لأعزائنا الصغار

رسامات

عيون بخديدا

Museum متحف

أرشيف الاخبار

فنانونا السريان أعلام

أرشيف الموضوعات

الخـــلق ...  الطوفـــــــان ...

الخـــلق ...  الطوفـــــــان ...

الأب اندراوس حبش

  

بغديدا 2007

Text Box:  

 

 

 

 

 لا مانع من طبعه

+ باسيليوس جرجس القس موسى

رئيس أساقفة الموصل وتوابعها للسُّريان الكاثوليك

بغديدا 23/10/2007

 

إهـــــداء

إلى امي الكنيسـة...

إكليروسـها...

وأبنائـها...

وأخوتي وأخواتي

في الدورة اللاهوتية

والى كـل مـن يبحث عـن

كلـمة الله...

 


المقدمة

بادئا ذي بدء يتضّمن هذا الكتاب مااختبره سفر التكوين من خبرته الايمانية في خلق الله للكون والانسان وعلاقته بالارض... وعلاقة الانسان باخيه والعهد الذي يقيمه الله مع نوح بعد الطوفان.

 نجد في الخلقة إجابة عن أسئلة جوهريةُ تسيطر على تفكير الانسان منذ القديم. كيف علينا ان نفهم العالم...؟ من هو الانسان..؟ لماذا طبعت علاقته مع أخوته بطابع العداوة..؟.

 لقد حاول الانسان منذ بداية البشرية الاجابة عن هذهِ الاسئلة، فاتجَه بتفكيره نحو الاسطورة؟ حيث كانت مصدر المعرفة آنذاك.

لهذا سنجد في هذه الدراسة كيف تأثر كاتب سفر التكوين بمحيطه وبيئيته التي عاش فيها. إن علم الاجتماع يؤكد على إهمية المحيط والبيئة التي يعيش فيها الانسان. إن اهم ثلاث حضارات عاصرت كتابة قصة الخلق والطوفان هي الحضارة المصرية وحضارة بلاد ما بين النهرين والحضارة الكنعانية. في الحقيقة هذا التأثير بالمحيط والثقافة والادب الاسطوري لم يشمل المضمون الجوهري، انَما شَملَ الناحية الشكلّية والصيغة الادبية فقط لهذه القصص دون ان يؤثر على المَضمون الفكري واللاهوتي

ان مَضمون قصة الخلقة والطوفان يَبقى شهادة ايمانية حيث اختَبرها الكاتب فنَقلها إلينا بهذا الشكل الذي َنراه في الكتاب المقدّس. وهذه الشهادة أصبحت نوراً مضيئاً الى يومنا هذا فيجيب عن تساؤلاتنا عن معنى الخلق والحياة المطبوعة بطابع الخير والشر والفرح والألم والحياة والموت.. مع الإشارة دائماً الى وجود الله في حياتنا كإله محب وأمين تجاهنا.

 

الاب اندراوس حبش بخديدا

 31 ايار 2007


 

الفصل الأول

تركيب سفر التكوين

 

 هو الكتاب الأوّل في العهد القديم، ومقدَّمة الكتاب المقدّس. فيه تبدأ قصة شعب الله المختار من خلال العودة إلى الإنسان الأول، انه تدبير الله ألخلاصي الذي خلق الإنسان على صورته ومثاله، ليعطيه البنوّة الإلهيّة.

ان الابتداء بقصة خلق الإنسان يربط شعب الله المختار بالإنسانية. كل إنسان، هو جزء من شعب الله المختار، لأنه مخلوق على صورة الله ومثاله.

¯     قصَّة خلق الإنسان وعَلاقة الإنسان بالله (1:1-26:11):

 يتكلّم القسم الأول من سفر التكوين عن قصّة الإنسان من الخلق ولغاية دعوة ابراهيم، التي تمت حوالي سنة 1500 ق.م. نحن نعلم اليوم ان عمر الكون يقارب الأربع مليارات سنة، والأنسان قد وجد على الأرض منذ 3,5 مليون سنة. كاتب سفر التكوين لم يكن يعرف هذه الأشياء كلها، ولم يكن مهتمًا بالتاريخ كعلم موضوعي كما نفهمه نحن اليوم، لكنه اراد كتابة تاريخ الإنسان مع الله، ومن وجهة نظر دينية لاهوتية أولاً (ما هو الإنسان من أين؟ هل أتى؟ هل العالم والعناصر الطبيعية هي آلهة أو مخلوقات؟ ما هو أصل الخطيئة وما هو مصدر الشر؟ ...). ومن ناحية أخرى كان يريد أن يُخبر شعب الله المختار عن كيفية تأسيس هذا الشعب، وما هو الفرق بينه وبين الشعوب الأخرى، وما هي واجباته تجاه الله وتجاه الشعوب الأخرى. اذاً، هو ليس تاريخًا علميًا، بل هو تاريخ إسرائيل الروحي واللاهوتي.

يبدأ سفر التكوين بقصّة خلق العالم والإنسان (1:1 – 4:2)، ثم تليها أقسام قصصية أو ملحمية (ليست بالضرورة تاريخية، "هي صحيحة ولكنَّها غير مطابقة للواقع ") تشرح حالة الإنسان الخاطئ، وطبيعة عَلاقته بالله. وهذه الأقسام كلّها تبدأ بنفس الكلمة العبرانية والتي تعني حرفياً: هذه هي مواليد/ هذا هو نسب (راجع متى 1:1 هذا نسب يسوع المسيح).

1.  آدم وحواء في الفردوس: هذه القصة تبدأ: "هكذا كانت مواليد السماوات والأرض" (تك: 4:2). وتتضّمن خطيئة آدم وحواء، وجريمة أبنهما البكر قايين قاتل أخيه.

2.  سلالة آدم: هذه القصة تبدأ: "هذه مواليد آدم يوم خلق الله الإنسان" (تك 1:5). وتتضّمن آباء ما قبل الطوفان، خطيئة البشرية العامة وقرار الله بتدمير العالم.

3.      نوح والطوفان: هذه القصة تبدأ بـ"هذه هي مواليد (قصة) نوح" (9:6).

4.  سلالة أبناء نوح وانتشار البشر على الأرض كلها وتعدد الألسنة: هذه القصة تبدأ: "وهؤلاء مواليد بني نوح، سام وحام ويافث" (1:10).

5.     مواليد سام لغاية تارح والد إبراهيم: هذه القصة تبدأ بـ: "هؤلاء مواليد سام" (10:11).

هذه كانت في الأصل مجموعة من الروايات المُستقلّة التي توارثها اليهود شفهياً، وأحياناً تأثروا بروايات شعوب أخرى مجاورة. في وقت من الأوقات جمعها كاتب من كُتّاب العهد القديم، ونَّسقها في رواية موَّحدة، ليضع فيها تعليمه للشعب، وهكذا بدل أن تبقى هذه الروايات قصصاً شعبية وثنية، أصبحت نصوصاً تحمل في داخلها التعليم حول حقيقة الله.

 

¯     ماذا أراد هذا الكاتب أن يقول للشعب من خلال هذه الروايات؟

1.  في القرن العاشر قبل الميلاد، أصبح شعب الله أمَّة كبيرة. مملكة تدخل في صراع مع الممالك الأخرى ومع الشعوب المجاورة. وكان عليهم ان يتواجهوا مع معتقدات الشعوب الأخرى وألهتها، وهنا كان الخطر في أن يقع الشعب مجدداً في عبادة الأصنام. هكذا كان من الضروري أن يُشرح سفر التكوين على الشعب ليحافظ على إيمانه بالله "يهوه"، وكيف ان إيمانه هو الإيمان الحقيقي لأنه أخذه من الله مباشرة من خلال العهود التي أقامها الله مع الإنسان من خلال أشخاص محددين: الوعد لآدم، الوعد لقايين، الوعد لنوح، والعهد مع ابراهيم... نحن لا نفهم اليوم هذا الخطر، لأننا لا نقتنع بان عبادة الأصنام يمكن ان تكون منطقية، وهذا بسبب الكتاب المقدس عندنا، والتعليم الديني، وتقدم العلم، فلا يمكن أن نؤمن ان العاصفة أو البركان يمكن أن يكونا آلهة لأننا نعلم السبب العلمي لهذه القوى الطبيعية. هذا التفكير لم يكن ممكناً منذ أربعة آلاف سنة، فالعلم لم يكن قد تطوّر، والإنسان كان يبحث دوماً عن مصدر حماية له، حتى ولو كانت آلهة غريبة. لهذا جمع الكاتب هذه الروايات، ووضع فيها التعليم الصحيح: يهوه، الإله الأوحد والحقيقي، قد دخل في علاقة شخصّية مع الإنسان، دخل في عهد معه، وجعله شعباً مختاراً، ليعلن هذه الحقيقة للشعوب الأخرى.

2.  وفاء الله الدائم لعهده، رغم خيانة الإنسان له: الخيانة الجماعية من خلال خيانة الشعب كله (آدم وحواء / البشرية كلها (تك3)، البشرية كلها التي صنعت الشر قبل الطوفان (تك 6-9)، كبرياء بابل (تك11). من خلا الخطيئة الشخصية: قايين يقتل هابيل (تك4)... هذه القصص كُلُّها تعكس حقيقة عاشها شعب الله عندما كان في مرحلة البداوة في الصحراء وحين صار مملكة أيضاً.

أ. في مرحلة البداوة: عبادة اسرائيل لعِجِل الذَهب (خر 32).

ب. في مرحلة دخول أرض الميعاد: مخالفة الشعب لوصايا الله (قض 1:2 - 3): وصعد ملاك الرب من الجلجال الى بوكيم وقال لبني اسرائيل أخرجتكم من مصر وأدخلتكم الأرض التي أقسمت عليها لأبائكم وقلت أني لا أنقض عهدي معكم الى الأبد شرط ان لا تعاهدوا أهل الأرض وأن تهدموا مذابحكم، فما سمعتم لقولي. فماذا فعلتم لذلك قلت أيضاً اني لا أطردهم من أمامكم، بل يكونون شوكة في خواصركم وتكون ألهتهم لكم فخاً".

ج. في مرحلة المملكة: خطيئة داود (2 صم 11) وخطايا سليمان (1ملوك 11).

سفر التكوين كتب في عهد الَملكية، وبالتالي فان هدفه كان تصحيحًا على ضوء الماضي، ودعوة لاسرائيل الى التوبة والوفاء عن طريق تذكيره بقصته مع الله منذ البدء .

هذه الروايات كلها نجدها مُصمّمة من أربع نقاط :

1.     الله يدخل في علاقة حُب مع شعبه، ويُحذّر من الخيانة. 

2.     الإنسان يخون الله.

3.     الله يعاقب شعبه.

4.     الأنسان/ الشعب يخطأ والله يرحمه ويعطيه مع العقاب (أو بعده) وعداً بالخلاص.

انما هذه الراويات مرتبطة كلها ببعضها من خلال الإنسان الذي يخطأ ويخون عهد الله مجدداً:

خلق الله الأنسان ـ آدم وحواء. خالفا الوصية ـ الله عاقب الخطأة ـ الله اعطى وعداً بالخلاص من خلال نسل آدم وحواء (علق الله اهمية على أبناء آدم وحواء) ـ نسل آدم يخون رغبة الله حين يقتل أخاه ـ الله يعاقبه ـ قايين يخاف ـ الله يعده بالخلاص ـ البشرية، أبناء قايين، تكثر خطاياهم (قصة العمالقة) ـ الله يعاقب فيرسل الطوفان ـ الإنسان يخاف الله ـ الله يعطي الوعد من خلال ابقاء نوح وعلاقة قوس الغمام ـ الإنسان يتكبر ويريد الارتفاع أكثر من الله ـ الله يعاقب أهل بابل أنما يعطي الوعد مجدداً من خلال ابراهيم.

هذه السلسلة كلها كانت متوجهّة لشعب الله حين أصبح أمة كبيرة، ليُذّكره عند أقترافه الخطايا وخيانتةِ الرب، من خلال عبادتهِ لالهة اخرى، بعَلاقته مع اله الموعد.

روايات القسم الأول من سفر التكوين تخبر عن قصة الإنسان اليائسة قبل تَدُّخل الله في تاريخ الشعب من خلاله العهد مع ابراهيم. الفصول الإحدى عشر الاولى من سفر التكوين، والتي تُخبر عن قصة الله مع الانسانية تُحضِّر لقصّة الله مع اسرائيل ومن خلاله مع الأنسانية كلها.

نتائج الخطيئة: (تك 1-11) هي روايات مليئة بخطيئة الإنسانية والتي أدّت إلى أبادتها تقريباً من خلال الطوفان.

w   أدت أيضاً الى تشتت الإنسان على وجه الأرض، ومن هنا كانت الحروب والصراعات بين القبائل والشعوب. الحرب هي اذًا نتيجة الخطيئة .

w   ادت الى الصراع بين الرجل وامرأته، فالرجل ألقى اللوم على المرأة، وهذه ليست علامة حب. والصراع بين الرجل والمرأة ليس كل شيء، بل قد أبتعدا عن الله أيضاً.

w       أدّت الى الحرب بين الإخوة المُتمِّثلة بجريمة قايين. وهذه الجريمة كانت بداية حروب همجية بين أبناء قايين.

w   أدّت الى السعي فقط الى اللذة، وليس الى الحب الطبيعي، وهذا ما ترمز اليه خطيئة النساء اللواتي تزاوجن مع " أبناء الآلهة "، ونتيجة هذا كانت العودة الى الخواء والخلاء الأصليين، أي تقريباً العودة الى ما قبل خلق العالم. العالم اذا لم يعد حسناً كما رأه الله في الأصل. (تك6: 2ـ4)

w   نرى أن الخطيئة لم تَتغلَّب على الله، فالله رغم كل هذا استجاب لصرخة الإنسان النادم، وابقى نوحاً. نوح أصبح مثل آدم جديد، أباً لخليقة جديدة، أوكلت إليه اعادة الإنسان الى علاقته الحسنة بالله.

w   أنّما نوح أخطأ أيضاً بالإسراف في شرب الخمر، وابنه حام، أب القبائل، اهانه لذلك لعنه نوح وجعله عبداً لسام.حام هو أب كنعان واشور ومصر والتي كانت في حروب دائمة مع اسرائيل. أن الحرب التي دامت حتى زوال اسرائيل كان سببها الخطيئة. سفر التكوين يريد أن يقول ان الحرب كانت بين الاخوة، ان الشعوب المتحاربة كانت كلها من سلالة نوح، انّما الخطيئة أفسدت من جديد العَلاقة الأخوية، وحوَّلت التعاون بين الشعوب والتعايش المسالم الى حالة حربٍ مُستمرة.

w   الكبرياء كان خطيئة الإنسان الأوّل، آدم وحواء، إنّما الإنسان لم يتعلّم بل أرَادَ ان يُصبح ليس فقط مُساوياً لله، كما أرادت حواء، إنّما أعلى من الله، من خلال بناء برج بابل العالي "لنبن مدينة يخترق برجها السماء"( تك 4،11). لذلك بلبلَ الله السنتهم، أي لم يعودوا مُتحدين، بل مُنقسمين، ويتكلّمون لغاتٍ مختلفة ولكلٍّ منهم منطقه. هي أيضاً خطيئة الإنسان.   


