هيثم بهنام بردى
           

(زيارة)    

دخلتْ دون أن تطرق الباب، إندهشتُ لهذا الاقتحام الأنثوي المباغت لمكتبي،
فاح فضاء الغرفة برائحة الأنثى، وعندما أصبحت قبالتي تماماً، في الجهة الأخرى
من
مكتبي الأنيق، قالت ..- أتسمح .. ؟
وقبل أن ارد، جلست على الكرسي وهي تشد طرف تنورتها الوردية نحو الأسفل، ثم
رشقتني بنظرة زاخرة بالتحدي ونبرت
- هيثم بردى … حسب تصوري .. ؟ !
أجبتها ونظراتي تسافر في أغوار عينيها السماويتين، علني استكنه إبعاد هذه
النظرة الجليدية.
-  نعم .. أنا هيثم، تفضلي … هل من خدمة ؟
لم تجب، بل أنشأت تخزر الأوراق البيضاء الملقاة أمامي، أردتُ أن اصهر
الجليد
فناولتها سيكارة، بيد إنها رفضت بإيماءة من رأسها، ثم امتد الصمتُ بيننا
صحراء يكتنفها السراب، فأخذتُ اتملاها بإمعان: …. شعر أشقر مسترسل بتموج
خفيف
حتى الكتفين البضين، وجه ناصع البياض، أنف مستقيم يوحي بالاستفزاز
والخيلاء
والمناكدة، وفم صغير ملموم، وعنق طويلة، تأففت بعصبية وقالت:
-  قد تتساءل عن زيارتي هذه ؟
توقفت للحظة، ريثما أسألها، ولكني لم أفعل، فأستطردت.
- جئت أسألك سؤالاً واحداً، واحداً حسب
قلتُ مبتسماً.
-  ألا يجدر بنا أن نتعارف ؟
أجابتني بحسم.
- يكفي أن أعرفك أنا، تستطيع أن تناديني، ندى، هدى، سميرة، باسمة …..الخ
فاجأتني، بغتة، رغبة بطردها، ولكني تمهلت وقد اقتحمني حب الفضول عن فحوى
سؤالها، فقلت لها.
- أطرحي سؤالكِ
- لقد قرأت آخر رواية صدرت لك
قلت لها باسماً .
- الغرفة 213 ؟
- نعم ..
-  حسناً، وماذا بعد .. ؟
 زيـارة
تجاهلت سؤالي وهتفت.
-  لم جعلت زكريا يموت بهذه الطريقة ؟
قلبتُ قلمي بين السبابة والوسطى، وأنا ابحث عن الاجابة، ثم قلت.
- انها الطريقة المنطقية التي عالجتُ بها خاتمة الرواية، كان يجب ان
يستشهد.
قاطعتني بصوت كحد السيف.
- بل يموت.
استفزتني، فتواترت لهجتي.
- أنت مخطئة يا آنسة …
وتوقفت علني أضفر بأسمها، ولكنها عندما عاينت فمي المفتوح قالت.
- نادني بأي أسم.
أجبتها، بغتة، ببرود صقيعي.
- اعتقد إننا خطان متوازيان
وانشأتُ الملم أوراقي متحاشياً النظر اليها، قامت ووضعت كفيها على حافة
المكتب وانهظت جسدها بعنف، ثم نبرت بصوت كزئير لبوة غاضبة.
- ستبقى تكتب نصوصاً محّنطة، ما دمت تسكن هذا البرج، انزل أيها الأستاذ
وتنفس
هواء الواقع.. انزل…؟!
ورشقتني بنظرة ازدراء، وخرجت كما دخلت، دون أن تغلق الباب.

***
هل كان حلماً ؟ أحدق بذهول في الباب الموارب، إلى المقعد، اتخيلها جالسة
تكلمني بحنق، افرك عينيّ واردد لنفسي
- لا ليس حلماً.
وتثوي الكلمات هذا الرأس المصدوع، لم جعلت زكريا يموت ..؟
نادني بأي اسم، البرج…؟ أية جرأة، بل أية صفاقة!، هل ما قالته صحيح ؟ هل
نصوصي محّنطة حقاً ؟ هل …؟
شعرت بصدغي يهمي ملتهباً وجسدي قنابل موقوتة زرعتها فيه هذه اللعنة
الأنثوية
الشقراء ثم أشعلت الفتيل ونهظت من مكتبي ممسكاً بجبيني المسعور نحو الحمام
لاغسل وجهي.

