قصة قصيرة هيثم بهنام بردى
تليباثـــي
بعد الغسق الذي يغطي الحديقة برمتها ويضفي على أوراق أشجارها تلك الصبغة البرتقالية الشبيهة بالموت، يوصد الأبواب كلها، يقفل درفات النوافذ، يسدل ستائرها الزرقاء الداكنة، ثم يعمد إلى إطفاء الأنوار كلها فيغرق البيت بالعتمة المهيمنة على استحياء… فقط النافذة المطلة على الحديقة الخلفية للبيت التي تعتمر عرائس العنب بعناقيدها الناضجة المدلاة تبقى مضاءة تفرش ضوءها الساطع من خلل حوافِ الستارة وتنهى الأضواء فوق جسد الكلب العملاق المربوط بسلسلة حديدية بعمود خشبي والمكوم على الأرض واضعاً رأسه المثلث بين قائميه الأماميين بتراخ وتلذذ لا مثيل له. يقف عند مدخل غرفة الرسم، يتأمل المصباح المتدلي بسلسلة استوطن حلقاتها الصدأ، مصباح بهيئة غربية مميزة مزركش بنقاط سود هي بقايا حشرات طائرة متفحمة على الزجاج، ضوءه المرجرج يسقط على الحيطان الأربعة المحزَّزة بلوحات متقاطرة من الزيت أو تخطيطات بالحبر الصيني تعلن عن وجه انثوي واحد بتفاصيل متطابقة متماثلة تماماً في أوضاع مختلفة، جلس على كرسي قديم دوار جاثم في منتصف الغرفة أسفل المصباح بالضبط! يسقط الضوء على وجهه، وجه وسيم تفاصليه اقرب إلى وجه الأنثى منه إلى الذكر، عينان ناهلتان حالمتان، أنف أقنى يوحي بالخيلاء، فم دقيق، اسفل جهته اليمنى أثار ندبة قديمة، جبين عريض يماثل صور أولئك المحاربين الرومان أو اليونان أو الآشوريين، وجه هو مزيج من الجمال الباهر والصرامة المستديمة، والمتأمل لوجه الرجل، والوجوه الأنثوية المرسومة على اللوحات لا يخطئه التشابه الكبير بينهما حد التطابق. نهض من كرسيه، وقف كالتمثال، تحت المصباح تماماً، صار ظله امامه، تأمله بأمعان، وجده ملموماً مضغوطاً، تخيل نفسه بجسده المفتول الفارع وقد استجاب إلى تكوين لا ابعاد محددة له، اراد ان يلعب قليلاً ليطرد الملل من نفسه، مد يديه إلى الأمام، فخرج من الظل اسطوانتان قميئتان ثم تلاقتا استجابة لفعل الجسد الأصيل، رقص استجابة لموسيقى صاخبة تهدر من أعماق حشاياه فتقولب وتشكّل ظله بأوضاع مختلفة ولكنه بقي اسير جسده موثوق بقوى غيبية لا ترد… صحا على نفسه، أبتسم وأسر بصوت خفيض. ـ إن هي إلا لحظت مترعة بخيال جامح وسلوك يبعث على الضحك. مشى صوب النافذة وتأمل ظله وهو يتخذ تناسباً عكسياً مع المصباح المتدلي. صار ذلك الظل القميء المنتفخ كبطيخة، طويلاً نحيفاً مثل خيارة، وقف أمام ما أبدعته أخيلته المسكونة بأقصى درجات الخلق، وما أنشأته أنامله المجبولة بخلق كل ماهو خارق الجمال: جسد أنثوي مخلوق من شمع بلون لحمي، بتفاصيل دقيقة ساحرة عارية حتى من العري نفسه، فتاة ممشوقة بطول ياردة ونصف تقريباً، بوجه لا يختلف عن وجوه اللوحات، ياه، كم هي رائعة هذه التليباثية، وقف يتأمل وجهه في المرآة