 

الفصل الثاني

قصتا الخلق

عندما نفتح الكتاب المقدّس في بدايته، نقرأ نصين (قصتين) عن خلقة العالم وخلقة الإنسان:

تك:1:1 ـ 24.

تك: 4:2 ـ 25.

لقد اكتشف علم التفسير في سفر التكوين مصادر (اليهوهي، والكهنوتي) ولكن المؤلف الأخير قصد في التوراة كتاباً واحداً.  

بعد أن تأمّل الكاتب في تاريخ شعبه وفي تاريخ الشعوب التي تُحيط بفلسطين، عاد إلى الأصل الذي هو الله، عاد إلى سيّد الكون الذي هو الإنسان شريك الله على الأرض. وهكذا قدّم لنا لوحتين عن خلق الإنسان. في الأولى(تك1: 1ـ 24) قدّمَ لنا الرَّب الذي خلق الإنسان على صورته ومثاله. خلقه رجلاً وامرأة يُعطيان معًا أجمل صورة عن الله. وفي اللوحة الثاني نتعرّف إلى عناية الله الفائقة حين خلق الرجل من تراب الأرض، وحين خلق المرأة من قلب الرجل. وهذا كله فعله الله لأنه محبّة، ويريد أن يشترك الإنسان في هذه المحبة، يريد أن يعلّمه الحبّ الذي هو تضحية وعطاء.

من الناحية التاريخية· هذين النصين ليسا أول ما كُتب في الكتاب المقدس. إذا هناك نصوص سبقتها. إن أوّل ما عاشه الشعب العبراني كان خبرة الأحداث الواقعية خبرة الخروج من مصر، خبرة الاستقرار في ارض كنعان، خبرة العالم المحيط به، خبرة دعوة الله للإنسان. هذه كلها كانت خبرة الخلق بالنسبة له.

المصدران

 إن قصة الخلقة مؤلفة من دمج مصدرين مختلفين تناولا نفس الموضوع انما من زاوية مختلفة وبأسلوب مختلف. وقد جُمِعَ المصدران عندما نُشر سفر التكوين بشكله الحاضر، وذلك في القرن الخامس قبل الميلاد، اذ قام الكاتب بدمجها بكثير من البراعة. ولكن سمات كل منهما بقيت ظاهرة بنسبة كبيرة من الدقة، يبين ما ينتمي، في النص الموحد الحالي، الى كل من المصدرين الذين تكونا منهما.

المصدر اليهوهي

يسمى هذا المصدر هكذا لأنه يتميز بتسمية الله "يهوه" (المنقولة في الترجمة العربية إلى عبارة "الرب" استناداً إلى الترجمة اليونانية السبعينية للتوراة)، في حين أن المصدر الثاني يرجئ هذه التسمية إلى عهد موسى ويُطلق قبل ذلك على الله تسمية "إلوهيم" التي تنقل إلى الله في الترجمة العربية. هذا المصدر يمتد، في الفصول الأربعة الأولى، من 4:2 ب الى 4: 26. ويتميّز بأسلوبه الحسي الحي وبإبرازه للوجه المأساوي في قصة الإنسان. وقد كُِتبَ على الأرجح في القرن العاشر قبل الميلاد، في عهد سليمان الملك (الذي مَلكَ بين حوالي 970 و931 ق.م). هذا المصدر يجعل من الأرض مَصدرًا للخليقة، فتَصوَّرها لأوّل وهلة صحراء، ثم تروي كيف أن الله أجرى فيها أنهاراً أخصبت منها منطقة جعلها الله مسكناً للإنسان.

المصدر الكهنوتي

إن المصدر الكهنوتي يَمتُّد في الفصول الأربعة من 1:1 إلى 4:2 أ. وقد كتبه أحد كهنة أورشليم أثناء النفي إلى بابل (587 و 538 ق.م) أي في القرن السادس ق.م.

إن اسلوب النص هذا يتميّز باستعمال الأفكار بَدلَ الصّور والأمور الطقسية ـ تبرير تقديس السبت، وتحديد موعد الأعياد. أما في تَصوَّره لنشوء الكون، فأنه يجعل من المياه مَصدَر ُكلَّ شيء. فهي تُغطي الكون أوّلاً ثم يَفصِل بين المياه العُلوية والمياه السُفلية بواسطة الجَلَد ثم يجمع المياه التي تحت الجلد في مجمع واحد فتظهر اليابسة. الأرض، في المصدر الأول، واحة في الصحراء، أما في المصدر الثاني فهي جزيرة في البحر.

 

القّصَّة الأولى تك 1: 1-2: 4 أ                

في القصة الأولى نجد الخلق يتم في سِتة أيام، ونجدها منسقة على مرحلتين:

§     اليوم الأول: خلق النور.

 

§  اليوم الثاني: خلق السموات وفصل المياه.

§  اليوم الثالث: خلق الأرض والنباتات.

 

§  اليوم الرابع: خلق النيرات (الشمس، القمر، النجوم..)

§  اليوم الخامس: خلق السماء والبحر.

§  اليوم السادس: خلق الحياة على الأرض، النبات والإنسان.

قال الله ليكن النور: إن خصوصية الجملة الأولى غير مفصولة عن عمل الله في الأيام السبعة. بل هي بمثابة عنوان ستتكرر. الأرض خاوية... اليوم الثالث الله يخلق الأرض، هناك تناقض ظاهري وهذا التناقض يبين أن غاية الكاتب هي تأكيد على وحدة عمل الخالق. والتميز اسلوب ادبى.

إن الظلمة تعني الموت والمصائب بعكس النّور والحياة. أما المياه عنصر خطر يحيط بالمسكونة ويُهدِدُها كما فعل الطوفان. هذا ما سوف نُبينه في الفصل الثاني من هذه الدراسة.

اذاً الخلق، هو عكس الفوض، انتصار على الفوضى. هو فصل حتى خلقة الإنسان هي فصل حواء عن ادم. واليوم السابع هو علامة للخلق، وشاهد على ان كل شيء كان حسن وعلى الإنسان ان يعطي عنها جواباً.

إذاً نلاحظ ان الله يخلق الكون المادي في الأيام الثلاثة الأولى، وفَصَلَ الأشياء عن بعضها ورَتَّبها، وفي الثلاثة الأخيرة، اسكَنَ كل مخلوق مكانه المُعَّد له.

إن مركز الأسبوع هو اليوم الرابع، يوم خلق النيرين العظيمين (الشمس والقمر). نتسأل لماذا يجعل الكاتب ظهور النبات (يوم الثالث) قبل ظهور الشمس، بحيث لا يمكن للنبات ان يظهر دون الشمس؟!

بالتأكيد كان هذا رد ونقد للعبادة المنتشرة آنذاك بين أبناء زمانه. فالشمس والقمر ليسا أصل النور بل خادمين للنّور الأوّل فهما جزء من الكون.

ان وصف خلق الكون ليس وصفاً علمياً ولا يمكن
وصفه تقريراً تاريخياً، لأن الكتاب المقدس ليس كتاب علوم أو رواية موضوعية دقيقة عن أحداث الماضي بل شهادة وخبرة كاتب مؤمن بـ:

w       ان الله هو خالق ومُحرَّر من الفوضى والعبودية. "توه، وبوه" (تك1:1).

w       ان الله يَعمل شيء جديد وجميل وهذا معنى كلمة (برا) (خلق).

w       الإنسان جزء من الخلقة يتقبلُّها ويحتاج إليها. ومسؤول عنها ومدعو ان يُجدِّد الخلقة لكنه ليس خالقاً.

w       الإنسان رجل وامراة وهذا الاختلاف يَحتاج إلى شاهد ومُشاهد يعطي جواباً.

w       المادة ليست شريرة، كل ما خلقه الله قد رآه حسناً.

w       استمرارّية الخلق، فالله لم يَخلق كل شيء بلحظة واحدة، وبهذا يريد الكاتب أن يقول ان الخلق مع الله مُستمر دائماً.

الكاتب والحضارات الأخرى

لقد تأثَّر الكاتب بالفكر المُعاصر له اّّّّنذاك وبالحضارات المحيطة به. الإنسان القديم لم يكن يعرف ما نعرفه نحن اليوم حول تكوين الكون، بل كان يظن ان الكون هو على شكل قرص مسطح، مؤسس على أعمدة، تحت الأرض هناك المياه السفلية مرتبطة بالبحار، وفوق الأرض المياه العلوية، وأماكن للثلج والمطر.

في الخلق صنع الله الرقيع أو الجَلَد، وهو كناية عن حاجز(معدني ربما، من هنا كلمة رقيع) يفصل بين الأرض والمياه العلوية، وفي هذا الرقيع توجد بوابات الغمر العظيم، منها دخلت مياه الطوفان. تحت الرقيع نجد الشمس والقمر والكواكب، تدور بشكل دائري مستمر. تحت الأرض والبحار نجد (الشيول) أو مثوى الأموات، مَكان مُظلم يبقى فيه الراقدون بعد الموت بانتظار القيامة، ويمكن الدخول إليه فقط من القبر.

نستطيع أن نقول أنها نظرة إلى الخلق مأخوذة من الشعوب المجاورة، إنما لها خصوصيتها الموحاة:

في أسطورة الخلق البابلية، المسماة أسطورة ( انوما اليش)  (سنة 1700 ق.م)، نجد إن الكون قد وِلدَ من زواج الهِ المياه الحُلوة (أبسو) والهَةِ المياه المالحة (تيامات). حين تزوجا، من خلال اتحاد المياه كلها، وِلدَت سائر الآلهة.  إنّما هذه الآلهة بدأت تتصارع، فقرر أبسو وتيامات قتلها، فتمرَّدت وقتل الإله أيا أبسو. أصبحت وحدها، وتيامات رمز المياه المُظلِمة الهائجة غير المُنظمة. تحالف سائر الآلهة لقتل أمَّهم، وعينَّو واحداً منهم، مردوخ، الهاً أعلى عليهم ليقتل أمه. قتلها مردوخ وقسَّم جسمها إلى اثنين: بنصفها خلق الأرض وبنصفها الاَخر السماوات.

بعد هذا قرر مردوخ خلق الإنسان ليخدم الآلهة فتبقى مرتاحة، فطلب من (ايا) رمز الحكمة ان يُصمَّم الإنسان من دم واحد من الآلهة المهزومة، وبعد هذا نظم مردوخ عمل الآلهة وجعل نظاماً في الكون.

نجد نقاط شبه كثيرة بين قصة الخلق هذه وقصة التكوين الأولى:

 تكـــوين

الأرض خواء خلاء، والغمر على وجه الأرض

-         في اليوم الأول: خُلق النور.

-         في اليوم الثاني: خُلق الرقيع.

-         في اليوم الثالث: خُلقت الأرض اليابسة.

-         في اليوم الرابع: خُلقت النيرات في السماء.

-         في اليوم السادس: خُلِقَ الإنسان.

-         في اليوم السابع: استراح يهوه وقدَّس السَبت.


 

إنوما إليش

الأرض في خواء غير مُنظَّم، والغمر(تيامات) على الأرض 

-         خلق النور

-         خلق الرقيع

-         خلق الأرض اليابسة

-         خلق النيرات في السماء

-         خلق الإنسان

-         استراحة الإلهة وأقامت الوليمة.

الخبرة الإيمانية للكاتب في قصة التكوين الأولى:

التكوين يشدد على وجود إله واحد، لا تعدد للآلهة.

الله يخلق الكون المُنَّظم لأنه يُحب الإنسان، وليس لأنه يريد أن يرتاح.

الكون الذي خلقه الله هو حَسن، بجوهره خيّر، وليس مبني على صراع الآلهة.

الله خلَق بكلمته، وبالتالي يشدد الكاتب على ان كلمة الله، التوراة، هي استمرارية لعمل الخلق في الإنسان.

الإنسان هو قمّة الخلق، وليس مجرد كائن بين سائر الكائنات، وجِدَ فقط لأن الآلهة لا تريد أن تتعب.

على الإنسان مسؤولية كبيرة على المخلوقات، فهو مُسلَّط عليها ليشارك الله في تدبيرها.

الإنسان يشارك الله في الخلق من خلال الزواج، ومن هنا قدّاسة الزواج.

 

قصّة الخلق الثانية تك 2: 4-25.

تبدأ الرواية الأولى بخلق الكون والطبيعة كلَّها وتنتهي بخلق الإنسان كتتويج لعملية الخلق كلَّها؛ بينما تبدأ الرواية الثانية بخلق الإنسان أوّلاً، وتُخلق الطبيعة كلٌّها لتكون مكاناً يعيش الإنسان فيه ويتسلَّط عليه.

ولم يجد الله خلق الإنسان كافيًا، فغرس الجنة وأسكن فيها آدم (2: 8). نرى إن كل ما خُلق كان من اجل الإنسان. الجنة، والمخلوقات المادية والحيوانات لم تكن كلُّها كافية لآدم، فخَلق الله إمرأة من لَحمِه، لئلا يبقى أدم وحيدًا.

"لا شجر البرية كانَ بعدُ في الأرض، ولا عُشب البرية نبتَ بعد، فلا كان الربُّ الإله أمطرَ على الأرض، ولا كانَ إنسانُ يفلحُ الأرض" (5:2).

 في هذه الآية تشديد على دور الإنسان في المساهمة في استمرارية الخلق. الأرض كانت صحراء، دون نبات لسببين. أولاً لأن الله لم يكن قد أنزلَ المطر، وثانيًا لأنَّ الإنسان لم يكن بعد موجوداً. "لا شجر الأرض كان موجوداً هو فعل يستعمل للتعبير عن الخروج من حالة العدم إلى حالة الوجود، وهو وجود مرتبط بعملِ الله يَُخرج الشيء من العدم إلى الوجود "ولا النبات كان أنبت" وهو فعل يدل على الصيرورة ينبت ويكبر وينمو، كلها تتم تدريجياً، وهي مرتبطة بوجود الإنسان. وجود الإنسان إذا على الأرض لا يشبه وجود الكائنات الأخرى، بل دوره هو المساهمة في إنماء الخليقة: الله خلق الإنسان ليٌحسّن الطبيعة لا ليُدمرها.

