نمرود قاشا

نساء في الذاكرة

بياتريس أُهانسيان

أناملٌ من ذهب, تعزف لمدينةٍ من ذهب

نمرود قاشا

Namroud_kasha@yahoo.com

- هامش لبغداد

بغدادُ والشعراءُ والصُور - ذَهبُ الزمان وضوعُهُ العَطِرُ

يا ألف ليلةٍ يا مكملة الأعراس - يغسل وجهك القَمَر

هذه الأبيات وأخرى غيرها تغنى بها العراقيون كلما تذكروا (أيام بغداد) يرددوها منذ صيف 1975 حينما غنتها فيروز على مسارح بغداد, كلماتٌ جميلة وبسيطة لمدينة كل ما فيها جميل، ومن هذا الجمال استلهم الرحابنه عاصي ومنصور كلمات "قصيدة بغداد"، وفيها أيضاً قال القباني نزار أجمل كلمات, كيف لا وهي تحتل نصفه الأجمل من خلال بلقيس "ابنة الأعظمية".

مُدِّى بساطي واملئي أكوابي              وإنسيّ العتابَ فقد نسيت عتابي

عيناكِ, يا بغداد, منذ طفولتي    شمسان نائمتان في أهدابي

وقديما قال عنها ياقوت الحموي: ما دخلت بلداً قط إلاّ عددته سفراً, إلاّ بغداد فإني حين دخلتها عدّدتها وطناً.

لا أُريد أن أتحدث أكثر عن وطنٍ في مدينة قد قيل عنها الكثير بقدر ما كان قصدي من هذا التقديم، الحديث عن أُناس حفروا أسمائهم في ذاكرتها حيث كان أحد أقدم وأشهر أحيائها "المربعة" مرتعاً لطفولتهم ونشأتهم, ولحيِّ المربعة أيضاً أُخصص مساحة في هذا الموضوع.

- و... هامش للمربعة

منطقة المُرَبَعة, تُعد من أهم وأقدم المحلات البغدادية والتي لا يخطئ القلب كثيراً عندما يعاينها على خريطة الرؤيا. وفيها وُلدت العنوان الذي أحتل رقماً في "نساء من الذاكرة" الفنانة بياتريس اوهانسيان موضوعة بحثنا هذا.

وعودة على محلة "المربعة" أقول: تقع هذه المحلة في قلب شارع الرشيد ومقابل (الأورزدي باك) القديم, تلك الجغرافيا التي تربط بين باب الشيخ وسيد سلطان علي.. ويرجع أصل تسميتها إلى شكلها المربع بالأبعاد الدقيقة, ويقال بأن المهندسين لم يعمدوا لإنشائها بهذا الشكل وإنما جاء ذلك مصادفه مما جعل صفة تربيعها يغدو إسماً لها.

لكنها اليوم لم تعد (مُرَبعة) بل أخذ شكلها كل الأشكال الهندسية, والظلام يكسو شناشيلها وأزقتها الضيقة والرطبة والتي أصبحت اليوم أماكن جمع النفايات الصناعية وبرادة الحديد والفافون، وباتت البيوت مهجورة والكثير من أبناء شعبنا كانت موطئ قدمهم الأول ولهم فيها ذكريات، وأنت تجتاز أزقتها الضيقة من شارع الرشيد إلى "جيخانة دغديداي"- مقهى القره قوشيين- تسمع العديد من لهجات السورث من بخديدا, برطلة, باطنايه, تللسقف وغيرها.

في المربعة عاشت بياتريس الفنانة المبدعة كما عاش غيرها أمثال القبانجي وغيره.

- أُوهانسيان.. وشيء عن تلفزيون بغداد

في تموز 1967 تعرفت على هذا العالم الغريب والجميل والذي إسمه (بغداد)، وفي هذا الصيف أيضاً عرفت هذا الجهاز الذي سحر الكثير (تلفزيون بغداد) بالأسود والأبيض الذي بدأ إِرساله صيف 1956 ليكون بذلك أول محطة تلفزيون بالشرق الأوسط.