***
ابتلعني الشارع ، أخذتُ اتملى الوجوه المارقة، خيل لي أن كل شخص التقيته
يلسعني بنظرة شامتة ويمرق كالسهم ويختفي، سحلت قدمي إلى الكشك لابتاع علبة
سكائر فرأيت صاحبه الكهل يرميني بنظرة شامتة - هكذا تخيلت، وهو يقول.
-  أستاذ هيثم، هل أنت مريض.. ؟

 زيـارة
أجبته بعصبية
- لا …
ولاحقني صوته الحنون.
- خذ قسطاً من الراحة يا بني.
أخذت أحث الخطى نحو شقة زميلي القريبة وكأني أهرب من قدر محتوم، وحين
أضحيت
أمام الباب ضغطت على الزر، فأنفتح الباب على وجه لم أره من قبل، فنبرت
معتذراً.
- أنا أسف …
قال الرجل بهدوء.
-  من تقصد.. ؟
- أنا في غاية الأسف، يبدو أني توهمت، جئت لزيارة صديق يسكن هذه العمارة.
- أتقصد صباح مجيد.
وشدتني عيناه الصافيتان المتألقتان، فكرت … رأيت هذا الوجه من قبل، ولكن
أين
…؟ وسمعته يقول.
- إنها فعلاً شقة صباح، تفضل أدخل ..
ودخلت الشقة، وحين استوينا جالسين في غرفة الاستقبال سألته.
-  هل أنت قريبه ؟
بيد أن الجواب حيرني.
- تستطيع أن تقول هذا.
ثم أنشأ يتملى وجهي بشيء من الدقة ، وتهيأ لي أنه همس شيئاً ما، ثم مد لي
سيكارة فتناولتها منه ساهماً، ليس بغريب عني، أشعلها لي بمقداحة قديمة
تفوح
منها رائحة البنزين، وقال بصوت خفيض.
- أسمي زكريا
- تشرفنا، وأنا …
قاطعني ..
- هيثم بردى.
- يبدو انك تعرفني جيداً، لا بد أن صباح كلمك عني ؟
- كثيراً.
وفجأة، قال مستطرداً.
- أهنئك على روايتك ( الغرفة 213 ).
قلت متباهياً
 - شكراً .. هل قرأتها ؟
- من الغلاف إلى الغلاف.
- ما رأيكَ بها ؟

 زيـارة
-  جميلة … لولا النهاية !
-       ما بها .. ؟
جلس لصقي، وقبل أن يتحدث قلت له .
-   آه .. اعذرني، لقد نسيت اسمكَ.
ابتسم بوجه مشرق، ثم استطرد.
 - يبدو إنك كثير النسيان، من حقك طبعاً، روائي، وصحافة ومشاريع قصصية لها
اول ولا آخر لها، ولكن لا بأس ..
ثم بعد وقفة قال بصوت عميق لافت للنظر .
- اسمي زكريا … زكريا سليمان إبراهيم.
قلت له فجأة ..
- عجيب .. اسمك يطابق تماماً أسم بطل الرواية.
- هذا مجرد صدفة غريبة.
قلت مغيراً وجه الحديث.
- لنعد إلى الموضوع..
وبعد وقفة همست.
-  لِمَ  لمْ تعجبك نهاية الرواية ؟
قال بنبرة صافية وبجرس حاسم وقد وضع ساقاً فوق أُخرى.
-  أخطأت في محورين هما:
الأول: كان بمقدوركَ أن تضع الأحداث في مسارها الصحيح لو كنت نبهتَ زكريا
إلى
الحالة التي كشفها
        صوت ضميره حين كان يُصلي اذنيه بالحقيقة المروعة.
الثاني: إنك وضعت نهاية غير موفقة حين جعلتني أموت مثل حشرة.
قاطعته بذهول.
- تموت .. ؟!
- مثل حشرة.
نهض فجأة ونظر اليّ من علٍ باحتقار، ورعد بصوته العاصف.
- مثل حشرة أيها الروائي الواعد .
مادمت الصالة تحتي، لم اقوِ على النهوض، همست بوجل.
- من أنت ؟
بهدوء، أجاب.
- زكريا، أنا زكريا بطل الرواية.