"بل كان يَصعُد منها ماء يسقي وجه التربة كله" (6:2)

تظهر هذه الآية صحة ما قلنا: عدم وجود النبات سببه ليس عدم وجود الماء، فالمياه تخرج من الأرض، إنما السبب هو عدم وجود الإنسان ليزرعها ويهتم بها. يريد الكاتب أن يقول، ان العالم دون الإنسان يبقى خالياً غير مكتمل، يبقى في حالة الجفاف والتصحُّر. فهو يدعو الإنسان الى المشاركة في عمل أكمال الخلق والمُحافظة عليه. وغاية الله من خلق كل شيء هي أن لا يبقى الإنسان وحيداً.

"وجبل الرب الإله آدم تراباً من الأرض ونفخ في أنفه َنَسَمة حياة. فصار آدم نفساً حية" (7:2)

هذه الآية هي محورية لكي نفهم حقيقة معنى هذا النص، ونص الخطيئة الأولى ومن بعدها كل أحداث الكتاب المقدس. جَبَلَ هو فعل يُستعمل للِحرَفيّ العامل في صناعة الفَخَّار (راجع ارميا 2:18). وهو فعل يدل على إعطاء الخَلق لما هو مادي. صورّ الله الحيوانات (19:2) واللويتان ـ الوحش المائي (مز 26:204) والأرض اليابسة (مز 5:95) والجبال (عاموص 13:4). بهذه العبارة نرى إن الإنسان على مثال سائر المخلوقات، قد خُلق من التراب وصُّوره الله كما صَوّر كل المخلوقات. على النطاق المادي لا فرق بينه وبين المخلوقات الأخرى.

"ونفخ في أنفه نسمة حياة" هذا التفصيل هو بغاية الأهمية. فهذا هو الأمر الذي يُميّز الإنسان عن سائر المخلوقات. إن كان يشترك مع الحيوانات والطبيعة بنفس المادة التي صُنع منها، فهو يشترك مع الله بالنَفَس الذي أخذه منه، هو وحده دون سائر المخلوقات.

كاتب العهد القديم رأى أن مصدر الإنسان المادي هو التراب (تماماً مثل ملحمة جلجامش حيث نجد أرورو الإله يخلق اكيدو من التراب، والإله المصري خنوم يصنع الإنسان من الوحل، وبروميتيوس الإله اليوناني يصنع الإنسان من التراب والماء). لا غرو إن كل الحضارات قد رأت نهاية الإنسان، ورأت أيضاً أنَّه يتحّول إلى تراب بعد الموت، لذلك كانت الفكرة عند كل الحضارات إن الإنسان مَخلوقُ تُرابي.

لكنَّ الكتاب المقدّس لا يَنهي الوجودَ الإنساني عندَ حدود التراب والمادة. فالإنسان، بعكس المخلوقات كلَّها، قد نال النَفَس من الله نفسه. النَفخْ في الأنف هو إعطاء الحياة والاشتراك في الحياة الإلهية. الإنسان إذا هو أعلى من كل الكائنات الأخرى لأنه وحده نال نفساً من الله. إنه كائن وسيط بين الأُلوهة والإنسانية، ماديُ في جسده والهيُ في النفس الذي ناله من الله.

من المُلفت للانتباه إنَّ بعضَ عناصَر هذه القصة موجود في روايات الشعوب الأخرى. التقاليد السومرية تقول إن الفردوس موجود في جزيرة "ديلمون" على رأس الخليج العربي وفيه الكثير من المياه الحُلوة التي تَخرج من الأرض. كما إن الشعوب القبلية، البدو الذين يعتمدون على رعاية الماشية، أو حتى القبائل التي تعتمد على الزراعة، تحتاج إلى المياه كعُنصر أساسي، بدونه تَموت القُطعان وتَيبس الحقول، وبالتالي تصبح القبيلة كلُّها معرضة للموت. من الطبيعي إذًا أن تصف هذه القبائل الجنة كمكان لا تجف فيه المياه.

أما بالنسبة لآدم، فهذه القصة تقول أن الله قد جبله من طين الأرض. في ديانات ما بين النهرين كان أسم الإنسان الأول "أدابا" أي الخارج من الأرض. دعته الآلهة إلى السماء، وسأله الإله "أنو" أن يأكل من طعام الحياة المُخصّص للآلهة، فرفض "أدابا" لأن الإله "آيا" حذره من خداع الالهة.

طبعاً في هذه القصة الوضع يختلف، فالإنسان أطاع الإله، بينما في التكوين فآدم عصي إرادة الخالق. وأيضاً في هذه الرواية نرى أدابا يرفض خبز الحياة الذي يجعله إلهاً، بينما في التكوين نجد آدم وحواء يسعيان إلى الطعام.

في الأساطير كانت الفكرة أن الإلهة قد تحتال على الإنسان، وبالتالي فان الإنسان لم يأكل الطعام الإلهي لأنه كان خائفاً من العقاب، بينما تقول رواية الكتاب المقدس أن الله قد حَضَّر كل شيء لسعادة الإنسان ولحمايته "لكي لا يموت"، ولكن الإنسان بكبريائه أراد أن يعصي وصية الله وأن يصبح مثله. علاقته مع الله قبل الخطيئة لم تكن مبنية على الخوف، بل على الصداقة والبُنوّة، فالله كان يتمشى معهما في الفردوس يقول سفر التكوين. (تك3: 8)

"وَغَرَس الرُّب الإله جنةً في عدن شرقًا، وأسكنَ هناك آدم الذي جَبَله. وأنبتَ الرّبُّ الإله من الأرضِ كلَّ شجرةٍ حَسنة المنَظر، طيبةِ المأكل، وكانت شجرةَ الحياة وشجرة معرفة الخير والشر في وسطَ الجنّة" (تك8:2 - 9).

إن الجَنّة قد خُلقت لتكون مُلكاً للإنسان، مَكاناً يعيش فيه، يحمي الإنسان، وهو يحافظ عليه. الحديقة بالنسبة للشعوب القديمة هي المكان الأجمل حيث يمكن للإنسان أن يعيش، والصحراء هي مكان خطر الموت .

الشجرة في الكتاب المقدس هي رمز الحكمة (أمثال 18:3)، وثَمرةُ القداسة ( أمثال 30:11) ورَمز الرغبة المُتممة (أمثال 12:13). الشجرة هي رمز إعطاء كمال الحياة وملئها لمن يأكل منها. لأن الشجرة تَبقى خضراء، أصبحت رمزاً للحياة الإلهية (مز 3:1 أر 8:17).

"وكانَت شجرة الحياة وشجرة معرفة الخير والشر في وسط الجنة" (تك2: 9).

إن شجرة الحياة هي رَمز للحياة الأبدية، كان الإنسان غير معرض للموت، أو على الأقل فانَّ معنى الموت لم يكن مثل موت ما بعد الخطيئة. فبسبب شجرة الحياة كان الموت مُجرد انتقالٍ دونَ خوف أو ألم.

"أَمَّا معرفة الخيرِ والشر فهي ميزُة الله وحده "تعال نأكل فنصبح مثله، عارفين الخير والشر" (تك3: 6).

 لم يكن الشرَّ قد دخل العالم قبل الخطيئة، فكيف يعرف الإنسان الشر أن لم يكن موجوداً. الأكل من شجرة الخير والشر، عصيان الله واقتراف الشر سببه الرغبة في الانفصال عن الله كمَصدر وجود الإنسان لأنه رغب أن يصبح مثل الله. لذلك حذَّر الله آدم."موتاً تموت"، ليس لأن الله يُريد قَتله، بل لأنَّ الأكل من هذه الشجرة يَعني تَرك الله والانفصال عنه، والله هو مصدر وجود الإنسان، وحين يترك الإنسان مَصَدر وجودهِ من الطبيعي أن يموت.

كان باستطاعة الإنسان أن يأكل من شجرة الحياة، أي أن ينال الحياة الدائمة. الخلود لا يعني الالوهة الشخصية، فالإنسان لا يصبح خالداً بقواه الشخصية، بل من خلال الله الذي أعطاه الشجرة.لكن الأكل من شجرة المعرفة يعني أكتساب هذه المعرفة بالقوة الذاتية لا من خلال الله، وهنا تكمن الخطيئة.

"وقالَ الربُّ الإله لا يَحسُن أن يكونَ آدم وحده، فأصَنعُ له مثيلاً يُعينه. فجَبَلَ الربُّ الإله من الأرض جميعَ حيوانات البرية وجميع طير السماء" (تك18:2 – 19).

لقد صنعَ الله كلَّ شيء ليكونَ في خدمة الإنسان، فالإنسان لا يمكن أن يحيا وحيداً، لذلك جَبَل الله له كلَّ كائنٍ حي. جبل الله له مثيلاً يُعينه. أنَّما هذا المَثيل من الناحية المادية لا يمكن أن يُلبّي رغبةَ وتطلعُات الإنسان التي ليست فقط مادية طبيعية أو حيوانية، لذلك لا يمكن للمادة (مال، أملاك، طبيعية...) أن تملأ قلبه ورغبته، ولا يمكن للناحية الحيوانية (رغبات عاطفية وجنسية، أو مشاعر عنف وقتال، أو طعام ولذة ..) أن تسد رغبته العميقة، لذلك لم تَكفِهِ المخلوقات.

"وجاءَ بها إلى آدم ليرَ ماذا يسميها، فيحمل كلّ منها الاسم الذي يسميها به، فسمّى آدم جميع البهائم وطيور السماء وجميع حيوانات البرية بأسماء، ولكنه لم يجد بينها مثيلاًَ له يُعينه" (95:2 – 20).

هذه المخلوقات كلُّها حسنة، إنّما لا يمكن أن تُلبّي حاجته بأن يكون كائناً له شريك، ويكون في شراكة حياة مع مثيل له؛ لذلك سَلَّطهُ الله على المخلوقات. فإعطاء الاسم يقوم به الوالد أو المسؤول عن الطفل أو الشيء والله جلب كلَّ هذه المخلوقات إلى آدم ليعطيها أسماً، أي جعله وكيلاً عليها ليحميها. لكنه لم يجد بينها مثيلاً له. الإنسان يتحمل مسؤولية الطبيعة التي أوكله الله بها  "وأخذ الرب الإله آدم وأسكنه في جنة عدن ليفلحها ويحرسها"(تك15:2) أي ليُحسنّها ويُحافظ عليها. سوف نجد لاحقاً أن الإنسان ما بعد خطيئته يُدّمر طبيعة الله الجميلة من خلال تدمير ذاته والطبيعة.

 

"لا يَحسُن أن يكونَ آدم وحده، فأصنع له مثيلاً يعينه" (تك2: 18).

 

حَرفياً يقول الله: "ليس حسناً" وهو يُعيدنا إلى قصّة التكوين الأولى حيث نَجد سبع مرات إن الله يَجد "حسناً" ما خلقه. بقاء آدم وحيداً ليس حسن، أي أنّه يُخالف طبيعة خلق الله للإنسان. "مثيلاً يعينه"، حَرفياً يستعمل الكاتب كلمة "قبالته، مقابلة"، رغم وجود كلمة أخرى تعني: "مثله"، صورة طبق الأصل عنه. يستعمل الكاتب هذه العبارة ليقول أن المرأة ليست آدم آخر، بل هي مثله ومقابلة له، هما ليسا كائنين مُتطابقين بل متُكاملين، يَكتمل الواحد بالآخر.

فعل" يُعينه" لا يعني فقط العمل الجسدي فالرجل من هذه الناحية أقوى من المرأة، إنما الفعل يُستعمل عادةً للمعونة الإلهية. هكذا نفهم إنها مساعدة لإتمام ما لا يمكن للإنسان (للرجل في هذه الحالة) أن يقوم به وحيداً، أي المشاركة في الخلق والعيش في شركة حياة. يحيا الإنسان في شركة حياة مع من هي من لحمه، ويشارك في الخلق على صورة الله الخالق.

"فأوقع الرب الإله آدم في نوم عميق" (تك21:2).

الكلمة التي يَستعملها الكاتب هنا لا تعني النوم الطبيعي، بل  النوم الثقيل الذي يُلقيه الله على شخص ما في العهد القديم (وفي العهد الجديد أيضاً في حالة الترائي في الحلم ليوسف خطيب مريم متى1: 20). عندما يُريد التحضير لرؤيا إلهية: تك 12:15 "مالت الشمس إلى المغيب وقع أبرام في نوم عميق، فاستولى عليه رعب ظلام شديد فقال له الرب أعلم جيداً.." وأيوب 4:12- 13 "مرةً كلاماً خفياً تسلل همساً إلى أذني في هواجس أحلام الليل عند وقوع سبات على الناس".

"وفيما هو نائم أخذ أحدى أضلاعه وَسَّد مكانها بلحم، وبنى الرب الإله أمرآة من الضلع التي أخذها من آدم" (تك21:2 – 22).

صنع الله الإمرأة، رفيقة آدم من ضلعه، ليس من رأسه لئلا تَتَسلّط عليه، ولا من قَدمِه فيدوسَها، بل من جنبه، من ضلعه، لتكونُ مُساويةًً له، تحت ذراعه ليحميها وَقُربَ قلبه ليُحبها. أراد الكاتب أن يُعلّم القارئ عن معنى الزواج الحقيقي. الذي ليس علاقة تَسلّط، ولا علاقة فَوقية، بل عَلاقة مساواة وحماية وحب، وإعطاء الذات في سبيل الآخر.

وسَدَّ مكانها بلحم: هدف الكاتب لم يكن فقط المحافظة على جمال جسم آدم، بل يقول إن مصدر هذا الحبّ لا يمكن أن نراه، هو مدفون في أعماق الإنسان، ينبع من عمق أعماقه. سر الزواج هو الذي أسسه الله عندما خلق الإنسان رجلاً وامرأة، والذي تَممه المسيح بموته على الصليب فداءً عن كنيسته، عروسه المقدسة. بهذا المعنى يقول النص: "ولذلك يترك الرجل أباه وأمه ويتحد بامرأته، فيصران جسداً واحداً" (تك2: 24). كلمة سوف يُذّكر بها المسيح.

