لأعزائنا الصغار

رسامات

عيون بخديدا

Museum متحف

أرشيف الاخبار

فنانونا السريان أعلام

أرشيف الموضوعات

إبراهيم كولان

 

قصة الأسير

 

إبراهيم كولان

 

 

في المكان الشرقي من المدينة وفي ليلة من ليالي الصيف الباذخة بالهدوء والألفة والدفء افترشت الأرض.... كانت روح الليل تجثم حولي على الوديان والسفوح والأشجار.... الحلكة تغمر الأشياء بكلام لا تبوح به.... أنفاس الليل تعلو وتهبط كأنفاس طفل صغير.... أو كوحش أليف.... أو كانسان هائل بعباءة تغطي الكون.... اسمع صوته هادئا منسابا بين الكائنات.... يكلم الأشياء والخلائق والموجودات.... أهيم به.... تدثرني حكاياه فأغفو إغفاءة وليد في أحضان أمه.... يهمس.... يناغي.... يتكلم.... يغني.... يحلم.... ينام.... يصحو.... فمن ذا الذي يسمع ما يقوله الليل؟! ترى كم من الدموع يمسحها أو يسكبها.... وكم من الأسرار يكتمها.... وكم من مؤامرات يدفنها.... وكم من غزل تحبكه عباءته الهائلة.... يتراءى لي بأنني اسمع أنينا منسابا عبر الفضاء والزمان والمكان.... أنينا آتيا من خلف الأستار عابرا المسافات من مكان ما من هذا الليل.... ترى أين تكمن خلاياه هاجعة او متحفزة....

..................

اسمع أنينا طويلا مستمرا.... أيكون آتيا من الشفق الشرقي الأحمر البعيد؟ فكم من مرة وأنا شارد في عمق مناجاتي اسمع هذا الأنين.... يبدأ خافتا هادئا في أول الأمر لكنه يعلو تدريجيا إلى أن يعصف بقوة ليقطع الأوتار التي يعزف عليها... أفيق من غفوتي فأرى نفسي بين حشد بشري في معابد نيبور وطيبة جاثمة أمام قرص الشمس وهو ينهض من الأفق البعيد.....

...................

بعد محاضرة شيقة عن الشرق وسحر الشرق عدت إلى البيت.... فتحت الباب الخارجي تناهى إلى سمعي صوت أنين أشبه بثغاء.... اتجهت إلى الجهة الشرقية من البيت ودلفت إلى الممر الخارجي خلف البيت حيث الحائط الفاصل بيني وبين جارتنا العزيزة المسكينة التي ماتت ابنتها قبل ثلاثة أيام.... نظرت إلى الأنحاء ثم إلى الأسفل فلاح أمام ناظري على الأرض  دمية صغيرة على شكل دبة صغيرة.... لاحت لي كأنها فتاة ترقص مرمية على الأرض.... رفعتها بيدي فحل محل الأنين صوت الأم آتيا من فوق السطح وهي تتأملني.... رفعت راسي إليها.... ومن خلال غشاوة عينيها بالدموع قالت لي إنها دمية الصغيرة رحمها الله.....

.....................

ما انفك هذا الأنين يأتيني منسابا عبر المسامات.... هبطت السلم ما زال الأنين متواصلا بل هو أشبه بمواء هذه المرة.... دلفت الغرفة ونظرت تحت الكراسي والأسرة والأرائك.... لم أجد شيئا.... خرجت إلى الباحة الخارجية.... توجهت إلى اليسار.... ابتعد الصوت.... من المؤكد انه من الجهة الأخرى.... من الجهة الشرقية التي يأتي منها دوما.... بدا المواء واضحا جليا.... مواء قطة بالتأكيد! مالذي تبغيه وشباط ليس على الأبواب! طال المواء.... كان أشبه ببكاء أو عويل.... اقتربت من الزاوية البعيدة في الممر الخلفي للدار.... إنها تقبع بين قطع من الصفائح والزجاج ومبضع الأسلاك المنغرزة في قطع الخردة المرمية بفوضى.... منكمشة لا تستطيع الحركة.... ربما غرز في جسدها صفيحة حادة أو سلك شائك أو قطعة مكسورة من زجاج.... أنها لا تتحرك كان مواء موجعا مؤلما.... وهي تنظر بعينيها المتوسلتين.... حين مددت يدي لم تتحرك.... تغيرت نبرة المواء إلى مواء هامس ودود.... حتى رفعت بعض الصفائح.... لم تتحرك.... سحبت يدي فانسلت بحذر وخفة هاربة من الأنين شاكرة أنين يدي.....

