قصة قصيرة:  هيثم بهنام بردى

 شفق كالغسق

 قطعاً أن ما يعانيه هذا الرجل الستيني هو الوحدة، فهو الأليف المحبب للصمت المعرش في الأرجاء الفسيحة العتيقة العبقة برائحة الزمن المكفن بالحيوات الغابرة. ينقل خطواته كل يوم منذ الشفق، مذ يصيح الديك الهرم المستوحد مع الدجاجة التي نخرتها الشيخوخة والعقم، يستيقظ مع آخر صدى لصياحه المبحوح، يتناول عكازه الأزلي ويمشي نحو القن، يفتح الباب فتضلع الدجاجة خارجة في البدء يتبعها الديك بخطواته الواهنة وفي عينيه خيبة عميقة تحاكي محاولاته اليائسة لاستعادة فحولة غابرة، ويسعيان نحو شجرة الزيتونة المتهالكة على السياج الحجري المؤطر بالكيان الهش لجص عتيق عتق الكون، فينزويان باحثين عن بقايا حبات الزيتون المتعفنة المتساقطة في الباحة بعد ان يئست من إيجاد الراحة لتطوافها مذ كونها أجنة صغيرة حتى مآلها المأساوي والعفونة يغطي أبدانها المكدودة لتستقر أخيراً في حوصلة متقيحة مصابة بالسرطان.

يسحل الرجل الستيني خطاه المعتمدة تماماً على القدم الخشبية الثالثة نحو السياج الحجري للحديقة الصغيرة ويقتعد الدكة الصوانية الأثيرة إلى نفسـه، يمد أنامله الحبلية المعروقة نحو جيب صايته الجانبي ويخرج دفتراً صغيراً لورق اللف ثم ينشأ بلف السيكارة الأولى التي تتناسل من وهجها العشرات من السكائر اللاحقة، يشعلها من مقدحته العتيقة المطلية بالفضة، يمج منها نفساً عميقاً ثم ينفثه محركاً الهواء الراكد الجاثم على العريشة الواقفة على يمينه، وحين تُسلِّم الجمرة مصير السيكارة الأولى إلى لاحقتها ينهض متجهاً نحو كومة الأشجار الموبوءة بالنهايات الزاهية لسيقان خضر وجدت لها منفذاً خارجة من الأعماق السحيقة للأحجار الأزلية مادة أغصانها الرفيعة لتعانق الضياء الفتي لصباح تشريني جديد، يلوب حول كومة الأحجار وعند الحائط القصي يراه واضعاً رأسه المثلث بين قائمتيه الأماميتين، يقف إزاءه … نائم بإعياء، يحمل بين أضلاعه محبة متبادلة تمتد لعقدين من السنين، يتقرفص الرجل الستيني ويمسد رقبته بحنو أبوي، يفتح الاخر عينيه الشائختين ويهمهم بحميمية يلحس أصابع الرجل ثم يعاود نومه الآسيان …. يرفع الرجل طرفه وتعانق نظراته الباب الموصد، يمد يده نحو جيب (دميره) ويخرج مفتاحاً كبيراً نخر الصدأ معظم أجزاء بدنه البارد، يمشي صوب الباب ويولج فيه المفتاح، يصدر صوتاً اشبه بحشرجة محتضر ثم ينفتح فاسحاً المجال للضياء المضبب بالندى الصباحي للولوغ إلى الداخل ليعانق المكتب العتيق المصنوع من خشب الصاج وخلفه وعلى امتداد الحائط الكلسي المتقشر تتهالك مكتبة ضخمة قديمة تنوء بالكتب العتيقة الصفراء والتي تتجبب بالغبار الناعم، وفي وسطها تماماً ثمة صورة بإطار مذهب لرجل خمسيني بشعر قصير فضي وعينين عسليتين نفاذتين وذقن مدبب غاية في الجمال، ومن زاوية الإطار الأيمن العلوي ينحدر شريط أسود حائل … يتأملها الرجل الستيني طويلاً ثم يطلق أنة

توجع، وتنحدر عيناه نحو الكرسي الموشى بالقديفة الرمانية ويراه يجلس مفرداً ذراعيه الناحلتين على امتداد المنضدة حيث ترقد ورقة بيضاء وقلم جاف، يهمس الرجل الستيني.

-  ترى أية قصة كنت تكتب ؟

ويغلق الباب ويحكم رتاجه، ويمشي حذاء الحائط الكلسي المعشوشب، يتوقف عند الحوض الأسمنتي المملوء بالماء، يلقي بفتات الخبز الموضوعة في قدر بجانب الحوض وانشأ يتأمل السمكة الصغيرة الوحيدة وهي تهبط كالنيزك نحو القاع حيث قبعت الفتات تنتظر الآتي المحتم، يفكر ..

- أنه اليوم الرابع يجب إفراغ الحوض وملئه ثانية.

تتطامن خطواته نحو الباب الآخر للغرفة الأثيرة إلى نفسه، تصادف عيناه القفص المعلق في سلك غسيل الملابس، يصفر للبلبل النائم يتململ الآخر ويطلق تغريدة كالأنين، ويقفز نحو الأرجوحة، يتأرجح بملل ثم يعاود النوم… يمد أنامله نحو جيب صايته ويخرج قطعة التمر الطرية ويشبكها في المسمار النابت في جوف القفص، يفتح البلبل عينيه ويتأمل فطوره الشهي، ثم يعاود نوم أهل الكهف.

يرمق الغرفة …. موصدة، وانفاس السيدة الثمانينية تأتيه عبر الباب منتظما، يهمس

- في الفجر فقط يأتيها الكرى، بعد أن يهدها السعال المتواصل.

ثم يغمغم بحب أخوي

- مسكينة.

وبعد أن يكمل جولته الدائرية يجد نفسه أمام غرفته ثانية يتأملها لوهلة خاطفة ..

- ما أشبهها بالقبر.

ويقذف نظرة جليدية في الأرجاء مستقصياً في ذاكرته المتعبة ذكرى تلك الأيام التي كانت تعج بالحياة … آه ما أقسى الزمن ؟! أيعقل أن يقفر هذا البيت الذي كانت الكركرات والشيطنة الطفولية البريئة، وأحاديث النساء العديدات اللائي غادرن البيت الواحدة أثر الاخرى، أيعقل أن يرحل ذلك الرجل الألمعي الذي كان يمور بالحياة في صباح صيفي قائظ وهو محمول في تابوت بائس إلى حيث المثوى والمستقر وتنطفئ برحيله جذوة البيت،… لم يبقَ من ذاك الدفق الحياتي الصاخب سوى العزلة الرصاصية الخرساء، والصمت الطويل، والأجساد المهيئة إلى نقطة الصفر في نهاية جملة تختصر معادلة الحياة.

   يشعر الرجل الستيني بالخواء وهو يتسرب كالديدان إلى داخله تطفر دمعة نقية صافية من مآقيه المتغضنين وتنساح على خديه المخددين .. يمد أنامله ويمسح قمة الارنبة، يخطو نحو غرفته ويتناول سبحته الكهرب ويحث خطاه نحو الطوار، يفتح باب البيت ويخرج، يغلق الباب على بيت مسكون حتى العظم بالعزلة.