يُصبحان جسداً واحداً لا يعني فقط العلاقة الجنسية القائمة بين الرجل والمرأة، بل إن هذه العلاقة الجسّدية هي تَغيير ملموس وحسي عن العَلاقة الروحية التي تجمعهما، والتي تعكس حب الله الثالوث الخالق، لأنهما يُشاركان بالخلق، وحُبُّ المسيح الفادي عروس الكنيسة لأنه يرتبط بالكنيسة بعلاقة حب تتجلّى بموته من أجلها وبوفائها الدائم له.

جسداً واحداً نفهمه أيضاً بجسد الطفل ثمرة هذا الحب الذي يَعُكس حبَّ الله.

"وكان آدم وامرأته كلاهما عريانين وهما لا يخجلان" (تك25:2).

خلقَ الله جسدَ الرجل وإلمرأة مليئاً بالخير والصلاح، لذلك لم يَخجُلا بعريهما. غيابَ الخجل هذا هو دليل كمال إنساني َوكَرمة مُتجلّية لجَسد الإنسان كما هو، لأن الخطيئة لم تكن قد مَلَكته، ولأن الآخر لم يكن يَنُظر إليه كغاية وكسلعة. هذه الحالة سوف تَتغّير عندما يَرفُض الإنسان أن يكون مُتعلّقاً بالله وخاضِعاً له.

  

 

 

 الفصل الثالث

الإنقطاع الأساسي (الخَطيئة) (تك 3: 1-24)

رأينا أن الفصل الثاني قد آنتهى بالسلام بين الله مخلوقاته، وبين الإنسان والله (الإنسان على صورة الله ومِثاله) وبينَ الإنسان والإنسان (حوّاء من ضلع آدم) وبين الإنسان والمخلوقات (تسلّط عليها ليحميها)، وقد جَعَلُهُ الله في جنة عدن، أي في حالة شَرِكة حياة وعهد مع الله دون تسلّط للموت عليه.

زَرَعَ الله شجرة الحياة في وسط الجنّة ودعا الإنسان للأكل من كلّ أشجار الجنّة، ما عدا شجرة معرفة الخير والشرّ. لأنّه حين يأكل منها، موتاً يموت، الأكل هو رمز. أن يأكلُ الإنسان من شجرةِ المعرفة يَعني أن يسعى ليكون إلهًا مُنفصلاً عن الله. خلق الله الإنسان على صورته ومثاله، مدعواً إلى مشاركة أبدية في الحياة مع الله، وهو ما نسمّيه نحن الحياة الأبدية في السماء. شجرة الحياة المزروعة في وسط الجنّة هي رمز للحياة الأبدية التي زرعها الله في محور وجود الإنسان. والله، إذا قرأنا النص جيداً، لم يمنعه من أكلها.

إنّ نتيجة أكل ثمرة شجرة الحياة هي نفسها نتيجة أكل ثمرة المعرفة:؛ إنمّا بمنطقين مختلفين وبوسيلتين مختلفتين.

بمنطقين مختلفين: الأكل من شجرة الحياة يعني الاشتراك في الحياة الأبدية التي أعطاها الله للإنسان بنعمةٍ إلهّية. بكلام آخر، بواسطة الأكل من شجرة الحياة، يُصبح الإنسان مُشاركاً لله في الحياة الإلهية من خلال عطيّة الله، أي أنّ وجوده مُرتبط بنعمة الله. بينما الأكل من شجرة المعرفة يَعني أن يكون الإنسان "مثل الله" وليس مع الله، أي أن يصبح إلهاً بِمَعزلٍ عن الله.

بوسيلتين مختلفتين: الأكل من الثمرة يعني اشتراك الإنسان الكامل في الحياة الإلهية من خلال التَعلُّق بالله مَصَدر الحياة. يشترك الإنسان بكامله ، وبكامله يَحيا مع الله، حتى ولو لم يكن قادراً على معرفة سّر الله وفهمه كاملاً. بيَنما ثَمرة المعرفة رمزّية ترتبط فقط بالناحية العقليّة، هي امتلاك لله من خلال قوّة العقل، أي أن نُصبح الهة من خلال إمتلاك الله بقوانا الذاتّية. والفعل العبري (يدع الذي يترجم) مشتق أصلاً من "يد" و "ع"، أي وَضع اليد على، فالمعرفة بالنسبة للفكر الساميّ هي مَعرفة تملُّكيّة حسيّة، وهو ما يَستحيل على الإنسان القياَم به إزاء سرّ الله، إنمّا هو الأمر الذي أراد الإنسان الوصول اليه. نَتيجةَ هذا العمل هو الموت لكنه ليس إنتقامًا من قبل الله، إنّما هي نتيجة طبيعيّة فالإنسان يَحيا بقدر ارتباطِه بالله، لأنّه يَستمدّ وجودَه منه حصريّاً، وحين ينفصل عنه يَنفصل عن مصدر حياته الأبديّة فيموت.

إن الكتاب المقدّس يُصّور الإنسان المخلوق كرجلٍ وامرأة، لا صبياً وفتاة أو طفلاً وطفلة، هو الإنسان الناضج المسؤول عن تصرفه، لذلك دخل معه العهد أوّل، إذ صحّ التعبير، وهو أن يكون سيّداً على المخلوقات كلّها (أعطى كلّ واحد منها إسماً) إنما لا يأكل من ثمرة المعرفة، أي أن لا يسعى الى إلغاء الله من حياته، بل ان يرتبط به بحالة وفاء وطاعة بنويتيّن.

يقول الكتاب أيضاً أن الله أسكن الإنسان في جنة عدن ليحميها ويحرثها (تك15:2)، أي أنه جعله في حالة شركة إلهية تَتعلّق ديمومتها دوماً بحرية الإنسان وعمله، فقد َحّمل الله الإنسان مسؤولية استمراره في هذه الحالة "الفردوسية"، عليه أن يحميها ويحرثها، أي ان يحافظ عليها ويستثمرها لتستمرّ.

الآية الاخيرة من الفصل الثاني كانت: "وكانا كلاهما عريانين، الرجل وامرأته، وهما لا يخجلان"(تك 25:2).

أمّا الفصل الثالث فيبدأ مباشرة بالحيّة الذكّية. هي ليست صفة شريرة بحد ذاتها فسفر الأمثال يدعو إليها: "الرجل الذكي يحيطه الكتمان" (أم 16:12)، "الرجل الذكي يتصّرف بحكمة" (أم 16:13).

المشكلة تكمن في كيفية استعمال هذا الذكاء، حين يُوَجَّه للشّر يصبح مَكراً. آدم وحواء أرادا أن يَعرفا، أن يكونا ذكّيين في معرفتهما لله، أرادا أن يمتلكاه بقواهما الخاصّة، وباستعمالهما للمعرفة بالشكل الخاطئ، بدل أن يعرفا أنهما من الله ومُتعلّقين كليّا به، أكتشفا أنهما عاريانين، اي أكتشفا ضعفهما وعجزهما عن التأليه وحدهما، عرفا أنهما دون الله يموتان لا محالة.

يقول الكاتب أن سبب الخطيئة الكبرياء والمعصية، أي رفض إرادة الله ورفض التَعّلق به. كانا حُرّين في الاختيار أوّلاً لأنّهما مخلوقات على صورة الله ومثاله، وثانياً لأنهما  كما قلنا في حالة براءة أصلية إنّما ليست براءة جاهلة، بل براءة واعية، فهما كانا قد بلغا سنّ النضوج كما يقول الكتاب. "رجلاً وإمراة خلقهما"(تك1: 27)؛ لم يكونا طفلين معفيَّين من المسؤولية.

الحيّـة:

في رَمزيّة العهد القديم تُشكلّ الحيّة عَلامة الكائن المُعادي لله، والساعي الى تَدمير خليقته. الأفعى "لويتان" كانت موجودة في الاساطير الفينيقية (أوغاريت)، يَتكلّم عنها النبي أشعيا (27:1) وأيوب (26:13). وهو أيضاً التنين قديم الأيام المُعادي لله ولخلائقه.

"إستفيقي يا ذِراع الرب، إستفيقي والبَسي الجَبروَت إستفيقي كما في القديم. كما في غابر الأجيال. أنتِ التي قطعتِ رهَبَ وطَعنَتِ التنِّين طَعناً" (أش51: 9).

هي رمز للشيطان، الملاك الساقط بسبب كبريائه، كما يقول حزقيال حين يشبّه ملك صور المُتكّبر بالملاك الساقط.

"وقال لي الرب يا ابن البشر، أنشد رثاء على ملك صور وقل له كنت عنوان الجمال وغاية لحكمة والجلال. كنت في عدن، جنة الله، وكان كل حجر كريم كساء لك من العقيق الاحمر والياقوت الاصفر والماس والزبد جد والجزع واليشب واللازورد والعصفر والزمرد. وكانت حليك من الذهب. هذا كله هيئ لك يوم خلقت. أقمتك حارساً يحرس جبل اله المقدس. وتمشيت وسط حجارة النار. كاملاً كنت في طرقك من يوم خلقت الى أن سقطت ثم الإثم. من كثرة ما اتسعت تجارتك امتلأت بالظلم وخطئت، فطرحتك كشيء نجسٍ من جبلي، من بين حجارة النار أيها الكروب الحارس. تكبرت لجمالك، فأفسدت كبرياؤك حكمتك، فطرحتك إلى الأرض وجعلتك سخرية أمام الملوك ليتمتعوا أنظارهم فيك". (حز 28: 11)

واشعيا أيضا يتكلم عن الملاك، نجمة الصبح الباهر، الذي سقط الى الهوة بسبب كبريائه:

" كيف سقطت من السماء يا نجمة الصبح الزاهرة كيف هويت إلى الأرض أيها القاهر الأمم  كنت تقول في قلبك سأصعد إلى أعالي السماء وأرفع فوق كواكب الله عرشي. أجلس على جبل الآلهة، هناك في أقاصي الشمال  وأرتقي أعالي السحاب. وأكون شهيباً بالعلي. لكنك انحدرت إلى عالم الأموات، إلى أعماق الهاوية" (أش12:14).

وفي العهد الجديد يَتكلّم كتاب الرؤيا، بلغتِه الرمزية، على الحية القديمة، التنين، الذي هو إبليس والشيطان.

"ووقعت حرب في السماء بين ميخائيل وملائكته وبين التنين، فقاتلهم التنين بملائكته، لكنهم انهزموا وخسروا مكانهم في السماء. وسقط التنين العظيم إلى الأرض، وهو تلك الحية القديمة والمسمى إبليس او الشيطان، خادع الدنيا كلها، وسقط معه ملائكته" (رؤ12: 7-9)

"ثم رأيت ملاكاً نازلاً من السماء يحمل بيده مفتاح الهاوية وسلسلة عظيمة. فأمسك التنين، تلك الحية القديمة، أي إبليس أو الشيطان، وقيده لألف سنةٍ  ورماه في الهاوية وأقفلها عليه وختمها" (رؤ1:20ـ3).

"فَقالتَ للمرأة أحقًا قالَ الله لا تأكلا من جميعِ شجرِ الجنّة" (تك 1:3).

من الناحية اللغوية يُطلعنا الكاتب على مَكر المُجرَّب وعلى مكَمَن الخطيئة. دائماً حين يَتكلّم الكاتب على الله يُسميّه "يهوه الله" دلالة على الإله الشخصي، الاله الذي يَمُلك إسماً وليس الإله المجهول الذي لم يَدخُل بعَلاقة مع الإنسان، بينما نَجد إن الحيّة لا تَستعمل هذه التسمية، إنّما تدعوه أيلوهيم فقط، دلالة على عداوة الحية مع الله، ورفضها لاعتراف به من خلال لفَظ اسمه.

لا تأكلا من جميعِ شجرِ الجَنّة: الحية تُحوّر في كلام الله، الله لم يمنع الإنسان من أكل جميع ثمار الجنة. والحية "اذكى المخلوقات"(تك1:3) تعرف هذه الحقيقة، إنّما هدفها لم يكن الاستفهام، لكنه كان تحويل فكر حواء عن "يهوه الله" الإله الشخصي الذي خلقها بدافع من حبه وأعطاهما كل شيء الى "اله مجهول" يريد أن يمنعهما من الوصول الى غايتهما المنشودة، أي المشاركة في الحياة الإلهيه. "فقالت المراة للحية من  ثمرة شجر الجنة ناكُلُ" (تك 2:3).

"وأما ثمرة الشجرة التي في وسط الجنة فقال الله لا تأكلا منه ولا تَمُسّاه لئلا تموتا" (تك 3:3).

جواب المرأة هو أيضاً جواب مشّوه وغير دقيق، يجب أن نقرأ النص بتمُّعن لنفهم هذا الأمر. تَنفي المرأة أن يكون الله قد منعها من أكل ثمر شجر الجنة، إنما تقول إنه منعها من الأكل من الشجرة التي هي في وسط الجنة.

أوّلا: حواء تَستعمل أيضاً طريقة الحيّة في تَسمية الله، تقول ايلوهيم ولا تلفظ أسمه "يهوه". حواء تُجاري الحيّة في نظرتها لله، بدأت تميل الى سماع كلام المُجرَّب، لم يعد الله بالنسبة اليها الإله الشخصي الذي يحمل اسماً، بل صار إلها بعيداً، صار الهاً ضمن الآلهة الأخرى.

ثانياً: تقول إن "الإله" قد منعها من أكل الشجرة التي في وسط الجنة. بينما في(تك 9:2) نرى أن يهوه قد زَرَعَ شجرة الحياة في وسَط الجنة، وزَرَعَ شجرة معرفة الخير والشر. في وسطِ الجنّة، أي في محور الوجود الإنساني، وفي أعمق رَغباته نجد شجرة الحياة، والله لم يمنع الإنسان من الأكل منها، وفي(تك 17:2) يمنع الله الانسان الأكل من شجرة المعرفة، لا من شجرة الحياة.

كما أن الله لم يقل "لا تمساها"، بعكس ما تؤكده حواء للحية.

