لأعزائنا الصغار

رسامات

عيون بخديدا

Museum متحف

أرشيف الاخبار

فنانونا السريان أعلام

أرشيف الموضوعات

إبراهيم كولان

 

قصة قصيرة

 

الفتى هو

 

تناثرت طفولته بين عجزه عن تفسير بواكير الأمور وأسرار دموع أمه التي كانت عاجزة عن أن تروي روحه الظمأى وراء نظراته المستفزة, كلما يتذكر كلامها عن الشيخ يتذكر نثار دموعها وتتكاثر الغاز الحياة حوله, يتوسل إلى طفولته الغضة أن تجيبه عن تساؤلاته المزمنة لكن بلا جدوى, أفي الدنيا أسرار عصية على الفهم؟! يذكر أن أبوه كان صيادا ماهرا, ويتذكره حين يعود وبيده طريدة من طرائده اليومية فيهرعون إلى حملها منه وإيقاد النار ليجتمعوا حولها وجبة من الألفة والفرح.... وليطفئ جراح براءته  اتكأ على حلم من أحلام اليقظة, ففي ساعة من ساعات النحس قد قذفت أباه  إحدى طرائده إلى الوادي وتبعها, أو ربما أخذته عندها وسيعود يوما ما.... وينكفئ إلى غصته حين ترمي أمه بكلماتها كوهج تلفح وجهه في ظهيرة صيف...

-        رحل وما من جدوى من انتظار الأيام يا ولدي!

-        لم كل الناس يوقدون النار في الليل إلا نحن؟! حتى إذا عاشت القرية ضياء دافئا عشنا ظلاما باردا يا أمي!....

-        لا تنثر الملح على الجرح يا ولدي! ستكبر وتعرف ما تعجز عنه الآن!

ما كان لعوده الغض أن يتحمل غلظة هذه النبرات.... لكن حين توالت سنوات الشقاء المتقافزة على رصيف حياته, لم يعد في العمر متسع لإخفاء ما لم يعد من الممكن إخفاءه....  وفي شتاء من الشتاءات حين ألح في مغازلة الدموع تناثرت كلمات أمه من بين الشهقات....  

-        لقد غدر به رجال الشيخ....

تفجرت من عينيه كلمات الدعاء والانتقام! وبان التساؤل لا نهاية له, وزاد مقته وكرهه لرجال الشيخ.... والسؤال الذي ما بطل يكبر في عينيه... نظرات الجميع ووقاحة الجارات ومشاكسات أولاد الحارة.... فمنذ سنين خلت لم يذكر يوم فرح فيها, وسؤالا عصيا عن التفسير يقرع رأسه, لم ساعات المحن كثيرة وساعات الغبطة لا تذكر... ويغازل عناده....

-        لم يكون الغدر جزاء أبي هو وحده وليس غيره؟

-        استر علينا لئلا يسمعنا احد! فللهواء آذان... سيخرجوننا من القرية وراء أذيال الحمير...

-        والآخرون؟! لم  نحن كالغرباء بينهم؟ كلهم ينادونهم بأسمائهم الا انا فينادوني هو...

-        الناس على دين ملوكها! رحل الشيخ وحل محله المختار!....

غرزت كلمة المختار غصة في حلقه, ونظر حذرا إلى الطريق, تساءل, أيكون إلى الآن ابن المختار قد ورث عداء الشيخ ورجاله, وهل عواطف الشيخ معدية تورث الآخرين ميراثها؟!...

وكلما توالت ساعات المحن كثرت مغاليقها! فتختم أمه حيرة نظراته......

-        حان وقت الذهاب إلى المدرسة يا ولدي!

بلع ريقه ونظر إلى الطريق, هنالك فتيان يلعبون, نظرت أمه حيث وجهة نظره لكنه غير الوجهة,

حاول السؤال فغص به, يعرف بأن جوابها سيكون مزيدا من الدموع... حمل حقيبته المصنوعة من بقايا دشداشته القديمة, وحط دشداشته المرقعة في سرواله, مشى حذرا عسى أن لا يكون قد كمن له في الطريق, تقدم بخطى سريعة كي يتفادى من يصادفه, لكن تعثرت خطواته حين رأى ابن المختار, تلفت يمينا وشمالا لتسحبه قدماه خلف امرأة كانت تعبر الساقية عساه أن يحتمي بقشة!... فتلفتت حاملة الجرار بعيون غضبى!

