قصة قصيرة                                                                                                                       هيثم بهنام بردى

نزق طفولي

(إلى رجل إتخذ من جسدي مسكناَ اسمه هـ . ب)

صباح كل يوم. وعندما أجتاز الزقاق المفضي إلى الشارع، أراها في جلستها نفسها على عتبة الباب الخشبي الكبير تحدق فيّ بعيونها العشبية وعلى ثغرها إبتسامة تضاهي شمس الربيع، فتشرق في داخلي الموبوء الصبار والحنظل ألف شمس بارقة، يخرج صوتي بإيقاع شبيه بقرع طبل مثقوب.

ـ صباح الخير يا حلوة.

وانهمك بمسح صلعتي الجاثمة بصلافتها الرعناء على جبيني الذي يرتكز على عينين لابدتين خلف نظارات سميكة... أصبح أذاناَ مرهفاَ لسماع نبرتها الطفولية المرهفة ولكن انتظاري يطول فأردد لنفسي:

ـ أنها صغيرة على الكلام.

وألتفت لألقي عليها نظرة أخيرة قبل انعطافي نحو الشارع، وأقف مسمراَ أغلب ضحكة مجلجلة، فتنسل من شفتي ابتسامة جذلة ثم أهمس بأعجاب:

ـ يا ملعونة.

وأخرج لها ـ بدوري ـ لساني، ثم انفجر بضحكة صاخبة نابعة من أعماق القاحلة.

******

وضعت قطعة الشكولاتة على المنضدة الواقفة امام السرير كتمثال منسي وأنشأت أتملى تفصيلات الغرفة الرابضة فوق سطح دار يتكون من طابقين.. غرفة صغيرة ضيقة لا نافذة لها سوى كوة صغيرة مربعة تشرف من عل على ساحة متربة تعج بهياكل السيارات المعطوبة وأكوام الخشب والنشارة.. في الطرف القصي يرتكن سرير حديدي ينوء تحت فرشة قطنية قديمة مثقوبة في بعض أجزائها وقد خرج القطن المكبوس فيها في ثورة هائجة.. قبالة السرير تماما ثمة جهاز تلفاز يسرق من حياتي الساعات الطويلة، وافتض من عمره نظارته ونصوع شاشته. الشيء المميز في الغرفة الكتب الكثيرة التي تضيق بها حقائبي المستلقية تحت السرير وصناديق الخشب المرصوفة على جانبي التلفاز والرفوف العتيقة ... قمت بتثاقل من السرير وخطوت  نحو الباب أنظر في المرآة الصغيرة المعلقة عليه من الداخل تمليت وجهي جيداَ ثم تأوهت:

ـ مضى قطار العمر.

كانت ثمة شعيرات بيض تستوطن مفرقي وسوالفي، همست بلوعة:

ـ ضاع كل شيء.

ورأيت الوجه الأنثوي، في عمق المرآة، وهو يقترب مني بعينيه الناهلتين وشعره الشمسي فغمغمت بامتعاض:

ـ لماذا يافائزة..؟

اختفى الوجه الأنثوي عابساَ فلهجت بحسرة.

ـ بنت حواء.

وكورت قبضتي، في شعور مراهق محبط، ولكمت الحائط بقوة حتى أدميت كفي وأنسل الدفق الأحمر الحار من بين أصابعي يجسم على الحائط المطلي بالكلس صورة كف مضمومة، صرخت..

ـ هباء، هباء، كل شيء هباء.

وجه فائزة يتراقص أمامي حقلاً ممرعاً يغتسل مزهواً بخضرته تحت شلال الشمس النابع من السماء كملكة تميس بغنج على عرشها.

ـ أتحبينني يا فائزة..؟

تخفض بصرها محدقة في شقائق النعمان والبيبون المنتشرة على الأرض المخضوضرة حتى الحائط الغربي للدير المرتكز على كتف التل... أمد أناملي وألامس الحنك الدقيق واللدن كالعجين وأرفع الوجه، أحدق في العينين، أرى فراشة بيضاء تزهو بجناحيها المثلثين فوق الرؤوس الرفيعة لسويقات الأعشاب أهمس:

ـ حبي...

ترف العينان، تنطبق الأهداب على العشب المتطاول ثم تنفتح أمامي أسراب هائلة من الفراشات وهي تحدق فيّ بعيونها الحوراء

ـ أسعد.