قلنا سابقا إن شجرة معرفة الخير والشر هي رَمز لرغبة الإنسان في معرفة الله، أي في امتلاكه. هي رَمز لإرادة الإنسان في أن يُصبح إلهاً آخر مُنفصلاً عن الله مَصدرَ حياته. لذلك حَذّر الله من أكلها، لآنه يموت بأنفصاله عن الله. لكن الله لم يقل. "لا تَمُسّاها"، أي "لا تَسعيا الى معرفة الله"، من خلال المعرفة السطحية الخارجية، نحن نعرف عن الله بقدر ما يمكن لطبيعتنا أن تصل اليه، وبقدر ما يظهر الله لنا. حواء تَكذب قائلة إن الله قد مَنعها من مُحاولة التعرُّف إليه. تَكذب لأن هذه المعرفة لم تكن تُرضي كبرياءها، كانت تُريد أن تأكل الثمرة لا أن تَلمسها، أي أن تَمتلك الله لا أن تَكونَ على عَلاقة طاعة به.

خطيئة حواء ابتدأت بتشوه نظرتها لله، فبدل ان يكون الإله الشخصي، يهوه الله، الذي أعطاها أن تكون مُسَلطّة على الجنة، أصبح إلهاً مجهولاً غير شخصي يمنعها من الوصول إلى غايتها. مُشكلتها أنّها لم تُصغِ لكلمات الله بل حوَّلتها، وتبَّنت مَنطق الحيّة، ونَظرةَ المُجرَّب. وَثقتْ بالشيطان أكثر من الله لآنه قَدَّم لها الحَلَّ الأسهل.

"فقالت الحية للمرأة لن تموتا ولكن الله يعرف انكما يوم تأكلان من ثمر تلك الشجرة تنفتح أعينكما وتصيران مثل الله تعرفان الخير والشر" (تك 3: 4ـ5).

"لن تموتا": الحيّة تَعدُ حواء بالحياة، والله هو الذي يُعطي الحياة. حواء كانت تَعرف إنَّ الله اعطاها الحياة مع ذلك فَتشتْ عن الحياة التي وعدتها بها الحيـة.

نطرح سؤال: ألم تكن الحيّـة مِحقة، فآدم وحواء لم يموتا بل أكل ثمرة المعرفة. تعرف ان ادم مات بعمر الـ 930 سنة (تك5:5). فالمقصود إذاً ليس الموت الجسديّ، بل كان موتاً من نوعٍ آخر، هو الذي طال آدم وحواء بسبب الإنفصال عن الله.

l  حاولت الحيّة أن تجعل حواء تشك في محبة الله وجودِه. حاولت ان تُقنعهم انه يكذب. هي انها حال شعب إسرائيل في مراحل تاريخه، في كل مرة يقع في مشكلة يشك في صدق الله وفي صدق وعوده، فيذهب إلى عبادة الآلهة الآخرى.

l  الحيّة تجعل حواء تشك في سوء الخطيئة، وتُقنعها إنَّ مُخالفة وصايا الله تعطيها المعرفة الحقيقية، وإن الطاعة لله تُبقيها جاهلة. هي أيضا خطيئة إسرائيل حين فَتَّش عن حمايته بعيداً عن الله، حين أراد ان يكون له مَلِك مثل سائر الشعوب الذين لا يعرفون الله، واعتمدوا على قوتهم العسكرية ليحلوا مشاكلهم. رأوا أن الخطيئة تحل مشاكلهم.

l   الحيّة تُقنع حواء بأن مخالفة وصية الله هي الحل وهي الوسيلة لتصبح مثل الله. إنها تجعلها تقنعها أن الحرّية الحقيقيّة هي في أن لا تلتزم بوصية الله، وأن الخلاص هو في عيش الحياة دون قيود اخلاقية.

 

ما هو إذا هذا الموت الذي يتكلم عنه الله إن لم يكن الموت الجسديّ؟

يقول إذا أكلت موتاً تموت، بينما نتيجة الأكل الفعلية هي الخروج من الجنّة. الموت إذا هو الخروج من الجنّة. ماذا يعني  ذلك؟ يجب أن نفهم ذلك انطلاقاً من تاريخ إسرائيل. نجد في (تك 2: 12-13) أن الجّنةُ مزدانة بالأشجار والأنهار وبالأحجار الكريمة والذهب والشَمعدان المُقدّس على شكل شَجرةٍ بسبعة أغصان. الإنفصال عن هيكل أورشليم كان يَعني الموت. حين كان أحُدهم يَمرض مَرضًا معديًا، مِثل البُرص، أو حين كان يَقترف خطيئة عظيمة، كان يُمنع من الإختلاط بالجماعة ويُطرد من المدينة، ويُمزِّق ثَوبه فُيصبح عاريًا (راجع لاويين 13: 45) و الأكثر كان يُرسل الى الصحراء أو البرية ليبقى وحيداً فيموت. الموت إذا يَعني الانفصال عن جماعة إسرائيل، والموت الذي حَذَّر الله آدم منه هو هذا الإنفصال عن الشَرِكَة مع الله.

"ورأتْ المرأة أن الشَجرة حَسنة للمأكل وشَهية للعين، وأنها باعثة للفهم، فأخذت من ثمرها وأكلت وأعطت زوجها أيضا، وكان معها فأكل" (تك 6:3).

خطيئة حواء  تكتمل حتَّى العمق، انها تأخذ مكان الخالق، وهذا ما يُظهره الكاتب من خلال استعمال الأفعال:

 

-     ورأى الله أّنه حسن

ورأت المرأة أنَّ الشجرة حَسنة.

-     فأخذ الله ضلعاً

فأخذت من ثمرها.

-     الله يعطي آدم حواء

حواء تعطي آدم الخطيئة.

-     الله يصنع المخلوقات

آدم وحواء يصنعان لهما ثياباً.

آدم في كلّ هذا لم يَعترِض، لم يَرفض المعصية، وهنا  تَكمن خطيئته. لقد نال الوصيةَ مباشرَة من الله، وقبل أن تخلق حواء، بألاّ يأكل من ثمرة المعرفة. لقد كان مسؤولاً عن حماية حواء من الخطيئة، فهي أُخذت من ضلعه، وأُوكل إليه حمايُتها. على الرغم من هذا، لم يَقُل شيئاً، لم يَتحّمل مسؤوليته، بل جارى حواءَ في كبريائها وَطَمعِها. هَرُبه من تَحُّمل المسؤولية سوف ُيكررِّه ابنه ثانية. "من جَعلني حارسا لأخي" (تك 4:9)، ونَسَي أن الله قد جعله حارساً للخليقة كلها وعليه أن يتحمل المسؤولية (2:15).

"حسنة للمأكل وشهية للعين، وأنها باعثة للفهم"

هي التجارب الثلاثة الأساسية التي تُبعد الإنسان دائماً عن الله. الطعام رَمز الرغبة بالشَبَع الجسدي. والعين، رمز الرغبة في الامتلاك. والفهم، أن يعرف الإنسان حقيقة الوجود والله، اي أن يَمتَلك الله من خلال قواه العقلية الذاتية. انها التجارب ذاتها التي سوف يُجربها الشيطان ليسوع. الحجارة المتحولة خبزاً، والممالك الغنية رمز التملّك والغّنى المادي أي الاستغناء عن الله، ورمي الذات من الجو، أي ان يكون إلها بمعزل عن الإله، خطيئة الكبرياء.(مت4، مر1، لو4)

"فانفتحت أعينهما فعرفا أنهما عريانان، فخاطا من ورق التين وصنعا لهما مآزر" (تك 7:3).

لقد كانت الحيّة على حق، فقد انفتحت عيناهما، ولكنهما لم يُصبحا آلهة، بل رأيا أنهما عُريانين، أبصرا ضعفهما ومحدوديتهما, بهذا كان الموت. لقد انفصلا عن الله وقررا مصيرهما بنفسيهما، وعرفا إنهما لا يقدران أن يكونا آلهة دون الله، لهذا اختبأا.

قبل الخطيئة كان الإنسان عرياناً أيضا، إنما لم يكن بحاجة لأن يختبئ، لأنه كان على عَلاقة حُبّ مع الله ومع المخلوقات كِّلها، وهذه العلاقة قد تحطمَّت بسبب خطيئة الإنسان.

"وسمع آدم وآمراته صوت الرب الإله وهو يتمشَّى في الجنة عند المساء، فاختبئا من وجه الرب الإله بين شجر الجنة. فنادى الرب الإله آدم وقال له أين أنت" (تك 8:3ـ9).

هذه الآية تُظهر العَلاقة الأصيلة التي كانت قائمة بين الله والإنسان، عَلاقة لم يُرِد الله لآدم أن يُفسدها، لهذا بقي يتمشَّى في الحديقة، إنما رفضها الإنسان، فاختبأ من وجه الله. لم يعد الإنسان قادراً أن يكون على علاقة جيدة بالله لأنه اختار الانفصال.

يسأله الله: أين أنت؟ الله يعرف جيداً كل شيء، إنّما هو سؤال عميق يقول فيه الله لآدم وحواء، أين أصبحتما. هو عِتابُ الله للإنسان الذي لم يَثِق به، هو عِتابُ الأب لإبنه والحبيب لحبيبه.

 بعد الخطيئة تهرب الإنسان من مسؤولية وألقى اللوم على الآخر.

ألقى آدم اللوم على حواء، وبطريقة غير مباشرة على الله الذي أعطاه حواء.

حواء ألقت اللوم على الحية، إنما كانت تدين نفسها. كانت تقول لله إنها شَكَّت بصدق كلامه ووثِقت بالحيّة. وحدَها الحيّة لم تُبرِر نفسه، لأن الله لم يسألها. لا يمكن للشيطان ان يتوب لذلك لم يَدعُه الله إلى التوبة بل حَكَم عليه. سأل الإنسان علَّه يتوب، فلم يتب الإنسان بل أخطأ من خلال تبرير نفسه على حساب موت الآخر.

 بسبب الخطيئة صار الإنسان يرى الآخر. الله والإنسان والحيوان كسبب للخطيئة، لأن علاقته بهم قد تشوَّهت. صار يرى الله كأنه لا يريد الحياة للإنسان، صارت علاقَته معه مَبنية على الخوف، وصار الإنسان بالنسبة له سبب خطيئة وموت، ففسدت علاقته بالكائنات الأخرى.

الحكم

في النص نلاحظ الكاتب يأتي بأمور معروفة من الحياة اليومية. مثلاً الحّية تَمشي على بطنها، المرأة تتألم في الولادة.. حياة الرجلُ متسِمة بالتعب في الحراثة. هذه المعطيات تُصبح على المحك عَلامَات وظواهر للغُز الوجِود الإنساني. ليس السؤال. كيف صارا الإنسان أو يجب عليه ان يتعب بل العكس، الظواهر تستخدم إشارات إلى ما في عمق حياة الإنسان. قطع العلاقة مع الله هو الموضوع، والظواهر مستخدمة للإشارة إليه.

 

الفصل الرابع

"مقاطعة الإنسان أخاه"

 

"عَرفَ آدم امرأتُه حواء فحملت وولدت قايين. فقَالت صار لي رجل من الرب"(تك4: 1)

يحمل الاسم في الكتاب المقدس أهمية كبيرة جداً، لأنه يدل لاعلى هوية الإنسان التاريخية أو الاجتماعية فقط، بل وعلى هويته الروحية ومزاياه الداخلية وعلى مخطط الله له. لذلك نرى آدم أي المأخوذ من الأرض، دلالة على حقيقته الإنسانية؛ حواء اي أم الأحياء، دلالة على دورها المستقبلي في أعطاء الحياة، إبراهيم أب لشعوب كثيرة، دلالة على مخطط الله له، يسوع. الله المخلص، دلالة على دور ورسالة الله ألخلاصي للبشر. من ذلك نجد أن أسماء أبني آدم وحواء لهما أيضاً معنى رمزياً يهمنا لنفهم النص جيداً.

قايين: من فعل " قنى" العبريّ، أي أمتلك وأقتنى، إنما هو يعني أيضاً "خلق"، فالله الخالق هو نفسه الله الذي يملك كلّ ما خلقه، وحين يخلق الله شيئاً ما يملك عليه.

ولادة قايين والقصة التي سوف تَليه هي بغاية الأهمية، ليس لمعناها التاريخي أنما للبُعد التعليمي، أي للرسالة التي يُوجّهها النص. انه نوع من النصوص يطلق عليه نص مُبرمج، وهو عبارة عن رواية ما يعطيها الكاتب لتُطبّق على كل الجنس البشري، وحين يقرأها إنسان ما يعلم أنها مُوجّهة إليه شخصياً. قايين هو المولود الأوّل في الجنس البشري، أي إنَّه نموذج عن كل كائن بشري مولود من رجل وأمراة. آدم هو أب الجنس البشري، وهو ولِدَ مباشرة من الله الخَالق، بينما قايين وِلدَ مثل كلِّ إنسان،وبالتالي فحَياتُه يُمكن أن تَكون نَموذجًا لحياة كل إنسان.

"صار لي رجل ُمن الرب" (تك 1:4)

   هي جملة غريبة جداً في النص الأصلي ويصعب فهمها، حواء تقول حرفياً "لقد اقتنيت رجلاً مع الله"(تك4: 1). وللجملة تفسيرات عدة:

l      لقد خَلقتُ رجلاً مثل الرب.

l      لقد خَلقتُ رجلاً بمساعدة الرب.

l       لقد اقتنيتُ رجلاً، لقد اقتنيتُ الرب.

الغريب أن حواء لا تقول لقد ولدتُ ولداً بمساعدة الله، بل. صار لي رجلُ من الله (أو الله).

بعض الشُرّاح يقولون أن هذه الصَّرخة التي أطلقَتها حواء هي خطيئة كبرياءٍ أخرى ترتكبها. حيث تجعل نفسها مثل الله، وتقول أنا أيضاً خلقتُ رجلاً مع الله. إذا ربطنا هذا الأمر بما قلناه سابقاً عن خطيئة حواء المَبنية على الكبرياء، وعلى رغبتها بان تكون مثل الله، نفهم أنها لم تَتبْ بَعدُ، وأن حياتها كلَّها هي رغبةُ دائمة بان تكون مثل الله.

أنما التفسير المنطقي يبقى أنَّ حواء قد حَقَّقت دعوتها الإنسانية بأنها اشتركت مع الله في الخلق من خلال عمل الولادة. في النص السابق، رأينا إن آلام الحمل هي نتائج الخطيئة، إنَّما إعطاء الحياة لإنسان لا يمكن أن يكون أبداً من نتائج الخطيئة الأولى، بل هو من نتائج خلق الإنسان على صورة الله ومثاله.