.......................

يسير هذا الأنين معي كثير من الأحيان.... حين اخرج من البيت أو انزل السلم أو من على سطع المنزل.... قد اسمعه كهمسة أو كلمة أو أغنية أو ضحكة أو صرخة ما فأحس بالأنين يقترب مني.... ما يحيرني لا اعرف من أي المسافات يأتيني.... هذا اليوم كان الأنين واضحا جليا.... استرسلت مع أقدامي بخطوها تسحلني إلى السوق وسط المدينة.... وقفت عند رصيف الشارع.... ها هو الأنين يأتيني هادئا ثم ينشط أنابع هو من أبواق السيارات أم الهواء اللافح ينفثه.... أم من بين المارة.... لكن لم يطل انتظاري هذه المرة.... نظرت إلى الجهة الشرقية من الشارع رأيت صبية في العاشرة تركض مولولة بين المارة.... شعر أشعث.... ووجه محتشد بالملامح من كل لون وعيون عصت عليها الدموع.... بصوت مفجع وعيون تقدح شررا تعلن النبأ بحزن ممزوج بالفخر أو الألم أو التماهي وهي تصرخ خالي!.... خالي!....  تركض ويركض معها الأنين بحرقة فؤاد طفلة فقدت عزيزا.... تركض وتنثر فجيعتها حولها متجهة إلى بيت خالها ربما.... استشهد.... مات.... دفن.... رحل.... غاب.... تاه.... هجر.... لا يهم! برتابة تكرر الكلمة.... تابعتها بنظراتي.... وهي تثير ما خفي تحت عباءة الشارع الذي يطوي جدولا من الدموع تحت أقدامه.... وما أن نهضت الصصبية من حضن أمها حتى فتح أمامها باب كبير للأنين الآتي...

.....................

في الليل يهدا النهار وتتلاشى تخرصات الجراد.... تظهر الوديان هائمة قاتمة منذرة.... يسكن الكون إلا من ذبالات التنوير الممتدة على مدى الحلكة والمسافات.... يبقى سميرك الوحيد صوت قذيفة تنطلق من العدو لتتبع فحيحها في أية حفرة تنام ومن يا ترى سينام معها.... وفي الجنبات حيث الجنود المسفوحين على السفوح تحت رحمة قطرات النوم الأخير.... لتهتز الأرض على مقربة منك أو مبعدة بقذيفة يهتز معها الكون.... تتحسب المسافة الزمكانية لتعرف أية كعكة تختار سكين القذيفة.... فتجول بينهم.... أي صديق قد هجرك إلى الأبد.... أية أنفاس قد هجعت.... حين يهجع منتصف الليل ويتأخر موعد القذائف يأتي سميري الخنزير في غفلة من البشر الهاجعين ليأخذ حريته في تقليب الأواني.... يسقط الجلكان أو يقلب إبريق الماء يتلمس هنا وهناك ويتصفح أوراق الزبالة.... جاء الأنين مرة أخرى لكنه أنين مختلف ليس شبيها بالمواء هذه المرة بل أشبه بشخير مجموعة من البشر يعزف معزوفة بآلة مقطعة الأوتار.... يسري هادئا في النصف الشرقي من الليل.... بعد زمن غير مكتمل.... رشت الأماكن التي حولنا برشقات طويلة من هدايا الموت.... توالت البرقيات بالبريد العاجل... بدا العدو هجومه على جبهتكم فخذوا ما تيسر لكم من الأنين الوارد والصادر....

.........................