كنت أُتابع بشغف غير إعتيادي ما يُبَثْ من خلال هذا التلفاز: مؤيد البدري والرياضة في أسبوع، كامل الدباغ والعلم للجميع، خيرية حبيب وعدسة الفن، إعتقال الطائي في السينما والناس، نسرين جورج في سينما الأطفال، وشميم رسام في سهرة ملونة. وآخرون غيرهم كانوا يطلون من خلال الشاشة الجميلة: فخري الزبيدي، أمل المدرّس، رشدي عبد الصاحب، مقداد مراد، نهاد نجيب، مديحه معارج، وزكية العطّار.

بياتريس أوهانسيان، هذه الفنانة العراقية والعالمية التي كانت تعزف على البيانو، كانت لها حصة في برامج تلفزيون بغداد وهو ينقل حفلات الفرقة السيمفونية الوطنية العراقية ويكون لـ "بياتريس" حصة كبيرة فيها، الأصابع التي أدمنت العزف على الجمال والعيون، كنت أُتابع بشغف كبيرة إنتقال الكامرا بين أصابعها وهي تتحرّك على مفاتيح البيانو، ولأن (البيانو) مفردة إيطالية تعني اللين والرقة، هكذا كانت أنامل هذه الفراشة الجميلة خلال الحفلات التي كانت تقيمها إدارة التلفزيون أو الفرقة السيمفونية في مناسبات وطنية أو دينية في وقت كانت عدد قاعات ومسارح بغداد لا تزيد عن ثلاثة هي: قاعة الشعب (باب المعظم)، قاعة الخلد (كرادة مريم) وقاعة المسرح الوطني في الكرادة أيضاً.

أتمنى أن أوفق في استعراض مسيرة رغبات الأصابع، الأصابع التي تنظر بشغف إلى عذوبة الأبيض الكامل والأسود النصف في مساحة الفراغ وهي لا تجد وسادة تضع فيها رأسها المعبأ بالنوتات وأصوات دواسات البيانو.

- الدخول من بوابة بياتريس

بياتريس اوهانسيان، عازفه بيانو عراقية أرمنية، ولدت من عائلة فنية موسيقية في 15/ آذار/ 1927 بمنطقة (المربعة) إحدى محلات بغداد القديمة. والتي لا يخطئ القلب كثيراً عندما يعاينها على خريطة الرؤيا، تلك الجغرافية التي تربط بين باب الشيخ وسيد سلطان علي، فالأب والأُم فرّا من الإبادة الجماعية لمذابح الأرمن في تركيا عندما كانا طفلين. عمل والدها محاسباً في شركة النفط، وهو ما أعان العائلة لأن تعيش بشكل جيد. والدها (اوهانسيان أوهانسيان) ووالدتها (سربوهي أوهانسيان) شقيقها (آرشان) يعزف على آلة الكمان، توفي قبلها عام (2005) في مدينة (هاليفاكس) الأمريكية بولاية مينسون، وشقيقتها الأُخرى (سيتا) وهي عازفة على آلة البيانو، وهي الوحيدة الباقية مع الثلاثي الموسيقي عندما كان البيانو يتصدر صدر صالون دارهم في بغداد.

وكثيراً ما كان الثلاثي (بياتريس وشقيقها ارشان وشقيقتها سيتا) على موعد دائم مع التمرين الذي يوّحد الآماسي ويضفي طابع الإلفة على هذه العائلة الموسيقية.