وتطير الفراشات في الفضاء، تحط اثنتان على وردتين متجاورتين، وترتعش الشفتان المكتنزتان الأنثويتان.

ـ أحبك.

أرفع كفي، أحملق بخيوط الدم المتسربة من شق صغير في ظاهر الكف، أتنفس رائحة الدجاج المقززة الناثة من باب السرداب المفتوح.

ـ يجب أن ينتهي كل ما بيننا.

في الفناء المغتسل بضوء شمس تموزية قاسية ثمة دجاجة بنية تبحث بسعار محموم عن أي شيء يؤكل.

ـ فائزة...؟ ماذا تقولين...؟

وفجأة حطت جرادة صغيرة قرب الدجاجة، قأقأت الأخيرة بحبور طاغ، نفشت ريشها وأنطلقت مهرولة نحو الجرادة.

ـ نحن ما خلقنا لبعض.

طارت الجرادة بخوف، حلقت قليلاً لتحط على مسند خشبي لحب( بكسر الحاء ) يلوط الجدار الشمالي للبيت.

ـ فائزة...

كادت تلتقطها بمنقارها التبني ولكنها أفلتت وطارت لبرهة على أرتفاع منخفض ووكرت ثانية فوق البصل المفروش تحت وقدة الشمس اللائبة.

ـ ماهو السبب يا فائزة..؟

ـ... ...؟!

هسيس الأقدام الخشبية جعلت الجرادة تطير في تعب وتسليم نحو السرير الخشبي في منتصف الفناء.

ـ هل من أحد...؟

ـ ... ...؟!

طارت الدجاجة واستوت واقفة فوق السرير، انقضت بلمح البصرعلى الجرادة الصغيرة الصاغرة إلى قدرها المحتوم ورفعتها بمنقارها ثم جلست تعالج الجسد المنتفض الايل للفناء.

وتراقصت أمام حدقتي، وأنا في طريقي نحو السرير، صورة الطفلة الشقراء.. طفلة صباح كل يوم وفكرت... أنها تشبه فائزة، العيون العشبية، والشعر الاشقر، الغمازات الوردية، والوجه القمري، وحتى عند انفراج أساريرها هي عين أسارير فائزة...

جلست على السرير أتملى شاشة التلفاز لبرهة ثم أنتقلت عيناي نحو المنضدة حيث قطعة الشكولاته، همست..

ـ يا ترى، لماذا لم تنتظرني أمام الباب مثل كل ظهيرة.

ألصقت رأسي على الحائط تحت الصورة التي تمثل كوخاً مبنياً من خشب الصندل وهو مطمور داخل كادر من بياض ثلجي، ولا شيء يدل على الحياة فيه سوى الدخان الأبيض المتصاعد من مدخنة في سقفه نحو ذرى الجبل المعمم بالثلج، غالبت دمعة ثاوية، ورأيت من خلال العيون الدامعة صورة طفلة تلتقط قطعة الشكولاته من يدي بحذر قطعة ماكرة تنسل راكضة نحو الباب الموارب، وتخرج لي لسانها.

******

اثناء أوبتي من العمل ظهيرة ذلك اليوم القائظ، وقبل أن أنعطف نحو الزقاق سمعت كركرة نزقة، رددت لنفسي.

ـ أنها صديقتي.

ثم همست بشفتين متيبستين:

ـ كم أحبها.

وبعد برهة وقدماي ترسمان القوس الوهمي للاستدارة نحو الزقاق:

ـ أنها الصورة الجديدة عن معالم تلك الذكرى الغائمة في طوى الماضي.

وبان جسدها الغض في عطفة الزقاق، كانت بغلالتها القصيرة التي تنحسر في تساوقها مع حركة العدو تكشف عن ساقين بضين طفلين، وشعرها الأشقر المتطاير على كتفها الدقيق مثل شلال شمس باهر، وقدها يميس مع كل حركة للأمام... حالما لمحتني انقادت لي يدفعها هاجس الطمأنينة من درئي للخطر المحدق بها والماثل بتلك المرأة الشابة الراكضة خلفها بضجر أنثوي نافذ وهي تدمدم بتذمر وتبرم، وقفت في مكاني أتلقى صدى الكركرة الناعمة المنغرزة في أعماقي القاحلة كنبتة صغيرة تشرق بغتة في أرض عولج بوارها، فتحت ذراعيها عندما اصبحت على بعد مترين مني وكأني بها تبغي الطيران إلى صدري، تقرفصت والتقطتها من الأرض، ركنت على صدري كحمامة أجفلها خفق جناح طير كاسر، أحسست انفاسها اللاهثة تسرح على صدري المشرع في الوجه الأنثوي الشاب الذي وقف حائراً أمام الوضع الطارئ، وأخذت تكركر بفرح وجسدها ينتفض بين ساعديّ بنزق طفولي محبب، سمعت صوت المرآة الشابة.