-        سأنادي ابن المختار ليؤدبك ويمنعك من المسير وراء النساء!

فعرج إلى حيث الرجل الذي يعبر القنطرة....

-        الم تلق غير ابن المختار تتحداه؟ اغرب عن وجهي!

وبالكاد استطاع أن يسابق قهقهات ابن المختار واستهزاؤه حتى وصل المدرسة لاهثا, جلس على إحدى الرحلات وحيدا... تنظم الفتيان في ساحة المدرسة وارتفع العلم عاليا يرفرف في السماء... خلال الصمت المهيب صرخ المعلم!

-        ليتقدم الطالب الذي لم يسبق له أن رفع العلم!

وفي كل ظنه انه المقصود! فلا يذكر انه تشرف برفع العلم مرة واحدة! يتقدم حتى يصبح في المقدمة... لم يعد يرى من خلال غشاوة دموعه الخجلى غير ابتسامات ولفتات السخرية! تضخم رأسه بقرقعات عربة عتيقة, مد يده ليمسك العلم فأحس ان دشداشته علقت في الأرض! ونظر فإذا بيد ابن المختار نتفة من مزق دشداشته, سقطت الحقيبة الدشداشة وتمزقت الدشداشة الحقيبة المدسوسة في سرواله سحبها ليسمع صريرا!....

-        أهذا قميص أم دشداشة؟

تساقطت الضحكات من الطلاب على رأسه كأحجار صماء, صرخ المعلم!

-        أبهذه الثياب ترفع راية الوطن؟!

أحس بلطمة على وجهه شعر أثرها بحرارة بين فخذيه ثم برودة, فترددت دمعتان في عينية.... تنحدر قدماه بخطوات المهانة والذل ويعرج إلى الطريق الآخر يجلس على حجرة كبيرة يرمم ما قد تمزق من روحه!.... هل يذهب إلى البيت مباشرة, وما عساها أمه تفعل غير ان تنثر مزيدا من الدموع! فليس لها غير دموعها تعيده إلى المدرسة في اليوم التالي, تلكأ قليلا حيث كان يسير ليطيل مساقط أقدامه, اتجه حيث يلوذ ثلة من الفتيان في زاوية خربة, يجلسون لصق حائط خرب, بنظرات حذرة تفحصوا القادم, حين اقترب منهم ترددوا, لكن حين رأوا هو ابن الأرملة استمرت الكعوب بالدحرجة على الأرض, والدراهم أكواما تتلقفها أيادي تمتد لتنتشلها بعيون تقدح وقاحة... من أين يأتون بهذه الدراهم الرنانة! وقارن بينها وبين غصة ترن في جيبه وبطنه... تدحرج الكعب أسفل قدم احدهم فدفعه الآخر ليسقط على قفاه فكثر اللغط...

-        هذا حرام!

-        لصوص!

تلقفت الأيدي الدراهم وتصاعدت الصرخات و كثرت المناوشات, فسقطت الكعوب تحت أقدامهم,  ترصد احدها أثناء المعركة فحطه في جيبه وانسل هاربا.... في الطريق أراد ان يجرب تقلبات الكعب ويعرف سطوحه ووجوهه, فاخرج الكعب ورماه مرة ومرتين وثلاث.... في لحظة سيئة كسوء حظه سقط  الكعب تحت كعب شرطي صادف مروره في تلك اللحظة, فقلبه الشرطي بين يديه ليضربه على رأس الفتى, حسبها الأخير اهانة أهون من كل ما مضى!...

-        ابن الأرملة يلعب القمار؟!

حين عاد لم يجد غير دموع أمه ككل مرة ترتق روحه الجريحة الممزقة...

-        أمي لن اذهب إلى المدرسة بعد الآن!

عرف ان دموع أمه ستثنيه عن عزمه كما في المرات السابقة... لكن هذه المرة لم تستطع دموعها ان تثني دمعتان انحدرتا على خديه فسكت ونهضت...