دخلت مدرسة الراهبات الأبتدائية (راهبات التقدمة) التي تقع في محلة "رأس القرية" والقريبة من "عقد النصارى" ببغداد، كانت بدايتها الأولى في تعليم الموسيقى بدراسة العزف على آلة البيانو تلك الآلة التي كثيراً ما أبصرتها في أحلامها وهي تومئ إليها بصداقةٍ دائمة وبألفة أبدية، كانت ترتل وتنشد ضمن فريق الإنشاد التابع للمدرسة، ومدرسة الراهبات تعتبر أفضل مدارس البنات الأهلية، من حيث المستوى العلمي والتربوي والفني في تلك الفترة. ففي هذه المدرسة كانت ترتل وتنشد قصائد سيكون لها الدور البارز في تنمية خيالها الذي ابتدأ بتهشيم حسية الواقع واكتشاف ما يخبئه خلف مفاجأته المقبلة. وقد طورت بياتريس موهبتها الفنية من خلال مشاركتها مع جوق (كنيسة الأرمن) الواقعة مكان (السوق العربي) وقرب كنيسة أم الأحزان، فقد كانت تتردد للكنيسة كل يوم أحد، تنعش نفسها بالألحان والتراتيل الكنسية التي توديها مجموعة الإنشاد (كورال) حيث أخذت منذ ذلك الوقت تتملل في مجلسها داخل الكنيسة وبالقرب من جماعة الإنشاد، وتردد بصوتها الرقيق كل ما كان يرتل أثناء القداس حيث تصغي إلى صوت يهمسُ بداخلها مغرياً إياها للعبور إلى الضفة الأُخرى من التحوّل، ليتطور الأمر لديها فأخذت تعزف في الكنيسة على آلة الأورغن الهوائي قطعاً موسيقية وتراتيل.

وفي البيت كانت تستمع من خلال جهاز (الحاكي، أو فونغراف يدوي) إلى عزف ما هو مسجل على الأسطوانات من الموسيقى الكلاسيكية من أعمال كبار المؤلفين الموسيقيين الأوربيين أمثال: شوبان، باخ، موزارت وبتهوفن.

لكن أعمال البيانو من (السوناتا والكونشيرتو) أخذت تجذبها وتشد انتباهها بشكل متميّز منذ ذلك الوقت.

- معهد الفنون الجميلة، خطوة تألق

في عام 1936 تأسس في بغداد "معهد الموسيقى" ليتحوّل في العام التالي إلى "معهد الفنون الجميلة"، في عام 1937 أصطحبها والدها إلى المعهد ليقدم لها طلب أنتساب، وكان عمرها في حينه عشر سنوات، ونظام المعهد يقبل الطلبة بعمر (13) سنة وأن يكون خريج الدراسة الابتدائية.

بياتريس، كانت طالبة في الرابع الابتدائي وعليه دخلت اختبار كفاءة فاختبرتها اللجنة المكونة من عميد المعهد الفنان (الشريف محي الدين حيدر) والموسيقار (حنا بطرس) معاون المدير وأُستاذ البيانو الروماني (جوليان هولتز) وكان للفنان حنا بطرس دوراً كبيراً في قبولها في المعهد، إذ قدمها إلى اللجنة واصفاً إياها بـ (شوبان الموهبة المبكرة) معززاً طلب الانتماء للمعهد كونها موهوبة في العزف، حيث قدمت عدداً من القطع والتمارين أمام اللجنة بشكل جيد. فنالت استحسانها فتم قبولها استثناءً من شرط العمر.

وهكذا بدأت الدراسة الفنية في المعهد بشكل علمي جيد على يد الأُستاذ الروماني (جوليان هولتز).

في عام 1944 تخرجت من المعهد بدبلوم فني عالٍ بدرجة "امتياز" وقبل الثانية عشر من العمر كانت الطفلة "بياتريس" تقدم حفلات أسبوعية في محطة إذاعة بغداد.

بعد تخرجها عّينت مدرّسة في المعهد وبذلك تكون أصغر مدرّسة في القطر بعمر (17) سنة.

- بياتريس في الأكاديمية الملكية البريطانية

بعد مباشرتها كمدرّسة في معهد الفنون الجميلة بفترة قصيرة حصلت على منحة دراسية من الحكومة العراقية لمواصلة دراستها في (الأكاديمية الملكية البريطانية للموسيقى) في لندن مع الأُستاذ (ماكس بيراني).

وقد تخرجت من الأكاديمية البريطانية الملكية للفنون ونالت شهادة التخرّج في آلة البيانو، ودرست الصوت كتخصص ثانوي.