ما زال المطر يهطل لليلتين متتاليتين.... إنها الريح الشرقية التي تحمل أمطارا غزيرة.... لا المصدات تمنع لسعات البرد.... ولا بدلات الخاكي التي اتشحت بطبقة من شمع القذارة المتلازم معنا...... فقبل ثلاثة أيام هجم العدو وتراجع بعد ليلة رهيبة تناقص عدد أفراد الفصيل فيها إلى النصف.... أما العدو فقد ظلت جثث قتلاه في الوادي.... الظلام هذه الليلة أكثر حلكة.... ها قد حضر الأنين مرة أخرى.... انين بشري هذه المرة.... طوال الليل لم ينقطع نداؤه أبدا.... لا اعرف هل أن احدهم قد ضل الطريق.... أم هو صراخ أم استنجاد.... أم هو من جرحى العدو استحالت عليه العودة.... ولكن من الذي يجرؤ على الخروج في هذه الساعة.... وأنا متكئ على حافة الشق.... انتظرت مع الأنين دقائق كأنها ساعات.... الأنين طغى على مداخل ومخارج العالم كله.... اسكت الليل وأصبح البؤرة الوحيدة للكون.... أما أن لهذا الأنين أن يتوقف! انه آت من الجهة الشرقية للوادي.... وهذه الريح الشرقية تلفحني بمزيد من الأنين.... تقدمت نحو خالد القابع على مقربة مني.... أخبرته بأنني اسمع أنينا مستمرا.... لكنه لم بسمع شيئا.... حرضته على أن يسمع.... فتنصت طويلا ولكن ما من جدوى.... قلت له من اجلي يجب أن تسمع الأنين! فأومأ مصدقا كأنه يرثي لي.... 

انتظرت بلهفة كامدة شروق الشمس حتى شروقها... في الصباح أقنعت نشمي بما سمعته طوال الليل فصدقني مرغما بتوسلاتي.... هرعت إلى الضابط لأقنعه أيضا.... فتنازل عن كبريائه ليجاري إلحاحي في النزول إلى الوادي لاطفاء الانين.... تهيأنا أنا ونشمي وخالد للقيام بالمهمة.... حملنا بطانية ونزلنا السفح.... وأنا أشرح لهم عن ضرورة إخلاء الأنين من مكانه.... إنها مهمة شاقة أن نبحث بين الجثث عن أنين تحت أنظار العدو لنصبح هدفا سهلا لقذائفه.... ما أن وصلنا منتصف الطريق حتى سقطت قذيفة بعيدة.... يظهر بان العدو قد رصدنا.... جلسنا في حفرة وسط الطريق.... إنها جزء من أخدود حفرته الأمطار.... تفحصنا المنطقة وحددنا المكان الذي يأتي منه الأنين.... انه على مبعدة مائتي متر هل ترونه انه مستلق عند تلك الشجيرات الثلاث.... خططنا طريق الوصول ونحن نمسح الأرض الممتدة بيننا ونتبصر مواقع الخطر وكيف نتفادى القذائف التي ستنهال علينا.... قال خالد....

-      أي موقف وضعنا أنفسنا فيه.... كنا في غنى عن كل الذي يجري.... لكنني أخبرتهم بان الأنين سيبقى يقض نومنا إن لم نخليه.... بعد رصد للأرض التي بيننا وبنبرة القائد قلت...

    -      سنستخدم طريقة القفز في طريقنا للوصول.... سنركض إلى تلك الصخرة على يمين الوادي.... ثم نستريح قليلا.... وبقفزة ثانية إلى الحفرة الكبيرة تلك أعلى الوادي.... وبعد استراحة قصيرة نناور قذائف العدو لنبدأ القفزة الثالثة إلى مجرى الماء ثم نسرع مع مجرى الماء أسفل الوادي حتى نصل الحفرة القريبة من الشجرة..

تناهى إلى أسماعنا صوت انطلاق صاروخ راجمة من ارض العدو.... فأخذنا بالعد لنعرف بعد المسافة عنا.... واحد.... اثنان.... ثلاثة......... اثنا عشر.... وجاء فحيحها ثم تحول إلى أزيز متسارع متصاعد.... فصرخت...

    -       استمكنوا جيدا فالقذيفة ستسقط قريبة منا.

ودوت على مقربة دويا هائلا اهتز له الجبل... أردفت....

-      لا ترفعوا رؤوسكم حتى تمر الشظايا....

بعد تنصت لوقت قصير لم نسمع ما يوحي بشيء...فنهضنا

 -      يا الله

 أسرعنا نحو الصخرة التي تبعد عشرين مترا... ولكن حين وصلنا منتصف الطريق بين الصخرة والصخرة.... سمعنا صوت قذيفة تنطلق فتردد خالد في المسير.... وظل مسمرا في مكانه.. صرخ به نشمي!...

 -     تابع السير! لن تصل القذيفة قبل أن تصل الصخرة.... انه صوت راجمة..