هناك أيضاً تفسير ممكن، بقولها "صار لي رجل من الرب". لا تتكلّم حواء عن قايين بل عن آدم. قايين هو طفل وليس رجل، أدم هو الرجل، حين خُلِقَت حواء قال آدم: "إنّها لحمُ من لحمي وعظم من عظامي"(تك2: 23)، وحين ولِدَ قايين قالت حواء أنه قد صار لها رجل. الرجل اذًا هو آدم الذي بلغت رجولته معناها الأسمى بإنجابه ولداً. لقد حَقَّق دعوته الأسمى بأن صار شريكًا لله في الخلق، فالدعوة الأولى التي دعا الله آدم إليها هي،"أنمو وأكثروا وآملأوا الأرض" (تك1: 28).

إذاً حواء لا تقول إنها هي مثل الله، قادرة على أعطاء، بل تقول أنها أعطت الحياة مع آدم لقايين بحسب أمر الرب. لقد تصالحت حواء مع الله بواسطة قايين فحواء أعطت آدم الثمرة بعكس إرادة الرب فمات، وألان تُعطيه ثمرة التحامهما بحسب إرادة الرب فكانت له الحياة.

لا تقول حواء إنها أنجبت رجلاً مع آدم، بل من الله. أبنها ليس مُلكاً خاصاً، بل هو عَطية من الله. إنها تعترف أنّها ليست مصدر الحياة، فالله هو المصدر الأوحد. كما أنها لا تقول أن قايين هو من آدم لأن علاقتها لآدم بلغ كماله بالإنجاب، وهذا العلاقة لا تصل إلى آدم وتنتهي، هي ليست علاقة مقفلة على الشريك، بل هي علاقة مع الله من خلال علاقة الشريك.

 أخذت المرأة من الرجل )تك 23:2)، وألان يؤخذ الرجل من المرأة (تك 4: 1). إنها استمراريّة العلاقة بيَن الرجل والمرأة. ليس الرجل أسمى مرتبة من المرأة لأنها أُخِذَت منه، إنّهما متساويان، يكمّلان احدهما الآخر.

"وعادت فولدت أخاه هابيل" (تك4: 2)

هابيل، أسم لا يحتاج إلى تفسير بالعبرية يعني سريع الزوال، ضباب دخان، الشيء العابر الذي لا يدوم. أسمه يُشير إلى مُستقبله، فهو مثل النَفَس والبُخار سوف يَنقطع فجأة.

يٌشدّد الكاتب على كلمة  "أخاه". كان يمكنه أن يقول، "وعادت فولدت أبناً آخر". التشديد على كملة "أخ"، هو تشديد على هول الخطيئة التي سوف يقَترفٌها قايين في ما بعد. بما  ان هذا النص هو نَص مبرمج كما قلنا سابقاً، فهو يعني كل إنسان في كل الأزمنة. يريد النص ان يقول أن البشر يقتتلون ويَغدر الواحد بالآخر والشعب بالآخر. وان الحرب والقتل والعداواة بين البشر هي خطيئة مخالفة للعلاقات الطبيعية، وهي ناتجة عن شر البشر. النص دعوة للأخوّة بين البشر.

هذا الأمر، إذا وضعناه في واقع شعب الله، نفهم أنه يَقُصد.

l  الممالك الغريبة والقوية التي اجتمعت ضد إسرائيل، فاحتلته وقادت أبناءه إلى السبي، وأرغمته على أن يَعُبد ألهة أخرى. مصر، وأشور، وبابل والفرس ..

l  مملكة الشمال احدى عشرة قبيلة، تحالفت ضد مملكة الجنوب، وهي قبيلة واحدة، لتزيلها من الوجود. ممالك الشمال الكبيرة ترمز إليها بقايين الذي غار من وفاء مملكة يهوذا لله ورفضها عبادة إلهة أخرى، هاجمتها وحاولت قتلها.

"وصار هابيل راعي غنم وقايين فلاحاً يفلح الأرض" (تك 2:4).

يبدو لنا من الوهلة الأولى أن الله قد مَيَّز بين الأخ وأخيه. فَقَِبل مُحرقة الثاني ولم ينظر حتى إلى الأول. لكي نفهم المعنى الحقيقي للنص يجب أن نفهم معنى العمل الذي كان واحد يقوم به.

قايين كان فلاحاً:

l      قاين يمثّل الانسان لانه يحرث الارض ، إنها المهنة الإنسانية، اسرائيل يعيش على الحرثة في ارض كنعان.

l      الفلاح يعمل في مكان ثابت.

l      للفلاح عائلة يعيش فيها، تؤمّن له حاجاته، ولا يكون أبداً في وحده بل تحيط به عائلته.

الفلاح يملك بيتاً ومورد رزق ثابتين ولا يحتاج للانتقال من مكان إلى آخر.

l      للفلاح وظيفة بعيدة عن المخاطر.

هابيل كان راعياً:

l      الراعي يتَنقّل دائماً

l      لا يمكن للراعي أن يبقى دائماً قرب عائلته، بل عليه أن يغيب لفترات طويلة بعيداً عن عائلته.

l  على الراعي ان يحيا دائماً في خطر من الحيوانات المفترسة ومن اللصوص، ومن الأحوال الجوية السيئة، البرد أو الحر أو الثلج.

ماذا نفهم الله لم يفضل وظيفة على أخرى، فكل وظيفة هي جيدة إن كان من يقوم بها يتقي الله، إنما لهذه الوظائف رمزيتها في العهد القديم.

l      إبراهيم كان ثابتاً في مدينة أور الغنية، فطلب منه الله أن يَترك كل شيء ويتبعه.(تك12: 1)

l      موسى كان ساكناً في قصر فرعون، فطلب الله منه أن يخاطر بكل شيء ويتعبه.

إسرائيل كان شعباً دائم الترحال، وعندما تكبرَّ طلب أن تكون له مدينة ذات أسوار، وملك مثل سائر الشعوب ، وبعكس إرادة الله (1صم 8)، فقال الله لصموئيل  " أسمع لطلب الشعب" بأن يكون لهم ملك) فأنهم لم يرفضوك أنت، بل رفضوني أنا أن أكون عليهم ملكاً (1صم 8:7).

المغزى هو ليس في وظيفة قايين وهابيل، بل في حالتهما. قايين هو ساكن المزرعة، له بيت وعائلة وأصدقاء، ولا يعيش في خطر، أي أنه قد وجد لنفسه الأمان خارجاً عن الله. بينما هابيل هو من ليس له شيء ثابت، بل الله هو ضمانته الوحيدة، لا يخاف أن يخاطر لأنه مُتكّل على الله، والله هو ضمانته الوحيدة في رحلاته الخطيرة.

الوظيفة هي، إذا، ذات رمزية. خطيئة قايين هي أنه خََلَق لنفسه الأمان خارجاً عن الله، استغنى عن الله وفتَّش أن يكون مُتحكّماً بمصيره، تماماً مثل حواء التي رفضت أن يكون الله هو الإله الأوحد وأرادت أن تُصبح مثل الله بقوتها الشخصية. هي خطيئة الكبرياء ورفض الخضوع لله والعيش بتعلٌّق دائم به.

هي أيضاً خطيئة ممالك الشمال التي سَعت أن تقاوم خطر الأعداء بقوتها الذاتية وباتكالها على تحالفها مع الأمم الوثنية. "الويل لأولئك الذين ينزلون إلى مصر ليفتشوا عن معونة لهم، ويتوكلون على الخيل والعربات... ولا يلتفتون إلى قدوس إسرائيل ولا يفتشون عن السيد" )أشعيا 31:1).

"ومرت الأيام فقدَّم قايين من ثمر الأرض تقدمة للرب، وقدَّّم هابيل أيضاً من أبكار غنمه ومن سمانها" (تك 3:4).

نرى الفرق في التقدمة من طريقة سرد الكاتب للإحداث.  قدَّم قايين من ثمار الأرض، قدم جزء من كل، قدم ما هو مماثل لما سيأكله هو. بينما هابيل قدّم الأبكار والِسمان، قدَّم الأجود، قدّم لله الأحسن وأحتفظ بالعادي. هنا يكمن الفرق: لم يُميّز الله بين الفاكهة والحيوانات، لم يُفضِّل الغنم على الثمار، إنما نظر إلى نوعية قلب ونية المُقدِّم. خطيئة قايين إنه أعطى للرب قسمًا، وترك لنفسه قسماً مشابهاً، جعل نفسه شبيهاً لله ومعادلاً له. بينما قدّم هابيل الأجود، أي انه اعترف إن لله الحق في كل شيء يملكه، لان الله أعطى كل شيء. قايين قدَّم الواجب بينما قدم هابيل عرفان الجميل إزاء الله.

"فنظر الرب برضى إلى هابيل وتقدمته، أما قايين وتقدمته فما نظر برضى، فغضب قايين جداً وسقط وجهه (تك 5:4-6)·.

رغم هذا شَعرَ قايين بالغَيرة، هو لم يقدِّم شيئاً أنما رغم هذا طلبَ ثناءَ الله. إنَّ الله لا ينظر إلى الانسان، لكن إلى اخيه الضعيف، هابيل. (راجع: قصة يعقوب وعيسو، الصغير قبل الكبير). الموضوع الإنسان واخوه أمام وجه الله. الله بنظره يعلم العلاقة الصالحة، على الإنسان ان يفرح وينظر هو ايضاً الى اخيه. اذن الموضوع ليس الاختيار والنبد. انما موقف الله يوضّح لقايين انه واقف امامه مع اخيه. لا يَحسُن ان يبقى الانسان وحده، عليه ان ينظر إلى شريكه.

خَفضَ رأسه. ليس بسبب الحياء بل بسبب الغضب، خفض الرأس يعني قطع العلاقة مع الله. فالذي يُصلّي يرفع عينيه نحو الله "رفعت عيني إلى الجبال من حيث تأتي نصرتي" (مز 121:1). دخل قايين في علاقة عداوة مع الله.

"فقال الرب لقايين لماذا غَضبِتْ ولماذا عَبسَ وجَهُك إذا أحسنت عملاً، رفعتُ شأنكَ، وإذا لم تُحسن عملاً، فالخطيئةُ رابظةُ بالباب وهي تَتَلّهف إليكَ، وعليكَ أن تَسودَ عليها" (تك 6:4-7).

لم يترك الله قايين، بل حاول أبعاده عن أفكاره الشريرة. لم يقطع علاقته به رغم سوء نيته، يحاول الله أن يُنقذ الخاطئ من الهلاك ومن الاستمرار في الغضب الغير مُبرّر.

الله يعلم قايين كيفية الدخول في علاقة حب معه، والشرط الوحيد هو التصرف الحسن.

(تك 4: 6ـ 7) هذه الجملة معقدة جداً في النص العبراني، ويمكن أن لا تكون هذه الترجمة حرفية، المشكلة فيها هي أولاً تقطيعها إلى جمل قصيرة، أين تبدأ وأين تنتهي كل جملة، والثانية هي أن الخطيئة هي مؤنث في العبرية بينما الفعل مستعمل في المذكر الخطيئة رابض بالباب. الجملة كما نقرأها الأن هي:

لمـاذا غضبت                 ولماذا عبس وجهك

إذا أحسنت عملاً              رفعت شانـك

وإذا لم تحسن عملاً             فالخطيئة" رابض بالباب"

إنما الحل الآخر هي بان نفهم إن الجملة الأخيرة تنتهي عند الخطيئة، "ورابض بالباب" هو أسم فاعل لكائن آخر، الحية أو الشيطان. إذا النص يصبح:

لمـاذا غضبت                 ولماذا عبس وجهك

إذا أحسنت عملاً              رفعت

وإذا لم تحسن عملاً             فالخطيئة

الرابض بالباب                         يتلهف إليك

             وعليك أن تسود عليه

الله يعطي قايين عدة خيارات، ويُعلِّمه أن رِفضَ ذبيحته هو ناتج عن خطأه هو، لا عن تفضيل أخيه عليه يقول النص حرفياً  "إذا أحسنت عملاً يكون الرفع" أي إذا قام بالخيارات الجيدة ونية حسنة أي اذا احسنت إلى اخيك هابيل وقفت موقفاً صحيحاً من اخيك فممكن ان تَرفَع وجهك وإلا فتكون في حالة أخرى أي حالة المستقبل.

الله لا يَكتفي بالشرح حولَ الماضي، إنّما يُحذِّر قايين من المستقبل. إذا أصَّر على نواياه السيئة فالشرير ينتظره. يقول إن هذه الحالة التي يمر فيها قايين هي تَجربةُ من الرابضِ بالباب، أي من الشرير الرابض كالحيوان المفترس ينتظر سقطة قايين. قايين مدعو لأن يسود على التجربة لا أن يَخضَع لها. هذا هو العهد الذي قطعه الله مع قايين. إنْ اختارَ الخير يُرفع، وان اختار الشرَ يُصبح مُلكاً للخطيئة الرابضة تنتظره. هذا يعني ان الله يُنبه قايين الى أنَّه في خطر.

كما نرى حاول الله أن يُغيّر مَقاصد قايين مُسبقاً، إنّما باحترام مُطلق لحُرّيته، أنار معرفته ليُدرِك أخطار خياره السيئ، لكن يبقى قايين صامتاً، لا يُجيب الله ولا يَدخُل بحوار معه، أقفلَ قلبه أمام نعمة الله وتبَنَّى الخطيئة.

"وقال قايين لهابيل أخيه لنخرج إلى الحقل، وبينما هما في الحقل هجم قايين على هابيل أخيه فقتله" (تك 8:4).

الخروج إلى الحَقل أي أنه وَضَع أخاه في موقف لا يمكن له الخلاص منه، لا يمكن لأحدٍ مساعدته، حاصر أخاه من كل الجهات، كما حاصرت مملكة الشمال المتُحالفة مع الشعوب الغربية مملكة الجنوب لتُبيدها. انه وعي قايين للخطيئة التي يريد اقترافها، لذا ذهب مع أخيه إلى الصحراء. في (تك 5:2) نجد أيضاً كلمة "حقل" أنما هي ليست الحقل المزروع بعد، هي مكان الوحوش الضارية والنبات، هي المكان الذي يخرج فيه الراعي خرافه لترعى، قايين أخرج أخاه إلى هناك لا ليرعاه ويعطيه الحياة بل ليقوم بالعكس تماماً ليقتله. هابيل الراعي أُخرجَ إلى المَرعى ليُقتل، وهو البريء الذي يُخرج الخراف إلى المكان نفسه لتعيش، وليكون في خطر من الطبيعة ومن الحيوانات في سبيلها، الخاطئ يُخالف طبيعة الخلق، يعمل بعكسها ويدمرها.