حصلت الآنسة اهانسيان على شهادة (ويستليك) التذكارية، وفي الجانب التربوي والأداء حصلت على جائزة (فريدريك L.R.A.M). بعدها حصلت على منحة (فولبرايت) الدراسية لمواصلة التدريب في مدرسة (جوليارد للموسيقى) في مدينة نيويورك الأمريكية حيث درست (Juilliard school of music) العالي في آلة البيانو، وقد ظهرت بياتريس خلال هذه الحفلة ولأول مرة في قاعة كارنيجي للموسيقى أعقب ذلك سلسلة من الحفلات في الولايات المتحدة وخلال فترة دراستها في الولايات المتحدة زارت شقيقها (ارشان) عام 1959 وقد أنهت دراستها وقالت عبارتها المؤثرة: الجميع قال لي عليك البقاء في أمريكا، ولكن صوتاً داخلياً قال لي، يجب أن أعود إلى العراق، وتعليم أبناء بلدي على حب الموسيقى.

وفي العراق كانت الموسيقى الكلاسيكية قد عرفت للتو فيه، وإنها بحاجة إلى أشخاص مثلها للعمل على زرع حب الموسيقى وازدهارها.

وهكذا حزمت "بياتريس اوهانسيان" حقائبها على متن السفينة (كوين ماري) لتبحر إلى لندن ومن ثم إلى العراق.

حيث عينت رئيسة لقسم البيانو في معهد الفنون الجميلة، وعلى يدها تخرّج العشرات من الطلاب الذين أصبحوا فيما بعد عازفين معروفين.

- بياتريس والفرقة الموسيقية

الفرقة السيمفونية العراقية، هي فرقة الأوكسترا الوطنية في العراق بدأت مشوارها الموسيقي في أربعينات القرن الماضي، لكن تم الإعلان عن تأسيسها رسمياً عام 1959 وهي تعتبر من أقدم السيمفونيات في الوطن العربي، كانت تابعة إلى وزارة التربية ثم انتقلت إلى وزارة الثقافة (الإرشاد) منذ عام 1962.

أغلب كوادرها من طلبة وأساتذة معهد الفنون الجميلة وجمعية بغداد للفلهارمونيك وتناول على قيادتها العديد من قادة الفرق الموسيقية الأجانب وكانت تضم بحدود (120) موسيقي.

بياتريس اوهانسيان كانت أحد العناصر الرئيسية في الفرقة السيمفونية العراقية، وكانت الفرقة تقيم حفلاتها بصورة مستمرة في مقر الفرقة السيمفونية الكائن وسط بغداد في منطقة الوزيرية. أو في الحفلات التي تقيمها الفرقة بالمناسبات الوطنية أو القومية والدينية على قاعات ومسارح بغداد المحدودة أو في استوديوهات إذاعة وتلفزيون بغداد حيث كانت تنقل بشكل مباشر إلى المستمعين والمشاهدين.

بياتريس هي عازفة بيانو منفرد (صولو) في الحفلات التي تقدمها إذاعة بغداد، وعلى المسارح سواء كانت بصحبة الفرقة أو بمفردها.

وانطلقت في سياحة موسيقية مستمرة ومتواصلة داخل العراق وخارجه.

عزفت الآنسة أُوهانسيان البيانو على نطاق واسع في جميع بلدان أوربا الوسطى وشرقها وبلدان الاتحاد السوفيتي السابق والبلدان الأسكندنافية وفنلندا والشرق الأوسط بوصفها الفنانة الممثلة للشعب العراقي.

- بياتريس.. السفيرة والقامة العراقية

منذ أربعينات القرن الماضي، حيث سطع نجم بياتريس على الساحة الفنية العراقية ومن ثم العالمية، فكانت الرقم الأول والأوحد في مجال فن العزف على البيانو.

بعد أن أصبحت رئيسة قسم البيانو في معهد الفنون الجميلة وعضوة بارزة في الفرقة السيمفونية الوطنية العراقية والتي قدمت معها عروضاً عديدة في مختلف أرجاء العالم كعازفة صولو على البيانو، كانت مسكونة بالموسيقى والسفر وعرفها جمهور الموسيقى الكلاسيكية في دول أوربا الشرقية والغربية والدول الأسكندنافية وبعض دول الشرق الأوسط وبلدان الاتحاد السوفيتي السابق.