فركضنا لنرمي أنفسنا تحت الصخرة.... اخذ فحيحها يعلو ببطء.... ثم يبدأ بالخفوت التدريجي.. قال نشمي

    -     ستجتازنا القذيفة وتسقط بعيدا!

ارتفع الدخان خلف السرية بعيدا.... ماذا ستكون الخطوة التالية.... الصخرة التالية.... توالت ثلاث قذائف أخرى بفترات متساوية. ونحن نحسب الوقت بين واحدة وأخرى.... قال خالد

-                      يظهر بان العدو ينتظر دقيقة واحدة بين قذيفة وأخرى.....

فقلت....

-       هذه المرة علينا انتظار سقوط القذيفة.... والإسراع بالقفزة إلى الحفرة خلال هذه الفترة القصيرة قبل التحضير للرمية التالية.. بعد انتظار جاءنا فحيحها يرتفع تدريجيا ثم يخفت تدريجيا.... لتسقط على سفح الجبل.... فقفزنا مسرعين لنرمي أنفسنا في الحفرة... أشار خالد...

-    انظروا تحت تلك الشجرة.... انه هناك هل ترونه؟ انه يتلوى من الألم.. يظهر بأنه من جرحى العدو قد أصيب في هجومه الأخير على السرية قبل يومين ولم يستطع الحركة.... تقدمنا نحوه بقفزات حتى أصبحنا فوق رأسه.... حين أحس بنا اخذ يسترحم...

-                     دخيل الله!

نظر إلينا خائفا منكمشا.... لكننا طمأناه بأننا جئنا لإخلائه تقدمنا نحوه وفرشنا البطانية أمامه.. كانت رجلاه متورمتان من الشظايا التي أصابته.... ووجهه اصفر مميت وجسده يرتجف من البرد.... اشرنا إليه...

-                   هل أنت جائع؟

افهمنا بالإشارات انه كان يأكل بقايا مما يحمله أصحابه القتلى في الوادي من أرزاق.. ويشرب من الوادي....

بعد فترة هدوء حملناه لنسير نحو الصخرة.... ولكن ما أن خطونا عدة خطوات حتى توالت القذائف حولنا اختلطت أصوات الراجمات بالمدافع والهاونات.... وكل منا انبطح في حفرة أو ارتمى خلف صخرة... فجأة صرخ نشمي....

-                   آخ انكسرت يدي!! هل كان علينا أن نجازف هذه المجازفة الكبيرة؟

لقد أصابت القذيفة الصخرة وتشظت فضربت يده.... اخرج الضماد ولفها فوق عودين من أغصان الشجر. بعد دقائق من الهدنة.... توجهنا إلى الصخرة الأخرى.... وقبل الوصول صرخت قذيفة دون سابق إنذار على أمتار منا.... انبطحنا على الأرض.. فقط خالد القريب منها لم يسقط أو ينبطح.... لكنه أصبح كالمأخوذ يحدق بهلع في وجوهنا.... وهوو يولول!.

-                   لم اعد اسمع أي شيء.. لقد فقدت السمع..

قلت له...

-                   لا تخف سيعود سمعك بعد يوم أو يومين هذا ما حصل لي أيضا في الهجوم السابق....

أصبحت وحدي.... فكيف سأحمل هذا الذي بيننا؟!. جلسنا خلف الصخرة القريبة من مجرى الماء.. حين استلقى خالد على ظهره رأيت الدم ينزف من أذنه.... أما الأسير فزاده خوفه.... وهو ينظر إلينا بهلع كبير ويضع يده أمام وجهه خوفا من أن ننتقم منه.... نظرت باتجاه السرية فرأيت لفتة ونشمي يقبلان نحونا.... هنالك موضع قديم على حافة الطريق جلسا فيه.. اخذ لفتة ينادي....

-  عودوا إلى السرية بسرعة.... ونحن سنخلي الأسير!

قلت للأسير قبل أن أغادره...

-       هل سيتوقف الأنين في الليالي القادمة؟

بانت نظراته مستفسرة أيضا مثلي....

.....................

بعد ذلك اليوم بسنتين, ومن اثر النوم في العراء تحت رحمة الرياح الشرقية, فقدت أنا أيضا حاسة السمع.... لكن بعد ايام عثرت عليها عيناي فأصبحت ترى الأشياء مختلطة بانينها....

..............................................................................

-انتهت-