الباذخة المعلقة على جانب النافذة ويقارن مايراه في المرآة مع قسمات التمثال، الشعر المتموج المنسدل فوق الأذنين وعلى الكتفين، مع ضربات أزميل النحت على هامة التمثال بتلك الحرفية المدربة، العينان العسليتان الناهلتان اللتان تماثلان الخرزتين المنغرزتين تحت الجبين الرائب لوجه التمثال واللتان تعكسان أشعة المصباح عسلاً بشمعه، وقارن مدى تطابق الندبة بين وجهه الضاج بالحياة وتلك الموجودة تحت الشفة السفلى للتمثال الشمعي، الأختلاف الوحيد الذي استنبطه هو ان الوجه المرسوم في المرآة لرجل، والآخر الواقف أمامه هو لفتاة من شمع… مدّ أصابعه يتلمس التفاصيل بانتشاء غامر جعله يغمض عينيه ثم يهمس ـ حتّام الصمت… ثم ينقر جبينه الشمعي ويأمره.. ـ أنطق يا بشر… ينتظر الآخر… وحين يداهمه اليأس يخاطبه كمن يلقي قصيدة. في البدء كانت الحكاية وكان الليل والنهار ومآسي الإنسان. يتوقف يبلل شفتيه ويواصل وكان الإنسان ابن الحكاية… يطوف يدخل التخوم والعروق والصحارى والأسيجة يعدو في فضاء الرب وهضاب الناسوت يبحث… يكِلْ، يغفو… ثم ينهض من جديد. يأتيه نباح الكلب في الحديقة طويلاً متأسياً متألماً، ثم يتحول إلى عواء فاجع متواصل ومن ثم يخيم الصمت على الأرجاء، يعود إلى نفسه، يرفع يمناه ويفرك جبينه الملتهب وتنتقل عيناه نحو الفم الشمعي المفتوح وكأنه يحاول ان ينطق بهمسة، يتهدج صوته وهو يخاطبه.. ـ لم تؤرِقني وتعذبني… كلّمني أرجوك يقطع الغرفة جيئة وذهاباً، يخلع سترته ويلقيها بإهمال على الكرسي، يشعل سيكارة يلتقطها من المنضدة، يمج منها نفساً ثم ينفثه فيتحلق الدخان دوائر تترجم حالته غير المتوازنة وهو في وضعه الفريد الغريب، في غرفة داخل بيت معزول ومسوَّر بأشجار الزان والكستناء والصنوبر ومجبّب بليل جهم صفّد قمره منذ الأزل وحتى تقوّض البنيان وأمامه امرإة فاتنة من شمع سوْرت لسانها داخل شفتين شهوانيتين نصف مزمومتين، يهمس حتام تبحث… حتام تطوف.. حتام تحلم الليل مصير الإنسان تقرفص وأخذ يتأمل ضوءه الشمعي وشفتاه تعيدان… الليل مصير الإنسان، اقفل فمه بأحكام وحاول ان يغور في عيني قرينه علّه يستشف سبب عناده ويفك بالتالي هذا الطّلسم الساحر في جماله، مد سبابته المرتعشة نحو الحلمتين… انفتحت في دياجيره كوى عبقة برائحة ذكرى عتيقة، ثقب ستارة الليل غناء جندب يبحث عن خلٍ هجره، فاخترقت وجدانه ذكرى هلامية سابحة في بحر من لذة طواها النسيان فازدرد ريقه بصعوبة جمة، كادت تفاحة آدم أن تطفر من لسانه، وبإبهامه حرث النحر بهدوء ثم طوقه بكفه وعصره بقوة ونطق الكلمات كالفحيح.. ـ تكلم يا بشر.. وبالسبابة والوسطى فرك الشفتين المكتنزتين، لسعته لدغة حادة في الصدغين وتقلصات متعاقبة في ربلتي ساقيه وبخور فضيع في ركبته فتهالك بأعياء على بلاط الغرفة وتكوم إزاء التقاء