قدمت معزوفاتها بانتظام في ألمانيا وفّينا منذ عام 1995 ورعاها معهد (غوته) إضافة إلى قيامها بالتدريس في جامعة مينيسوتا.

كتبت الآنسة اوهانسيان العديد من المقطوعات الموسيقية، وقد عزفت هذه المقطوعات خلال مهرجان بابل الدولي والذي كان يقام سنوياً في العراق/ بابل.

كان لها تأثير كبير وفعال في تعزيز الموسيقى الكلاسيكية الغربية في العراق، وكان تعاونها مع المراكز الثقافية الغربية كبيراً جداً. كانت وزارة الثقافة والإعلام في بغداد واتحاد الفنانين قد كرّموها بوصفها رائدة في الموسيقى وأول فنان اوركسترا في العراق، حيث اعتبرت اوهانسيان كنزاً وطنياً للعراق.

متحف (ألن هوفانس) في أرمينيا- يريفان- تعرض الآن برامجها الموسيقية ومؤلفاتها، إضافة إلى عملها كعازفة للأوركن في الكنيسة الأرمنية في لندن، والكنيسة الأرمنية في جنيف والكنيسة الأرمنية في سانت بول.

شاركت خلال الصيف، حيث عطلة نهاية السنة في دروس درجة الماجستير في أكاديمية (سالسبورغ)، وفي اسبانيا، كذلك شاركت في الموسيقى والحلقات الدراسية وأعطت دروس الماجستير في الأردن ولبنان ومصر وإيران.

وقد استدعيت للتدريس في جامعة (مينيوتا) للفترة (1969- 1972) وأعقب ذلك سنتان من التدريس والأداء والقيام بجولات موسيقية (مكالستر) كعازفة منفردة في جنيف وأنحاء سويسرا.

- النار تمتد على أصابع بياتريس

الحروب، مهما كان شكلها ولونها ومصدرها وسببها هي تحطيم كل ما هو إنساني وجميل وشفاف.

الحرب العراقية الإيرانية 1980 مهما كانت أسبابها ونتائجها فقد حطمت هذه الحرب الجمال في عيون العراقيين وألغت الحب من قاموسهم، هذا الحدث ترك آثاره على حياة بياتريس، عندما كتبت أول مقطوعة موسيقية غربية بتأثير الحرب وهواجسها، فهي كانت تكتب عملها وتعزفه على ضوء الشموع بغرض فرض التعتيم ليلاً في الأشهر الستة الأولى من الحرب العراقية الإيرانية.

أكملت بياتريس معزوفتها وتم توزيعها في الأوكسترا العراقية وعزفتها الفرقة السيمفونية الوطنية وبثها تلفزيون بغداد. وقد لاقت في وقتها نجاحاً كبيراً، هذا النجاح قادها إلى أن تكتب سبعة أعمال أُخرى بين عامي (1990- 1994) حيث الحياة بدأت تضيق بسبب "عاصفة الصحراء" حيث تعرّضت بغداد إلى هجمة شرسة من قبل دول التحالف وقد سمي في وقته (العدوان الثلاثيني) لمشاركة ثلاثة وثلاثين دولة فيه.

هذا الوضع السياسي والأمني والعسكري المعقد دفع ببياتريس أوهانسيان إلى تفكر بالخروج من العراق بعد أن كانت قد ألغت مفردة (المغادرة) من قاموسها.

كان عرضها الفني الأخير في العراق عام 1994 حيث شاركت للمرة الخامسة في مهرجان بابل الدولي.

في هذا الزمن وجدت (بياتريس اوهانسيان) تعبر أمواج الزمن المنحط لتحط في واحد من المعابد البابلية وبدلاً من العزف على البيانو كانت تعزف على (القيثارة) الذهبية العراقية القديمة أنغاماً كونت مقطوعتها "مقدمة لحمورابي" التي استلهمتها من أول واضع لشريعة قانونية في تاريخ البشرية: حمورابي.