-        سأذهب إلى المعلم.....

تخطت مسرعة ثم توقفت فجأة! تنصتت, أدارت رأسها, بان صوت طائرة واضحا, وتبعه صوت صافرة الإنذار....

-        في كل غارة تعطل المدارس غدا سيكون المعلم في بيته!

-        قلت لن اذهب إلى المدرسة بعد!

نضح العرق البارد المتصبب من جبهته حين دعاه ابن المختار أيكون تحد للمصارعة أم لشق ما تبقى من دشداشته؟!  تقدم بقلب ينتفض وجلا, عدة فتيان شكلوا حلقة حول ابن المختار على حافة الطريق, اتجهت الأنظار إليه, تسمر متلعثما قبل ان يتقدم فكر مليا, سيسقطه أرضا وان قاوم فليس جزاء ذلك إلا مزيدا من الضربات....

-        اعترف بأنني لا اقدر عليك!

-        بل قل أنا جبان!

-        أنا جبان!

صخب ألف طاحونة يهشم رأسه... تمنى لو تنزل من السماء صاعقة لتخسف الأرض وتعبر هذه الساعة! او زلزالا هائلا يسحق هذه القهقهات لتقلب صفحة الزمن إلى زمن آخر! وجف قلبه للحظات حسبها دهرا.... تحرك شيء في دواخله حين تناهى إلى سمعه صوت طائرة, رفع الجميع رؤوسهم إلى الأعلى, هدير طائرة بدا يهدر في قلوبهم, تسمرت نظراتهم نحو السماء, أزيز عدة طائرات بدا واضحا, واقترب صراخ طائرة أخرى تموج يمينا ويسارا فماج الجميع بالحيرة والخوف, انطفأت أعين ابن المختار تطلعوا إلى هذه الاشباح وهي ترسم في الفضاء سيمفونية غرائبية! انكفأوا وأعينهم مصلوبة نحو بعضهم.... تنفس الصعداء, وكان حجرا كبيرا انزاح عن مخانقه, انطفأت أعينهم عنه.... أصبح شاغلهم شيئا آخر وليس دشداشته... تجمدت ابتساماتهم الهازئة على شفاههم, لقد سرى بينهم الحداد وعادت إليهم سمات وجوه تنطق بالسؤال! تمطي بارتياح عجيب وهو يرى الغربان التي كشكشت عنه أسراب الجراد... استدارت أعين ابن المختار دورة كاملة... حمدا لله بدأ سريان الصوت في شرايينه, وأخذت شفتاه بالارتعاش! لا يعرف تراجع أم تراجعوا عنه... بدت المسافة بينه وبينهم ابعد من ذي قبل... سارقا ابن المختار نظرات خجلى لئلا يكشف عري كبريائه! اندست عصا احدهم بجيب آخر, سقطت محفظة الاعسم الممتلئة حين تراجع إلى الوراء, أراد ان ينحني لالتقاطها فصرخت الطائرة به ليتركها غير آسف! تلاه انفجار هائل ودخان كثيف على مبعدة.. تقافزت الخطوات والأقدام ونداءات التحذير, وتشرذم الجميع كل في طريق, أصبحوا ظلالا هائمة تبتعد... لم يبق في الساحة غير فردة نعل وعصا مطروحة ومحفظة ابن المختار! التقطها من الأرض وهو يتأملها! آه, فعلا ليس أوان المال الآن! وقبل ان يضعها في جيبه بان المختار من بعيد يدعو ولده إلى البيت, تساقط الفرح في عينيه لرؤية هذا الجبار يهرول هلعا... ها قد اجتثت أعصابهم جميعا من الجذور, بادره الفتى..

-        لا تخف على الاعسم  لقد عاد من الطريق الأخرى..

ثم أردف بنشوة!

-        ابنك ولد شجاع

يتراجع المختار مبهوتا لا يفهم ما يقوله الفتى  فبادره الأخير بلسان جديد..

-        أمحفظة الاعسم هذه؟!

تلقفها بأعين تبرق بالوجوم مؤجلا امتنانه بنظرات تفضح كل مكنوناته!