ـ عذرا ًلهذا الإزعاج.

ثم بعد برهة:

ـ أنا جد أسفة، أنها وسخت قميصك.

وقذفت الطفلة بنظرة غضب حقيقية..

ـ يا ملعونة.

فالتصقت الطفلة بصدري وانكمشت داخل نفسها.

ـ هيا أنزلي.

زعقت بها المرآة فضممت الطفلة مثل أم ملتاعة، وأنحنيت على خدها وقبلته، ذابت قطع الجليد في داخلي وأشرقت الأرض تزهو بزهور السفرجل والقرنفل وتضوعت الحقول برائحة الآس والبيبون وانطلق الشحرور يغني فوق الأغصان العالية للأشجار، وانطلقنا معاً، أنا وفائزة، نركض في هذا المدى الواسع باحتفاله الفريد نقذف نحو الشمس خطانا، ومع الايام نزداد اصراراً على المضي قدماً نحو الخلق، خلق عصارة الحب في بنيان طفولي له عينان عشبيتان وفم دقيق كحبة العنب، وخدود وردية، ولسان ذرب ينسل من بين الشفتين بحركة مداعبة صباح وظهيرة كل يوم... وامتدت اليدان تنتزعان الطفلة من بين جناحيّ وثمة في العينين الشابتين نظرة دهشة من صمت هذا التمثال الواقف في حركة تمثيلية وفي أحضانه طفلة خائفة، همست برجاء حار..

ـ لا، أرجوك..

قالت المرأة:

ـ ولكن..؟

ـ دعيها رجاء

ثم مددت يدي اليمنى نحو جيب بنطالي واخرجت قطعة الشكولاته  وناولتها للطفلة، تناولتها بلهفة كل ظهيرة ولكنها لم تنطلق مثل كل يوم،بل ظلت على سكوتها ووداعتها، سمعت صوت الأم الشابة.

ـ اذن، انت الذي تعطيها الشكولاته كل يوم.

هززت رأسي موافقاً وعيناي تسافران في تخوم الوجه الطفولي المشرق عابرة كل محطات  وحواجز الطرق في بحثها المجنون عن صورة ضائعة عله يجدها في مكان ما في هذا الكيان الصغير الجميل، ضحكت المرأة بحنان أمومي رائع وهي تلوك الكلمات الممزوجة بالدهشة والحب والاجاب معاً.

ـ انظر إليها...

كانت تخرج لسانها الصغير بوجه أمها، ثم أطلقت ضحكة  قصيرة وطوقت عنقي بذراعيها القصيرتين فقبلتها ثانية وانزلتها على الأرض وقلت للأم:

ـ لي رجاء.

تساءلت بألفة.

ـ تفضل.

ـ لا تؤذيها...هه.

ثم توقفت لبرهة وسألت الأم:

ـ على فكرة، ما أسمها..؟

قالت الأم بخيلاء..

ـ شهد.

هتفت باعجاب

ـ الله ما أجمل أسمها.

وقبل ان أحث الخطى صاعداً الزقاق هتفت..

ـ مع السلامة يا شهد.

 أضحى آذاناً مرهفة لسماع الرد، بيد ان الانتظار يطول، فأردد لنفسي:

ـ أنها صغيرة على الكلام.

والتفت في نهاية الزقاق، أقف وقد غابت ضحكة هادرة تكاد تنطلق من فمي، أذ أرى الطفلة وقد ألتفتت وكفها اليمنى مشتبكة بكف أمها والشكولاته بيدها الطليقة وهي تخرج لي لسانها، فهتفت بفرح حقيقي.

ـ يا ملعونة..

وأخرج لها، بدوري لساني ثم أنفجر بقهقهة نابعة من أعماق أعماقي التي أخضرت وأزهرت.

******