ففي عام 1994 بدت بياتريس في الاتجاه المناقض تماماً لما أقدمت عليه عام (1959) حيث رفضت البقاء في أمريكا كي تلبي نداء (العودة إلى العراق). لكنها تجد نفسها بعد 45 عاماً تصطحب شقيقتها (سيتا) للانتقال إلى الولايات المتحدة والعيش فيها وقد تركت بغداد، وحفلاتها ومدالياتها والأوسمة والجوائز التي استحقتها عن أكثر من خمسين عاماً من الموسيقى في وطنها تركت (بياتريس) صديقها المخلص والوفي (بيانو كبير من نوع- شتاينواي).. أودعته عند أُناس تثق بهم على أمل استعادته في يوم ما.

غادرته بعد أن ضاق الوطن بأبنائه ولم يتسع صدره لإبداعهم وأحزانهم. سافرت (بياتريس) إلى أمريكا (ولاية منيسوتا)، وهناك أصبحت سفيرة مرة أُخرى، وتمكنت من خلق صداقات مع أُناس حيث فشل السياسيون في خلق صداقات معهم. وهناك خبرت أصابعها (بيانوهات) كثيرة، إلاّ أن الأشواق لم تخفت للبيانو الخاص بها والذي تركته في بغداد.

- وتوقفت أصابعها عن العزف

يوم السبت 19/ تموز/ 2008 توقف القلب الكبير عن العزف، وتجمد الدم في عروق أصابعها، أغمضت هناك عينين طالما تحسست بهما شكل الوطن، شكل العراق الذي ضيعته وضاعت هي أيضاً، ضاعت الأصابع التي تعوّدت أن تمسك بانفعالاتنا، وتصافح أوجاعنا، عندما صافحت قلباً كبيراً له شكل عشر أصابع نازفة.

في تموز 2008 فاجأها الحنين إلى العراق، وبدون موعد مسبق لأنها اختارت الرحيل إلى عالم أقرب وأسرع في تلبية النجدة من عالمنا، عالم أكثر إنسانية من عالمنا الفاني هذا، عالم لا يحتاج إلى جوائز سفر.

اختارت أرضاً تغفو على حلم براءتها..

هي قطعاً ليست أجمل من أرضها الأولى، ولكنها بالتأكيد أكثر تقبلاً لفكرة أن الأصابع البشرية التي تضغط على (دوسات) البيانو أكثر طهراً من الأصابع التي تضغط على (دوسات) الموت.

رحلت بياتريس في الغربة.. ربما كانت قد اختارت وطناً لم تقترب عنه لحظة الموسيقى، وهي تعرف بأن الموسيقى لا وطن لها، وكذلك هو الموت.

رحلت بياتريس، وقد اختار الموت وطناً غير وطنها، أو ربما هي اختارته وهي ليست أول مبدع عراقي ضرب له الموت موعداً في المنفى.

فقبلها رحلت نازك الملائكة في القاهرة، وسركون بولص في ألمانيا، والجواهري في دمشق، والأب يوسف سعيد في ستوكهولم، وعوني كرومي والبياتي وآخرون.

بعد صلاة الوداع صباح الاثنين 21/ تموز/ 2008 وفي مراسيم متواضعة في كنيسة الأرمن في مدينة سانت بول، شيعت الآنسة بياتريس اوهانسيان إلى مثواها الأخير في مقبرة (ليكود) المطلّة على بحيرة كالهون جنوب مدينة مينابوليس.

........................

المصادر:

1. عدنان الشطي/ مقالة.

2. بياتريس اوهانمسيان/ ويكيبيديا الموسوعة الحرة.

3. جواد محسن/ مقال- رغبات الأصابع.

4. جريدة الصباح في 1/آب/ 2009.

5. موقع المستقبل العراقي في 4/ 5/ 2011.

6. مجلة (انكيدو) الثقافية 13/ 6/ 2009.

7. مقداد عبد الرضا/ مقال- أصابع بياتريس.

8. علي عبد الأمير/ مقال- بيانو بياتريس.

9. أنور حامد/ مقال- بي. بي. سي.