الركبتين البضتين رفع نظره يتملى معبوده، همس وهو يغور ويستكنه تفاصيل هذا الناسوت المنتصب فوقه كعمود من سنا… ـ هل أنا تليباثي.. وبعد فترة صمت.. ـ هل عشقت ذاتي.. استلقى على ظهره وتملى الرأس، كان يعانق السقف متماوجاً مع وهج المصباح المتدلي فوقه تماماً، أحس للحظة خاطفة ان الشفتين ابتسمتا او همستا، وان الرموش تتحرك استجابة لفعل حي، ففرك عينه وهو يمعن النظر عميقاً، وهمس.. ـ هل أنا أحلم… هل يمكن ان تتكرر اعجوبة المثّال الأغريقي بجماليون ومعبودته الساحرة جالاتيا… وتذكر تلك الصلاة الرقيقة للفنان المشبوب بعشق ما ابتكرته يداه فرددها بانتشاء ما له نظير: ((انتِ، من غير ريب، تعلمين ما ألم بي من برح هذا الهوى الطاريء، وما تام قلبي من حبِ هذه الدمية التي صنعتها باسمك ونذرتها لك، فدهمتني، وشدهت روحي المبلبلة، وصارت لي أعذب الأماني، وأعز الامال، وهي بعد رخامة لا روح فيها ولا نأمة، اكلمها فما ترد، واناجيها فما تجيب، واغني لها فما تبتسم!. انتِ قديرة يا فينوس، فأنفخي فيها من روحك، وانشري الحياة في أركانها، وامنحيها النبضات والأنفاس))_. وقطع عليه صلاته التي رددها بشفتي بجماليون صوت عواء كلب الحديقة فتذكر جدته، ذلك القرن المجبب بالعباءة وهي تحارب طواحين الزمن بصوتها الثاقب… الكلب عندما يعوي، يعني ان أحداً من الدار سيموت.. وفكر… من في الدار غيري وهذا التمثال الشمعي… فاذن من الممكن ان ينعكس الحلم ويكون ان احداً من الدار سيولد من جديد… يحاول ان يستعيد وقائع الأسطورة. ينظر من النافذة، تصطدم عيناه القلقتان بعيني الكلب اللائط والملتصق بالحائط، وفي نظراته توسل وخوف وتوجس، وحين تلتقي النظرات تتواشج منها ألفة حميمية غريبة فيتسلل الإطمئنان نحو الموقين، فترتاح نفسه وتهدأ انفاسه ويعود إليه هدوءه، فيتجه نحو المرآة، يحدق في وجهه، يرى قسماته وقد عادت إلى سكينتها والتورد نحو وجهه، ويلمح من خلف ظهره في عمق المرآة ان التمثال قد استدار بزاوية 180% نحو الباب، انذهل وخاف وهمس في داخله… ما الذي يجري؟ سمع صوتاً اذهله.. ـ لم يجر أي شيء… جمد الدم في عروقه وصار يسابق تمثاله في جموده، ولكن الصوت جعله يوقن بأنه ما يزال باستطاعته استخدام حواسه. ـ لا تخف.. وبعد برهة لمحه يقف أمام التمثال الذي كان مشدوداً ومنشداً إلى جسده… رجل أشقر، رائق القسمات، في العقد الرابع، ينتعل خفاً جديداً ترتفع سيوره نحو ركبتيه لتلتقيان مع نهاية أطراف ثوبه اللبني وعباءته المقصبة، كانت لعينه سحراً لا يقاوم. ـ أنا بجماليون… وقد ايقظتني نجواك وأنت ترتل صلاتي أمام الربة فينوس، فجئت أبحث عنك لأسري عنك، واستكشف بلواك. ـ ولكنك اسطورة.. ابتسم الفنان ثم نبر بجد… ـ وإن كان كذلك، وهذا يجانب الحقيقة، فإنك فوتَ على نفسك منذ البداية تحقيق اسطورتك.. وبالصدفة والدهشة وعدم التصديق، لازال مأخوذاً، سأل ـ وكيف ذلك…؟ ـ لم تكن مؤمناً.. ـ بم…؟ ـ بمصداقية ما تفعل.. ثم بعد صمت.. ـ كنت في تلك البقعة التي تفصل بين الشك واليقين، فاخترت الأول، أي انك ابيت تصديق المغامرة.. انخرط في اللعبة، حاول ان يبرهن لنفسه بأن ما يحدث معه هو الواقع وكأن المثّال الأغريقي استنبط دخيلته، افرد سبابته امام وجهه وقال جاداً محذراً ـ إياك…؟ وبعد ان بلع ريقه.. ـ هذا هو خطئكم… ضيق الخيال… ـ ماذا تعني… ـ صدق ولو مرة بمصداقية ما تفعل..؟ ـ وهل تفعل أنت هذا.. ـ سبق وان فعلته مع جدتها.. ثم التفت بكليته نحو التمثال الشمعي، ابتسم بوجهه، ثم صالب كفيه على صدره، ورفع رأسه في وضع المبتهل وهمس بمناجاة رقيقة ـ رباه… فينوس يا ربة العشق والحياة ثم همس صلاة خافتة، اختفى جسده كمن صعقته البرداء، ثم مد سبابته نحو التمثال… سرت الحياة في أوصال الاخر فمد ذراعه الشمعية وتلامست السبابتان، تضوّع فضاء الغرفة بعطر غريب يجعل الحواس في حالة تأهب، فتيقظت حواسه ودخلت دائرة الإنذار وهي تحاول عبثاً البحث عن بجماليون، كان قد اختفى من الغرفة بلمح البرق مثلما دخلها، كل شيء كان يدل على وجوده اختفى واضمحل معه، ولولا اليد الممدودة للتمثال والسبابة المشرعة ليده اليمنى لكان متيقناً ان كل ما جرى كان مجرد حلم أو رؤية… ومما عزّز عنده اليقين صوته وهو لايزال يردد. ـ لم تكن مؤمناً… صرخ بكل قواه.. ـ الحل..؟ ـ سيبقى مجرد تمثال من شمع. واختفى الصوت، داهمه العواء مرة أخرى، لجوجاً، مؤسياً، حزيناً، ارتداه القرن من الزمان وهو يهمس… فناء… فناء… يعني موت.. الصفنة… وللصفنة سياط تهمي، تلفح، تنغرز في اوصال الذاكرة والوجدان فتجعل المرء في حالة عدم توازن تتناوشه عواصف التيه واللاأبالاة والألم، ألم ممض يتغلغل في حنايا الخلايا فتعوي الأعضاء مترجمة عمق الألم في الروح والجسد.. ـ اين أنت يا خلّي… وبعد برهة توقف يصرخ ثاقباً سدلة الليل الأبكم.. ـ ياصنوي.. يرد الكلب على نداء الثاوي بعويل طويل هو مزيج من نباح ذليل وعواءٍ ضارٍ… ـ أين ذهبت… فيُعاود بجماليون ظهوره الأثيري، وطيف ابتسامة شفوقة ترتسم على محياه، يقف إزاء جسده المختض، يتأمله بود، ثم يمد أنامله الناحلة البضة ويلمس كتفه، يحس ان ثمة تياراً ينسل إلى داخله ويتلبسه شعور اشبه بحالة تجلي، او حالة تماهي، او تسامي، وأيا كانت المسميات، فأنها لن تترجم احاسيسه في تلك اللحظة، فقد أحس انه يستطيع ان يستغور داخاله الصافي مثل ماء نبع في شعف جبل يناطح انفاس الألهة، او الملائكة او كائنات غير محسوسة بل مستنبطة من الصفاء والنقاء والبراءة، فرفع طرفه ونظر في وجه بجماليون، وكانت عيناه تقرآن داخله المعشب بالصحراء والصبار والكثبان الرملية الثابتة والمتحركة، غضّ طرفه وهو يشعر بالشنار، مد