قصة قصيرة                 القرين             هيثم بهنام بردى

 

الصفحة محملة بعزف موسيقي

 

خرجت من البيت والأسى في رأسي عربة فريدة تنقلني عبر طرقات خاوية مسكونة بالليل الندي المطير، تقف مترنحة، أترجل... الصمت صعلوك يوزع قهقهاته الخرساء في فضاء المدينة الغائصة في العتمة، أقف على ناصية الجسر الحديدي العتيق، أنظر عبر جلد الليل المبرقش بالأضوية المنعكسة من جدائل النهر، ثم أتهالك متأرجحا على السياج بمعطفي الأسود الجلدي وشعري الأكرت .

                         *    *     *

وحدي،... مع الهزيع الأخير من الليل، أواجه هذا الرجل النزق الذي يطاردني مذ غادرت البيت، أقف، يقف... أخطو اثنتين، يفعل كذلك، أتنحنح، أسمع نحنحته. أصرخ بغضب.

     - ماذا تريد مني ؟

يبربر الرجل ثم ينفخ في كفيه ويودع عنقه الزرافية ياقة معطفه الجلدي الأسود، ومن ثم لا يرين....

     - من أنت...؟ وماذا تبغي...؟

يقول بأشتهاء.

-       أريدك.

-       أنا....؟!

-       أجل.

-       هل تعرفني من قبل...؟

يجيب بصوت واثق.

-       تملى وجهي.

أفعل... وجه عادي جدا، عينان عسليتان تعبتان، جبين عريض يتهادى على قمته شعر أكرت مبلل، وندبة سوداء تحت الشفه السفلى...

-       ثم ماذا...؟

-       تعزّز يقيني.

-       بم...؟

-       بما جئت من أجله .

-       ولأي أمر جئت...؟

-       كي نسافر معا.

-       أين...؟

-       الى النبع الأول لتتطهّر.

قلت، ويدي تتشبث بالسياج الحديدي محاولا اسناد جسدي الخائر.

     - لست مدنّسا

اجابني مفلسفا وضعنا الغريب.

-       أنت فعل ناقص.

-       .......

-       تحتاج الى جملة مفيدة لكي تتكامل كينونتك.

-       أنت اما بطران،أو مجنون.

استتلى كمن لم يسمع ملاحظتي.

-       ترفع مبتداك الممثّل بالمهد، وتنصب خبرك الآتي لامحالة الممّثل بالرمس.

-       أنت قطعا فقدت عقلك.

نظر من خلف كتفي الى البعيد، بقى على وضعة لفترة خلت فبها انه مجرد طيف أو هلوسة ذهنية تلبستني مترجمة حالة اللاتوازن التي وجدت نفسي أتخبط في ميدانها القاحل منذ الغروب الفائت، سمعت همسه العميق الآتي من روحة المتسامقة أو من المجهول المتربص خلف متاريس الليل.

     - أقتلني لكي تسمو.

وأشهر بوجهي مدية تلتمع شفرتها الحادة وأكمل.

     - أغمدها هنا.

وأشار الى قلبه.

     - واذا لم أفعل ؟

قال بحزن.

-       تظل مدنّسا .

-        وأن فعلت ؟

-       تكتمل الجملة .

أخذت المدية بهدوء، أمسكتها من مقبضها جيدا، أقترب مني بخطى متّزنة، نزع معطفه وفتح أزرار قميصه، ثم أشار الى صدره.

     - هنا.

أتلمس موضع القلب جيدا، أشخص مكانه بأصابع يدي اليسرى، وبيدي اليمنى أغمس المدية حتى النصل بين الضلوع.

                   *       *       *

حين انسل أول خيط فضي لفجر شتائي بليل، كان ثمة فوق الجسر رجل،بمعطف أسود جلدي، ووجه عادي جدا... عيناه عسليتان تعبتان، جبينه عريض يتهادى على قمته شعر أكرت وقد تلطخ بالطين والدم الطازج، وندبة سوداء تحت الشفة السفلى... ممدد بهدوء على الرصيف وثمة في القلب مدية غائصة حتى المقبض بين الضلوع .