"فقال الرب لقايين أين هابيل أخوك قال لا أعرف، أحارس أنا لأخي" (تك 9:4) ا نه سؤال عن المسؤولية التي يرفضها قاين، انه يرفض واجب الاخ البكر اي ان يكون حارس اخاه الاصغر.

الله يسأل قايين عن أخيه، رغم إنّه يعرف ماذا حدث. السؤال نفسه طرحه الله على آدم بعد الخطيئة "أين أنت" يحاول الله أن يدفع قايين إلى الإقرار بخطيئته والى تحُّمل مسؤوليته، يتجه الله مباشرة إلى الخاطئ ليُخلّصه، لكنَّ الوسيلة الوحيدة للخلاص هي في الإقرار بالخطأ وتَحمُّل المسؤولية.

اين هابيل اخوك. انه سؤال عن المسؤولية التي يَرفُضها قاين. الانسان حارس، عليه ان يهتم بأن لا يفقد شيء من الاخ ولا يدخل شيء غريب عنه عنده  

يقول قايين: لا أعرف، وآدم أجاب نصف الحقيقة حين سأله الله، لكن قايين كَذب ونَفى الحقيقة، وفوق هذا كلِّه كان قايين يتهكم. أحارس أنا لأخي؟ هابيل هو الراعي، هو الحارس، قايين يقول. أأنا حارس؟ الحارس رفض الإقرار بخطاه ورفض أيضاً الإقرار بواجب حماية أخيه. الله أوكل إلى آدم حراثة الخليقة وحراستها (15:2) وهنا يرفض قايين هذه المهمة، لا يريد أن يعتبر نفسه مسؤولاً عن حماية الخليقة، لأن الخطيئة تقطع كل رباط حسن بالخليقة وبالإنسان. يتحَّول الإنسان بالخطيئة من حارس للإنسان وللمخلوقات إلى مُدِّمر لها.

"فقال له الرب ماذا فعلتَ، دم أخيك يَصرخ من الأرض. وألان فملعون أنتَ من الأرضِ التي فَتحَتْ فَمها لتقبلَ دمَ أخيكَ، فهي لَنْ تُعطيكَ خِصبَها إذا فَلحتها، طريداً شريداً تكون في الأرض" (تك 10:4).

هذا السؤال "ماذا فعلت" ؟! لا يتعلق فقط بالجريمة، إنما بالإنكار أيضاً. كان الله يَطلب من قايين التوبة، ألان يُظهِر له خطورة الإنكار ورفض التوبة، ماذا فعلت؟ هذا السؤال هو حَسرة يُعلنها الله على قايين. كان يُريد منه أن يَتوب، وها هو يُقفل كل باب للخلاص لأنهُ مُصِّر على الخطيئة.

أمّا العقاب، فهو النتيجة الطبيعية والحتمية لخطيئة قايين ورفضه التوبة. يعلن له الله عن نتيجة الخطيئة، ولا يقول: "أنا ألعنك فاللعنة هي نتيجة الخطيئة، وبالتالي فقايين هو سبب اللعنة وليس الله.

دمُ أخيكَ يَصرُخ إليَّ من الأرض. الدم هو الحياة (لاويين 17:11) وإراقة الدم هي جريمة ضد الله مُعطي الحياة، لأنها قتل للإنسان المخلوق على صورة الله ومثاله، هي محاولة الإنسان لأن يعود بالوجود إلى العدم، إنه عمل يُعاكس عمل الله.

يَصرُخ (زعق) تُستعمل في العهد القديم للكلام عن صرخة الإنسان الذي لا خُبزَ لديه (تك 41:55)، والذي يَنتظرُ الموت )خر10:14)، أو المُستَعبَد من قبل أعداءهِ (قض 3:4)، أو صرخة الإمرأة التي أُغتصِبت (تث 24:22-27)، هي الصرخة التي يُطلقها المظلوم نحو الله (خر22: 23-22)؛(اش 20:19) وهي صرخة المظلوم والضعيف الذي يقدر الله وحده أن يرد له حقه بواسطة العدالة.

"فملعون أنت من الأرض" تلعن الأرض قايين، انه ملعون وبالتالي على عداوة مع الأرض الخَصبة التي كان يَزرعُها. في الفصل الثالث نرى الأرض والحية قد لُعِنَتا، إنّما الإنسان لم يُلعَن، هنا نرى اللعنة طالت الإنسان أيضاً، هو في أقصى نقاط وجوده سوءاًً، خطيئة آدم كانت ضد الله غفر له شخصياً، لكن خطيئته ألحقت الضرر بالأرض. خطيئة قايين كانت ضد الإنسان، ولذلك لُعن الإنسان، لأنه بنوع من الأنواع قد قتل إنسانيته.

تحوَّل قايين بسبب خطيئته إلى إنسانٍ غير مستقر، إلى مترّحل دائم. هي حالة عدم الاستقرار التي يعيشُها الخاطئ، لأنه بعيد عن الله، طريداً مِن مَن يطارد؟ خطيئته قايين وشره والإنسان الآخر الذي صار عدوه. أفتتح قايين مأساة الحروب بين البشر.

لكن الله لا يُميت قايين بحسب شريعة العين بالعين، تصرَّف الله كقاضي في ما سبق، إنّما كان أيضاً الأب الرحوم، لم يَقُتل قايين بل تركه حيًا. وفي حياته عليه أن يتحَّمل مسؤولية عمله ليتحرَّر من خطيئته.

"قال قايين للرب عقابي أقسى من أن يُحتمل، طردتني اليوم عن وجه الأرض وحجبتَ وجهكَ عني، وطريداً شريداً صِرتُ في الأرض، وكل من وجدني يقتلني" (تك4: 13ـ14)· .

l      لم يجد خطيئة كبيرة، بل وجَد العقاب كبيراً.

l  شكَّك في قدرة الله في أن يساعده على البقاء حيًا رغم العقاب، لا يقول."أشدَّ من أن أحتملها"،"بل أشد من أن يُحتَمل"، أي لا يَقدر أحد على احتمالها، حتى الله.

l  يُلقي اللوم على الله في الخطر الذي قد يتعرَّض له، كما لو أنه يقول: أنت طردتني من الأرض، وإذا قتلني أحد، هي مسؤوليتك". ألقى ادم اللومَ على الله في خطيئته: "المرأة التي اعطيتنيها أنت"، وحواء ألقت اللوم على الحّية، قايين يُلقي اللوم على الله. لا أحد يتحَّمل مسؤوليته ويَتوب فيَغِفر لهُ الله.

l  قايين عرَف أنه أدخل عقلية القتل إلى العالم، لذلك فكلُّ من يلتقيه سوف يقتُله، هو الخوف وليس الندم على الشرِّ الذي أدخلُه إلى العالم.

"فقال له إذا، كل من قتل قايين فسبعة أضعاف ينتقم منه وجعل الرب على قايين علامة لئلا يقتله كل من وجده، وخرج قايين من أمام الرب وأقام بأرض نود شرقي عدن"(تك 15:4-16).

لا يحق لأي إنسان ان يدين إنساناً آخر حتى ولو كان هذا الآخر مجرماً أو شريراً فالدينونة هي لله وحده.

كما أن الانتقام البشري هو مواجهة الشر بالشر. لا يمكن للإنسان المَخلوق على صورة الله ومثاله أن يَتبنَّى عقلية الحيّة، فالشرير هدفه أعادة الخلق الحسَن إلى "العَدم" عن طريق إسقاطه في الخطيئة وإبعاده عن الله مَصدر وجوده. هذا الوعد لقايين هو أيضاً تحذير لكل إنسان "لا تدين ولا تنتقم"،انها دعوة للمسامحة، فالله وحده يدين الإنسان.

السَبعةُ أضعاف التي يقولها الله لا يمكن أن تعني أولاد قايين، رغم أن بعض الشُرّاح اليهود القدماء يقولون هذا، فالله لا ينتقم من الوالد بسلالته البريئة، والمعنى أن خطيئة القاتل سوف تنتقل إلى أبنائه، أي أنهم كلهم سوف يكونون مثله. هي دعوة لتحمُّل مسؤولية تربية الأبناء على المغفرة والاتكال على الله، والشرح الأسهل لهذه الكلمة هي أن "السبعة" هو رقم الكمال والكثرة، وهو رمزُ مقَّدس، وعلامة للعقاب الإلهي (راجع مز 12: 6-7، 12:79؛ أمثال 31:6).

ما هي هذه العلامة التي وضعها الله لقايين. الكتاب المقدَّس لا يشرحها، وبالرغم من أن كثيرين حاولوا تفسيرها، إلا أنَّه لا يُمكننا أن نجزم أن كان هناك فعلاً علامة خارجية. البعض يقول أنها صورة الله التي ظهرت على قايين بوضوح أكثر لحمايته! أن العَلامة في الكتاب المقدّس تعطى عادة للإنسان علامة لحسن نية الله نحوه. لم يرد الله موت قايين الخاطئ بل توبته. بدل أن يُظهر قايين التوبة أظهرَ الخوف من مصيره ملقياً اللوم على الله كسببٍ أوّل لمأساته. كما رأينا سابقاً، مهما كان نوع هذه العلامة، فالهدف منها هو حماية الخاطئ وتذكيره برحمة الله لكي يتوب.

"وخرج قايين من أمام الرب" (تك4: 16) هذا الخروج هو العقاب الأكبر، الانفصال عن الله والابتعاد عنه، الانفصال عن سبب الوجود وغايته، والنتيجة هي سكنه في أرض نود، وكلمة نود العبرية تعني التجول والضياع دون هدف. هذا هو العقاب الأٌقسى للخاطئ، أن يضيع بعيداً عن الله، لا يجد له ما يملأ قلبه وكيانه لأنه أنفصلَ بخطيئته عن الله.

لم يعاقب الله قايين، بل حماه بالعلامة التي وضعها عليه، أنّما قايين أدان نفسه، فالخطيئة جعلته ينفصل تلقائياً عن الله، لذلك لا يقول الكاتب. وطرد الله قايين، بل يقول:"وخروج قايين" وأقامَ في أرضِ الضياع والتشرد. بطريقة غير مباشرة يقول الكاتب أن قايين بقي مُصراً على عدم التوبة حتى النهاية، ولم يُبدِ أية علامة ندم، بل فضَّل الابتعاد عن الله، وأمام حرّية الإنسان يبقى الله عاجزاً، الشيء الوحيد الذي استطاعَ الله أن يَفعلُه هو أن يُعطيه العلامة، أي أن يَحميه بنعمتِه من الموت، علَّه يتوب.

 

 

 

 


 

الفصل الخامس

الطوفان

نصل الى نهايات الفصول الأحد عشر الأولى من التكوين. تحتلّ قصّة الطوفان تقريباً ربع هذه الفصول، لأنهّا تمتدّ على أربعة فصول كاملة (تك6ـ 9).

إن قصة الطوفان بغاية التعقيد، وإذا أردنا الدخول فيها بالتفاصيل ومن الناحية العلميّة. فهي ليست قصّة واحدة بل هي رواية جُمعت فيها روايتان مختلفتان لا يَصعب فصلهما.

 

الرواية الاولى

الرواية الثانية

§  سبب الطوفان هو شرّ الإنسان (تك 5:6)

§  فساد الأرض وعُنف الانسان (11:6-12)

§  الله يأمر نوح بأخذ زوج من كل نوع حيوان (9:6-20)

§  سبعة ازواج من الحيوانات الطاهرة وزوج من الحيوانات غير الطاهرة (2:7)

§      مدة الطوفان أربعين يوماً

§  مدة الطوفان سنة كاملة (6:7-11 و 13:8)

§  سبب الطوفان أمطار عظيمة (7:12 و 2:8)

§  انفتاح بوابات الغمر العظيم واندفاع الينابيع من الارض (11:7 و 21:8)

تركوا الفلك بعد ان ارسلو عدة طيور (6:8-12)

 تركوا الفلك بأمر من الله (15:8-17)

لَن نَتوقف على التفسير التاريخي النقدي لتكوين النص، بل نأخذ النّص في شكله النهائي أي قصة الطوفان، كما وصلتنا اليوم، أصلُها ومَغزاها وكيف نفهمها نحن اليوم.

الأصل التاريخي:

 سنة 1872 اكتشف علماء الآثار في مدينتي بابل واوروك العراقيّتين ألواحاً من حجر وطين كُتبت عليها أسطورة جلجامش. هذه الأسطورة كتبت على 12 لوحاً من حجر، وعلى اللوح الحادي عشر نجد قصّة الطوفان البابليّة.

بعد سنة 1872 اكتشف علماء الآثار ألواحاً أخرى كثيرة في الشرق كلّه، مع بعض التعديلات الطفيفة على القصّة لتناسب المكان الذي تبنّاها. هذا يدلّ على أن قِصة الطوفان قد أنتشرتْ في الشّرق كلّه كقصة رائجة وكان لابدّ أن تصل أيضاً الى إسرائيل القديم، لأنّ إسرائيل كان موجوداً في بابل لفترة طويلة من الزمن بعد السبي البابلي.

 

ماذا تقول رواية جلجامش؟

حين وجد البطل الملك جلجامش أنه أقوى بكثير من أتباعه صار يتسلّط عليهم بقسوة، لذلك قرّرت الآلهة أن تخلق إنساناً مثله وبقوّته لتُبعِد اهتمامه عن الناس الآخرين. فخلقت انكيدو وصار جلجامش صديقاً لأنكيدو وبدءا يقومان بمغامرات معاً. فقتلوا خمبابا حارس غابة أرز الآلهة في لبنان، ورفضا الحبّ الذي قدّمته لهما عشتار الآلهة، وقتلوا الثور المجنّح الذي كان يخص الإله آنو. مما لأثار غضب الألهة عليها عندها قرّرت الآلهة قتل انكيدو، خَاف جلجامش حين مات صديقه لأنه أكتشف قوة الموت ورهبته فأخذ يفتّش عن الحياة الخالدة. أرشدته الآلهة إلى نبتة ـ زهرة تعطي الحياة الخالدة، موجودة في قَعر المحيط فقطفها وأخذها، ولمّا وضعها على الشاطئ جاءت أفعى وأكلتها فسلبت منه الحياة الخالدة.

سمِع ببطل عظيم أنقذ الأرض من الطوفان يَسكن في آخر الأرض على الجُزر الغربيّة (قبرص) أسمه اوثبانيشتام ومكافأة على عمله أعطته الآلهة نعمة الخلود.