الاخر سبابته وابهامه وامسك بحنكه، ورفع رأسه، وحين تواصل الخطان بين العيون، عيني بجماليون، وعينيه، سمع صوت بجماليون… ـ عندما تتلبسك حالة مثل الذي عانيتها قبل قليل، يمكن ان تسري الحياة في هذا… ومد سبابته نحو التمثال المسحور بحضوره، ثم اختفى بجماليون وصوته يغمر فضاء الغرفة.. ـ حاول للمرة الأخيرة فكَّر.. ان مجرد وجود هذا الفنان الخالد في غرفته ومحاولته ابداء المساعدة له، اعتراف بموهبته كفنان قطع شوطاً مهماً للإكتمال، انه يحس بوجود الاخر، من خلال وضعه الفريد وسط المرسم، والليل السادر في الخارج عبارة عن القماشة البكر التي سيضع عليها لوحته الأثيرة الساعية إلى النضوج… نعم، ربما سيرسم معبودته الشمعية حين تسري نفحة الخالق في أعطافها، وخطف نظرة نحو التمثال، وجده مأخوذاً بنظرة ساحرة نحو نقطة ما في الفضاء وكأنها تحاول اللحاق بالفنان الأغريقي الذي لا يزال يحسه في الغرفة، تقدم نحو الفنان، نظر إلى عينيه الزائغتين ثم همس وقد أفرد ذراعيه إلى أقصاهما مثل كاهن آشوري او أغريقي، أو روماني، لا ضير فكلهم سواء، استجمع كل أحاسيسه في رؤوس أصابعه الناحلة المفردة ثم همس ـ اسمعيني يا صبية… ثم بعد فترة صمت.. ـ سأدع قلبي يصلي لأجل ان تسري الحياة في روحك، وسأعصر خلاصة ابتهالي ووجدي وسعيي نحو خلق الحياة برأس سبابتي اليمنى وأملي كله، ان يحدث هذا عندما تمدين سبابتك لملامسة سبابتي… ثم أغمض عينيه وأخذته غمامة تصفر فيها الريح التي حملته إلى اقاصي الأرض المتباينة فطوراً يعرق جسده كله فينضي عنه كنزته، واخرى يحس بالدعة والراحة فتتمدد أوصاله، وثالثة يغمره المطر فيستدعي أعضاءه ليتكور جسده كالقنفذ واخرى تعصف به رعدة ممسوس بالحمى فيصير ناسوته ساعة تنبيه يهتز جرسها بتتابع نظيم وتسارع مبرمج…! وعيون الليل تبحث من خلال فتحات الستارة الأرجوانية لنافذة الغرفة وتحاول ان تستكنه كينونة هذا الإنسان العصابي وهو يمارس طقساً فريداً في التحكم بالجسد، وقسمات وجهه تترجم المراحل التي يمر فيها هذا المخلوق المسكون بالغرابة والعزلة والجنون… فتح عينيه ثانية، كان لهما بريقاً خاطفاً كعيون الهررة في شباط، وثمة ارتعاشة متواصلة في شفته السفلى المزمومة، ووجوم آسر يجبب قسمات وجهه، قذف نظرة عجلى، حيرى، متوثبة، مترقبة، نحو سبابته، كانت كتل الجليد أو كثبان رملية، أو فراغ مفتقد لأية جاذبية، يطوق المسافة بين السبابتين، تعرشت حناياه بالصبار والجفاف، وتشققت أدمة الأرض الخافقة في قفصه الصدري، فترك ذراعيه تسقطان على جنبيه كمجدافين لزورق تائه وسط بحر هائج، إفتقد أي أمل في النجاة… فخرج الصوت، صوته، أم صوت بجماليون زاخراً بالخيبة والشجن والأسى ـ لا فائدة… تقرفص على الأرض بهدوء، وأنشأ يتأمل المعبود، مجرد شمع على شمع، قد يجتمع فيه الجمال الساحر