 زيـارة
وأختفى من أمامي، انتشرت ملامح وجهه: في السقف، الجدران، الأرائك، الصور،
وأثاث الصالة، صرخت برجاء .
- زكريا .. زكريا، مهلاً يا رجل.
وادور حول نفسي صارخاً، زكريا … زكريا، والوجه يحاصرني من كل حدب، اركض
صوبه،
ينأى عني، يتوارى، ثم شعرت باسوداد يغلف رؤاي ، وتهالكت على كتف صباح الذي
دخل تواً.
-   هيثم … هيثم، ما الذي جرى .. ؟ ما خطبكَ ؟
وهوى على خدي بصفعة شعرت على أثرها بحواسي تنسل إلى جسدي ثانية، وقفت
كالتمثال وراوزت عينيّ، كان صباح واقفاً قبالتي وفي مقلتيه سؤال.
- هيثم ؟!
سمعت صوتي.
- زكريا كان هنا.
-  أي زكريا ؟
- بطل روايتي ( الغرفة 213 ) .
قام وطوق كتفي بذراعه المفتول، ثم همس
- أنا آسف.
ثم ضاحكاً.
- كان لها صدى هائلاً.
وبعد هنيهة.
- أنت بحاجة إلى النوم.
- لا يا صاح، صدقني … كان هنا وهو الذي فتح باب الشقة وكلمني، وأخيراً
تركني
بعد أن اشعل حرائقه.
ولكن صباح أجابني بثقة.
- كانت الشقة مقفلة، وهذه مفاتيحي.
وقبل أن أجيب رأيتُ صباح ينقل نظراته بيني وبين كفه التي تتدلى منها سلسلة
المفاتيح بذهول مجنون، ثم سألني بصوت متهدج.
- كيف دخلت الشقة … ؟
هرول نحو النافذة، وجدها موصدة، رجع اليّ وعيناه تقدحان سؤالاً لغزاً.
- أقلتَ انه فتح الباب ؟
- أجل …
تهالك على الأريكة وأنشأ يفرك صدغه ثم قام نحو المغسلة قائلاً.
- سأبتلع قرصاً منوماً

 زيـارة
وابتلع بدل القرص قرصين، استلقى على الأريكة وارتحل في إغفاءة رخية بسرعة
فائقة .. بقيتُ وحدي أتملى أشياء الصالة، زكريا… مستحيل، أنه بطلي الخيالي
الذي صنعته أنامل مخيلتي، كيف استحال من شخص على الورق إلى رجل حقيقي
يزجرني
كما زجرتني زائرة الصباح المجهولة، وقمت كالملسوع متسائلاً بحرقة .
-  من تكون هذه المرأة … ؟!
وأستحضرت صورتها في ذاكرتي، الشعر الأشقر المتطاير، النظرة الحالمة
المنبثة
من سحب زرق لعينين بلون البحر، وهمست ثانية بتساؤل أكثرا الحاحاً.
- من تكون .. ؟ !! أتكون هناء بطلة الرواية ؟
ما الخطب يا صاح، كن واقعياً، إنها فتاة لا وجود لها، من صنع الخيال، ولم
لا
.. قد يكون الخيال الوجه الاخر للواقع، قد تكون هناء شخصية حقيقية، ألم
تقل
في مستهل الرواية أنها مستوحاة من واقع حقيقي، اذن هناء حقيقية، ولكن من
يضمن
.. من يضمن .. من .. ؟
واحسست بالدوار يتلاشى رويداً رويداً، واستوى كل شيء  في مكانه : النافذة،
الأريكة، التحف الصغيرة، وجسد صباح النائم، تمددت على الأريكة الأخرى
للصالة،
وأنشأت أحدق في السقف، تشكلت في مداه الأبيض المترامي صور مربعات ودوائر
وأشكال هلامية وآدمية ونباتية وحيوانية من البقع الرطبة المتقشرة المنتشرة
في
أديمه كالبهاق، .. لا أدري لم باغتني النوم عندما تشكلت في ميدانه صورة
رجل
وأمرأة يمشيان جنباً لجنب متشابكي الأيدي، وأمامهما دائرة تشبه الشمس، ثم
لم
أعد أعي شيئاً….