لأول مرة في حياته يرى أمه تبتسم وهي تراقب ارتجاف أقدام النسوة وتعثرهن  بالجرار! فارتجفت شفتا أحداهن وهي تنظر معجبة ممتنة لابتساماتها...

-        حمدا لله ان كان في هذا الوقت العصيب احد يضحك, ويحمل بعض الخوف عنا...

اطلوا عليه من المخابئ ان يسرع في طريقه, لكنه تمادى في التبختر, استقبله شارع فرح, فأزيز الطائرات زقزقة عصافير في أذنيه, انفض الجميع عن الوليمة قبل ان تمد يد احدهم إليها, لقد زادهم الخوف عفة وخلقا, فاخذ يقضم ما يلتذ به من هنا هناك... تناهى إلى سمعه صوت بكاء طفل التفت ليشاهد طفلا يتعفر في التراب...

-        من هذا؟ قالت أمه...

-        طفل ضائع!

تطير الطائرات فتطير أفئدتهم خارج صدورهم, دوي الانفجارات يخلع القلوب من مصاريعها! تتراقص أنجم الحيرة في وجوههم, تلقي الطائرات مكنوناتها فتلقي القبض على قلوبهم, وتحوم معها غربان نفوسهم الهاربة....

تزاحم الناس في دار المختار ينظرون بخوف إلى بعضهم, سرى بين الناس العطش, وبان المدير يلتصق بالمختار هربا من كلماته التي تخطت أصول اللياقة... تصاعد الخصام بين المختار والمدير...

-        من سيفتح صنبور محطة إسالة الماء والكل لائذون بأقدام نسائهم؟!....

في تبختره رأى الطرقات ما أوسعها وأجمل التواءاتها, لا يرى غير الفرحة ترتسم على الحيطان والأبنية والطرقات, قلائل علي الطريق مندسين في عجالتهم احدهم يحذر الآخر!.... قادته قدماه إلى المدرسة, يبدو ان الجميع تركوها على عجل فما زال علم المدرسة مطروحا على الأرض, غرفة الإدارة غير مقفولة, والأبواب مشرعة للهواء يتلاعب بها, لكن لم يجد مفتاح أيا منها....

علا صياح المختار بوجه المدير!

-        كيف تتركون المدرسة وتهربوا؟!

-        نسينا ان نقفل الغرف...

-        ومن الذي سيعيد ترتيب المدرسة إذن؟

-        فليذهب احد من رجالك...

-        إنني أحذركم!!

طار الفتى إلى المدير, دخل كرسول إلى بيت المختار, حين علم باجتماعهم هناك, وقد تصاعدت حدة الصراخ بين الجميع! حياهم بابتسامة واثقة! وجم الجميع, فاستقبلته الأعين في تلك اللحظات الثقيلة, تستفسر عن ما يكون من أمر جديد!....نزع عنه فتيل الخوف! فما تزال العصافير تحوم في السماء....

-        أريد المفتاح لأغلق أبواب المدرسة!

وكان ثقلا انزاح عن صدر المدير

-        نسيت ان أغلقها

-        بل هربت قبل إغلاقها

-        صدقت! انك فتى شجاع حقا 

-        ورفعت العلم المطروح أرضا ووضعته في مكانه حيث يجب ان يكون...

-        وحدك من سيرفع العلم بعد الآن!

هكذا ختم المختار الجلسة وهو يرمي بنظرات نارية تطفئ نظرات المدير...

تتلقف زوجة المختار الأزقة والطرقات بحثا عن طفلها, ينادي المنادي عن طفل ضائع في بيت الأرملة, تهرع إليها! رأتها تحتضن الطفل بين يديها على عتبة الباب, تتقدم بلهفة لتلثم يدها بدموع الفرح!

-        إنني مدينة لك بحياة ولدي!

لا هدير... لا صافرات... يتسع الشارع ...تنصهر المدينة.... ينطفئ السراج.... في صباح جديد, وقف المدير والمختار في الساحة, رفع التلاميذ الفتى بقميص وسروال جديدين رافعا بيده العلم.....

 

  

- انتهت -

 

اكبس هنا للانتقال الى صفحة ابراهيم كولان