أخبر اوتبانيشتام جلجامش قصّة الطوفان (مشابهة جداً لقصة طوفان نوح) ليُقنعه أنه لا يمكن له أن يطمح للخلود لأنّ الآلهة وحدها خالدة وكلّ إنسان يموت. عندها عَاد جلجامش إلى مملكته. فلم يكتسب الخلود بل أكتسب الحكمة.

 

طوفان اوتبانيشتام

طوفا نوح

·   قرّرت الآلهة إبادة البشر لأنّهم حادوا عن الطريق الصحيح.

·   قرّر يهوه إبادة البشر لأنّهم أمتلأوا شرّاً وامتلأ قلبهم عنفا.

·   الإله إيا حذّر اوتبانيشتام وأمره ببناء فلك مطليّ بالزفت.

·      حذّر يهوه نوح وأمره ببناء فلك مطلي بالزفت.

·   طلب منه إدخال كلّ أنواع الحيوانات وكلّ أصحاب الحرف وعائلته.

·      طلب منه إدخال عائلته وكلّ أنواع الحيوانات.

·      أرسل الطوفان فدمّر الأرض.

·      أرسل الله الطوفان فدمّر الأرض.

·   حين بدأت المياه تتراجع أرسل اوتبانيشتام حمامة وبجعة وغراباً.

·      حين بدأت المياه بالتراجع أرسل نوحاً حمامة وغراباً.

·      توّقف الفلك على قمّة جبل نذير.

·      توّقف الفلك على قمّة جبل ارارات.

·      بنى اوتبانيشتام مذبحاً وقدّم ذبائح للآلهة.

·      بنى نوح مذبحاً وقدّم ذبائح للربّ.

·   قَبلتْ الآلهة محرقة اوتبانيشتام وتصالحَتْ معه وندمت على إبادة البشر.

·   قَبِل الله ذبيحة نوح وندم، فأزال اللعنة عن الأرض ووعد نوحاً بالخيرات وأقام معه عهدًا.

·   الإله إنليا بارك اوتبانيشتام وزوجته بموهبة الخلود فعاش على جُزر الغَرب.

·   بارك الله نوحاً وسلالته لينموا ويملأوا الأرض من جديد.

خطيئة الإنسان قبل الطوفان.

أبناء الآلهة يأخذون بنات البشر زوجات لهم. (تك6: 1ـ 4)

 هذه الآية هي غير واضحة، ربما تستند بدورها إلى أساطير غير يَهودّية أخذَها شعب إسرائيل في فترة السبي. من هم أولاد الآلهة؟ نجدهم في عدّة مواضع في العهد القديم، خصوصاً في سفر أيوب. نجدهم يدخلون إلى بلاط الله السماويّ ويقيمون معه حديثاً، ومن بين أولاد الآلهة هؤلاء نجد الشيطان (اي1: 6؛2: 1).

إنهم كائنات روحية أدنى من الله إنّما يحيطون به. هل هم ملائكة؟

إن استعمال "أبناء الله" هنا في إطار الخطيئة يجعلنا نفكّر في معنى آخر. أنها معتقدات الشعوب الأخرى التي أعتنقها شعب الله. إنها عبادة الآلهة الغريبة والتي كان يَحدثُ خلالها عادة ما يدعى "الدَعارة المقدّسة" أي ممارسة الجنس في إطار احتفال دينيّ تكريماً لإله من الآلهة الغريبة.

خطيئة شعب الله، أو الإنسان قبل الطوفان، هي تركه لله وعبادته لآلهة غريبة سعياً للسعادة. انها نفس خطيئة آدم وحوّاء التي تَكلّمنا عنها في الفصل الثالث.

عقاب الله الأوّل كان في الآية(3) لن يكون روحي فيه إلى الأبد، أي انه لن يكون خالداً، بل يموت ولا يحيا أكثر من 120 سنة (تك6: 3).

الخطيئة التي استدعت الطوفان كانت موّجهة لا إلى الله بل إلى الإنسان. أمتلأ  الإنسان شرّاً ـ وـ "عنفاً" وهذه الخطيئة هي خطيئة قايين، موجّهة ضدّ الإنسان والطبيعة. العنف هي الخطيئة الاجتماعية، هي الاعتداء على حقوق الآخرين عن إرادة مسبقة بدافع من الطمع والحقد، واغلب الأحيان من خلال استعمال القوّة الجسدية العنيفة. الله يَغفر الخطيئة الموجّهة نحوه، إنّما يعاقب بعدالة الخطيئة التي تَمُس المجتمع البشري.

"ورأى الله (ونظر الله) الأرض فرآها قد فسدت" (تك 5:6).

يُصِرّ الكاتب هنا على استعمال "رأى الله" ليعيدنا إلى قصّة الخلق. رأى الله أنه "حَسَن" (جميل) ويقول إنّ الإنسان قد دمّر الأرض قبل طوفان. حرفياً نرى: "أنّ الأرض قد فَسَدت" أو "أفسَدَت نفسها".

سبب فساد الأرض. "لأنه بسبب الإنسان امتلأت الأرض عُنفاً". العنف يُدمّر الخَليقة ويُعيُدها إلى حالة مُشابهة بحالة العَدم الأولى"الفوضى ـ توه وبوه" (تك1:1). يقول الكاتب إنّ الإنسان هو الذي دمّر ويدمر الأرض وليس الله. بالعنف يُعيد الإنسان الأرض إلى حالة الخواء والخلاء، حالة ما قبل الخَلق، أي حالة ما قبل اللحظة التي رأى الله فيها الأرض جميلة. العنف يدمّر الجمَال، يدمّر إرادة الله في خليقته، ويُعيد الخلائق إلى حالة عدم الوجود بطريقة غير مباشرة.

لذلك نجد في 9: 4 ـ 6 بعد الطوفان، ان الله يُقيم عهداً مع نوح، ويُحاول أن يُلغي العُنف في الأرض. لا يأكل الإنسان الحيوان مع دمه بعد الأن، أي مع حياته، فالدم هو الحياة. وبالتالي نجد الله يَمنع الإنسان من القضاء كُليّاً على الحيوان، كما نجِده يُعاقب الحيوان الذي يَفترس إنساناً.

انه انتقال من حالة السلام بين الكائنات الى حالة مُسالمة أي حالة عَدم تَقاتل والرادع هو العدل الإلهي.

لكي نفهم هذا النص جيداً يجب أن نقرأ حزقيال(7) هناك نجد أن العقاب والإبادة سببها العُنف وشَرّ قلب الإنسان. والنتيجة هي دمار أورشليم، هذا هو المعنى. دمار الأرض بالطوفان هو رمز لدمار أورشليم بسبب العُنف وشرّ الإنسان، وبسبب عبادة الآلهة الغريبة.

الطوفان هو تجديد للخليقة والمحاولة الإلهية لإعادة آدم إلى حالته الأولى:

في قصة الخلق:

في قصة الطوفان:

·     الله يفصل المياه عن اليابسة.

·     المياه تعود فتغطّي اليابسة.

·  جعل الله الرقيع ليفصل بين مياه المحيط ومياه الغمر العظيم.

·     تفتّحت نوافذ الغمر العظيم.

·     خلق الله كلّ الحيوانات والزحّافات والبشر.

·     ماتت كلّ الحيوانات والزحّافات والبشر.

·     نَفخَ الله نَسمَة حياة في آدم.

·     كلّ من في أنفه نَسمَة حياة مات.

 

في هذا كلّه نجد انَّ العَمل الذي صَنعه الله حين خَلَق كلّ شيء، ورآه حسناً، قد دُمّر كُلّياً. بقي فقط ما هو حسن "رأيت أنَّك وحَدك حَسَن (صالح( في هذا الجيل" (تك 1:7). ويقصد به نوح.

معنى الطوفان:

انه رمز للشرّ ولعالم الموت، فيها يعيش لويثان (التنين العظيم الأسطوري الذي تكلّمنا عليه في قصة الخلق). هو الشر الذي لا يسبّبه الله إنّما شر البشرية، بالشرّ يعود الإنسان الى حالة الفوضى، يُخرّب خَليقة الله الحَسنة، يقول اشعيا: "ها إنّ الذي يخرّب الأرض، يُخليها ويَقلُب وجهَها ويُبدّد سكانّها" (أش 24: 1) "تنوح الأرض وتذبل، تخور المسكونة وتذوي والسماء والأرض تخور. الأرض تتدنّس تحت سكانّها لأنهم خالفوا الشرائع". (24: 4-6). ويكمل أشعيا: "تتفتّح مزاريب السماء وتَتَزلزل اُسس الأرض فتَتَزعزَع وتَتشقّق وتتَحطّم. وتَهوي كالسَكرانِ وتَتأرجَح كالعرزال في العاصفة وتكون مَعاصيها ثَقيلةُ فلا تَقدِر أن تَقوم" (أش24: 18ـ 20).

إنّما الذي يحفظ وصايا الله يَعبر المياه فلا تؤذيه: "أنا خلقتك يا يعقوب، يا إسرائيل أنا جبلتك، لا تخف فأنا افتديتك، سمّيتك وجعلتك لي، إذا عبرت في المياه، فأنا معك، او في الأنهار فلا تغمرك..." (أش 34: 1-2). الطوفان هو إذاً رمز للدمار الذي يسببّه الإنسان لنفسه وللعالم بسبب خطيئته. الدمار الشخصيّ والدمار الجماعيّ. فَخطيئة الإنسان أيام نوح لم تَكُن مجرد خطيئة شخصية بل جماعية شاملة:

l      فسد قلب الإنسان وامتلأ شراً.

l      الأرض فسُدت وامتلأت عنفاً.

والطوفان كان نتيجة لهذا الفساد.

صار نوح رمزًا للبارّ الصدّيق المُضطَهد، والله وحده قادرُ أن يُخلّصه من آلامه. فنوح كان يتّقي الربّ في جماعة عَنيفة لا تؤمن، اما هو آمن فنظر اليه الربّ.

X       نوح كان رجلاً باراً ) وكاملاً (

X       نوح يتمّشى مع الله (آدم الجديد).

X       نوح الذي سَمِع ويؤمن بكلمة الله (مثال لشعب إسرائيل).

X       نوح الذي نال العهد الأوّل من الله، الوعد بالحماية.

X       نوح الذي بنى الفُلك وسُليمان الذي بنى الهيكل (قارن بين تك 6: 11- 16 و 1 ملوك 2: 6 -11).

X   العهد والوعد بالحِماية بعد مواصفات الفلك (تك6: 7) والعهد والوعد بالحماية لسليمان بعد مواصفات الهيكل (1 ملوك 6: 11-13).

وأقفل الله باب الفُلك: الله يحمي شعبه.

نوح أدخل أبناءه معه:                

سام: أب الشعوب الساميّة.

حام: أب الشعوب المصرية وشمال إفريقيا.

يافث: أب شعوب البحر وأوربا.

دلالة على أن الله، من خلال الفُلك، رَمز الهيكل، يُخلّص كلّ الأمم لأنها تخرج من أبناء نوح (راجع تك10).

الطوفان: هو العِقاب لترك العهد.

الفُلك: هو رمز الهيكل، هو أيضا رمز لشعب إسرائيل أي للإنسان الوفيّ لكلمة الله.

أبناء نوح: هم الشعوب كلُّها التي تَخلُص بكلمة الله أي الشعوب التي سوف تؤمن بالله بسبب إسرائيل.

الحيوانات كلّها: هي الخليقة المُجدّدة التي يجب أن تكون مثل نوح، بارّة ولا عيب فيها.

ندم الله: أي أن وعد الله يُعطى مرّة واحدة ولا يُعاد هو وعد أبديّ لا يرجع عنه.

قوس الغمام: هي التوراة، الشريعة، العهد الذي أعطاه الله لشعبه.

وعَهد الله مع نوح لن يكون آخر عهد بين الله والإنسان. فهناك عهده مع إبراهيم (تك17: 1) وكانت علامته الختان. ثم عهده مع موسى في سيناء حيث يحضر الله في شعبه عبر مسكن يبنونه له، وكهنة يقومون بشعائر العبادة. هنا نترك الأساطير القديمة التي تجعل الإنسان بعيدًا عن الله، ونتعرّف إلى تاريخ مقدّس هو تاريخ علاقة الله بالناس الذي ستكون قمته "عمانوئيل".(اش7: 14)(متى1: 22)

 إنّ عَهد الله مع نوح كان صدى لتلك الكلمات التي قالها الله لآدم: "انموا وأكثروا واملأوا الأرض". كان آدم أبا البشرية الأولى إلى زمن الطوفان. وسيكون نُوح أبا البشرية الثانية بعد زمن الطوفان. بآدم حل الشفاء على البشر، وبنوح بَزغَ فجر علاقات جديدة من الصداقة بين الله الأمين الذي لا يمكنه أن ينكر نفسه وبين البشرية الخاطئة كلها. إن آدم يتضمّن في شخصه كل البشر، كذلك نوح لا يمثّل نفسه فقط، بل يمثّل البشرية كلها في لقاء جديد مع الله على طريق الخلاص...

 

 

 

 

 

 


 

المصادر والمراجع

§         الكتاب المقدس، بيروت، دار المشرق. ط 6 ،2000

§         معجم اللاهوت الكتابي، بيروت، دار المشرق، ط 2 1988.

§         شربنتييه، اسطفان، دليل الى قراءة الكتاب المقدس،بيروت، دار المشرق،1990.

§   المخلصي، كوب سفر التكوين، كورس دراسي مقدم لطلبة اللاهوت في كلية بابل للفلسفة واللاهوت، بغداد، 2003 - 2004.

§         حبي، يوسف، الانسان في ادب وادي الرافدين، بغداد 1988.

§         باقر طه، ملحمة كلكامش (الخلود والطوفان)، بغداد، 1986.


 

الفهرس

 

 

الموضوع

الصفحة

المقدمة

1

الفصل الأول

تركيب سفر التكوين

3

الفصل الثاني

قصتا الخلق

11

الفصل الثالث

الإنقطاع الأساسي (الخَطيئة) (تك 1:3-24)

31

الفصل الرابع

"مقاطعة الإنسان أخاه"

45

الفصل الخامس

الطوفان

63

 

 

 

· راجع شربنتييه، اسطفان. دليل إلى قراءة الكتاب المقدس. رواية الخلق.ص39.

· هي نتيجة طبيعة لتصرف كل واحد من الأخوة، لأن الله لا ينظر إلى التقدمة، بل إلى قلب المقدم ونيته.

· هل هي توبة قايين للأسف؟ ام هي خطيئة أخرى يرتكبها تجاه الرب.