والرقة اللامتناهية والأنوثة الطاغية التي تجعل الميت يتململ ويحاول الإمساك ببقايا الروح الهاربة ليرتديها ناسوته البارد حباً بهذا الكيان الماثل أمامه الذي يجعله يلغي سفرته السرمدية ويعاود القهقري إلى نقطة الصفر، ولكن كل هذا الجمال والرقة والأنوثة تفتقد إلى الجوهر، إلى النبع، إلى الحياة، إن هو إلا تمثال من شمع، يسمع صوتاً به نفحة من ثقة.. ـ حاول مرة أخرى، دع الخالق الكامن في قمقمه ينطلق.. مد أنامله ثانية، وأغمض عينيه مرة أخرى ثم تلا صلاته، أحس أن تهجداته تخرج من فمه ككرات ثلجية، باردة، لا حياة فيها، وأيقن ان ما يحلم به محال، وان كل محاولاته محكوم عليها بالفشل، وان بجماليون أصيب بخيبة أمل وربما سيشك بالمعجزة التي حدثت في زمنه، وانه كان مجرد حلم لذيذ، او سراب او وهم، وبهدوء لم يعهده من قبل، مد كفيه وأحاط بخصر المعبود الشمعي، سمع همساً، او رجاءاً، او إبتهالاً… ـ لاتدع الظلال تستوطن شمس الخلق في حشاياك.. صم أذنيه وحمل معشوقته بين يديه ومشى صوب المدفأة الحجرية المطمورة في الحائط المواجه للنافذة، وببرود صقيعي ألقاه في النار، تناهى إليه التوسل ثانية ـ لم فعلت هذا…؟ كانت النفحة تتشكل في الأعماق… ولشد دهشته وجد الوجه، وجه ساحرته يتغضن ويتحزز من الألم وبقايا آهة واهنة تخرج مثل نسمة ربيعية فوق الشفتين المنفرجتين.. ـ فينوس.. فينوس.. وحدّق في الباب، فرك عينيه ولهج.. ـ هل هذا معقول.. وامامه لمح فينوس، أقيانوس بهي من الجمال الأخاذ، يمد يده إلى النار، ثم تنسل من الجوانح، جوانح معبودته، كرةً من ضياء مؤتلق وتطير خارجة من النافذة… ـ أنها فينوس يا صديقي، أستردت أمانتها التي زرعتها في ساحرتك! هتف مسلوب الإرادة.. ـ لم تأخرت… جاءه صوت بجماليون وهو ينأى.. ـ كانت صلاتك، مثل حساء على نار هادئة.. وبعد فترة صمت.. ـ الحظ لن يطرق الأبواب مرتين.. وفي المدفأة، كان المعبود، مجرد شمع يتماوع تحت اسياخ النار الصفراء إلى ان تلاشى في الأتون، وأرسل إلى فضاء الغرفة عطراً زكياً غريباً في رائحته، فأحس ان النارتتدفق إلى جوفه والسعير يحرق الأخضر واليابس في أعضائه والحياة تنسل من عروقه، فرفع عينين دامعتين نحو الحيطان، وكان اخر ما أحتوته العينان والأذنان والحنايا: الصور المعلقة على الجدران والتي تفصح صور الإله التليباثي الرابض في كوى بعيدة داخل الأطر، وعواء متواصل مقهور مكتوي بالخيبة والأسى وبقايا ضياء بارق ينسل متدحرجاً من أعماق صدره ويتجول في الغرفة راسماً في ذاكرته السرمدية صورة فريدة، في ليل فريد، تحتفل برجل ممدد على ظهره وقد تفحم جسده بفعل حريق غريب، الشيء الوحيد الذي يحتفظ به عينان مفتوحتان على سعتيهما تبحثان عن شيء نفيس فقد منه وربما… إلى الأبد.
_ من كتاب (اساطير الحب والجمال عند الأغريق)، دريني خشبة.
|